139

يا لها من قبلة هائلة، ولو كانت أحلى ما التذ به إنسان في جميع هذا العالم!»

إلى هنا انتهى صاحبي من حديثه الموجع الأليم، وإذا كنت قد بدأت هذا الحديث من منتهاه، فاعذرني يا سيدي القارئ، فلقد أعداني صنيع قصاص هذا العصر، فكثرتهم إنما يبدءون القصة من وسطها أو من مآخيرها؛ ليبعثوا في قرائهم غريزة التشوق والاستشراف، فأخذت في رواية هذا الحديث أخذهم ونهجت نهجهم.

أما أول القصة، فإن لي صديقا كريم المنزلة عندي أعرف فيه رهافة الحس، ووضاءة النفس وطيبة القلب وشدة العطف، وهو شديد الكلف بأولاده، عظيم العطف عليهم، حتى لا يكاد ينتهي منتهاه في ذلك أحد، وهو لا يفتأ يدللهم ويرفه بكل ما اتسع له الجهد عليهم، ويسلي بشتى الوسائل عنهم، وكثيرا ما يستخفه ذكرهم حتى في المجلس الجامع لمن يتحشم ومن لا يتحشم، فيروي من أحاديث كبارهم ومن لغو صغارهم ما يبالي أظن الناس به ولها وعطفا، أم ظنوا به حمقا وسخفا.

ولقد هاجر هذا صاحبي إلى الريف فيمن هاجروا فرارا بنفسهم، أو على الصحيح، فرارا بولدهم، ثم انكفأ بهم إلى القاهرة بعد قضاء الأشهر الطويلة، ولقيته بعد مقفلة فإذا هو هزيل مغبر الوجه، فلم أشك في أنه قد لحقته علة فسألته عن حاله وما به فقص علي القصة التي سمعت آخرها وهاك أولها.

قال صاحبي - كان الله له: «هبطت القاهرة لألي بعض العمل وتركت ولدي في أتم خير وعافية، فرحين بعيش الريف الذي لم يعرفوه من قبل، وقضيت في مهبطي ليلتين اثنتين ثم عدت وقد حملت إليهم ما أقدرني الله عليه من التحف والألطاف، وكنت طول الطريق أتمثل لقاءهم، ورؤيتهم في هرجهم ومرجهم، وما عسى أن أدخل من السرور عليهم، فأجد لذلك لذة لا تكاد تعد لها لذة.

على أنني ما كدت أن أتخطى عتبة البيت؛ حتى رأيت جمودا لم آلفه ووجوما لا عهد لي به، فهرولت إلى السلم وما عرجت بعض الدرج حتى سمعت أنينا مؤلما يتخلله صراخ مزعج، فجعلت أطوي الدرج مثنى وثلاث، ثم انتهيت إلى مبعث الصوت فإذا صغرى ابنتي هي التي تئن وهي التي تصرخ، وإذا من حولها بين باك ينشج نشيجا عنيفا، وبين حاقن للبكاء إلا ما تنتضح به الجفون برغمه من قطرات الدموع، وبين واجم شديد الوجوم، وبين متحير العينين من شدة الذعر والهلع!

فسألت في جزع ولهفة عن الخبر، فأجابني من قوي على الكلام منهم: لقد شعرت الفتاة فجأة في أصيل أمس بآلام شديدة في الجنب الأيمن، فظن بادئ الرأي أن ذلك من أثر برد، وعلى ذلك عولجت بالعلاجات المنزلية المعروفة، حتى إذا تقدم الليل واشتدت عليها الآلام جئنا من الحاضرة بفلان، وهو طبيب مشهور فظل يعالجها ويحاول تخفيف آلامها، حتى انجلى عمود الصبح، ولم تخب البرح ولا خفت الآلام!

ورأيت المسكينة لا تطيق أن تسكن إلى وضع من الأوضاع، فهي تسأل أن يجلسوها فما تكاد تجلس حتى تصرخ، وتسأل إرقادها على الجنب الأيمن وسرعان ما تصرخ سائلة إرقادها على الأيسر وهكذا! وهي كلما أنت أحسست كبدي تذوب شعبة بعد شعبة، وينفطر سلاؤها قطرة بعد قطرة، فإذا صرخت أحسست قلبي يتوثب في صدري، كأنه كره تتقاذفها الصبية.

وهي تفتأ تستغيث بمن حولها واحدا بعد واحد؛ كأنها تظن أنهم قادرون على أن يرحموها مما تجد، ويدفعوا عنها هذا العذاب الأليم! وإنها لتستنجد بي فإذا بي أضرع إلى الله، وأسأله أن يحول ما بها إلي ثم أسرع فأستعيذ به تعالى من نزغ الشيطان، فالله أكرم وأبر وأرحم من ألا يدفع الأذى عن عبد من عبيده إلا إذا قذف به عبدا آخر، وأستغفر الله العظيم!

وتفترق جمهرة الأطباء الذين اختلفوا إليه، فمن قائل: إنه التهاب في المصير الأعور،

Halaman tidak diketahui