وسرعان ما تشرق وجوه الجماعة ويتطارح الهناء وتتصافح الأيدي وتتضام الصدور إلى الصدور، وتبسط الخدود لتحيات الثغوب.
والآن وقد هدأت ثورة هذا القلم بما ناله من الجهد والتعب، نستطيع بحمد الله أن نصرف عنانه إلى حيث نشاء، فهلم إذن إلى معاودة الحديث في الحكائين والله المستعان، وإذا كنت سأقتصر على إيراد حكاية واحدة، فلعلك واجد فيها أفخم وأضخم وأبلغ وأعظم من كل ما انبث وانبسط، وشاع وذاع، وملأ الطباق، وسطع في الآفاق وعلى جميع ألسن الحكائين من يوم عبد الحميد إلى يوم الدين.
احتشد الجمع على العادة في دار صاحبنا، وجعلوا يتقاولون في أمر الدولة، وعظمة الدولة، وقوة جيوش الدولة، وسياسة عبد الحميد، وشدة دهائه، وبعيد مراميه ... إلخ.
وبدا لبعض الحاضرين - وكان مصريا - أن يسأل سؤالا، فخاف وجبن والسؤال لا غنى عنه، ولا مفر من العلم بالجواب عليه، فحط المسكين إلى الزعيم عنقه، وقال: «ولكن بس، بس!» أما باقي الكلام فكان يضطرب في حنجرته اضطرابا «لا يرتقي صدرا عنها ولا يرد.» فقال له: «بس ماذا؟ ما لك لا تتكلم؟» فأعرض الرجل جفنيه، وحد عزمه وقال، وكان صوته هجس هاتف يجيء من وراء الأفق: «بس مسألة الدوننمة»
1
يعني أن الدولة ليست معتنية بالدوننمة!» وسرعان ما استلقى الزعيم على ظهره مقهقها وهو يقول في نبرات مليئة بالتهكم والاستهزاء: «نعم! معك الحق. إن الدولة لا تعنى بأمر الدوننمة.» ثم اعتدل وألبس وجهه ثوب الجد، وجعل يدير طرفه في الحاضرين وتراه يتلفت ذات اليمين وذات الشمال، ويرفع بصره إلى فوق وإلى تحت وإلى قدام وإلى وراء، ثم قال: «فيكم من يكتم السر؟» فأجابوا جميعا في نفس واحد: «في بير!» «إذن فاسمعوا لقد زرت المابين ذات يوم، وأبديت لفخامة الصدر الأعظم مثل هذه الملاحظة، فأظهر الموافقة لي والندامة على تقصير الدولة في أمر الدوننمة، وغمز لي بعينه غمزة خفيت على جميع حاضري المجلس، فلما هم الجميع بالانصراف ضغط على يدي واستبقاني، حتى إذا خلا له وجهي ولم يبق معنا أحد قال لي: «إذا انتصف الليل فامض إلى شارع كذا، فإذا بلغت الموضع الفلاني فخذ على يمينك في أول شارع، ثم خذ على يسارك في ثالث حارة، ثم عد ثلاث حارات وادخل في الرابعة، وستلقى زقاقا على يسارك فاسلكه حتى تنتهي إلى خربة على يمينك، وستجد على مدخل هذه الخربة رجلا شحاذا رث الثياب، مقنع الوجه، فافعل ما يأمرك!»
ومضيت في الميعاد وإذا الشحاذ في الانتظار، فما أن رآني حتى أجال طرفه في الأرض والسماء، ولما أمن عيون الإنس والجن، ودابة الأرض وحدق الطير في أوكارها أسرع إلى زاوية في الخربة، وظل يفحص عن الأرض إلى أن انكشف له غطاء من الحديد فرفعه، ودفعه إلى ما دونه وتدلى ورائي وأعاد الغطاء فوقه، وتدلينا في سلم عددت له 127 درجة، ثم انتهينا إلى دهليز طويل، سلكنا منه إلى دهليز آخر أعرض وأطول، وما زلنا ننعطف من دهليز إلى آخر حتى أفضت بنا خاتمة السعي إلى فضاء يزيد على التسعين ألف فدان، وقد ازدحم «بالورش والترسخانات» العظيمة الهائلة التي لا نظير لها في جميع الدنيا، وإذا خلق من الناس لا يحصيهم إلا خالقهم. «ويكشف الشحاذ النقاب عن وجهه فإذا هو صاحب الفخامة خليل رفعت باشا الصدر الأعظم بنفسه! وإذا في هذا العالم ثلاثون مليونا من الصناع معهم نساؤهم وأولادهم - يولدون أو يستولدون - لا يرى أحد منهم صفحة السماء أبدا ، وكلما أتموا بناء مدرعة أو نسافة أو «فرديت»، أو خطاف «دردبو»
2
من شباك البحر «لا من شاف، ولا من سمع» حتى يأتي اليوم المعلوم وحينئذ تخرج الدوننمة للقضاء على أساطيل الدول جميعا!
الله أكبر! الله أكبر! ما شاء الله! نصر الله السلطان آمين آمين!
Halaman tidak diketahui