وكذلك أدى البحث التحليلي للفلاسفة المعاصرين إلى الكشف عن حقيقة أخرى في العبارات التي تعبر عن قيمة خلقية أو قيمة جمالية، كقولك مثلا: إن الشجاعة خير، وإن غروب الشمس جميل. فأمثال هذه العبارات إذا ما خضعت للتحليل المنطقي تبين أنها تعبير ذاتي صرف لا شأن له بالعالم الخارجي؛ فأنت لا تصف شيئا من مكونات العالم حين تقول عن الصدق إنه خير، أو حين تقول إن غروب الشمس جميل، إنما تقول شيئا عن ذات نفسك أنت، ومغزى ذلك أنه إذا اختلف اثنان في حكم خلقي أو جمالي فلا سبيل إلى الرجوع إلى مقياس خارجي لنفصل به: أيهما مصيب وأيهما مخطئ؟ ذلك أن لا صواب ولا خطأ فيما تقوله لتعبر به عن ذات نفسك، وإنما يكون الصواب أو الخطأ حين تتعرض لوصف شيء خارجي، فيجيء هذا الوصف مطابقا للواقع أو غير مطابق. •••
هكذا حدثت الثورة في الفلسفة؛ فلم يعد الفيلسوف المعاصر كسابقه يتعرض لوصف الوجود، ولم يعد الفيلسوف المعاصر كسابقه يحاول أن يبني النسق الشامخ الذي يسع كل شيء؛ كانت الفلسفة فيما سبق لا تتورع عن منافسة العلم في موضوعاته، فرد العلم إلى أصحابه، وكانت تجاوز الطبيعة إلى ما وراءها تضرب فيه، فامتنع ذلك بحذف كل عبارة تصف شيئا غير الطبيعة وصفا يمكن تحقيقه بالتجربة البشرية، وأبقى الفيلسوف لنفسه عملا واحدا مشروعا، هو تحليل الكلام لتوضيح معناه، فإن سألتني بعد ذلك: ما الفلسفة في اختصار؟ قلت: إنها توضيح المعاني.
أسطورة الميتافيزيقا
1
إنني في الفلسفة نصير الوضعية المنطقية التي ما فتئ أصحابها حتى اليوم يجاهدون في تبليغ دعواها؛ وإن دعواها لتتطلب جهادا شاقا طويلا لتستقر في عقول الناس؛ ذلك لأنها حديثة العهد من جهة، لم يكد عمرها يجاوز ثلث القرن الأخير؛ فلم يمتد بها الزمن بعد امتدادا يتيح لمبادئها وأصولها أن تذيع في المجلات والكتب وقاعات الدرس؛ ولأنها من جهة أخرى إذا ما استقر بها المقام وطاب لها المثوى، فهي قمينة أن تقوض أنظمة فكرية بناها أصحابها على عمد من الباطل، وأن تمحو من رءوس الناس ونفوسهم أوهاما خلقوها لأنفسهم - جادين أو هازلين - ثم طال أمد اشتغالهم بها حتى حسبوها حقائق، وحسبوا درسها جدا لا لهو فيه. والميتافيزيقا على رأس هذه الأنظمة الفكرية التي قوامها عبث ووهم، والتي مصيرها إلى زوال محتوم إذا ما مكن للوضعية المنطقية من الذيوع.
وإنما أناصر المذهب الوضعي المنطقي لأنني مؤمن بالعلم؛ ولما كان هذا المذهب - كما قلت في مقدمة كتابي «المنطق الوضعي»:
هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم، فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه، وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه. وكالهرة التي أكلت بنيها، جعلت الميتافيزيقا أول صيدي، جعلتها أول ما أنظر إليه بمنظار الوضعية المنطقية، لأجدها كلاما فارغا لا يرتفع إلى أن يكون كذبا؛ لأن ما يوصف بالكذب كلام يتصوره العقل، ولكن تدحضه التجربة، أما هذه فكلامها كله هو من قبيل قولنا: إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار - رموز سوداء تملأ الصفحات بغير مدلول. وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي ليكشف عن هذه الحقيقة فيها.
2
ولكي أحمل القارئ على الإيمان بما آمنت به، لا أرغمه على شطط من الأمر، ولا أطالبه بركوب صعاب وأهوال؛ وكل ما أريده على التسليم به في بدء الأمر، هو أن الكلمات والعبارات التي تتألف منها اللغة، رموز اصطلح الناس على استخدامها ليتم التفاهم، فإذا وجدنا عبارة لا تؤدي هذا الذي خلقت من أجله، أعني لو وجدنا عبارة قالها قائلها ليفهم عنه السامع، ثم تبين أنها بحكم تركيبها يستحيل أن تنقل إلى السامع شيئا كان حتما علينا أن نرفض قبولها جزءا من لغة التفاهم، وكان لا مندوحة لنا عن حذفها من جملة الكلام المفهوم.
على أن الكلام لا يكون مفهوما عند السامع، إلا إذا كان في مستطاع هذا السامع أن يتصور طريقة لتحقيقه وتصديقه إذا أراد، فإذا قلت لصاحبي: «إن في هذا الصندوق أربع برتقالات.» ثم إذا كان صاحبي هذا متفقا معي على مدلولات «صندوق» و«أربعة» و«برتقالة»، كان في إمكانه أن يحقق هذا الذي أزعمه له، فإن وجد القول مطابقا للواقع صدقه، وإلا فهو قول كاذب، وفي كلتا الحالين، تكون العبارة كلاما مفهوما؛ لأنها رسمت لسامعها الصورة التي يتوقع أن يجدها في عالم الواقع.
Halaman tidak diketahui