فالميتافيزيقا - إذن - هي مجموعة أقوال قالها قائلوها، ليصفوا بها أشياء لا تقع تحت حاسة من الحواس. وسنبين لك أن كل قول يحاول هذه المحاولة إنما يكون قولا فارغا ليس بذي مدلول ولا معنى، لا لأنه يعالج موضوعا «صعبا» يتعذر على العقل البشري إدراكه اليوم، وقد يستطيع ذلك غدا، بل هو قول فارغ لأنه لا يعالج شيئا على الإطلاق، وإن توهم قائله غير ذلك، وفراغ العبارات الميتافيزيقية من المعنى يرجع - كما أسلفنا - لأحد أمرين؛ فإما هي عبارات فارغة لأنها تتحدث بألفاظ لم يتفق الناس على أنها كلمات دالة على أشياء، أو أنها تتحدث بألفاظ لها معان متفق عليها، لكنها وضعت في غير سياقها المفهوم.
ولعله من المفيد في هذا الموضع، أن أذكر لك أن المذهب الوضعي المنطقي الجديد، يقصر الفلسفة على العمليات التحليلية وحدها، ويأبي عليها التعرض لوصف «الأشياء»؛ لأن هذه «الأشياء» إن كانت مما لا يقع تحت حاسة من الحواس - وهو موضوع الميتافيزيقا - فالقول فيها فارغ لأنه قول في غير موضوع، وإن كانت مما تتعرض العلوم الأخرى لبحثه، كالإنسان والطبيعة وما إلى ذلك، فينبغي أن يترك أمرها للعلماء بمعاملهم وتجاربهم ومشاهداتهم؛ إذ ليس من حق الفيلسوف أن يغلق على نفسه أبواب داره، ثم يقول إن الطبيعة وصفها كذا والإنسان صفته كيت، إلا إذا أراد أن يجعل نفسه أضحوكة الضاحكين.
4
ونضرب لك مثلا مما يقوله الميتافيزيقيون، لنبين لك ما نريده حين نتهم الميتافيزيقا بأنها أقوال فارغة من المدلول والمعنى:
يقول «برادلي» وهو من أكبر الفلاسفة الإنجليز المحدثين، يقول هذه العبارة الآتية في سياق كتابه المشهور «المظهر والحقيقة»:
يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.
ومعنى ذلك عنده - فيما أظن - أن العالم في سيره التطوري الذي جعل يتقدم به من الحالة السديمية إلى الحالة التي هو عليها الآن بما فيها من نبات وحيوان وإنسان، قد تأثر بعدة عوامل من بينها عامل اسمه «المطلق»، لكن هذا «المطلق» على الرغم من أنه قد عمل على تطور العالم وتقدمه من حالة إلى حالة، فإنه هو نفسه ثابت على حالة واحدة، لا تطور فيها ولا تقدم.
لو قال لنا عالم بيولوجي إن اختلاف البيئة يؤدي إلى تطور الحيوان من حالة إلى حالة، رأيته يقول القول وفي كراساته الأدلة التي جمعها من مشاهداته؛ لأنه حين يقول مثل هذا القول لزملائه علماء البيولوجيا، لا يفترض أن هؤلاء الزملاء سيتلقون منه القول كأنه وحي أوحي به إليه من السماء، وفي مستطاع كل زميل أن يدحض له قوله بمشاهدات أخرى إن كانت عنده مشاهدات أخرى من شأنها أن تدحض ما زعم، وهكذا يجري الأمر بين العلماء إثباتا ونفيا؛ الذي يثبت أمرا إنما يثبته بما قد شاهد، والذي ينفي أمرا إنما ينفيه بما قد شاهد كذلك.
ولو قال لنا متحدث في الشئون اليومية إن إخراج الحكومة للتسعيرة قد أدى إلى تطور الأسعار من حالة إلى حالة، رأيته أيضا يقول القول وعلى لسانه الأمثلة مما قد رأى في السوق؛ فقد كان البرتقال ثمنه كذا وأصبح كيت، ولك - إن أردت - أن تذهب إلى السوق لتثبت أو تنفي.
أما المتكلم أو الكاتب إذا ما تحدث في الفلسفة أو كتب، فإنه يجيز لنفسه، ويجيز له الناس - فيما يظهر - أن يرسل ألفاظه إرسالا بغير حساب أو عتاب؛ لأنني إذا طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى شيء من الأشياء التي أعرفها، أو في مستطاعي أن أعرفها إذا شئت، إذا طالبته بأن يشير لي إلى شيء يكون هو «المطلق» المزعوم، لأرى أكان عاملا من عوامل تطور العالم - كما زعم - أم لم يكن، أنكر علي سؤالي؛ لأنه فيلسوف ميتافيزيقي كتب له الله في لوحه المحفوظ أن يعرج إلى السماء من حين إلى حين، ليعلم هناك أن «المطلق» يفعل هذا ولا يفعل ذاك.
Halaman tidak diketahui