وهنا قام اليهودي «جوزيفيوس» يرد على «آبيون» ليقول: إن بني جلدته دخلوا مصر ملوكا لا عبيدا، وأنهم من عرفهم التاريخ باسم الهكسوس، وأنه استقى ذلك الخبر من المؤرخ المصري «مانيتون»، الذي عاش حوالي عام 300 قبل الميلاد، وأنه بعد الثورة التي قام بها «أحمس» ضد الهكسوس، أخذ منهم عددا كبيرا من الأسرى، عاشوا عبيدا في مصر بعد ذلك حتى زمن الفرعون «أمنوفيس/أمنحتب الثالث» وولده «أخناتون»، حيث قام هؤلاء العبيد بثورة ضد الفرعون «أمنوفيس» هربوا على إثرها من البلاد، وهو الهروب الذي سجلته التوراة في سفر الخروج، وقد اتضح لنا اعتماد يوسف شاهين على تلك الرواية من إشارته في فيلمه إلى دخول «يوسف بن يعقوب/رام» إلى مصر زمن الفرعون «أمنوفيس/أمنحتب»، وهذا قول «جوزيفيوس» اليهودي، وقد تعمد أن يظهر خلف الفرعون «أمنوفيس» شخصا يشبه إلى حد بعيد ولي عهده أخناتون، وجعله يتصرف بطراوة جعلته يظهر في حالة ميوعة أو تخنث ألقت في روع البعض آنذلك مزيدا من تشويه المصريين، لكن شاهين كان يريد القول إن ذلك الشخص تحديدا هو «أخناتون»؛ لأن تلك كانت صفاته الناتجة عن مرضه العضال، إن شاهين كان طول الوقت يريد التأكيد على وجهة نظر تاريخية بعينها، هي وجهة نظر «جوزيفيوس».
ولكن الأكثر أهمية هنا، هو أن شاهين وهو يأخذ برواية اليهودي «جوزيفيوس» وحدها، ويستبعد ما عداها، وقع في أكثر من خطأ حتى في فهم ما قال «جوزيفيوس»، حيث إن «جوزيفيوس» جعل دخول اليهود مصر مع يوسف هو دخول الهكسوس زمن فرعون باسم «توتيمايوس»، وأن طردهم من مصر تم زمن الفرعون «أموزيس/أحمس»، وأن من بقي منهم أسيرا بمصر تم استعباده حتى خرج زمن الفرعون «أمنحتب الثالث» وولده «أخناتون»، ولم يفهم السيد شاهين أن هناك فارقا زمنيا طويلا بين الدخول والخروج، وأن الدخول عند «جوزيفيوس» جاء في زمن قديم، وأن قصة الدخول إلى مصر كانت قصة يوسف، أما الخروج فهو قصة موسى زمن أمنحتب وولده «أخناتون» فيما يزعم «جوزيفيوس»، وكان موسى حفيدا بعيدا للسبط لاوي شقيق يوسف بعد زمن بعيد من الدخول.
وهكذا خلط شاهين بين أول القصة وآخرها، وخلط بين يوسف وموسى، وبين الفرعون «توتيمايوس» وبين الفرعون «أمنحتب» وولده «أخناتون»، وكان الأولى به ما دام قد قرر أن يخوض غمار التاريخ ويتبنى وجهة نظر دون أخرى، أن يجهد نفسه في المعرفة، أو يرجع لذوي الاختصاص، كما يفعل الفيلم الأوروبي والأمريكي عند التعرض لمسائل من هذا النوع، لكن السيد شاهين احتسب ما لديه من معارف كافية للتعرض لمثل هذا الأمر الكبير، فطرح ما تصوره حلولا لإشكاليات عميقة أدت به إلى أخطاء عظيمة، فلم يصل إلى مواقف صحيحة، لا على المستوى الديني، ولا على المستوى التاريخي، بل إنه حتى لم يوفق في عرض وجهات النظر التي انحاز إليها عرضا أمينا كما حدث في تناوله لتاريخ «جوزيفيوس».
أحبوا إسرائيل!
وأثناء ذلك عن للسيد شاهين أن يضيف للقصة الدينية ملمحا تاريخيا تصور أنه يرفع من شأن جماهير الشعب المصري فصور ديانة الإله آمون، وقد أصبحت ديانة دولة متجبرة ظالمة، وأن إرهاصات الثورة الشعبية ضد الفرعون والحكومة قد بدأت، وأن الشعب المصري قد آمن بديانة التوحيد الآتونية، فقام بثورة جماهيرية ضد الحكومة وضد الإله آمون لصالح آتون الواحد، وقدم قمة العمل في مشهد مبهر لجماهير الشعب وهي تكسر تمثال آمون العملاق، متصورا بذلك أنه يمنح جماهير المصريين مزية معرفة الإله الأوحد.
وبما أننا نعلم أن أخناتون هو صاحب ديانة التوحيد الآتونية، فالمعنى أنه كان يتآمر على أبيه أمنحتب الثالث مع الجماهير الموحدة، وهكذا يتحول المصريون نحو التوحيد بتولي أخناتون للحكم بعد نجاح الثورة الآتونية ويتحول نظام الحكم المصري من العداء للعبرانيين ممثلين في رام، إلى أحبة وأشقاء في حب الله الواحد، فهذا موحد، وهذا موحد، والشعب موحد، فلماذا لا يكون هناك توحد ؟ وفي مشهد مؤثر ينزل الفرعون أخناتون عن عرشه ليحيى رام وهو عائد إلى أهله بحب شديد، ويزجيه عبارات المودة والتقدير، والمغزى مفهوم والهدف واضح، حيث خالف السيد شاهين كل ما تعارف عليه علم التاريخ لصالح الراهن التطبيعي، ولعب فيه لصالح الهدف المرتجى، ليلتقي الموحدان بالوجد والإيمان، أخناتون ويوسف ، ليلقي بظله على الحاضر، ووحدوا الله وصلوا على النبي، وأحبوا بعضكم بعضا، ويا موحدي العالم اتحدوا، فبعضكم مسلم موحد، وبعضكم يهودي موحد، وكل من له نبي يصلي عليه.
المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ1
من استهلاك الوقت أن نتحدث عن مصر في التاريخ، والكلام بشأنها من نوافل القول، فشأنها معلوم وأنشر من أي حديث، حتى أصبح من فساد الرأي أن يؤرخ باحث لأي علم من العلوم دون الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة، هذا في مجال العلوم، وفي ميدان التاريخ كعلم، أما في ميدان الاعتقاد، وفي الصحائف المقدسة، فلها شأن عظيم أيضا، لكن بوضعها ذلك البلد الضال أهله، الذي تأله حاكمه، فكفر، فوصم مع شعبه بأنهم من المجرمين؛ لذلك استحقوا أن يكونوا من المغرقين، بقرار من «يهوه» رب التوراة، وبضربة من عصا إعجازية دمرت الزرع والضرع في وادي النيل، قبل أن تطبق البحر المفلوق على من بقي منهم، أليسوا مجرمين؟
أما إسرائيل فهي عمدة المقدس وعقدته الجامعة، هي المحور منه والقلب الخافق، فهي شعب مقدس، فضله الله على العالمين، سلسلة من النجباء الأنبياء المطهرين؛ فالأب نبي ينجب نبيا، في سلسال توارث النبوة كما توارث أرض فلسطين، خير خلف عن خير سلف، فكانوا في المقدسات هم المقدمين على غيرهم من الأمم الضالة، جدهم البعيد هو إبراهيم الخليل، وآباؤهم إسحاق، ويعقوب الملقب بإسرائيل، وبنوه بنو إسرائيل الأسباط المكرمون، ومنهم يوسف الصبي الفاتك الجمال الذي توزر على خزانة المصريين، وعلم خبراء الزارعة ومهندسيها في مصر، كيف يواجهون قحط السنين، ومن بعده جاء «موسى» أعظم أنبياء إسرائيل، ويغص التاريخ المقدس بعد ذلك بسيرة أولئك الهداة المطهرين، فهذا «شاءول» يقيم لهم دولة في فلسطين، ليترك تأسيسها وتعميدها لداود الملك وولده سليمان، بينما أصبح ذلك الأخير سيدا على مملكة عظمى تغنت بها كتب الدين وكتب الأساطير، فتسلط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت، وأصبحت إسرائيل في زمانه أغنى الدول، حتى كانت الفضة في الشوارع مثل التراب (بتعبير التوراة)، أما في المأثور الإسلامي فكان أحد أربعة ملوك ملكوا العالم الأرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسرائيل في مأثورات الدين، لكن الغريب والمشكل الحقيقي أمام هذا الرتل العقائدي الهائل، أن التاريخ كعلم، يعلم يقينا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته، بأعلامها الآثارية الشاهدة، كما انتهى ترتيب أوضاعها الزمني عبر أسرات ودول، من مينا موحد القطرين مرورا ببناة الأهرام إلى التحامسة ثم المناتحة فالرعامسة حتى الشناشقة والبطالمة، فأرض مصر تفيض بالحفائر، غنية بالأحداث، لكن ذلك العلم نفسه، علم الحفائر والآثار، علم التاريخ، رغم الهوس الحفائري في إسرائيل الآن، يجد الأرض ضنينة بأي معلومة ذات شأن، فالتاريخ كعلم لا يعرف عظيما أقام لإسرائيل مملكة باسم «شاءول»، ولا يعلم بشأن محارب ذي بأس أسس لإسرائيل قوميتها باسم «داود»، ولم ترد في وثائقه بالمرة أية إشارة لملك حكيم حاز شهرة فلكية باسم «سليمان»، كما لم يسمع أبدا ولم يسجل في مدونات مصر ولا في مدونات الدول المجاورة، خبر جيش الدولة العظمى وهو يغرق في بحر تفلقه عصا، وإطلاقا لا يدري شيئا عن صبي جميل فتن نساء مصر وأذهلهن بجماله فقطعوا الأيادي وهن في الهيام به ساهمات. كلا لا يعلم التاريخ من كل ذلك شيئا ولو يسيرا، وكل ما يعلمه عن إسرائيل حكايات متناثرة عن شوارد قبائل من شذاذ الآفاق باسم «الخابيرو، العابيرو»، وإيماءة هنا ولفتة هناك تتحدث بإهمال عن جماعة باسم إسرائيل سحقتها كتائب الفرعون «مرنبتاح»، أو ما جاء في نصوص الرافدين عرضا عن مملكة باسم «عمري»، ربما ويحتمل ويظن ومن الجائز وقد تكون هي مملكة إسرائيل زمن ملكها «عمري» وابنه «آخاب». لكن الأسماء المعظمة المبجلة المفخمة في التاريخ الديني، فلا شيء منها البتة وقطعا في التاريخ كعلم.
Halaman tidak diketahui