وقال طاهو بقوة: لا يجوز أن يألم مولاي وفي المملكة سلاح لا ينثلم، ورجال يفتدونه بالأرواح، حقا إن هؤلاء الكهنة على علمهم وخبرتهم يتنكبون سبيل الرشاد، ويركبون رءوسهم، ويعرضون أنفسهم إلى تهلكة لا قبل لهم بها.
فأحنى الملك رأسه ناظرا إلى ما تحت قدميه، وقال: إني أتساءل: هل قوبل أحد من آبائي وأجدادي طوال عهد حكمه بمثل ما قوبلت به اليوم من هتاف، وما مضى على جلوسي سوى بضعة أشهر؟
فالتمعت عينا طاهو بنور خاطف مخيف، وقال بيقين: القوة يا مولاي .. القوة يا مولاي .. كان أجدادك المقدسون أقوياء، يحققون إرادتهم بعزيمة كالجبال، وسيف كالقضاء، كن مثلهم يا مولاي، لا تتردد ولا تركن إلى الحلم، واضرب إذا ضربت ضربة شديدة لا تعرف الرحمة، تذهل الجبار عن نفسه، وتخنق في صدره أوهى الأمل.
ولم يرق هذا الكلام في عيني الشيخ الحكيم سوفخاتب، وذعر من حماس قائله، وأشفق من عواقبه، فقال: مولاي .. إن الكهنة منبثون في أقطار المملكة كالدم في الجسم، منهم الولاة والقضاة والكتاب والمربون، وسلطانهم على القلوب مبارك بيد الأرباب منذ القدم، وليس لدينا من قوة حربية سوى الحرس الفرعوني وحامية بيلاق، فالضربة القاسية قد تأتي بعواقب غير محمودة.
ولم يكن طاهو يؤمن بغير القوة، فقال: وما عسى أن نفعل أيها المشير الحكيم؟ .. أنستوصي بالصبر حتى يقتحمنا عدونا، ونرد في عينيه إلى الهوان؟ - ليس الكهنة بأعداء لفرعون، ومعاذ الرب أن يوجد لفرعون من شعبه عدو، فالكهنة طائفة مخلصة أمينة، وما نأخذ عليهم إلا أن امتيازاتهم أكثر مما يقتضي الحال، وأقسم إني ما يئست يوما من إيجاد الحل الموفق الذي يحقق رغبة مولاي، ويحفظ للكهنة حقوقهم.
وكان الملك يستمع إليهما في هدوء، وعلى فمه العريض ابتسامة غامضة، فلما أتم سوفخاتب كلامه، قال بهدوء وهو يرمقهما بعينين ساخرتين: أريحا نفسيكما أيها الرجلان المخلصان؛ فقد أطلقت سهمي.
واستولت الدهشة على الرجلين، ونظرا إلى الملك في إشفاق وأمل وخوف. وكان طاهو أدنى إلى الأمل، أما سوفخاتب فامتقع وجهه وعض على شفتيه، وانتظر صامتا سماع الكلمة الفاصلة . وقال الملك بلهجة نمت عن الزهو والتشفي: تعلمان أني استبقيت الرجل بعد انصراف الناس جميعا، ولما أن خلا المكان ابتدرته قائلا: إن الهتاف باسمه تحت سمعي وبصري عمل حقير خئون. وأكدت له أني لا أعدم الهاتفين من شعبي النبيل الأمين، فرأيته يضطرب ويبهت، ويحني رأسه الكبير على صدره الضيق، وفتح فمه ليتكلم، ولعله كان يريد أن يعتذر بصوته الهادئ البارد.
وقطب الملك جبينه، وصمت لحظة، ثم استطرد قائلا بعنف: ولم أتركه يعتذر، فقطعت عليه بإشارة من يدي، وصارحته بكلام صارم، مؤكدا له أنه من تفاهة العقل أن يظن مثل ذاك الهتاف يردني عن رأي اعتزمته، ثم أخبرته بأن نيتي انتهت إلى ضم أملاك المعابد إلى أراضي التاج، وأنه لن يترك للمعابد منذ اليوم إلا ما يقوم بحاجتها من الأراضي والنذور.
وكان الرجلان يصغيان بكل حواسهما إلى حديث الملك، أما سوفخاتب فكان ممتقع اللون، منكفئ الوجه، يعاني مرارة الخيبة، وأما طاهو فكان متهللا فرحا، كأنه يستمع إلى لحن جميل، يتغنى بمجده وعظمته، واستدرك الملك قائلا: لا شك أن قراري أذهل خنوم حتب، وأخرجه عن طوره، فبدا عليه الجزع، وتوسل إلي قائلا: إن أراضي المعابد هي أراضي الأرباب، وإن خيراتها تعود في الغالب إلى الشعب والفقراء، وينفق في وجوه التعليم والتربية الخلقية، وحاول أن يفيض، ولكني أوقفته بإشارة من يدي، وقلت له: إن هذه هي إرادتي، وإن عليه تنفيذها دون إبطاء، وآذنته بانتهاء المقابلة.
فلم يتمالك طاهو أن صاح فرحا: باركتك الأرباب جميعا يا مولاي!
Halaman tidak diketahui