أضع هذا الحشد بين يديك أيها الصديق، من أجل مزيد من التلاحم بيننا، راجيا أن أكون قد عوضتك عن انتظارك - ظهور كتاب «النبي موسى» - بوقت مشحون بالقضايا التي يثيرها هذا الكتاب.
سيد القمني
إسرائيليات
الرد على خطاب شامير في مدريد1
يعنينا هنا أن نؤكد، أن كلمة «شامير» التي ألقاها على المؤتمرين بمدريد في 31 / 10 / 1991م، تشكل نموذجا - لا شك - مثاليا تماما للخطاب الصهيوني عامة بمنطقه ومحاوره الأساسية، فرغم الظروف التي ألقيت فيها كلمة إسرائيل، في ظل ضعف عربي عام وشامل، مهما سار العربان متبخترين، وتحت مظلة من السيطرة الأمريكية شبه الكاملة، ومع الاقتدار الإسرائيلي المتفوق على كافة المستويات، والذي لا يجادل فيه إلا مكابر، فإن كلمة شامير كانت على ذات الخط، وذات الدرجة، وذات القدر الذي كان الخطاب الصهيوني يراعيه دوما، ودون أن يحيد عنه أنملة. فراعت الكلمة بشكل ذكي وليس جديدا، أنها تلقى في ظرف عالمي، يتحدث عن نظام جديد، يزعم للدنيا أنه يسعى لإرساء قواعد السلام والأمن والمحبة على الكوكب الأرضي. وإن شاء فرض ذلك فرضا، وبخاصة في أشد مناطق العالم سخونة، حتى لو ثوى الجمر مؤقتا تحت رماد ظاهري، تصنعه أنظمة تابعة. كما لم يغب عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله، وأمام كل الشبكات الإعلامية الدولية. فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوعها واختلاف توجهاتها، فجاءت صياغة الخطاب واضعة باعتبارها أنها كما لو كانت تخاطب كل فرد على حدة. ومن ثم فإننا نفترض أن الخطاب قد أحاط تماما بكل الاغراض المطلوبة منه، واستخدم كل الممكنات من أساليب متاحة تتناسب مع المقام، وعمد إلى كل طرق الإقناع وعرض قضيته كاملة تامة شاملة مانعة، بهدف كسب أكبر تأييد جماهيري ممكن، حيث إنه حاصل سلفا على تأييد النظام الجديد بزعامة الولايات المتحدة
الصهيوني، وسنحاول قراءة طبيعة هذا الخطاب ومكوناته وأغراضه ومناهجه، بعرض سريع قدر ما تسمح به المساحة المتاحة لعرض تلك القراءة.
والمدقق في الخطاب يمكنه أن يلحظه وهو يتحرك على عدة محاور، تم ربطها ببعضها في منظومة شديدة الجودة، ثم تركيبها معا بتقنية ومهارة عالية، فكان المحور الأساسي للحركة جيئة وذهابا. ومركز الحركة هو التركيز على الاستجابة النفسية للجماهير، فقدم افتراضه المسبق لهذه الجماهير بأنه يخاطب كل واحد منهم كشخص متحضر، بلغ من الحضارة قمتها، وهذا وحده لون من تملق المستمع، لكن بحيث يترك في نفسه أثرا مطلوبا، هو أن الخطاب يتعامل معه بكل احترام؛ لأنه شخص متحضر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الاحترام، أو يحوز تلك الدرجة الحضارية، لكنها على أية حال الطريقة المثلى لجعل المستمع يتجاوب مع كم الاحترام وكم الحضارة المفترض فيه! وهكذا فقد سلم الخطاب للمستمع أنه رجل متحضر، مسالم، ينفر من الحروب، يريد الرفاة لجميع الأمم وكل الشعوب، بلا استثناء، يرفض التعصب بكافة أشكاله، وينفر من الاضطهاد على أسس عرقية أو دينية، بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة.
وبإيجاز، فالخطاب يفترض في المتلقي ليبرالية ملائكية، ومن هنا كان الكسب الأول المطلوب، على المستوى السيكولوجي، هو أن يقول للمتلقي أنت متحضر؛ ولهذا نحن نحترمك ونثق في حكمك على ما سنقول، حتى لو كان هذا المتلقي وغدا أمريكيا، استمتع يوما بحرق الأطفال في ملجأ العامرية في بغداد، وتعامل مع أزرار طائرته وقنابله وضحاياه، بحسبانها من ألعاب «الآتاري» التليفزيونية. هذا ما كان عن المحور الأساسي «التأثير النفسي» في طبيعة الخطاب الإسرائيلي، واستثماره أدوات منهجية، أهمها المعاني النظرية البحتة للتحضر، بغض النظر عن كون هذه المعاني حقيقة فعلية أم لا. «وهو ما يذكرنا برئيس دولة عربية يجد غاية لذته في السخرية من مستمعيه، ومن سلوك أبناء شعبه!»
أما المحور الثاني، الذي ترتبط حركته بحركة المحور الأول، فهو الذي يركز على الجانب الحقوقي، وهو لا شك أهم أعمدة التعامل بين المتحضرين، ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة لليهود في أرض فلسطين منذ آلاف السنين. وهنا يتداخل المحور الثالث على نفس الميكانيك، لينقل الأمر الحقوقي المسلم به حضاريا إلى اليد الإلهية، منتقلا بذلك إلى المحور الديني، فتلك الحقوق قرارات إلهية، وهبة سماوية، واختيار أحكم الحاكمين الذي فضلهم على العالمين، وهو القرار الذي يؤمن به إلى جانب اليهود، العالم المسيحي الغربي كله؛ وذلك باحتساب التوراة صاحبة ذلك القرار الحقوقي القدسي، بعهديه «القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الأناجيل» مع البصمة التأكيدية، والقول التوثيقي على الناموس التوراتي، بلسان المسيح: «ما جئت لأنقض الناموس. ما جئت لأنقض، بل جئت لأكمل.» وهنا، وبسرعة يتم إدخال المحورين الحقوقي والتاريخي، مع المحور الإيماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الأساسية «النفساني» لتتشابك الحلقات التي تؤدي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تماما، والمتحضر جدا، إزاء مساهمته بالموافقة على تأمين حياة هؤلاء المؤمنين، لتحقيق كلمة الله الصادقة الثابتة، مع ما يفترض في المستمع المتحضر من رغبة في إثبات تحضره، بتأمين كل الحقوق لكل العقائد والديانات مهما اختلف معها.
ضمير العالم
Halaman tidak diketahui