كلا، لم نتصور أن يقنع بالهزيمة ويستسلم لمخدر الروتين، وآي ذلك أن حماسه السياسي لم يهن إن لم يكن اشتد، ولم يبق فينا من هو مجرد علامة استفهام إلا حمادة؛ ذلك الرحالة بين الأفكار والمذاهب الذي لا يستقر على حال أكثر من أيام، حتى اعتاد طاهر أن يداعبه عند اللقاء متسائلا: من تكون اليوم؟!
ويواصل ركن قشتمر سمره ما بين الأصالة والمعاصرة منبهرا بكل جديد في الفكر أو العلم متطلعا إلى حكم صالح ينعم فيه بالاستقلال والديمقراطية، وتابعنا باهتمام حار صادق جهاد الوفد في مكافحة الدكتاتورية، أما صادق فكان يحسب الأيام في جريانها منتظرا الوليد الذي يجود به القدر. وكانت ولادة إحسان غير يسيرة فاضطر إلى استدعاء طبيب لمعاونة الداية، وتلقى - بعد العناء - من ربه وليده الأول الذي أسماه إبراهيم تيمنا باسم أبي الأنبياء، وفرح به صادق فرحتين، فرحة بمجيئه، وفرحة بتوقع عودة أمه إلى طبيعتها الأولى، وبالمناسبة قال طاهر: لا أحب فكرة الإنجاب.
فسأله صادق الذي أصبح ذا تجربة: ورئيفة؟ - طبعا العكس. - عظيم، سوف تنجب عاجلا أو آجلا.
فقال باستسلام: بل أخشى أن يكون ذلك قد تم!
فقال صادق بأسلوبه الوعظي: هذا حقها فلا تأسف.
كان بعضنا يخاف على طاهر ردة الفعل بعد أن يخبو لهيب رغبته، الحق أنه استمر في حبه فدل على أنه أحب حبا صادقا، وهضم مقامه الجديد بيسر ومرح، وازداد حماسا في عمله وإنتاجه ونجاحه وكأنه لم يخلق إلا لذاك. ومع أنه ابن ذوات كحمادة، إلا أنه كان ذا استعداد شعبي فطري، حتى منظره اختلف في ذلك عن أبيه وشقيقتيه بالإضافة إلى العادات والسلوك التي اكتسبها من صحبتنا وانغمس فيها حتى قمة رأسه. وفي أول عهده بالزواج أراد أن تنقطع رئيفة عن عملها وتستقر في بيتها فلم تمانع وقالت له: أنا على أتم الاستعداد ولكن، ألا يزيد ذلك من أعبائك؟!
ففكر وحسب ثم قرر أن يتركها في عملها الذي كانت تربح منه أضعاف مرتبه، وقال لنا بحرارة: إنها على خلق وجديرة بكل ثقة.
وعجبنا في أنفسنا لما ذاع عنها قديما من غير أي دليل، وأهدى إلينا الزمن المتجهم بسمة بسقوط الحكم الدكتاتوري، ولكن حكم الوفد مضى في غمضة عين عقب فشل المفاوضات فلم يدم أكثر من إشراقة شمس عابرة في يوم غائم طويل، وخلفه في الحكم إسماعيل صدقي مفتتحا عصرا داميا من التعسف والإرهاب. وماجت البلاد بالمظاهرات وأنت من كثرة الضحايا، وجعل إسماعيل قدري يرقب المعارك في ميدان باب الخلق من نافذة حجرته بدار الكتب وهو يتعجب كيف قضي عليه بأن يكون موظفا ويحال بينه وبين الاشتراك في المظاهرات. وأظلت جماعتنا سحابة قلق لاعتكاف يسري باشا الحلواني في سراياه مريضا، وما أعقب ذلك من إجراء جراحة له في البروستاتا، وما لبث أن توفي الباشا في المستشفى الفرنسي على مبعدة يسيرة من سراياه. فقدت العباسية بموته أهم شخصية اقتصادية ووطنية بين أبنائها، كما خسر الوفد أحد مجاهديه الأوائل، وشيعت الجنازة في موكب عظيم تقدمه أعضاء الوفد وعلى رأسهم مصطفى النحاس، ورغم فتور العلاقة بين الأب الراحل وصديقنا حمادة إلا أن الحزن استغرق الفتى في يوم الفراق، وبكى في المدفن بكاء صادقا كأخيه توفيق. ولكن الأمر الذي لا شك فيه أنه شعر بالتحرر والاستقلال وأنه سعد بذلك الشعور، وترك الإدارة لشقيقه، واهتم بفرز ميراثه من الأموال السائلة والعقارات، وصادف ذلك أن بلغ سن الرشد قبل الوفاة بأسابيع. ووضح لنا جميعا أن صديقنا أصبح من الأغنياء بكل معنى الكلمة، ونصحه صادق قائلا: حافظ على حسن العلاقة مع أخيك تفاديا من وجع الدماغ.
فقال موافقا: أوافق تماما، ولكي أحصل على نصيبي السنوي من أرباح المصنع دون متاعب.
وقال له إسماعيل قدري: وعليك أن تتم دراستك القانونية.
Halaman tidak diketahui