إن طبيعة الخطاب الصهيوني إذن، تعتمد على عدد هائل من المغالطات والتمريرات، التي تبدو في ظاهرها صادقة الحقوقية «مع الخلط لمفهوم العنصر بمفهوم العقيدة»، وحتى لا يتيح الخطاب الفرصة لمقارنة يهود اليوم بآباء العصر التوراتي، فإنه يقفز فورا إلى تأكيد «أننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف نحو أربعة آلاف عام.» لتستمر المطابقة بين مفهوم الدين والعنصر، لدعم محور الحق التاريخي، ليظهر الأمر كما لو أن اليهود فقط هم من عاشوا في فلسطين على مر العصور، أو على الأقل الجماعة الأكثر عددا، لكن السائح اليهودي بنيامين الطليطلي الذي زار القدس عام 1170 ميلادية، سجل أنه لم يجد في فلسطين بكاملها سوى 1440 يهوديا! كما لم يعثر اليهودي «ناحوم جيروندي» في زيارته لفلسطين عام 1257م إلا على عائلتين يهوديتين. أما الأطرف فعلا أنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول: «لقد قامت الطائفة اليهودية الصغيرة - ولاحظ الصغيرة - التي كانت تقيم بفلسطين تحت الانتداب، بالثورة على الاستعمار الإمبريالي.»
شالوم
وأمام عدسات الإعلام العالمي في مدريد، لم ينس الرجل الشهم أن يبدي مروءته وأسفه وأساه على الفلسطينيين المشردين، بينما قنابله الجهنمية تدك مخيماتهم في لبنان، حيث قال بكل تراحم وحنان : «إنه لا يوجد يهودي واحد في هذا الزمان، يستطيع أن يكون غير مبال بمعاناة الفلسطينيين.» هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود، لكنه رأى من واجبه كرجل متحضر أن يعلن ذلك الأسى والحزن مع ندائه لجيرانه البرابرة حتى يظهروا كسبب فيما حدث للفلسطينيين: «أظهروا استعدادكم لقبول إسرائيل، إن التخاطب أفضل بكثير من سفك الدماء، فالحروب لن تحل قضية في منطقتنا، لكنها تسببت في المآسي والمعاناة والقتل والكراهية.» وهكذا فطبيعة الخطاب تشهد العالم أن العرب يشردون الفلسطينيين بحروبهم؛ لأنهم يريدون قتلنا لمجرد أننا متدينون، إنهم يريدون أن يقتلوا رجلا يقول: «ربي الله.»
الخطاب مستمر - كما هو واضح - في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية الأوروبية، التي تشهد بالحقوق التاريخية على أساس الشهادة المقدسة بالتوراة، هذا بالطبع مع صورة العربي المعلومة لدى الرجل الأوروبي، منذ تزييف تاريخ الأندلس والحروب الصليبية حتى صورة العربي الخليجي في حانات ومواخير أوروبا.
ومرة أخرى نعود للكتاب المقدس لنرى مدى المصداقية في الخطاب، وإلى أي حد يتطابق مع المقدس، ومع ما يحدث بالفعل بل بالقول، مسايرة للخطاب المتدين الحريص على محارم الدين، والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
يقول الرب «يهوه» في شريعته، مفصحا عن طبيعته وهويته، التي لا تلتقي بحال مع طبيعة الخطاب الصهيوني، قدر ما تلتقي مع ما يحدث بالفعل: «الرب رجل حرب» (سفر الخروج، 15). لذلك كانت شريعة هذا المحارب السماوي تأمر عبيده الأتقياء بالأسلوب الأمثل للتعامل مع شعوب المنطقة، ومن تلك الشرائع إليك المقاطع اللطيفة الآتية: «أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار» (سفر العدد، 13). «اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة» (سفر العدد، 31). «أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (سفر التثنية، 12).
أما الخطة المثلى في أوامر الرب، فهي أن يبدأ شعبه بدعوة الشعوب الأخرى إلى السلام والصلح، أو بالنص: «حين تقترب من مدينة، استدعها للصلح. فإن أجابتك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كلها غنيمة تغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست مدن هؤلاء الأمم هنا» (تثنية، 20).
هذا عن المدن البعيدة ، أما المدن القريبة: «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها. تجمع أمتعتها إلى وسطها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها» (تثنية، 13).
أما المدن الفلسطينية فلها شأن آخر، إذ يأمر يهوه قائلا: «أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منه نسمة ما» (تثنية، 20).
ومن هنا، وبمطابقة المقدس، فهو يتطابق تماما مع الفعل الصهيوني، لكنه لا يطابق الخطاب بحال، لكن الفعل بمطابقة المقدس إنما يصبح فعلا مقدسا ويصبح من تلك المقدسات تدمير صور وصيدا ومذابح صبرا وشاتيلا وقبية وكفر قاسم ودير ياسين، ومجازر منظمة الأورجون البيجنية، وسفاحي الوحدة 101 التابعة لأريل شارون، فالأمر مقدس؛ لذلك هو نبيل وسامي، وباسم رسالة إسرائيل التوراتية يتم التعامل مع عرب اليوم، كما تم التعامل مع الكنعانيين بالأمس، فقط تغيرت لغة الخطاب أما الفعل فمقدس، والمقدس خير وأبقى!
Halaman tidak diketahui