وأيضا فلإسماعيل قدري سليمان حديثه تحت النخلة، إنه أسمر قوي الجسم ذو عينين عسليتين جميلتين وأنف كبير ونظرة ذكية، بيته صغير ذو حديقة خلفية بشارع حسن عيد، يشبه بيت صادق صفوان ببين الجناين، أبوه قدري أفندي سليمان موظف بالسكك الحديدية يكاد يماثل ابنه في الشبه لولا بدانته، يقول عن أبيه: أبي يستقل أي قطار في القطر من غير أن يقطع تذكرة.
ويقول عن أمه ست فتحية عسل: أمي لا مثيل لها في صنع الكعك والفطائر.
له أربع أخوات سبقنه إلى الوجود، حظهن من التعليم وقف عند حد محو الأمية، وحجزن في البيت لتأهيلهن لعمل ست البيت، كن متوسطات الجمال، بل الحق أن إسماعيل يعد أجمل منهن، ولكنهن تزوجن قبل أن يبلغن السادسة عشرة من موظفين صغار في السكك الحديدية أيضا، وفي سبيل ذلك باع قدري أفندي سليمان البيت الوحيد الذي كان يملكه في باب الشعرية، وقال لابنه إسماعيل: أما أنت فمستقبلك بيدك.
ولم يخيب إسماعيل رجاء أبيه؛ فهو أبرزنا في المدرسة دون منازع، يذاكر ويحفظ ويتفوق ولا يشبع من ثناء المدرسين ولا من إعجابنا به، تتفق الآراء على أنه الفارس في هذا الميدان، وهو ذكي لماح، عشق الدين كما عشق طاهر الشعر، يصلي مثل صادق وصام في سن السابعة ، ولا يكف عن تصور الله في هيئة جليلة لا حدود لعظمتها، ويسأل المدرس حتى يضيق به المدرس ويأمره بالتسليم والطاعة. وإلى ذلك فتجاربه كثيرة ومسلية، يقول مباهيا: في حديقتنا الصغيرة أزرع البصل، أسقي الزرع، أجمع العنب والجوافة، أصطاد الضفادع وأشق بطونها لأرى ما بداخلها.
يسأله طاهر: تريد أن تكون طبيبا؟ - ربما .. لا أدري بعد.
وبشغفه الغامض اندفع يجرب الجراحة في يد خادمة صغيرة فجرح كفها، وغضبت أمه غضبة عنيفة، وهيأت له أنها ستفعل براحته مثلما فعل بالخادمة وهو يبكي ويتوسل، ولما رجع أبوه من عمله وعلم بالذي كان؛ قيد قدميه وضربه بعصاه خمسا! ولعل ذلك كان ضمن الأسباب التي حولته عن التطلع للطب فيما بعد. ومن حكاياته المسلية ما يرويه عن زياراته لأخواته في الأحياء الأخرى، فيحكي لنا عن شبرا وروض الفرج والقبيسي والسيدة زينب، ودعي أبوه مرة لنزهة في لونابارك بمصر الجديدة فاصطحبه معه، فجن بها كما جن طاهر بالسينما، هوس وهوسنا بالألعاب التي سحرته مثل القطار والقارب المتزحلق والغربال والمئذنة الحلزونية، أما مجد صباه الحقيقي فاستوى فوق سطح بيتهم الصغير، فوق السطح تربى الأرانب والدجاج وثمة حجرة للخزين، وهو يتطوع لتقديم الماء والغداء وتفقد المواليد وجمع البيض، وتحت أمره إذا شاء في حجرة الخزين السمن والمش والجبن والعسل الأسود، بالإضافة إلى جدار السطح الذي جعل منه لوحة طويلة عريضة للرسم، وفوقه السماء بطيورها ونجومها، وله من الوحدة أحيانا فرصة للغناء، وفرصة أجمل لدى استقبال بنات الأقارب والجيران، منذ ذلك العهد البعيد بدأ تجاربه مع الدين والجنس، يصلي في ناحية ويندمج في لعبة العروس والعريس في ناحية أخرى، وأمه تطمئن إلى تدينه، فلا تشك في عبثه، ويسأله صادق صفوان: ألا تخاف من الله؟
يضحك، يرتبك، ولا يجيب، ذلك الصبي يتقدمنا في كل شيء. •••
نجلس فوق النجيل عند أصل النخلة، حمادة وطاهر يرتديان قميصا وبنطلونا قصيرا، وصادق وإسماعيل في جلبابين. عنايتنا بمظهرنا كاملة؛ حمادة وطاهر يمشطان شعرهما الطويل أما صادق وإسماعيل فيحلقان رأسيهما نمرة 3، وبتأثير السينما شغلنا أنفسنا بتقوية أجسامنا وممارسة الألعاب الرياضية، ومثلنا الأعلى في ذلك بطل الفيلم «الشجيع» مثل توم مكس ووليم هارت وفير بانكس، وزعم كل منا أن أباه «بطل» واختلق له من الحكايات ما يثبت به ذلك مثل تغلبه على لص ضبطه في البيت أو قهره لبلطجي تحدى الناس في الطريق. ويحدث أن يتحرش بنا بعض الصبية في الشوارع فنتصدى لهم متشجعين بخيالنا، وسرعان ما تجيء النتيجة مخيبة للآمال، فهؤلاء الصبية ينطحون بالرأس أو يضربون بالقباقيب. أما المودة فيما بيننا فهي صافية لا تشوبها شائبة. في وقت انقسمنا فريقين بسبب السينما فتعصب فريق لماشست وآخر لفانتوم، واحتدم النقاش بيننا، وتكدر بعض الشيء صفونا، ولكن لم تبدر من أحدنا كلمة نابية أو إشارة متحدية، نحن مجموعة تثير الحسد في صدور من حولنا من الأقران. •••
وفي عام 1918 تقدمنا لامتحان القبول في مدرسة الحسينية الابتدائية بعد أن ختمنا الدراسة الأولية وبلغنا التاسعة من العمر، وقفنا في فناء المدرسة ننتظر إعلان النتيجة آملين ألا يفرق بيننا الدهر، ونجحنا والحمد لله. نجح إسماعيل قدري بتفوق، وصادق وحمادة مرا بسلام، وعبر طاهر بفضل اسم أبيه الدكتور عبيد الأرملاوي، ولتقارب أعمارنا جمعنا فصل واحد هو أولى رابع الذي اختص بأصغر المتقدمين سنا، ووزعوا علينا الكتب الجديدة فحملناها - كلها - آخر النهار معنا لتنعم برؤيتها الأسر، والتحق إسماعيل بفريق الأشبال لكرة القدم ثم انقطع يأسا من الإتقان، وقدم صادق في فريق التمثيل وسرعان ما تركه، أما حمادة فأراد الانضمام للكشافة ولكن الأسرة لم توافق. نلتقي في فناء المدرسة للسمر السريع، أما خارج المدرسة فاقتصرت اللقيا على يومي الخميس والجمعة، فنذهب مساء الخميس إلى سينما المنظر الجميل ونقضي صباح الجمعة - إذا سمح الجو - عند أصل النخلة. وحافظ اجتهادنا على إيقاعه السابق، فلم يتأثر بالتفوق إلا إسماعيل قدري سليمان.
وذات مرة قال لنا حمادة يسري الحلواني: سمعت بابا يتحدث عن رجال ثلاثة ذهبوا إلى الإنجليز يطالبون باستقلال مصر!
Halaman tidak diketahui