وأراد عبد الله أن يعود الرجل الذي كان أول من كساه بعد عري، ولكن نعمة الله قالت له: لا أحب هذا.
ثم خففت من وقع أمرها، فقالت له: مسكني في حاجة إلى الخدمة، وقد اخترتك لذلك.
ونسي صاحبه وتساءل في سرور طاغ: «ترى هل انتهى العذاب؟!» وثمة باب في الوكالة يفتح على سلم للمسكن تسلل منه ليلا. استقبلته رائحة البخور وضوء مصباح كهربائي مثبت من أعلى الجدار. صعد في الدرج ووجدانه يسبقه يطمس بمحياه معالم المكان. في نهاية دهليز رأى بابا مواربا يشع منه نور، مضى إليه وتنحنح، جاءه صوتها الليلي الرخيم داعيا فدخل. لم ير من الحجرة سواها وهي مستوية على كنبة، مسندها مطعم بالصدف في جلباب حريري أبيض يخفي قسمات الجسد، ولكنه ينبئ عن عملقته بطريقة انسيابية تثير الخيال، وليس في الوجه المتسلطن أثر من زواق، ولكنه ينضح بأنوثة فوارة بعد أن خلعت قناع الذكورة الصارم الذي تتعامل به في الوكالة والحارة. والشعر الأسود ذو لون طبيعي لا يشي بأي تكلف كيماوي، دافئ بشباب راسخ. تركته واقفا في جلبابه الفضفاض، لم تخفف من ارتباكه بكلمة، كأنما لتمتحن أثرها فيه، ولترى لأي تكون الغلبة: الخوف أم الرغبة؟ ومن شدة حرجه انتزع عينيه منها ليلقي نظرة عما حوله، ولكنه لم ير سوى النظافة وكأنها تقوم بذاتها، وتنفس رائحة طيبة. قال: لعله وقت مناسب لتنظيف المسكن، ولكنه ليس في حاجة إلى تنظيف.
فصبت من إبريق مفضض في قدحين فوق خوان مطعم بالأصداف سائلا فاحت منه رائحة القرفة الممزوجة بالزنجبيل، وعادت تنظر نحوه. وبسريان الخمر غير المنظورة في دمه التصق بصره بها في جرأة السكران. وتمادى في انفعاله حتى اكتسح العواقب، واستسلم لتيار قوي دفع به نحوها كالقذيفة، وكالقذيفة راح يتنقل بين أبعادها وهي تتلقفه بحنان حار، ورضى آسر، واستجابة مستكينة وحماسية معا. وما لبث أن توج فوق عرش النشوة والسيادة، وامتلأ واقعه بعذوبة الأحلام. وتمنى لو استمر ذلك دون توقف، لو كان الحب ذا سياسة أخرى، لو أن السعادة لا يجرفها تيار الذكريات، لكنه وجد نفسه راقدا في حضن الفتور الجليل، يرى الأشياء لأول مرة. إنها حجرة أنيقة حقا؛ متوسطة الحجم، مزينة الجدران بسجاد صغير وبسملة مذهبة، تتوسط أضلعها كنبات وثيرة ذوات أغطية مختلفة الألوان ومساند مطعمة بالأصداف مموهة بالأمثال، مغطاة أرضها بسجادة حمراء في وسطها مجمرة كبيرة تحت مصباح كهربائي في قنديل. وسرعان ما انتقل من الفتور إلى القلق، حتى قالت له: نظرة عينيك لا تعترف بجميل.
فلثم خدها، وهو يقول ببراءة: أخاف النار!
فابتسمت قائلة بحنان: عندما تهب المرأة نفسها، فالعلاقة شرعية مباركة!
فمال إلى تصديقها بكل قواه، ورآها جديرة بالانقياد، أما هي فواصلت: منذ الساعة فأنت شريكي في البيت ووكيلي في الوكالة!
وتبدى في صورة جديدة، صورة المعلم الشاب بجلبابه الأبيض ولاثته المزركشة، وزهوه المتورد. وعمل عبدون فرج الله في ظله، مكرها على طاعة مرة كالسم، منطويا عن مقت وحسد كالنار. وشاركه في عواطفه الدفينة رياض الدبش الكواء وحلومة الجحش الفوال وآخرون. ولكن عبد الله تجاهل في نشواته العواطف الدفينة، وأقبلت السعادة كالشمس تنتشر أشعتها في جميع الأرجاء، فجذبت مسمعيه ضحكات السكارى والمساطيل، وأطربتها أنغام المزامير الراقصة وأغاني الراديو، وتصام عما عدا ذلك، حتى آمن بأن مهجره الجديد ما هو إلا موطن للسرور والرحمة، فشكر الحظ الذي ساقه من المجهول إلى القبو، واستخلصه من ماض لا يجوز أن يأسف عليه. وانغمس في الحب في الليالي المذابة في أقداح القرفة والزنجبيل الحاوية لنفثات السحر، الداعية لعوالم الخيال والذهول. وتكشفت نعمة الله عن معجزة لا نهاية لإبداعها وفنونها وأنغامها، ولا نهاية لقدرتها الخارقة في إشعال الحيوية وتفجير الطاقة، وخلق المسرات، وإشباع الكرامة، وإرضاء الغرور. انغمس في الحب حتى قمة رأسه، وتعلق بها حتى الجنون، وألهمته سعادته الإحساس بالدوام والخلود، فاقتنع بكل قواه بصدقها وإخلاصها ووفائها، وتطايرت أصداء ما قيل له عنها، فأنسيه وكأنه لم يكن. ونسي تماما القلق والتساؤل والحيرة والإساءات العابرة، فبدت جميعها كالأشباح الوهمية التي تفنى في ضوء الشمس الساطع. وقالت له ليلة في دعابة: أراك لا تتكلم إلا نادرا.
فتحير قليلا ثم قال: السعيد لا يجد ما يقوله إلا نادرا.
فابتسمت قائلة: كتب علينا ألا نسمع إلا ما يسوء!
Halaman tidak diketahui