76

فقالت: خلقت لي نظرة جبارة، وأنا أشتهي أن أكون كالحمامة.

فلزمه الصمت ولم يبن، ففسرت صمته على هواها، وقالت: ألم أقل إنك تقسو علي .. فكيف تراني يا بنامون .. أجبارة قاسية جميلة كهذه الصورة؟ يا لها من صورة! إني أعجب كيف ينطق الحجر، ولكنك تحسب أن قلبي لا يشعر كهذا الحجر، أليس كذلك؟ لا تهم بالفرار فهذا هو اعتقادك. ولكن لماذا يا بنامون؟

ولم يدر ما يقول، فغلبه الصمت، وكانت توحي إليه بأفكارها، فيصدقها وينساق إليها ويشتد ارتباكه، واستدركت المرأة : لماذا يا بنامون تحسبني قاسية؟ إنك تؤمن بالظواهر؛ لأنك لا تقدر بطبعك على إخفاء ما يضطرب به صدرك، وقد قرأت وجهك كصفحة من كتاب مفتوح. أما نحن فلنا طبيعة أخرى، والصراحة تضيع علينا لذة الفوز، وتفسد أجمل ما خلقت الآلهة لنا.

وساءل الشاب نفسه حائرا: ماذا تعني يا ترى؟ وهل يستطيع أن يفهم من حديثها ما تدل عليه كلماتها؟ .. أما كانت تجلس أمامه تائهة القلب والعينين، لا تحس بالنار الملتهبة في كيانه، فما الذي غيرها؟ لماذا تحدثه هذا الحديث الحلو؟ لماذا تلج إلى الأسرار الحلوة التي تحرق قلبه؟! هل تعني حقا ما تقول؟! وهل تعني حقا ما أفهمه؟!

وخطت المرأة خطوة أخرى فقالت: آه يا بنامون! إنك تقسو علي بدورك، وآية ذلك الصمت الذي ترد به علي.

فحدجها بنظرة والهة، وكاد من الفرح تفر الدموع من عينيه، وقد أيقن صدق ظنونه، فقال بصوت متهدج: الدنيا لا تسعني كلاما.

فتنهدت ارتياحا أن حلت عقدة لسانه، وقالت بصوت حالم: وما حاجتك إلى الكلام؟ فلن تقول شيئا أجهله .. أيتها الحجارة لقد شاهدتنا أشهرا، وتركنا في جسمك أثرا من قلوبنا خالدا .. نعم ها هنا عرفت سرا رهيبا.

وتفرست في وجهه زمنا قصيرا، ثم قالت: ألا تعرف يا بنامون كيف عرفت سر قلبي؟ على حين بغتة عجيبة كانت لدي رسالة خاصة أريد أن أبعث بها إلى إنسان في مكان قصي، وأن أبعث بها مع رسول ترتاح إليه نفسي، ويثق فيه قلبي. وكنت جالسة وحدي أستعرض أمام ناظري أقواما من الرجال والنساء، ومن العبيد والأحرار، وما أحس في كل مرة إلا بالجفاء والقلق، ثم لا أدري إلا وخيالي يتسلل إلى هذه الحجرة، ووجدتني فجأة أذكرك يا بنامون، فترتاح نفسي ويطمئن قلبي، بل أحسست بما هو أعمق من هذا، وهكذا عرفت سر قلبي.

فغمر الفرح وجه الشاب، وأحس بالسعادة إلى حد الذهول، فجثا على ركبتيه أمامها، وهتف من أعماق قلبه: مولاتي!

فوضعت كفها على رأسه، وقالت بحنان: هكذا عرفت سر قلبي، وإني لأعجب كيف لم أعرف هذا منذ أجل طويل.

Halaman tidak diketahui