ولما كانت اللذة التي أرجو أن أهيئها بأشعاري التي أقدمها اليوم للقارئ، إنما تعتمد كل الاعتماد على صحة الرأي في هذا الموضوع الذي هو في ذاته ذو شأن عظيم في ذوقنا وشعورنا؛ فليست تكفيني هذه الملاحظات المفككة. وإذا كنت في رأي بعض الناس، بما أشك أن أقوله، إنما أؤدي عملا لا حاجة إليه، وأنني كمن يحارب موقعة بغير أعداء، فلا بد أن أذكر أمثال هؤلاء أنه مهما تكن لغة التفاهم بين الناس، فإن العقيدة العملية بالرأي الذي أريد أن أسوقه تكاد تكون مجهولة. أما إذا قوبلت آرائي بالتسليم ثم ذهبت في تطبيقها إلى الحد الذي يجب أن تذهب إليه ما دامت قد ووفق عليها، فإن أحكامنا على آثار العباقرة من الشعراء قديمهم وحديثهم ستختلف اختلافا بعيدا عما هي عليه الآن، ستختلف في المدح والقدح على السواء، كما أن مشاعرنا الخلقية التي تؤثر وتتأثر بهذه الأحكام ستصح وتصفو فيما أعتقد.
فلننظر إلى الموضوع من حيث أسسه العامة، وليسمح لي القارئ أن أسأل: ماذا نعني بكلمة «شاعر»؟ من هو الشاعر؟ ومن ذا يخاطب بشعره؟ وأي عبارة ترجى منه؟ هو إنسان يخاطب الناس، حقا إنه لرجل أوتي حسا أرهف وحماسة أحر وشعورا أرق ودراية أشمل بطبيعة البشر ونفسا أوسع أفقا مما يحتمل أن يكون لعامة الناس. إنه رجل تسره عواطفه ونوازعه، ويغتبط أكثر مما يغتبط سائر الناس لروح الحياة التي تدب فيه، ويمتعه أن يفكر في العواطف والنوازع التي تشبه ما له منها والتي تتجلى في جوانب الكون، وكثيرا ما يضطر إلى خلقها إن لم يجدها، ثم يتميز الشاعر فضلا عن هذه الصفات بميل إلى التأثر أكثر ممن عداه بالأشياء الخافية كأنها بادية لناظريه، كما أن له مقدرة في أن ينشئ في نفسه عواطف هي في حقيقة الأمر أبعد شبها بالعواطف التي تنشأ بما يقع فعلا من الحوادث، ولكنها مع ذلك (وبخاصة فيما يسر ويمتع من نواحي العاطفة العامة) أكثر شبها بالحوادث التي تثيرها الحوادث الواقعة، مما تعود سائر الناس أن يحسوا في أنفسهم بفعل عقولهم وحدها؛ لهذا ولما يكتسب من مران تراه أشد استعدادا وأعظم مقدرة على التعبير عما يفكر فيه وما يشعر به، وبخاصة تلك الخواطر والمشاعر التي تنزو في نفسه بمحض اختياره أو بطبيعة تركيب عقله ، دون أن يثيرها مؤثر خارجي مباشر.
ولكن مهما أوتي أعظم الشعراء من هذه الملكة، فلا سبيل إلى الشك في أن ما يوحى إليه من لغة لا بد أن يكون في أغلب الأحيان أقصر مدى في صدقه وحيويته من اللغة التي ينطق بها الناس في الحياة الواقعة، متأثرين بتلك العواطف الحقيقية التي تارة ينشئ الشاعر في نفسه بعض ظلالها، وتارة يحس أنها قد نشأت في نفسه بذاتها.
إنه مهما اشتد إعجابنا بشخصية الشاعر فلسنا نرتاب في أنه وهو يصف العواطف أو يحاكيها فهو إنما يؤدي عملا آليا إلى حد ما بالقياس إلى الحرية والقوة اللتين تكونان في الفعل أو الألم في الحقيقة والواقع. حتى إن الشاعر ليرجو أن يدنو بشعوره من شعور الأفراد الذين يصف شعورهم. لا، بل إنه ليود أحيانا أن يفلت بنفسه ولو إلى فترة وجيزة من الزمن، فيغوص في وهم نفسه لكي يمزج بل يطابق بين شعوره وشعورهم، وهو في أثناء ذلك لا يزيد على أن يصوغ اللفظ الذي يوحى إليه به؛ بقصد أنه إنما يصف لغرض معين، وذلك أن يتيح للقارئ لذة. وهنا إذن تراه يطبق قاعدة الاختيار التي أطلنا فيها القول سابقا؛ فهو باختياره ما يختار سيتمكن من أن يمحو من العاطفة جوانبها المفكرة المؤذية، وسيحس أن ليس ثمة حاجة إلى مخادعة الطبيعة أو إلى التسامي بها؛ فإنه كلما أمعن في تطبيق تلك القاعدة ازداد إيمانا أن ليس بين الألفاظ التي يوحيها إليه خياله أو وهمه ما يدنو من الألفاظ التي انبعثت من الصدق والواقع.
ولكن قد يزعم الذين لا يجادلون في صحة هذه الملاحظات من حيث جوهرها العام أنه ما دام مستحيلا على الشاعر أن يجد في كل الظروف عبارة تتكافأ مع العاطفة التي يعبر عنها تكافؤا دقيقا بحيث تجيء في قوة العبارة التي تنبعث من العاطفة الحقيقية حين تختلج في نفس صاحبها، فلا جناح عليه أن يقف موقف المترجم الذي لا يضيره أن يستبدل بما يعجز عن ترجمته أفكارا بارعة ولكنها تختلف عن الأصل المنقول، ولا غضاضة أن يحاول حينا بعد حين أن يسمو عن ذلك الأصل لكي يعوض عجزه الذي لا حيلة له فيه، ولكنا لو سمحنا للشاعر بذلك كان مدعاة للكسل واليأس الذي ينافي الرجولة الصحيحة، هذا فضلا عن أن تلك حيلة من ينطقون بما لا يفهمون، والذين يتحدثون عن الشعر كأنه وسيلة للتسلية واللهو السخيف، أولئك الذين سيجادلوننا في ذوق الشعر، على حد تعبيرهم، بنفس الجد الذي يجادلون به في توافه الأمور، كذوق الألعاب البهلوانية، أو ألوان الخمر المتباينة. لقد أنبئت أن أرسططاليس قال عن الشعر إنه أعمق ألوان الكتابة فلسفة؛ وإنه لكذلك بلا ريب. إنه ينشد الحق، ولست أعني الحق الذي يرتبط بفرد من الناس أو بمكان من الأرض، ولكني أقصد الحق العام ذا الأثر الفعال، نعم لست أعني الحق الذي يعتمد صدقه على برهان خارجي عنه، بل أقصد الحق الذي تسكبه العاطفة في القلب حيا نابضا؛ أقصد الحق الذي ينهض بنفسه على نفسه دليلا لصدقه، الحق الذي إذا احتكم في أمره إلى قاض ألهمه الثقة واليقين واستمد منه بدوره ثقة ويقينا. الشعر هو صورة الطبيعة والإنسان، وإن العثرات التي تعترض سبيل المؤرخ والراوية اللذين يتوخيان الأمانة فيما يكتبان، والتي تعترض سبيل القراء فيما بعد، لأشد هولا مما ينبغي على الشاعر أن يذلله من عقبات، لو كان الشاعر يدرك ما لفنه من جلال. إن الشاعر لا يلتزم فيما يكتب إلا قيدا واحدا؛ إذ يتحتم عليه أن يتيح الطرب بشعره لكائن من كان من البشر إذا ما توافر لديه من المعرفة ما يفرض فيه. ولست أعني بتلك المعرفة علم المحامي أو الطبيب أو الملاح أو الفلكي أو الفيلسوف الطبيعي، ولكنني أقصد معرفة الإنسان باعتباره إنسانا، فإذا استثنيت هذا القيد الواحد لما ألفيت من العوائق ما يحول بين الشاعر وبين تصوير الأشياء، في حين أن آلافا من تلك الحوائل تتوسط بين المؤرخ أو الراوية وبين ذلك التصوير.
ولا تظنن أن في إلزام الشاعر أن يهيئ لقارئه لذة مباشرة بشعره حطا من قدر فنه، بل إنه على نقيض ذلك اعتراف بجمال الوجود اعترافا يزيد من صدقه أنه صريح لا مواربة فيه؛ وإن تيسير تلك اللذة لعمل يسهل ويهون على من ينظر إلى العالم نظرة ملؤها الحب، فضلا عن أنه فريضة واجبة يؤديها إجلالا للإنسان من حيث هو إنسان، فريضة يؤديها في سبيل اللذة التي هي من بنائنا أس جوهري عظيم؛ فباللذة يعلم الإنسان ويحس ويعيش ويسعى. إن الإنسان لا يعاطف الإنسان إلا فيما يوفر له السرور، ولست أحب أن يخطئ القارئ فهم ما أريد؛ فحيثما نشاطر الناس ما يشعرون من ألم فإنما تنشأ تلك المشاركة وتتصل بفعل الروابط الدقيقة التي تربطها بإحساس اللذة؛ فإننا لم نحصل من العلم، وأقصد به المبادئ العامة التي استقيناها من التفكير في الحقائق الجزئية، اللهم إلا ما استعنا على تكوينه بشعور اللذة، ثم لا يستقر في نفوسنا هذا العلم المتحصل إلا بما نحس نحوه من لذة كذلك. وإن العلماء، كرجال الكيمياء والرياضة، ليقرون هذا ويحسونه في أنفسهم، مهما يكن ما يلاقونه في سبيل علمهم من صعاب تضيق بها النفس؛ وإنه مهما أصاب عالم التشريح من عناء في سبيل أغراضه العلمية فهو يحس لذة في عمله، وحيث لا يجد اللذة لا يحصل العلم، فماذا ترى يصنع الشاعر؟ إنه يرقب الإنسان وما يحيط به من أشياء تؤثر فيه وتتأثر به بحيث ينشأ في نفسه مزيج لا حد له من السرور والألم. إن الشاعر لينفذ إلى الإنسان فيراه على سجيته وفي مجرى حياته المعتاد، حيث يتأمل تلك المشاعر من لذة وعناء في قدر محدود من المعرفة المباشرة، وتحدد نظره طائفة من العقائد والتقاليد وشذرات من العلم تتخذ بحكم العادة صبغة التقليد؛ نعم إن الشاعر لينفذ إلى الإنسان وهو ينظر إلى هذا الشتيت المترابط من الخواطر والمشاعر فيصادف أينما وجه النظر أشياء لا تلبث أن تثير في نفسه من العواطف ما تقتضي طبيعة تكوينه أن تقترن بغبطة ترجحها فتطغى عليها.
إلى هذا اللون من المعرفة الذي يصطحبه الناس جميعا أينما ساروا، وإلى هذه العواطف التي يستمتع بها الإنسان بحكم جبلته مدفوعا بطبيعة حياته السائرة دون سواها، ينبغي أن يبذل الشاعر أعظم عنايته. إنه لينظر إلى الإنسان والطبيعة وكأنما قد أعد كلاهما في جوهرهما ليكونا عنصرين متلائمين، كما يعد عقل الإنسان مرآة طبيعية تعكس أجمل خصائص الطبيعة وأمتعها. وعلى ذلك ترى الشاعر يناجي الطبيعة في مجموعها مدفوعا بشعور اللذة الذي يرافقه فلا يفارقه طوال دراسته، إنه يناجي الطبيعة وفي مشاعر شديدة الشبه بتلك التي يستثيرها العالم في نفسه فتنشأ خلال عمله وعلى الزمن من طول ما يتحدث إلى جزئيات الطبيعة التي تكون موضوع دراسته. إن معرفة الشاعر والعالم كليهما إن هي إلا اللذة، غير أن معرفة الشاعر تكون جزءا لازما من وجودنا، وإرثا طبيعيا لا ينفك ملازما لنفوسنا، أما علم العالم فلا يعدو شخصه ونفسه، فإن سار إلى نفوسنا كان وئيد الخطى، وهو لا يثير فينا عاطفة مباشرة تربطنا بسائر إخواننا من البشر. إن العالم لينشد الحقيقة كأنما هي معين خير مجهول لا تصله بنفسه الصلات؛ فهو يعشقها ويحبها، وحيدا لا يشاطره الحب إنسان، أما الشاعر فإذا غرد أنشودة شاركته في تغريده الإنسانية بأسرها، وإنه ليغتبط إذ يرى الحقيقة صديقه للإنسان سافرة عن وجهها ورفيقة تلازمه ولا تهجره. إن الشعر من المعرفة كلها أنفاسها المترددة وروحها الشفاف، إنه هو ما ترى على جبين العلم من علائم العاطفة، وتستطيع أن تقول في الشاعر صادقا ما قاله شيكسبير عن الإنسان من «أنه يستذكر الماضي ويتسلف مقبل الأيام.» إن الشاعر حصن يذب عن الطبيعة البشرية فهو يحفظها ويحميها، وينشر الحب والقربي أينما ارتحل. إنه رغم ما يضرب بين البشر من تباين في الأرض والهواء واللغة والأخلاق والعادة والقانون، ورغم ما يتسلل من العقل فينمحي، ورغم ما تعصف به الأيام فينقوض، تراه يوشج الأواصر بين الجماعة الإنسانية المترامية أطرافها بعاطفته ومعرفته، فيصل ما قطع الزمان وما نثر المكان بين أفرادها. إن الشاعر أينما وجه النظر صادف موضوعا لخواطره، فلئن كانت نواظر الإنسان وحواسه هي بحق دليله الأمين ، إلا أنه يؤثر أن يتجه إلى حيثما يجد مجالا من الإحساس يسمو فيه بجناحيه ويحلق. وإذن فالشعر من ضروب المعرفة بأسرها هو الأول والآخر؛ فإنه باق على الزمان ما بقي قلب الإنسان، فإن جاء اليوم الذي يكتب فيه لبحوث العلماء أن تشعل في نفوسنا وفي آرائنا ثورة خطيرة أيا كان لونها، مباشرة كانت أو غير مباشرة، إذن لنهض الشاعر مما يغط فيه اليوم من سبات، ولأخذ الأهبة ليقتفي أثر العالم، فلا يتأثر بنتائجه العامة غير المباشرة وحدها، بل يقف إلى جانبه يجول بإحساسه بين الأشياء التي يغوص فيها العلم نفسه. إن أعمق ما يكشفه علماء الكيمياء والنبات والمعادن لموضوعات جديرة بالشاعر وفنه كأي موضوع آخر مما يستخدم فيه الشعر. نعم إنه إذا أقبل اليوم الذي نألف فيه هذه الدقائق العلمية، والذي نحس فيه بأن لتلك الجوانب التي يسبح فيها أبناء العلوم بأفكارهم شأنا في حياتنا صريحا جليا باعتبارنا كائنات تشقى وتسعد، أقول إنه إذا جاء ذلك اليوم الذي يشيع فيه بين الناس ما نسميه اليوم بالعلم، شيوعا يدنو به من قلوبهم حتى يكتسي ثوبا من لحم ودم؛ عندئذ ترى الشاعر يجود بروحه الإلهية ليعين العلم أن يتخذ صورة الحياة، ثم تراه يستقبل هذا الوليد الجديد، صديقا مخلصا حميما لعشيرة الإنسان، فلا ينبغي إذن أن يذهب الظن بقارئ إلى أن رجلا هذا إيمانه بمنزلة الشعر السامية، تلك المنزلة التي حاولت أن أبسطها فيما سلف، سيشوه ما في أشعاره من قداسة وحق بزخارف اللفظ الزائلة الفانية أو يحاول أن يستثير الإعجاب بنفسه بأن يصطنع فنونا لا يتحتم اصطناعها إلا إذا صدق ما يزعمون لموضوع الشعر من ضعة.
إن ما قلته حتى الآن يصدق على الشعر إجمالا، ولكنه يصدق بصفة خاصة على الأجزاء التي ينطق فيها الشاعر على ألسنة شخوصه. وجدير بنا في هذا الصدد أن نعترف بأن ثمة نفرا ممن أوتوا الحس الرهيف لا يسلمون بأن المواضع التمثيلية من الشعر تكون معيبة بمقدار ما تنأى عن اللغة الطبيعية التي يتحدث بها الناس في حياتهم، وبنسبة ما يصبغها الشاعر بألفاظه هو، سواء كانت تلك الألفاظ خاصة به بصفته الشخصية، أو باعتباره عضوا في أسرة الشعراء؛ أعني باعتباره منتميا إلى قوم ينتظر الناس منهم أن يتخذوا ألفاظا خاصة بهم ما دامت عبارتهم قد انفردت دون غيرها بالوزن.
لسنا إذن نريد أن تكتب الأجزاء التمثيلية من الشعر بأسلوب ممتاز؛ فقد يكون هذا الأسلوب الممتاز مستساغا وضروريا حينما يحدثنا الشاعر بنفسه وعن نفسه، بل إني لأنكره حتى في هذا، وأعود بالقارئ إلى الوصف الذي أسلفناه للشاعر، فلن يجد بين صفاته التي عددناها جوهرية في تكوين الشاعر صفة يختلف بها عن سائر الناس من حيث النوع؛ إذ هو يباينهم في الدرجة وحدها. ومجمل ما قيل هو أن الشاعر يتميز عن سائر الناس قبل كل شيء بقابليته العظيمة للتفكير والشعور حين لا يكون ثمة مؤثر خارجي مباشر يستثير ذلك التفكير أو الشعور، ثم هو يتميز عن سائر الناس بمقدرته الفائقة على التعبير عن تلك الخواطر والمشاعر على نحو ما نشأت في نفسه. وهذه العواطف والأفكار والمشاعر هي نفسها ما يختلج في نفوس الناس من عواطف وأفكار ومشاعر، وإحساساته الحيوانية كما تتناول الأسباب التي تخلق تلك المشاعر والإحساسات. إنها تبحث في فعل العناصر الأولى وفيما تراه العين من مظاهر الوجود، فهي تستعرض الزعازع العاصفة وضوء الشمس الساطع، ودورة الفصول، وما يتعاور الأرض من برد وحر، وما يصيب الناس من فقد الأصدقاء والأقرباء، وما يثير في الناس الأذى والشحناء، والأمل وعرفان الجميل، وما يدور في صدورهم من خوف وأسى. تلك وأشباهها هي ما يصف الشاعر من أشياء وما يبسط من مشاعر، وهي هي الأشياء والمشاعر التي تظفر عند سائر الناس بالحب. إن الشاعر ليشعر ويفكر بروح العواطف البشرية، فكيف إذن يجوز أن يختلف أسلوبه اختلافا جوهريا عن اللغة التي يتحدث بها الناس جميعا، وأريد بهم من يشعرون في قوة ويرون في وضوح؟ إنه لمن الهين أن نقيم البرهان على استحالة ذلك، ولكن هبه مستطاعا لا استحالة فيه، إذن فيجوز للشاعر أن يستخدم لغة ممتازة حين يعبر عن مشاعره هو إن كان في ذلك إرضاء لنفسه ونفوس من يشاكلونه. غير أن الشعراء لا يكتبون للشعراء وحدهم، وإنما هم يخاطبون الناس بشعرهم؛ وعلى ذلك، فإذا لم يكن الشاعر من دعاة ذلك اللون من الإعجاب الذي يعتمد على الجهل، وتلك اللذة التي قد يستشعرها من ينصت إلى كلام لا يفهمه، نقول إذا لم يكن الشاعر من أنصار ذلك اللون من الإعجاب وتلك اللذة لوجب أن ينزل من عليائه المزعومة؛ فلكي يثير عاطفة مبصرة ينبغي أن يعبر عما يدور بنفسه على نحو ما يعبر سائر الناس عما يدور بنفوسهم؛ لأنه إذا عمد إلى اختيار لفظه مما يتحدث به الناس في حياتهم الواقعة، أو إذا هو أنشأ ما ينشئ من شعر وروحه مشبع بما يستخدم الناس من ألفاظ - إذ لا فرق بين الحالتين - فإنه يجنب نفسه التواء السبيل، ويمكن القارئ أن يتهيأ لشعره، وذلك بعينه هو ما يدفعني أن أحتفظ للشعر بوزنه؛ فخليق بي أن أذكر القارئ بأن صفة الوزن هذه تجري على قاعدة معروفة ونظام مطرد، وهي تختلف في ذلك عن الصفة التي تسمى عادة «بالألفاظ الشعرية»؛ إذ الشاعر وحده هو الذي يتحكم في هذه الألفاظ، فهي لذلك تخضع لما لا نهاية له من تقلب الأهواء، الذي لا يمكن القارئ أن يهيئ نفسه في شيء من اليقين لأسلوب معين من الشعر. إن مبدأ «الألفاظ الشعرية» يضع القارئ تحت رحمة الشاعر المطلقة، عليه أن يرضى بما يحلو للشاعر من صور وألفاظ مما يرتبط بالعاطفة التي ينشئ فيها الشعر. أما الوزن فهو بعكس الألفاظ الشعرية يسير وفق قانون معلوم، يسلم به الشاعر والقارئ كلاهما راضيين؛ لأنهما يسلكان به سبيلا قصدا، ولا يعترضان به مجرى العاطفة إلا فيما أجمعت شواهد العصور المتتابعة على أنه يسمو ويرتفع باللذة التي تثيرها تلك العاطفة.
وحقيق بي الآن أن أجيب سؤالا لا إخال القارئ إلا سائله، وهو: ما دمت أنشر هذه الآراء، فلماذا كتبت ما كتبت شعرا؟ وجواب هذا السؤال متضمن فيما سلف، ولكني أضيف إلى ذلك جوابا آخر؛ فقد لجأت إلى الشعر أولا لأنني مهما أسرفت في التزام القيود، فلا تزال معروضة أمامي تلك العناصر التي تكون أنفس جوانب الكتابة بأسرها، نثرا كانت أم شعرا، فما تزال أمامي عواطف الناس النبيلة وأعمالهم الممتعة، بل ما تزال الطبيعة بأسرها منشورة الصفحات أمام ناظري، وكل هؤلاء يمدني بما ليس يحصى من صور الخيال ووسائل التعبير، ولكن لنفرض جدلا أن كل ما يأخذ باللب من هذه الأشياء نستطيع أن نصفه بالنثر وصفا رائعا، فماذا يغريني بالانزلاق في هذا الزلل بأن أضيف إلى ذلك الوصف النثري فتنة أجمعت الأمم كلها على أنها من خصائص الكلام المنظوم؟ سيقول المعارضون إن شطرا ضئيلا جدا من لذة الشعر يجيء من الوزن، وإنه من الغفلة أن أكتب كلاما منظوما ما لم تصحبه زخارف الأسلوب الصناعية الأخرى التي تلازم النظم عادة، وإنني إذا عريت عبارتي عن ذلك التنميق حرمت قارئي مما يفعله الأسلوب في إثارة الخواطر حرمانا يرجح على كل متعة يهيئها له الوزن القوي، فإلى هؤلاء الذين ما يزالون يكافحون دفاعا عن ضرورة اقتران الوزن بضروب معينة من زخرفة الأسلوب حتى يكون له ما نرجو من أثر، والذين أراهم يبخسون جدا من قوة الوزن في ذاته، إلى هؤلاء ألاحظ - وحسبي فيما أظن هذه الملاحظة تبريرا لهذا الديوان - أن هنالك من القصائد ما يدور حول موضوعات أكثر من هذه تواضعا، وصيغت في أسلوب أشد من هذا الأسلوب بساطة وتجردا عن الزخرف، ومع ذلك فهي خالدة باقية، يستمتع بها الناس جيلا بعد جيل، فإذا كانت البساطة والتجرد عن التنميق عيبا، فإن هذه الحقيقة التي ذكرتها لتنهض دليلا أقوى دليل على أن قصائدي - وهي أقل بساطة من تلك القصائد المشار إليها وأقل منها تعريا عن وسائل التزويق - قادرة على إثارة اللذة في نفوس الناس في يومنا هذا. وإن ما أردته الآن قبل كل شيء هو أن أبرر ما كتبته متأثرا بهذا الرأي.
Halaman tidak diketahui