تلك أمثلة مكبرة للحقيقة التي أردت إثباتها، وهي أن الفكر - في وحداته الصغرى وفي مشيداته الكبرى على السواء - مؤلف دائما من شقين؛ سؤال وجواب، ولعل أفلاطون حين أجرى فلسفته في قالب المحاورات، كان مدركا لهذه الحقيقة في تحليل الفكر وطريقة بنائه، وأراد تصويرها تصويرا يبرزها، فأجرى فكره في محاورات مؤلفة من سائل ومجيب.
4
وإذا كانت عملية التفكير قوامها أسئلة يحاول الإنسان أن يجيب عنها، سواء أكان هو الذي يلقي الأسئلة على نفسه أم يلقيها عليه سواه، فإننا حين نتحدث عن عصور الفكر المختلفة أو مدارسه، فإنما نعني على وجه التحديد اختلاف المشكلات المراد حلها في تلك العصور والمدارس؛ أي اختلاف الأسئلة التي يراد الجواب عنها؛ فالعصور الفكرية تختلف والمدارس الفكرية تتباين باختلاف الأسئلة التي تلقيها وتحاول الإجابة عنه؛ فلكل عصر فكري أو مدرسة فكرية أسئلتها التي تميزها؛ وإنما ينتقل الناس من أسئلة إلى أسئلة أخرى، حين تنتقل بهم الحياة من ظروف إلى ظروف أخرى.
ومهما تنوعت نواحي الفكر في عصر معين، فالأرجح أنك - إذا ما حللت مختلف نواحي النشاط الفكري في ذلك العصر - واجد وراء هذا التنوع تشابها في الاتجاه هو الذي يطبع العصر بطابع خاص، أو بعبارة أخرى فأنت واجد بالتحليل تشابها واتحادا في الأسئلة الرئيسية التي يلقيها أهل العصر الواحد، برغم تعدد مظاهر نشاطهم الفكري، وللرجل من أهل العصر أن يثبت جوابا أو ينكر آخر، لكنه مع ذلك منتم إلى العصر ما دام معترفا بالسؤال، ولا عبرة بعد ذلك بطريقة جوابه عنه، لكنه يخرج من نطاق عصره إذا هو تنكر للسؤال ذاته، فافرض - مثلا - أن سائلا سأل من الذي صنع العالم؟ فها هنا قد تتعدد الإجابات، لكن تعددها لا يخرج أحدا من المجيبين عن روح العصر، ما داموا جميعا معترفين بمشروعية السؤال؛ وعندئذ يحق لنا أن نقول إن من بين محاور التفكير في هذا العصر المعين، افتراضا مطلقا لا يقبل الشك، وهو أن العالم مصنوع، وبقي أن نعرف من الذي صنعه.
لكن افرض أن قائلا قال - حين ألقي عليه هذا السؤال نفسه: إن العالم لم يصنعه أحد، ولا هو نتيجة لشيء سابق عليه كائنا ما كان، فإنه بذلك يتنكر للمشكلة نفسها، وينكر السؤال نفسه، وبذلك يخرج عن روح العصر الفكري، لينتمي بفكره إلى عصر آخر أو مدرسة فكرية أخرى، إنه بموقفه هذا لا ينكر جوابا ليثبت آخر، بل ينكر أن تكون المشكلة الأساسية مشكلة على الإطلاق، ولا يوافق على أن يكون السؤال الملقى سؤالا مشروعا يستحق الجواب.
انظر إلى تاريخ الفلسفة، ترى عصوره المتتابعة هي في الواقع أسئلة متلاحقة؛ فسؤال يلقيه الطبيعيون السابقون على سقراط، هو: «مم صنعت الأشياء؟» ثم يحاولون الإجابة عنه بمختلف الفروض، حتى إذا ما استنفدوا في ذلك جهدهم، تغير السؤال عند سقراط، وأصبح سؤالا عن «قيم» الأشياء الخلقية والجمالية لا عن مادتها التي صنعت منها. وباختلاف السؤال، انتقل الفكر من عصر إلى عصر يليه؛ حتى إذا ما بلغ السؤال الجديد بدوره غاية شوطه، حين أنفق المفكرون غاية جهدهم في مناقشة «القيم»؛ في الفرد وسلوكه، وفي الدولة المثلى، وفي التربية السليمة، وفي الغايات التي ينشدها العالم بما فيه من أحياء وأشياء، أقول إن السؤال الجديد حين أنهكه المفكرون بحثا وحلا، أخذ العصر الفلسفي عندئذ في الإمحال والزوال، وظل الجدب الفكري ما بقي الإنسان بغير سؤال جديد يلقيه.
وهنا دخلت الإنسانية عصرا تسوده العاطفة الدينية بظهور المسيحية أولا فالإسلام ثانيا، فلما بردت جذوة تلك العاطفة بعض الشيء، عاد الإنسان إلى نفسه من جديد يسأل: ما المبادئ التي تنطوي عليها هذه الديانة أو تلك؟ يجيب عن سؤاله كان لنا بذلك عصر فكري جديد في تاريخ الفلسفة، ولبث المفكرون عندئذ يبحثون في كثير من الجد، حتى نضب المعين وأطفئ ظمأ المتطلع، وبعدئذ انزلق اللاحقون في مجادلات عقيمة جافة كانت نذيرا بانتهاء عهد والاقتراب من عهد جديد، هو عهد النهضة في القرن السادس عشر، وتلاها ما يسميه المؤرخون بالعصر الحديث، فجاء بمشكلات جديدة ومحاولات جديدة لحلها، ولعل المشكلة الرئيسية التي شغلت الفلاسفة منذ ذلك الحين إلى منتصف القرن التاسع عشر، هي معرفة الإنسان لما حوله من أشياء؛ فكيف السبيل إلى فهم هذه الثنائية التي تفرق بين الذات العارفة والشيء المعروف؛ أي بين خبرة الإنسان الداخلية وما يجري من أحداث في العالم المحيط به.
5
وجاء القرن التاسع عشر، والنصف الثاني منه بوجه خاص، فانتقل الناس إلى مشكلات أخرى وأسئلة جديدة، هي التي تخلع على عصرنا الحاضر لونه الفكري.
فالطابع الجوهري الذي يطبع عصرنا الحاضر هو - فيما أعتقد - حصر الإنسان نفسه فيما يستطيع أن يشهد ويرى، ليستخرج من ذلك ما يمكن استخراجه من قوانين، يستخدمها في حياته العملية استخداما عمليا نفعيا ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ فكأنما السؤال الأساسي الذي يلقيه الإنسان على نفسه، ويحاول اليوم أن يجيب عنه هو: ماذا أرى من العالم وماذا أسمع؟ وهل هذا الذي أراه وأسمعه يطرد وقوعه اطرادا أستطيع أن أجعل منه قانونا أركن إليه في حياتي العملية؟
Halaman tidak diketahui