وفي أثناء تلك الفترة غير القصيرة تعرض حمادة الحلواني لطوارق خفية متسللة من الهم، صار بها في النهاية صاحب مشكلة، عانى ذلك الحشاش البدين طارئا جديدا غير الخمول والذهول، قال لنا ذات ليلة: رغم كل ما يتهيأ لي من أسباب الراحة فإنني أضيق بالحياة أحيانا لحد القرف!
ووجمنا، وطال صمتنا، حتى قطعه صادق بلهجته الوعظية قائلا: أنت الوحيد بيننا الذي تحيا بلا عمل.
وقال له إسماعيل قدري: حياتك يتمناها كل إنسان كحلم، أما كواقع فهي شيء آخر.
فقال حمادة معاندا: دعونا من المحفوظات ، إنها حياة عظيمة، ولكنها تحتاج إلى حلول جريئة.
فقال طاهر عبيد: أفرغ طاقتك المختزنة في نشاط جديد، ما رأيك في الرحلات؟!
عز علينا أن نفقده ولو إلى حين ولكنه كان العلاج المتاح، وقرر الرجل أن يقوم برحلات متنوعة بادئا بالداخل، تنقل صيفا بين مواقع الساحل الشمالي، وزار شتاء الأقصر وأسوان، ورجع أحسن حالا، ولكن ذلك لم يدم طويلا، وقال له إسماعيل قدري: قم برحلات أخر في الخارج.
وهش للاقتراح وعزم على تنفيذه، ولكن التاريخ كان يعد لرحلة جديدة في حياة مصر، فاضطر الرجل إلى أن يعدل عن مشروعه.
وكان طاهر عبيد يتألق كفنان، ويهنأ بأبوته إلى أقصى حد، أما كزوج فقد خامرنا من ناحيته شك. بلغت رئيفة الأربعين أو جاوزتها بقليل، ولكن العمر لم ينل من أحدنا كما نال منها، بل قدر بعضنا أنها كانت أكبر مما حدسنا يوم زواجها. هزلت بدرجة كبيرة جردتها من كافة مزايا الجسد الأنثوي، وبرزت عظام وجهها فتغير شكلها وشحبت صورتها، أجل بقي الحب القديم كما كان في الظاهر على الأقل، وتبدى طاهر كعادته مرحا ضاحكا ساخرا، وتساءلنا: كيف يكون الحال مع الزميلات والمعجبات؟! وعلى أي حال فإن يكن ثمة وفاء فمرجعه إلى الأخلاق الطيبة لا إلى الغرائز الراضية. وفي تلك الأيام علم طاهر أن أباه معتكف في فيلا بين السرايات لمرض خطير في المثانة، فأزاح عن صدره عقد السنين ومضى إلى الفيلا، رجع إليها كهلا بعد أن غادرها شابا في ربيع العمر. وأحدث ظهوره هزة شاملة؛ استقبلته إنصاف هانم بحرارة وقبلته، وقادته إلى مخدع الباشا دون استئذان، ورنا إليه الرجل مليا وببصر ضعيف، ثم أخرج يده المعروقة من تحت الغطاء فتصافحا طويلا حتى دمعت عينا طاهر، وقال برقة: شد حيلك يا بابا، أرجو أن أهنئك بالسلامة في المرة القادمة.
فشكره بصوت ضعيف ثم سأله: كيف حال أسرتك؟ - تود أن تحييك بنفسها.
فقال بصوت كالهمس: أود أن أراها.
Halaman tidak diketahui