ولا شك عندي أيضا في أن هذا: طول النظر، وتقليب الذهن، وإثارة المناقشة فيما اطمأنت إليه جمهرة الناس واعتنقته بظهر الغيب هو الذي قوى روح الجدل فيه، حتى بلغ منه غاية الغاية، فلقد كان سعد - رحمة الله عليه - أحد الناس قولا وأسطاهم في الحوار حجة.
وهنا لا أجد علي حرجا في رواية نكتة ظريفة عند سعد، فلقد كان - رحمه الله - يحب النكتة في موضعها، ويرتاح إليها في مقامها ويرسلها جزلة نافذة، حتى وهو في أحد سورة الخطاب!
حدثني المرحوم محمد باشا صالح - المستشار السابق في محكمة الاستئناف - وكان من لدات سعد الذين يحضر دروس الأشياخ معهم ويستذكرها وإياهم، قال: وعرض ذكر سعد وشدة جدله، فقلت له ذات يوم: يا شيخ سعد! إن هذه المناقشات الكثيرة تضيع من وقتنا، وتستنفذ قدرا كبيرا من جهدنا فلا تكاد تبقي لنا فضلا للمطالعة والاستذكار، فهلا تركناها وأقبلنا على استذكار ما بين أيدينا من دروس؟
فأجاب من فوره: وهل تظن أن هذه المناقشات أقل جدوى في تفتيق الأذهان، والفسح في الملكات وطبع الذهن على النظر والتماس العلل من استذكار الدروس؟ فقلت له: كلا! بل هي مضيعة للوقت، صارفة عن طلب العلم! فقال: ما دام هذا رأيك فهلم إذن نتناقش في هل المناقشة ضارة أو نافعة!
وحسبنا هذا القدر في رجولة سعد طالبا في الأزهر، ونخلص منها إلى رجولته في المحاماة، فلقد كان في رجولته وجرأته في الجهر بقوله الحق مضرب الأمثال، أما رجولته قاضيا - مستشارا في محكمة الاستئناف - فقد يعتمد في قضائه الحق ولا يعتمد غير الحق، ويحكم بالعدل ولا يحكم بغير العدل، لا يبالي غضب من يغضب، بل لا يبالي أن يخالف رجال القضاء إلى غير ما اطمأنوا إليه من فهم ظاهر القانون؛ لأنه إنما تهدى إلى تحقيق العدل بفهم روح القانون، أما سعد الوزير - الناظر - فلقد كان الأسد حق الأسد، وإن شئت تعبيرا أشد وأقوى قلت: كان الرجل كل الرجل!
لقد أبت عليه رجولته أن يخضع لقول المعارف «دنلوب» كما خضع له جميع الوزراء - النظار - من قبل، بل لقد سطت هذه الرجولة بدنلوب وما زالت به لا تألوه ردا وصدا، حتى قبع من الديوان في أفحوصة، لا يسمع له قول ولا يمضي له في شأن المعارف رأي!
أما رجولة سعد في الزعامة فهذا ما أدع تفصيل القول فيه لأصحابه الذين كانوا لاصقين به في كفاحه العظيم، وإن كنت أعرف من ذلك الشيء الكثير.
لقد كان سعد زغلول رجلا حقا، رجلا يعز أكفاؤه في التاريخ الطويل وصدق شوقي بك - رحمه الله - في قوله: «والرجال قليل.»
غدوة وروحة
لقد يئسوا منه كما استيأس هو منهم، وبلغ برمهم به واصطغاؤهم عليه غاية المنتهى، ولم يبق في علاجه بما يريحهم منه حيلة، فلقد عرضوا عليه أن يملك عليهم، أو أن يصفوه بجلائل أموالهم فأبى إلا مضيا في شأنه، إذن فلا بد من أمر يكفيهم كل هذا، ويكفل الدعة والراحة لهم، وها هم أولاء يحشرون في ناديهم ليأتمروا به، وهذا الشيخ النجدي يطلع عليهم من غير موعد فيكون نصيحهم وجماع أمرهم، وأقبل بعضهم على بعض يتشاورون، فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من هذ الموت حتى يصيبه ما أصابهم، فلا يرى الشيخ النجدي هذا الرأي!
Halaman tidak diketahui