بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن دور المسلمين الأندلسيين في نهضة الحضارة الأوربية عامة وتقدم العلوم والآداب العربية الأندلسية أمر بديهي وحقائق تاريخية ثابتة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. فلولا المسلمون دخلوا الأندلس لإيقاظ أوربا النائمة في ذلك الوقت لتأخرت النهضة الأوربية العلمية الحديثة كما أنهم لو مكثوا فيها حاكمين وأقاموا بها مدة أخرى من الزمان محافظين على تراثهم العلمي والأدبي المضاع على أيدي الإفرنج، واستمروا في خدمة العلم والحضارة الأندلسية والنهوض بها، لاستنارت أوربا المظلمة في أقل وقت وأسرعه واتعجلت نهضتها الحديثة ولقطع موكب الحضارة البشرية مسافته البعيدة بخطوات مسرعة ولبلغ الإنسان ما يتمنى أن يبلغه من الأهداف والغايات بكل سرعة وسهولة ويسر. ولكنه يا للأسف ويا له من خسارة! قد وقعت وأصبحت الأندلس الإسلامية أسطورة من أساطير الماضي وعبرة من عبر التاريخ ولله در أوس حيث " المنسرح ":
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
على كل حال فقد عرفت الأندلس في خلال الحكم الإسلامي بها تطورت مخلفته في العلوم ولآداب إلى جانب حضاري ملموس وذلك أسباب ووسائل أهمها: هجرة العلماء المسلمين من الشرق إلى الأندلس. بعثات الطلاب الأندلسيين إلى المراكز الثقافية الإسلامية في الشرق. هجرة الكتب والمؤلفات العربية من الشرق الإسلامي إلى الأندلس. كون العربية لغة البلاط والحكومة والشعب مما جعل العربية وعلومها وآدابها تتقدم وتزدهر تقدمها وازدهارها في العواصم الإسلامية الشرقية. أما أخصب العصور إنتاجا وأغزرها مادة فهما العصران عصر الخلافة الأموية وخاصة عصر الخليفتين الناصر لدين الله وابنه المستنصر بالله والعصر الثاني هو عصر ملوك الطواءف. وهذا العصر الأخير هو الذي يهمنا لأنه هو عصر صاحبينا أبى الوليد والوقشي وابن السيد البطليوسي فعلينا أن ندرس بعض الجوانب لهذا العصر ونلتقط منه بعض الصور الجميلة الرائعة حتى نعرف الجو الذي عاشا فيه قم ننتقل إلى ترجمتها والدراسة لآثارهما المجيدة. عصر الوقشي وابن السيد البطليوسي أبو محمد ابن السيد البطليوسي حياته، ومؤلفاته، وشيوخه، وتلاميذه صور من عصر ملوك الطوائف وبعض مميزاته يمتاز هذا العصر بكثرة الفتن والمعارك والحروب والاضطراب والبذخ والترف واللهو والخلاعة، كما أنه يمتاز بشدة الروح الدينية وازدهار الحركة الأدبية وكثرة العلماء والأدباء والشعراء، وشيوع فن الموشح في الشعر العربي الأندلس الذي ظهرت طلائعه في مطلع هذا العصر. أما عصر المرابطين، الذين حلوا محل ملوك الطوائف، فانه يمتاز بالتعصب الديني، وتسليط البرابرة وضعف الحركة الأدبية، وظهور الزجل من الشعر العامي. واستيلاء النساء والفقهاء على شؤون الدولة. وهذه صور ولقطات من الحياة في عصر ملوك الطوائف ١ - النظم الإدارية لم يحدث شيء جديد من النظام الإداري في عصر ملوك الطوائف، وإنما كانوا يسيرون على سنن الأمويين قبلهم حذو النعل بالنعل، وكانت نظمهم في الجملة نظما فردية جانحة إلى الاستبداد بكرامة الإنسان. ولقد أصاب الأستاذ الكبير إحسان عباس وأجاد حيث قال: " وليس هناك من تفاوت كبير بين هذه الإمارات فيما تنتهجه من نظم سياسية أو إدارية، فالسيد فيها ذو سلطان مطلق يميل في أغلب الأحيان إلى الاستبداد والاستهانة بالدماء وانتهاز الفرص، مع ميل إلى الاستكثار من أسباب الترف وضروب العمران. وهو يعتمد على وزير أو وزراء، من طبقة الكتاب، أو الفقهاء، وللوزير الكاتب مكانة هامة في الدولة لأنه اللسان المعبر عن سياستها وعلاقتها، بأسلوب لبق أو قوى. أما العلاقة بين هذا السيد والشعب، فهي علاقة الجباية، نظرًا لحاجته إلى المال لإعداد الجند وغير ذلك من شؤون دولته وأسباب ترفه.
على كل حال فقد عرفت الأندلس في خلال الحكم الإسلامي بها تطورت مخلفته في العلوم ولآداب إلى جانب حضاري ملموس وذلك أسباب ووسائل أهمها: هجرة العلماء المسلمين من الشرق إلى الأندلس. بعثات الطلاب الأندلسيين إلى المراكز الثقافية الإسلامية في الشرق. هجرة الكتب والمؤلفات العربية من الشرق الإسلامي إلى الأندلس. كون العربية لغة البلاط والحكومة والشعب مما جعل العربية وعلومها وآدابها تتقدم وتزدهر تقدمها وازدهارها في العواصم الإسلامية الشرقية. أما أخصب العصور إنتاجا وأغزرها مادة فهما العصران عصر الخلافة الأموية وخاصة عصر الخليفتين الناصر لدين الله وابنه المستنصر بالله والعصر الثاني هو عصر ملوك الطواءف. وهذا العصر الأخير هو الذي يهمنا لأنه هو عصر صاحبينا أبى الوليد والوقشي وابن السيد البطليوسي فعلينا أن ندرس بعض الجوانب لهذا العصر ونلتقط منه بعض الصور الجميلة الرائعة حتى نعرف الجو الذي عاشا فيه قم ننتقل إلى ترجمتها والدراسة لآثارهما المجيدة. عصر الوقشي وابن السيد البطليوسي أبو محمد ابن السيد البطليوسي حياته، ومؤلفاته، وشيوخه، وتلاميذه صور من عصر ملوك الطوائف وبعض مميزاته يمتاز هذا العصر بكثرة الفتن والمعارك والحروب والاضطراب والبذخ والترف واللهو والخلاعة، كما أنه يمتاز بشدة الروح الدينية وازدهار الحركة الأدبية وكثرة العلماء والأدباء والشعراء، وشيوع فن الموشح في الشعر العربي الأندلس الذي ظهرت طلائعه في مطلع هذا العصر. أما عصر المرابطين، الذين حلوا محل ملوك الطوائف، فانه يمتاز بالتعصب الديني، وتسليط البرابرة وضعف الحركة الأدبية، وظهور الزجل من الشعر العامي. واستيلاء النساء والفقهاء على شؤون الدولة. وهذه صور ولقطات من الحياة في عصر ملوك الطوائف ١ - النظم الإدارية لم يحدث شيء جديد من النظام الإداري في عصر ملوك الطوائف، وإنما كانوا يسيرون على سنن الأمويين قبلهم حذو النعل بالنعل، وكانت نظمهم في الجملة نظما فردية جانحة إلى الاستبداد بكرامة الإنسان. ولقد أصاب الأستاذ الكبير إحسان عباس وأجاد حيث قال: " وليس هناك من تفاوت كبير بين هذه الإمارات فيما تنتهجه من نظم سياسية أو إدارية، فالسيد فيها ذو سلطان مطلق يميل في أغلب الأحيان إلى الاستبداد والاستهانة بالدماء وانتهاز الفرص، مع ميل إلى الاستكثار من أسباب الترف وضروب العمران. وهو يعتمد على وزير أو وزراء، من طبقة الكتاب، أو الفقهاء، وللوزير الكاتب مكانة هامة في الدولة لأنه اللسان المعبر عن سياستها وعلاقتها، بأسلوب لبق أو قوى. أما العلاقة بين هذا السيد والشعب، فهي علاقة الجباية، نظرًا لحاجته إلى المال لإعداد الجند وغير ذلك من شؤون دولته وأسباب ترفه.
1 / 1
أما العلاقات بين هؤلاء الملوك والأمراء أنفسهم فقد كان أساسها وبناؤها على حذر ونفاق ومنافسة ومعاداة ومؤامرة، مما أشعلت به نار الفتن بينهم جميعا فأخذوا يتحاربون ويتطاحنون ويستمدون عددهم الأجنبي المتربص بهم الدوائر. وكان واحد منهم، إذا أحس بالقوة أو آنس في نفسه البأس، انقض على جاره الضعيف لتحقيق مجده الشخصي. فلم يكن أمام المغلوب الضعيف إلا طريقان أما أن يتخالف مع جار أقوى أو يستنصر من الإفرنج.
وظل المر على ذلك ودسائس الفونس وغاراته تشتد، واضطراب العامة واستصراخهم يزيد، حتى لبى دعواتهم يوسف اللمتوني ليذيق ملوم الطوائف و" سيدهم " افونس بأسه، وفي خلال سنوات عديدة، دانت له الأندلس كلها وأصبح ملوك الطوائف عبرة من عبر التاريخ وأسطورة من أساطير الدهر.
٢ - الضعف والاضطراب الداخلي
وكان عصر الطوائف هو أضعف العصور الإسلامية في الأندلس وأوهنها ففيه انقسمت البلاد، وتولى الحكم فيه بعض والضعفاء الحمقاء، الذين كانوا يفخرون بقرد أهداه إليهم ملك الأسبان. كما أنهم كانوا يدعونه ويسلمون إليه مقاليد المدن فيحتلها العدو، ويقتل أهلها، وينهب أموالهم كما فعل القادر ابن ذي النون بأهل طليطلة. وأضف إلى ذلك ما حدث في هذا العصور من الفتن والحروب التي قامت بين ملوك الطوائف أو الأجناس المختلفة، والاشتاط في تحصيل الضرائب، والصراع العنصري العنيف بين الجنسيات المتعادية. فكان نتيجة هذا الجو المضطرب المتموج ظهور الأشخاص الانتهازيين المغامرين المتعلقين في نواحي البلاد: " ولا سيما في بلاطات الملوك وقصور الأمراء، يتلمظون بانتظار فرصة وصفقة رابحة ولقمة سائغة ".
٣ - الروح الدينية المتشددة
لم تزل هذه الروح تسود المجتمع الإسلامي في الأندلس في جميع أدوار التاريخ والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين. أولهما أن المسلمين كانوا في بقعة تتأخمها المسيحية المتعادية لدينهم ووجودهم فكان لذلك أثر كبير في إذكاء الشعور الديني في نفوسهم والتعصب لعقيدتهم، كما نرى عند المسلمين في شبه القارة الباكستانية الهندية. فان هذا التحمس الشديد للإسلام والمناضلة دونه كان كله كرد فعل لتعصب الهنادكة وعدواتهم الكامنة ضد الإسلام والمسلمين في هذه الديار.
ثاني الأمرين هي سيادة الفقهاء وقيادتهم. فان الأمير عبد الله بقول في مذكراته: " ولم تزل الأندلس قديما وحديثا عامرة بالعلماء والفقهاء وأهل الدين، وإليهم كانت الأمور مصروفة " إلا ما يلزم للملك من خاصته وعبيده وأجناده من الأخذ من واحد ودفعه لآخر لينخل بذلك عسكره ويتخير أفضله " وقد زادت هذه الروح شدة في عصر ملوك الطوائف، فقد كان الفقهاء يرجع إليهم في شئون الحياة، ومنهم الوزراء والكتاب، وإليهم كان الرأي والمشورة في شؤون الدولة، وكانت كلمتهم هي العلياء. وقد استبد بعضهم بالأمر فاقام دولة مستقلة من أمثال القاضي ابن عباد صاحب أشبيلية والقاضي ابن الجحاف صاحب بلنسية. وكان زهير العامري يشاور الفقهاء ويعمل بقولهم. وكان مجتهد العامري قد نصب بمحل ملكه خايفة دعا الناس إليه وهو الفقيه أبو عبد الله المعيطي وأخذ له على الناس البيعة في جميع عمله بدانية وميورقة وغيرهما، وقد كان هذا الفقيه يعبث بالناس ويستأثر بالفيء ويجاهر بالمعاصي.
وقد استغل الفقهاء مكانتهم الدينية وسلطتهم السياسية فجمعوا الأموال الضخمة على حساب الرعية مما أثار حفائظ الشعب فأعلنوا ذمهم وتهكموا بهم وذمهم الشعراء وحملهم ابن حيان مسؤولية سقوط بلاد الإسلام وزوال الأمة وفسادها وأشركهم في ذلك مع الأمراء والملوك.
٤ - الترف والرخاء والبذخ
ويمتاز هذا العصر بمظاهر الرخاء والبذخ والإسراف في شراء القينات، وبناء الدور، والقصور، وإنشاء الحدائق المثمرة، والرياضيات الناضرة، والبساتين الزهراة. وكان ذلك كله على حساب الرعية من الضرائب الباهظة المثقلة التي كانت تفرض عليها.
٥ - طرب واللهو والخلاعة
1 / 2
وقد كانت نتيجة هذا الترف، والبذخ، وكثرة الجواري، والغلمان أن انتشرت الخلاعة والمجون، وعمت مجالس اللهو والطرب، وساءت أخلاق العامة والخاصة، وفسد المجتمع الإسلامي، وانغمس الشعراء الكتاب في حمأة الدعارة، ونطقت ألسنتهم بأفحش الأقوال. وزاد الطين بلة إذا شجعهم الملوك والأمراء على ذلك، وشاركوهم في مجالسهم للطرب واللهو والأنس. حتى أننا نراهم قد بلغ فسقهم القمة إذ يقيمون هذه المجالس اللاهية في الليلة السابعة والعشرين من رمضان، الليلة المباركة التي يجب أن ينقطع فيها الإنسان المسلم إلى العبادة وذكر الله ﷿، ويقول الفتح ابن خاقان: وأخبرني الوزير أبو الحسين بن سراج، وهو بمنزل الوزير أبي عامر بن شهيد، وكان من البلاغة في مدى غاية البيان، ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان، وكنا نحضر مجلس شرابه ولا نغيب عن بابه، وكان له، بباب الصومعة من الجامع، موضع لا يفارقه أكثر نهاره، ولا يخليه عن نثر درره، وأزهاره. فقعد فيه ليلة سبع وعشرين من رمضان، في لمة إخوانه، وأئمة سلوانه، وقد ليقطفوا نخب أدبه، وهو يخلط لهم الجد بالهزل، ولا يفرط من انبساط مشتهر، ولا انقباض جزل، إذا بجارية من أعيان أهل قرطبة، معها من جواريها من يسترها ويواريها، وهي ترتاد موضعا لمناجاة ربها، وتبتغي منزلا لاستغفار ذنبها، وهي متنقبة خائفة، وممن يرقبها مترقبة، وأمامها طفل لها كأنه غض آس، أوضبي يمرح في كناس. فلما وقعت عينها على أبي عامر، ولت سريعة، وتولث مروعة، خيفة أن يشبب بها، أو يشهرها باسمها. فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها. " المتقارب ":
وناظرة تحت طي القناع ... دعاها إلى الله للخير داع
سعت خيفة تبتغي منزلا ... بوصل التبتل والانقطاع
وجالت بموضعنا جولة ... فحل الربيع بتلك البقاع
أتتنا تبختر في مشيها ... فحلت بواد كثير السباع
٦ - العناية بالعلوم والآداب في هذا العصر
جرت حادثتان في قرطبة فغيرنا مجرى التاريخ الإسلامي الأندلسي، أولهما موت الحكم المستنصر بالله الخليفة الأموي في سنة ٣٦٦ هـ. فتغلب ابن ابي عامر على مقاليد الحكم، وتدبير الملك، ثم أمر باخراج الكتب من الفلسفة، والمنطق وعلم النجوم، والكلام، غير ذلك، وإحراق بعضها، وطرح بعضها في الآبار ودفنها تحت التراب والحجارة، وكل ذلك كان تحببا إلى عوام الأندلس، وتقبيحا لمذهب الخليفة الراحل عندهم. فتنوهبت مكتبة المستنصر وخزانته الكبرى من نفائس الكتب، وانتشرت كتبه في أنحاء الأندلس، وتستر الناس بما كان عندهم من كتب العلوم المهجورة، إلى أن جاء أمر الله بظهورها، واصبح اهتمام العامة بالمكتبات، واقتناء الكتب في سائر البلاد الأندلسية، أمرا ملحوظا وأخذ الناس يتنافسون في ذلك.
والحادثة الثانية هي موت ابن أبي عامر نفسه، ذلك الزعيم البطل، والأمير الموهوب، الذي يعتبر أعظم أمراء الأندلس، وأكبر قوادها، ذلك سنة ٣٩٣هـ والفترة التي تلت موته كانت فترة مضطربة جدا، تعاقب فيها خلفاء ضعفاء، الذين لم يكن لهم حظ من الخلافة والحكم إلا الأسماء والألقاب. وانتهى الأمر بثورة الولاة والحكام، وإعلان استقلالهم في كل مدينة. " ولما ثار ملوك الطوائف بعد انهيار الدولة الأموية وتفرقوا في البلاد، كان في تفرقهم اجتماع على النعم لفضلاء العباد، إذ نفقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران، وسمعت عن الملوك العربية، بنو عباد، وبنو صمادح، وبنو الأفطس، وبنو ذي النون، بنو هود، كل منهم قد خلت فيه من الأمداح ما لو مدح به الليل لصار أضواء من الصباح، ولم تزل الشعراء تتهاوى بينهم تهاوي النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البراض.
1 / 3
ويقول القاضي صاعد أنه لما " انقرضت دولة بني أمية من الأندلس، وافترق الملك من المسربين عليهم في صدر المائة الخامسة من الهجرة، وصاروا طوائف، واقتعد كل ملك قاعدة من أمهات البلاد، فاشتغل بهم ملوك الحاضرة العظمى فرطبة عن امتحان الناس، والتعقب عليهم، واضطراتهم الفتنة إلى بيع ما كان بقصر قرطبة، من ذخائر ملوك الجماعة، من الكتب، وسائر المتاع، فبيع ذلك بأوكس ثمن، قيمة، وانتشرت تلك الكتب بأقطار الأندلس، ووجد في خلالها أعلاق من العلوم القديمة، كانت قد أفلتت من أيدي الممتحنين بحركة الحكم أيام المنصور بن أبي عامر، وأظهر أيضا كل من كان عنده من الرعية شيء منها، فلم تزل الرغبة ترتفع من حين إلى حين في طلب العلم القديم شيئا فشيئا، وقواعد الطوائف تتمصر قليلا قليلا ".
فأنت ترى أن موت الحكم كانت خسارة علمية وسياسية في نفس الوقت، تعرقلت به الحركة العلمية التي بدأت في عهود آبائه من الخلفاء وبلغت القمة في عهده، كما أن الخلافة الأموية في الأندلس ضعفت بموته حتى تزعزع بنيانها وانتقل الحكم من الأمويين إلى ابن أبي عامر، وأولاده، وأحفاده ومنهم انتقل الحكم إلى ملوك الطوائف. أما موت ابن أبي عامر فقد كانت خسارة سياسية فقط. فبموته شق عصا الجماعة وانبعثت الفتن وافتتحت أبواب الآلام على الأمة الإسلامية التي لم تزل تعاني الشدائد وتعالج المصائب إلى أن أنقذها يوسف بن تاشفين اللمتوني.
لا شك أن هذه الخسائر الكبيرة، كان لها أثر بالغ، واسع المدى في حياة الأمة الإسلامية الأندلسية، ومستقبلها، إلا أن مجهودات الخليفة العلامة الحكم المستنصر، ومجهوات لآبائه، لم تذهب باطلا وإنما كللها الله تعالى بالنجاح والإثماء، فاستوى غرسها على سواقة وآتى أكله. فقد كانت الأندلس، في خلال القرون الثلاثة أو الأربعة من الحكم الإسلامي، قد استكملت شخصيتها العلمية والأدبية وتهيأت للنشاط الأدبي والبحث العلمي، وباتت تنافس بغداد والمشرق كله في العلوم والآداب وجميع ألوان المعرفة وأصبحت كل عاصمة من عواصم ملوك الطوائف مركزا من المراكز الثقافية والعلمية والأدبية، واستطاعت دول الطوائف، على الرغم تطاحنها، أن تعيد بهاء الحضارة الأندلسية في قصورها، ومجتمعاتها، وعرفت الأندلس في هذه الحقبة المضطربة من تاريخها، طائفة من العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، قد سار بذكرهم ركبان وخلدت أسمائهم أمجادهم من الكتب والمؤلفات ولا يسعنا ضيق الوقت والمكان أن نذكر أسمائهم وأسماء مؤلفاتهم أو نلم بتراجمهم وفضائلهم ومحاسنهم، إلا أن القليل يشفي الغليل، ويغنى عن الكثير، فمن هؤلاء الأعلام يوسف بن عبد الله أبو عمر ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ هـ، وسليمان بن خلف أبو الوليد الباجى المتوفى سنة ٤٧٤هـ في علوم الحديث، وأبو غالب تمتم بن غالب المعروف بابن التبانى المتوفى سنة ٤٣٦ هـ، صاحب " تلقيح العين " وعلى بن إسماعيل أبو الحسن ابن سيده المتوفى سنة ٤٥٨ هـ. صاحب " المحكم " و" المخصص " في علوم اللغة، وابن حيان المتوفى ٤٦٩ هـ في التاريخ، وصاحبنا ابن السيد اليطليوسى المتوفى ٥٢١ هـ في النحو، والفقيه أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم المتوفى ٤٥٦ هـ، وعبد الله بن احمد السرقسطى المتوفى سنة ٤٤٨ هـ، وصاحبنا أبو الوليد الوقشي المتوفى ٤٨٩ هـ في علوم المنطق والفلسفة والهندسة والرياضى، والشعراء من أمثال ابن زيدون المتوفى ٣٦٢ هـ، وابن عبدون المتوفى ٥٢٠ هـ، وابن بسام صاحب الذخيرة المتوفى ٤٠٣ هـ، وزميله ومعاصره محمد بن عبد الغفور الكلاعى صاحب " أحكام صنعه الكلام " ورسالة " الساجعة " و" الغربيب " في تاريخ الشعر والشعراء والنقد الأدبي.
1 / 4
إلا أن العصر المرابطى، الذي تلا عصر الطوائف، لم تكن فيه مكانة للعلوم، ولا سيما الأدبية منها، وذلك للروح الدينية المتشددة السائدة في هذا العصر، ولبعد الأمراء عن الذوق الشعري والأدبي. وكانوا مع ذلك لا يتعففون عن أموال الناس كما كان يتعفف عنها أمير المسلمين، وإنما كانوا قد شمروا عن أسؤقهم للتزيد من الثروة والمكاسب وقد شاركهم في ذلك النساء والفقهاء فأفسدوا على الأمة كل شيء من دينهم ودنياهم وناهيك ما قاله عبد الواحد المراكشي في ذلك: " ولم يكن يقرب من أمير المسلمين، ويحظى عنده، إلا من علم الفروع، أعنى فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاها، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسى النظر في كتاب الله، وحديث رسول الله ﷺ، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم من ظهر عليه شئ منه، وأنه بدعة في الدين وربما أدى أكثره إلى الاختلال في العقائد، في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شئ منه، وتوعد من وجد عنده شئ من كتبه، ولما دخلت كتب أبى حامد الغزالي رحمة الله المغرب. أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد من سفك الدم، واستئصال المال، إلى من وجد عنده شئ منها، واشتد الأمر في ذلك ".
وأضف إلى ذلك ما قاله أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بالنبي من أهل مدينة جيان كم جزيرة الأندلس، يهجو الفقهاء: " الكامل "
أهل الرياء لبستمو ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتمو الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتو الأموال بابن القاسم
وركبتمو شهب الدواب بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
أبو الوليد الوقشي
حياته ومؤلفاته، وشيوخه، وتلاميذه
أبو الوليد هشام بن أحمد الوقشي
لا خلاف بين المصادر الشرقية والغربية في اسم الوقشي واسم أبيه وقد أجمعت ونصت على أنه هشام بن أحمد كما أنها لا تختلف في كنيته ونصت عليه كذلك أما نسب الوقشي يعد أبيه فان المراجع تختلف فيه اختلافا كثيرا وقد وقع في ذلك اضطراب كبير وتخليط فاحش ولا يمكن للقارئ أن يجزم القول فيه.
فقد روى ابن بشكوال في الصلة أنه بن أحمد بن خالد بن هشام. وفي النسخة الأخرى من نفس الكتاب التي قرئت على المصنف أنه هشام بن أحمد بن هشام. وقال القاضي صاعد بن أحمد: إنه هشام بن أحمد بن خالد. وذكره القاضي عياض في مشيخة القاضي فيروز فقال: إنه هو هشام بن أحمد بن هشام بن خالد بن سعيد. وأما الضبي من المغاربة فاكتفى بذكر اسمه واسم أبيه فقد ولم يذكر المقري إلا اسمه وأهمل اسم أبيه أيضا.
ويسرد ياقوت نسبه في الإرشاد فقال إنه هو هشام بن أحمد بن خالد بن سعيد. ويقول في البلدان عند ذكر مدينة وقش أنه هشام بن أحمد بن هشام. وهو عند السيوطي هشام بن أحمد بن هشام بن خالد بن سعيد. وقد زاد إسماعيل باشا البغدادي اسما آخر في نهاية عمود النسب فقال إنه هو هشام بن أحمد بن هشام بن خالد بن سعيد بن الوليد ولا نعرف مصدره الذي أخذ منه هذه الزيادة التي أخلت به جميع المصادر القديمة. وهو عند ابن حجر هشام بن أحمد بن هشام بن سعيد بن خالد. وقال الخوانسارى إنه هشام بن أحمد بن خالد بن سيد بن الوليد الكناني.
1 / 5
فانك ترى أن بعض المصادر لا تذكر نسبة بعد أبيه كما أن بعضها لا تتجاوز جده، على أنها تختلف في اسمه أهو خالد أم هشام أم سعيد، وأما النسب بعد جده ففيه كثير من الاضطراب والتخليط. وإننا نظن أن هذا الخلاف والاضطراب والتخليط. وإننا نظن أن هذا الخلاف الاضطراب يرجع إلى الخلاف والتخليط الذي وقع في التراجم المغربية وخاصة في نسخ الصلة لان معظم تراجم الوقشي عند المشارقة منقولة عن الصلة. وأجود الأقوال وأصحها عندنا في نسب الوقشي ما قاله القاضي عياض ونقله عنه ياقوت في البلدان لأنه يوافق ما جاء في نسخة الصلة المسوعة على المصنف وأيضا فيه زيادة حسنة من اسمين في عمود النسب بعد جده والقاضي عياض ثقة وهو من المغاربة وممن عاش في عصر قريب من العصر الذي عاش فيه الوقشي، وكفى تائيد لهذا القول اعتماد أربعة من نوابغ الشرق عليه من أمثال السيوطي، وياقوت وإسماعيل باشا البغدادي وألستاذ خير الدين الزركي.
كنيته
أما كنية الوقشي فلا اختلاف فيها بين المصادر المغربية والمشرقية، وقد أجمعت على أنه كان يكنى ابا الوليد.
نسبه
وأبو الوليد يعرف بالنسبتين وهما الكناني والوقشي. فالكناني يمكن أن تكون نسبة إلى قبيلة أو جد ثم إذا كانت النسبة إلى قبيلة فهل هو من كنانة قريش أم من غيرها من الكنانات.
وقد ذكر السمعاني وابن الأثير الكثيرين من رجال العلم والأدب المنتسبين إلى كنانة ولكن لا إلى قبائلهم وإنما ينتسبون إلى ىبائهم وأجدادهم فمنهم رجل كان يعرف بخلف بن حامد الكناني الذي ولي القضاء بشذونه من أعمال طليطلة، وقد ازدهرت وتقدمت أسرة هذا الرجل ونشأ فيها عدد من الرجال النابهين توالوا مناصب القضاء وكانوا يعرفون بهذه النسبة ونرجع أن نسبة أبي الوليد ليست من هذا القبيل، وإنما هي نسبة إلى قبيلة كنانة بن خزيمة بن مدركة وذلك على أساس ما قاله المقري وابن الخطيب فالمقري يذكر أن عدد كبيرا من الرجال في الأندلس كانوا ينتسبون إلى عموم كنانة وان جلهم كانوا يسكنون في مدينة طليطلة وأعمالها وان من بينهم الوقشيون الكنانيون الأعيان الفضلاء وذكر فيهم القاضي أبا الوليد هشام والوزير أبا الحسين ابن جبير صاحب الرحلة وهو من ولد ضمرة بن بكر بن عبد مناة من كنانة. وابن جبير هذا هو صهر الوزير أبي جعفر الوقشي ابن أخي أبى الوليد هشام الوقشي.
ويصرح لسان الدين ابن الخطيب أن ابن جبير كناني وهو كم كنانة بن خزيمة بن مدركة بت إلياس، وان أول من ورد الأندلس من أجداده هو عبد السلام الذي كان في عسكر بلج بن بشر القشيري الذي ولي الأندلس وذلك في محرم سنة ١٢٣هـ وكان نزوله بكورة شذونه من أعمال طليطلة. فهذا مما يوضع لنا جليا أن أبا الوليد الوقشي ﵀ كان من صميم العرب ومن قبيلة كنانة.
والنسبة الثانية التي يعرف بها أبو الوليد هي " الوقشي " نسبة إلى وقش قرية بثغر الأندلس بينها وبين طليطلة اثنا عشر ميلا من المسافة. وقد ضبطها ياقوت. فقال " وقش بالفتح وتشديد القاف والشين معجمة، مدينة بالأندلس من أعمال طليطلة " ويقول الأستاذ عناية الله في " جغرافية الأندلس التاريخية " " أن وقش " huecas " مدينة في الأندلس الوسطى من أعمال طليطلة وان وقش كانت قبيلة من العدنانية ومن الممكن أن يكون قد بناها الناس من هذه القبيلة العربية فعرفت باسمها ".
ولا ندري أصل الكلمة أهي عربية أم أسبانية كما أننا لا نجزم القول في تاريخ المدينة وبنائها. ولم يذكر الجغرافيون والمؤرخون العرب وغيرهم شيئا في هذا الباب غير الأستاذ عتاية الله وعليه العهدة، إلا أن هذه المدينة كانت عامرة في القرن الرابع الهجري لأننا نرى أبا نصر فتح بن إبراهيم الأموي المعروف بابن القشاري " ٣٣٢ - ٤٠٣هـ " من أهل طليطلة يبنى حصنا في مدينة وقش وذلك في زمن الأمير المنصور محمد بن أبي عامر. وذكر بعضهم أن عينا كان عند حصنها ونبشت في بعض السنين ليكثر ماؤها فكثرة فيها العلق كثرة مفرطة فنظروا فيما استخرجوه من نبشها، فإذا فيه علقة نحاس.
وقد يذكر له نسبتان غير هاتين المذكورتين وهما الوحشي والوعلى كما وقع في الصلة وخطبة الطرر والحواشي وفي خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي. ولا نعرف أصلهما ولا نستطيع أن نقول فيهما شيئا، وقد تكون نتيجة لأوهام الناسخين والرواة.
أسرته
1 / 6
أسرة الوقشي عريقة في العلم والأدب والفضل وقد نشأ فيها عدد من الأعيان الأفاضل، وحصلت لهم النباهة والشهرة ونالوا من المناصب والمكانة المرموقة والمكارم مالا يمكن إنكاره أو تجاهله، وقد اعترف به المؤرخون فمن هذه الأسرة الكريمة كان الوزير أبو جعفر وهو ابن أخي أبي الوليد الوقشي وابنه أبو الحسين ونقف قليلا عند ترجمتهما حتى نعرف ما لهذا الأسرة من النباهة والفضل والكرامة.
أبو جعفر الوقشي
هو أحمد بن عبد الرحمن أبو جعفر الوقشي من بيت القاضي أبي الوليد هشام بن أحمد الوقشي ووزير الرئيس ابي إسحاق ابن همشك وهو أحد الكفاة الأمجاد والدهاة الأنجاد. قام بأمر صاحبه ابن همشك أحسن قيام وكان ضابطا لأعماله مصلحا لأحواله.
وهو ابن أخي صاحبنا أبي الوليد الوقشي كما يرى ابن الأبار وكما هو الظاهر من سلسلة نسبه.
وكان ابن همشك استخلفه على جيان سنة ٥٥٧هـ حين لاذ بالفرار خوفا من جيش الموحدين فناب أحسن مناب من صاحبه آثر محل ولم يزل بعد ذلك يحسن الضبط لبلاده ويظهر الكفاءة في كافة محاولاته إلى أن اعتلق صاحبه ابن همشك بالدعوة المهدية ونابذ صهره محمد بن سعد وذلك في سنة ٥٦٢هـ.
وعند ما اشتدت المعاداة والمنابذة بين ابن همشك وبين ابن سعد، وجه وزيره أبا جعفر هذا وافدا عنه إلى الموحدين في مراكش ومستصرخا على صهره وعدوه ابن سعد الذي كان قد وكئ أعماله ودوخها وتغلب على كثير من حصونه ومعاقله.
ويبدو أن المساعدة الموحدية لصاحبه ابن همشك تأخرت كثيرا لأننا نراه قد وصل إلى مراكش ويهنئ أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن بن علي بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك من قصيدة طويلة مطلعها:
تحن إليكم وافدات المواسم ... فتهدي إلى كفيكم تغر باسم
ثم نراه يموت بمقالة صادرا عن مراكش في سنة ٥٧٤ وكان صاحبه أبو إسحاق ابن همشك قد مات قبله بمكناسة في سنة ٥٧٢هـ.
وقد ذكر الشيخ أبو الربيع بن سالم أن أبا جعفر الوزير الوقشي كان يمر ببقيع مالقه فاستحسن ما رأى من زخرفة القبور به وأغراس الأشجار ذات النواوير والأزهار في أثناءها فتمنى أن يدفن هنالك فوفت القدار بأمنيته ووافته منيته فدفن هنالك.
وكان الوزير أبو جعفر متكبرا تياها معجبا بنفسه وقال له يوما بعض ندماء ملكه، صاحب جيان ابن همشك، يا أبا جعفر؟؟؟ أنت جملة المحاسن، وفيك الأدوات العلية التي هي أهل لكل فضيلة غير أنك قد قدحت في ذلك كله بكثرة عجبك وإذا مشيت على الأرض تشمئز منها. فقال له كيف لا أشمئز من شيء أشترك معك في الوطئ عليه؟؟ فضحك من حضر من جوابه.
وهو القائل في الكبر والإعجاب بنفسه " " الطويل "
إذا لم أعظم قدر نفسي وأنني ... عليم بما حاوته منعظم القدر
فغيري معذور إذا لم يبرني ... ولا يكبر الإنسان شيء سوى الكبر
وله في هذا المعنى " الطويل "
تكبر وإن كنت الصغير تظاهرا ... وباعد أخا صدق متى ما اشتهى قربا
وكن تابعا الهر في حفظ أمره ... الست تراه عندما يبصر الكلبا
وكانت تحته بنت ابن همشك فطلقها ثم ندم على ما فعل. وكانت له بنت تزوجها ابن جبير الرحالة وماتت بسبته فدفنها بها وقال فيها " المتقارب ":
بسبتة لي سكن في الثرى ... وخل كريم إليها قد أتى
فلو أستطع ركبت الهواء ... فزرت بها الحي والميتا
وقد عده ابن الأبار من مفاخر الأندلس وقال فيه " وللوقشي تحقق بالإحسان وتصرف في أفانين البيان وكتابي المؤلف في أدباء الشرق المترجم بايماض البرق مشتمل على كثير من شعره وقال عنه الأستاذ الطباع: والدراس لشعر أحمد هذا يدرك رقة شاعريته وجمال عبارته وحنينه إلى زوجته التي غادرت منزله والتي كانت إلى الأمس القريب تملاء البيت إشراقًا.
وكان شاعر الأندلس أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي، الذي كان يقال له " ابن رومي الأندلس " لحسن اختراعه وتوليده، قد مدح الوزير المتكبر أبا جعفر الوقشي بقصيدة أولها " الكامل ":
لمحلك الترفيع والتعظيم ... ولوجهك التقديس والتكريم
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أبو الحسين الوقشي
1 / 7
هو علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن احمد أبو الحسين الوقشي ابن الوزير أبي جعفر الوقشي المذكور آنفا، من العلماء الفضلاء والشيوخ المعدودين، روى عنه سالم بن صالح وأبو عمرو بن سالم " وكان آية الله في الظرف وكيف لا ووالده الوزير أبو جعفر وصهره أبو الحسن ابن جبير صاحب الرحلة وشيخه في الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسن بن الحاسب شيخ هذه الطريقة، وقد رزق أبو الحسين المذكور فيها ذوقا مع صوت بديع أشهى من الكأس للخليع ".
وهو من لدات ابن سعيد المؤرخ الرحالة، وكانا يحضران في صباهما معا في مرج الخز ويقرضان الشعر ويصنعانه، ولهما قصة لطيفة مع المسن بن دويدة وكان معروفا بخفة الروح والمزاح والظرفة قد ذكرهما المقري مع شعرهما الذي قالا في وصف إوز كانت تسبح في الماء وتمرح في المرج النضير مرج الخز.
وكان ابن سعيد يختلف إلى بيت أبي الحسين الوقشي ويرتاح إلى لقائه ارتياح العليل إلى شفائه وكان يتمتع بشعره وغنائه وموسيقاه الحلو.
وكان أبو الحسين الوقشي أديبًا ومغنيا مطربا في نفس الوقت ومن شعره " الطويل ":
حننت إلى صوت النواعير سحرة ... وأضحى فؤادي لا يقر ولا يهدى
وفاضت دموعى مثل فيض دموعها ... أطارحها تلك الصبابة والوجدا
وزاد غرمي حين أكثر عاذلى ... فقلت له أقصر ولا تقدح الزندا
أهيم بهم في كل واد صبابة ... وأزداد مع طول المعاد لهم ودا
مولد أبى الوليد الوقشي
إن المصادر التي وصلت إلينا، والتي استطعنا أن نستفيد منها في ترجمة الوقشي، لا تصرح بالمكان الذي ولد به، فقد ذكر ابن بشكوال أنه من أهل طليطلة، إلا أن قوله هذا لا يفيد في شيء عن مولده، فقد يكون أنه كان قد هاجر إليها، واستوطنها وأقام بها، فوهم ابن بشكوال أنه طليطلى وليس كذلك وإنما مولد الوقشي ومسقط رأسه هي مدينة وقش إلى كانت دار الوقشيين الكنانيين الفضلاء الأعيان منذ البداية، ولم تزل دارهم إلى الأجيال التي نشأت بعد أبى الوليد الوقشي رحمة الله. ومما يذهب بنا إلى هذا الرأى أن: المصادر وكتب التاريخ والتراجم والجغرافية والبلدان قد نصت أكثرها على أن أبا الوليد الوقشي أصله من مدينة وقش.
أسرة الوقشي لم تزل تسكن وقش حتى موته، وكانوا يعرفون بهذه النسبة كابن أخيه الوزير أبى جعفر، وابنه أبى الحسين، اللذين قد مر ذكرهما. ثم أن أبا الوليد لم يذكر كطليطلى إلا قليلا نادرا، وإنما كان يعرف دلئما بالوقشي هذه النسبة محبوبة إليه، لأن وقش هي دار آبائه، ومسقط رأسه، بها ولد، ونشأ، وترعرع، ثم خرج منها طالبا للعلم.
وأيضا استقضاؤه بمدينة طلبيرة، وهي أقرب إلى وقش يدل على أنه كان يحب أن يتولى هذا المنصب الجليل في مكان قريب من مسقط رأسه، ومسكن أسرته حتى يتمكن من زيارتهم ولقائه مت أراد، وهي سنة بشرية، لأن كل إنسان يحب العمل في مكان قريب من أهبه، وأسرته.
وأما تاريخ مولده، فان المصادر تكاد تجمع على أنه ولد في مستهل القرن الخامس الهجري، سنة ثمان وأربعمائة، وهو الزمن الذي شق فيه عصا الجماعة وافترقت الأمة، وانبعثت الفتن، وانقسمت الأندلس الإسلامية إلى دويلات عرف أصحابها بملوك الطوائف.
حياته
حياة الوقشي، خاصة حياته الابتدائية، لا تزال سرا غامضا، لم يجله الباحثون ولم يوضحه المؤرخون، والمعلومات، التي حصلت لدينا عن حياته، قليلة ضئيلة جدا وأصحاب التراجم الذين ترجموا وكتبوا عن حياته من علماء الشرق والغرب، لم يتغلغل أحد منهم في التنقيب، ولم يتقدم في التحقيق، وإنما جرى المتأخر منهم مجرى المقدم من غير تمحيص ولا بحث. وأجل ما يمكننا استخلاصه من كلام القوم، المشارقة والمغاربة، عن حياة الوقشي هو أننا نراه يتنقل من بلد إلى آخر، ويتجول في البلاد الأندلسية لأغراض مختلفة.
وليس في مقدرة باحث أن يحدد الوقت، ويضبط التاريخ لهذه الأحداث إلا أننا نستطيع أن تقسم حياته إلى أربعة أطوار.
الطور الأول
وهو عهد الطفولة، ولا نعرف شيئا عن هذا الطور من أطوار حياته، إذ لم يحدثنا التاريخ عن أبويه، ولن تعلافنا المصادر بيئته التي نشأ فيها وتأثر بها.
الطور الثاني
1 / 8
وهو عهد شبابه، وزمان الدراسة والطلب والتحصيل، ولا نستطيع أن نحدد الوقت والتاريخ بالضبط والتقييد، كما أنا لا نستطيع أن نجزم القول في المدارس والمعاهد العلمية التي درس بها، وتعلم لأن التاريخ عاجز عن ذلك، وكتب التراجم قد أهملت هذه الناحية من نواحى حياته. إلا أننا قد عرفنا بعض الأساتذة الذين تلمذ لديهم الوقشي، وأخذ منهم العلم، واتصل بهم روايته، وسنده عي العلوم وآداب، ومنهم أبو عمر الطلمنكى، وأبو عمرو السفاقسى، وأبو عمر بن الحذاء، وأبو محمد الشنتجيالي وأبو محمد الأنصاري ﵏، وسنذكرهم في فصل مستقل من الفوصل الآتية، وتلم بتراجمهم إلماما، إن شاء الله. إننا نرى أن الوقشي كان قد أتم معظم دراساته بطلطيطة. ويدل على ذلك أن هؤلاء الأعلام المذكورين من أساتذة، كان جلبهم من علماء طليطلة القائمين بها بتدريس العلوم وروايتها، فان أبا عمر بن الحذاء كان قاضى طلطيلة الأفاضل والسفاقسى كان ورد الأندلس وطاف ببلادها نحو عامين، وذلك من ٤٣٦ هـ إلى ٤٣٨ هـ، ومن بين المدن، التي وردها السفاقسى فسمع الناس منه، كانت مدينة طليطلة، وكان الوقشي مقيما بها في سنة ٤٣٨ هـ كما صرح به القاضي صاعد، فلا بد أن سكون سماع الوقشي عن السفاقسي بطليطلة.
الطور الثالث
وهو عهد القضاء بمدينة طلبيرة، ومن الصعب أن نعرف بالضبط متى كان الوقشي قد استقضى بطلبيرة، وما هي الأسباب التي جعلته يحوز هذا المنصب الجليل، إلا أننا نقدر، على وجه الظن والتخمين، أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، وذلك في عهد المأمون يحي بن ذي النون، ملك طليطلة، لأن الوقشي يسمع أبا عمرو السفاقسي بطليطلة بين ٤٣٦ هـ و٤٣٨ هـ، ثم يراه القاضي صاعد، ويأخذ منه، سنة ٤٣٨ هـ وهو بطليطلة، ولأن الوقشي في ذلك الوقت كان تجاوز الثلاثين من عمره، وبلغ من العلوم بحيث قضى له الجميع في كل علم وفن، وكان قد احتوى علة فنون المعارف، وجمع لكليات العلوم، فأشتهر كأستاذ كبير، وعالم نابغة، وفقيه ناجح، ووصل صيته في جميع أنحاء الأندلس، وأصبح مرجعا في العلوم والآداب، وقبلة للطلاب الوافدين عليه من أقاصي البلاد، وقد يكون ذلك سببا لاتصال حباله بالمأمون ابن ذي النون، الذي كان قد جعله، من خاصته، وشاركه في مجالس أنسه، وأصبح أكيله وشريبه. ثم اختاره لقضاء طلبيرة في عهده.
ولم يحدثنا التاريخ عن مدة قضائه بتلك المدينة، ألا أن بعضهم قد ذكر أن عبد الله بن فرحون، المتوفى سنة ٤٨٧هـ، " بعد أن نيف على الثمانين من عمره "، كان قد استقضى بطبيرة بعد أبى الوليد الوقشي، وهذا القول أيضا مجهول، ولا يساعدنا في تحديد الوقت ومعرفة التاريخ، كما أنن لا نعرف الأسباب التي جعلته يستقيل عن منصب القضاء، ويهاجر من طلبيرة إلى بلنسية، وقد يكون السبب في ذلك موت ولى نعمته، وأكيله وشريبه المأمون ابن ذي النون، لأن حفيده القادر، الذي خلفه على العرش طليطلة، ثم يكن يتحلى بأوصاف يرضى بها الكرام ويحبها العلماء، فيكونوا من أعوانه وأنصاره أو ولاته وقضائه وحاشيته، وخاصة الأعلام النبلاء الأفاضل من أمثال أبى الوليد الوقشي رحمة الله. وإذا صح هذا فمعنى ذلك أن الوقشي لم يزل على قضاء طلبيرة حتى ٤٦٨ هـ؟
الطور الرابع
1 / 9
وهو دور التدريس والتأليف، وكذلك فان المصادر لا تصرح بشيء عن حياته التي قضاها بعد الانفصال عن منصبه وهجرته إلى بلنسية والإقامة بها، إلا أننا نعتقد، أن الوقشي رحمة الله كان قد عكف على القراءة والتأليف، وكرس حياته للإقراء، والتدريس بعد الانصراف عن طلبيرة، وذلك لأن معظم طلابه وتلاميذه هم البلنسيون، حتى أن عددهم يزيد من تلاميذه الطليطليين، فهذا مما يمكن به الاستدلال على أن الوقشي أكثر الرواية والإقراء، وهو ببلنسية. ثم أن المعلومات الضئيلة القليلة التي وصلت إلينا عن حياته من طريق كتب التراجم والتاريخ تنص على اشتغاله بالتأليف والتدريس والرواية بها. قمن ذلك ما ذكره الضبي. أن أبا عامر الخطيب البلنسي، من تلاميذه الوقشي، كان قد روى عنه كتاب السيرة بسنده. وروى عنه أبو محمد عبد المنعم بن محمد. وعنه الضبي صاحب يغية الملتمس. ومن ذلك ما روى أنه كتس إلى محمد بن عثمان أبى عبد الله البكري الحجارى وذلك سنة ٤٧٥هـ. ثم أن الوقشي، كعالم رباني صاحب التصانيف، وذى العدد الضخم من التلاميذ، كان قد احتل مكانة كبيرة في نفوس أهل بلنسية. مما جعلهم يلجؤون إليه في مصابهم ويجتمعون أليه في أزمتهم الخطيرة وفي نكبتهم الكبيرة ليتزعمهم وينقذهم منها.
ثم أن العدو كان قد حاصر بلنسية، ودخلها بعد أخذ المواعيد وعقد العقود التي ما رعاها ونبذها نبذا، ودهى الاحتلال الأجنبي أهل بلنسية من المسلمين، فدهشوا وبهتوا وكابدوا من آلام، وأصيبوا بالقتل والاضطهاد والإرهاب، ونهب الأموال وفتك الأعراض والخوف والجوع فاستصرخوا بملوك الإسلام، كالمستعين ابن هود، وقواد الجيش المرابصى، إلا إن الإغاثة قد تمطلت، والنصرة قد تأخرت، وكانوا في أشد حاجة إلى من يتولى أمرهم ويقودهم وينقذهم مما أصابهم، ولكن ليس من ينهض بذلك ولا من يتقدم إليه غير صاحبنا الوقشي، وذلك الإنسان النبيل الشجاع، والعالم الرباني. فيتولى أمر المسلمين، ويلتزم قضائهم. ويتكلم نيابة عنهم، ويأخذ لهم الأمان بشرط التوقف.
وللقوشى فصيدة مؤثرة، بكى فيها مصاب المسلمين من أهل بلنسية، على يد القمبيطور، إلا أن أصلها قد ضاع، ولم يبق منها إلا ترجمة بعض الأبيات، ونقلت إلى اللغة الأسبانية، ورددتها ألسنة العامة ومنها ما معناه:
إذا أنا مضيت يمينا، هلكت بماء الفيضان.
وإذا ذهب يسارا، أكلني السبع.
وإذا مضيت أمامي، غرقت في البحر.
وإن التفت خلفي، أحرقتني النار.
ولا يحدثنا التاريخ متى خرج الوقشي من بلنسية، وإنما لراه. وهو في دانية على وشك الرحيل إلى رحمة الله. ولم يتوقف رحمة الله من الرواية والتدريس، وهو بدانية فان لدينا أساء من تلاميذه الدانيين الذين أخذوا منه في الأيام الأخيرة من عمره.
وفاته ومدفنه
وتوفي أبو الوليد الوقشي، على أصح الأقاويل، يوم الثلاثاء ليلية بقيت من جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة النبوية وقد تجاوز الثمانين من عمره وقيل سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. رحمة الله واسعة وجعل الجنة مثواه ومتعنا بما تركه من المعارف والآثار.
وقد بلغ اهتمام الدانيين به وحبهم واحترامهم له إلى أن دفنوه بازاء الجامع القديم لدانية ويبدو أن قبره كان معروفا بين الناس إلى مدة غير قليلة فان كتب التراجم تذكر قبره في كثير من المواضع وكان أبو مروان عبد الملك بن محمد الإيادي والد أبى العلاء ابن زهر قد دفن عند قبر أبى الوليد الوقشي، إلا أن ابن الأبار يذكر أن هذين القبرين لم يكونا يعرفان في عصره.
بعض ملامح شخصيته
بداهة القول
كان للوقشي رحمة الله حظا وافر من الفهم والذكاء وبداهة القول. وله مواقف غريبة في ذلك، احتفظ ببعضها، وكتب التاريخ والتراجم. فمن ذلك ما روى أنه حضر يوما مجلس ابن ذي النون، فقدم نوع من الحلواء، يعرف " بآذان القاضي " فتهافت من الخواص الملك عليها، وجعلوا يكثرون من آكلها، وكان فيما قدم من الفاكهة، طبق فيه، نوع يسمى عيون البقر، فقال له المأمون، يا قاضي؟؟؟؟؟؟؟ أرى هؤلاء يأكلون أذنيك فقال: وأنا أيضا آكل عيونهم وكشف عن الطبق وجعل يأكل منه واختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: يا فقيه اشتريت من هذا أثني عشر تيسا حاشاك، فقال له الوقشي: قل أحد عشر.
1 / 10
واجتمع أبو الوليد الوقشي وأبو مروان عبد الملك بن سراج القرطبي وكانا فريدي عصرهما حفظا وتقدما، فتعارفا، وتساءلا، ثم بادروا أبو الوليد بالسؤال، فقال لابن سراج كيق يكون قول القائل. " الطويل ":
ولو أن ما بي الحصى فعل الحصى ... وبالريح لم يسمع لهم هبوب
ما ينبغي أن يكون مكان " فعل الحصى "؟ فقال أبو مروان ابن سراج: " فلق الحصى " فقال: وهمت إنما يكون قلق ليكون مطابقا لقوله " لم يسمع لهن هبوب "، يريد أن ما به يحرك ماشانه السكون، ويسكن ما شأنه الحركة.
ثم قال ابن سراج للوقشي، ما يريد الشاعر بقوله: " الطويل "
وراكعة في ظل غصن منوطة ... بلؤلؤة نيطت بمنقار طائر؟
وكان اجتماعهما في مسجد. فأقيمت الصلوة أثر فراغ اين سراج من إنشاد البيت فلما انقضت الصلوة، قال له الوقشي: ألغز الشاعر باسم أحمد، فالراكعة الحاء والعصن كناية عن اللف، واللؤلؤة الميم، ومنقار الطائر الدال فقال له ابن سراج: ينبغي أن تعيد الصلوة لشغل خاطرك بهذا اللغز، فقال له الوقشي، لا حاجة إلى إعادة الصلوة، لأننى كنت قد فككته بين الإقامة وتكبيرة الإحرام.
الفقيه القاضي
وكثيرا ما يذكره المصادر التاريخية. بلقب فقيه القاضي، وتجعله من الراسخين في العلوم الدينية، من الحديث، والفقه، والفرائض، والشروط وأصول الاعتقاد ولا غزو فان الوقشي رحمة الله كان من أعلام الفقه المالكى، وكان ينتصر لمالك ويتعصب لمذهبه، وبذلك اكتسب منصب القضاء مرتين، مرة في طلبيرة لملوك بني ذى النون، وأخرى للشعب البلنسى في خلال استيلاء العدو على بلدهم، بلنسية. وكان رحمة الله عارفا بأصول الفقه والقضاء، ثاقب الذهن في تمييز الصواب، وصاحب النظر الناقد للمذاهب الفقيهة، كما أنه كان واقفا على كثير من فتاوى فقهاء الأمصار، نافذا في أصول الديانات وعلم الفرائض.
وقد رأيناه في خلال تحقيفنا لهذا السفر يتناول البحوث الفقيهة التي ألم بها المبرد في الكامل، فمن ذلك ما ذكره المبرد من قول الفقهاء في تكفير الحجاج. فان الوقشي رحمة الله، عندما يتكلم على هذا الموضوع من الكامل، يثور ثورة الفقيه المفتى المتشدد، والقاضي الغضبان المتحمس، ويصول على الحجاج، ويرميه بفتاوى القوم الخرى في تكفيره حتى يقول في نهاية كلامه " لعن الله قائل هذا فلقد كفر ".
المحدث
وكذلك فان للوقشي عناية كبيرة بالحديث النبوي وعلومه، وأسماء نقلته، وأنساب رواته، وتراجمهم، وقد ألف في هذا الموضوع، واختصر مؤلفات المشارقة، وهذبها، ككتاب تهذيب الكنى وله ردود، وتنبيهات على بعض المؤلفين. إلا أن مؤلفاته في هذا الموضوع، قد طارت بها العنقاء بها الأيام، فلم يبق منها إلا أسماؤها، وذكرها في كتب التراجم والتاريخ.
وقد رايناه، في نكته التي كتبها على الكامل، يتناول معظم الأحاديث التي أوردها المبرد، ويعطيها عناية خاصة واهتماما كبيرا، فيتكلم عن أسانيدها، وطرق روايتها، واختلاف ألفاظها، وكلماتها، كحديث ذي الثدى مثلا، الذي أوردها المبرد في باب أخبار الخوارج من الكامل، فان الوفشي ﵀ يلخص جميع الأحاديث والروايات التي جاء فيها ذكر الخوارج، ويشرحها ويتكلم عن طرق أسانيدها ومراتبها صحة وضعفا وردا وقبولا.
وقد ذكره الضبي وابن بشكوال كحافظ للسنن النبوية، وأسماء نقلة الأخبار والحاديث.
المؤرخ النسابة
وللوقشي مجال في علم الأنساب والتاريخ، ومجهوداته في هذا الميدان قد اعترف بها العلماء من معاصريه، ومن الأجيال المتأخرة، وكانت لديه المعلومات التاريخية ذات قيمة ومكانة كبيرة، وكان غاية في الضبط والتقييد والاتقان والمعرفة بأنساب الأشراف من الخلفاء والأمراء والعلماء والأدباء والشعراء، وله ردود وتنبيهات على كبار أهل التصانيف التاريخية وكتب الأنساب، ولقد أصاب القاضي صاعد بن أحمد حيث قال. " ولا يفضله عالم بالأنساب والأخبار والسير ".
وكذلك فقد رأيناه في خلال بحثنا هذا أنه يعطي عناية خاصة واهتماما كبيرا لأنساب الشعراء والأشخاص الآخرين المذكورين في الكامل، ويترجم لهم، كما رأيناه فيما كتب على السيرة النبوية لابن هشام، واستفادة منه أبو القاسم السهيلي في كتابه الخالد " الروض الأنف ".
1 / 11
وكان الوقشي ﵀ قد هذب " المؤتلف والمختلف في أسماء القبائل " لابن حبيب البغدادي.
الكاتب الأديب
كان الوقشي ﵀ كاتبا كبيرا أديبا نابغة بليغا مجيدا، وكان أعلم الناس بالنحو واللغة. إماما متقدما فيهما، وكان له قدما راسخة في صناعة الكتابة والبلاغة. ولم لا يكون، وقد كان العصر الذي نشأ فيه وترعرع، عصر تقدم العلوم الأدبية وازدهارها، وكانت أسواق الأدب والكتابة نافقة في كل عاصمة من عواصم ملوك الطوائف، ومما يدل على مكتنة الوقشي كأديب كاتب، هو أنه قد ذكر في الإرشاد بين الأدباء والكتاب، حيث جاء " إنه كان كاتبا أديبا متوسعا في ضروب المعارف وأنواع الآداب.
وكتابه " المنتخب من غريب كلام العرب " الذي يبحث عن الأدب وغربية اللغة، شاهد عدل على مكانة الوقشي كأديب كاتب، وقد وصل إلينا منه الجزء الأول في شكل نسخة مصورة بالتصوير الشمسي وسنعرف به القراء الكرام فيما يلي من الصفحات.
الشاعر
وللوقشي حظ وافر من الشعر، فقد كان من أعلم الناس بمعاني الشعر كما أنه كان شاعرا بليغا مجيدا، ولم لا يكون وقد وهبه الله طبعا سخيا وذهبا خصبا، وفطرا عميقا، وشعورا نبيلا، وقلبا خفاقا، وكان إلى ذلك ظريفا خبيرا عالما بدقائق اللغة وغوامضها وطرائف الأدب ونفائسه، وكل ذلك مسما يمكن الإنسان ويؤهله أن يقول الشعر ويعرفه معرفة جيدة ويميز جيده من ردئيه.
ويحدثنا ابن الأبار أن أبا بكر محمد بن سعد الداني، كان قد اختار مجموعة من الشعر الأندلسي وسماها وسماها التذكرة السعدية وكان فيما اختار قصيدة للوقشي، وأغلب الظن أنها يقصيدة التي بكى فيها مصاب بلنسبة أيام حصار القمبيطور لها، وذلك لأن الوقشي كان حديث العهد بهذا المصاب، وقصيدته التي قالها فيه أنشدها لأبي بكر محمد بن سعد الداني عقب وروده بدانية، وقبيل وفاته بها فاختاره لمجموعته الشعرية.
ويبدو أنه كان قد صنع ديوانا من شعره، تداوله الناس، وأخذوه عنه ورووه فان ابن الأبار يحدثنا أيضا أن أبا العاصي الحكم بن محمد الأنصاري المتوفي ٥٧٩هـ كان يروى شعر الوقشي وقد اخذ عنه الناس شعره منهم أبو عمر بن عباد يوسف بن عبد الله المؤرخ البلنسي المتوفي سنة ٥٧٥هـ.
وإنه لمما يؤسفنا ويؤلمنا أن شعر ابي الوليد، قد ضاع وذهب به الغداة وكرا العشي، ولم يبقى منه إلا نزر يسير في كتب التراجم والتاريخ، فمن ذلك قوله " الخفيف "
عجبا للمدام ما إذ استعارت ... من سجايا معذبي وصفاته
طيب أنفاسه وطعم ثنايا ... هـ وسكر العقول من لحظاته
وسنى وجهه وتوريد خديه ... ولطف الديباج من بشراته
والتداوي منها كالتداوي ... برضى من هويت من سطواته
وهي من بعد إذا على حرام ... مثل تحريمه جنى ورشقاته
وهو القائل: " السريع "
وفاره يركبه فاره ... مربنا في يده صعده
سنانها مشتمل لحظه ... وفدها منتحل فده
يزحف للنساك في جحفل ... من حسنه وهو يرى وحده
قلت لنفسي حين مدات لها ... الآمال ةالآمال ممتدة
لا تطمعي فيه كما الشمس لا ... يطمع في تدنيه حده
وهو يقول في علوم الورى: " السريع "
برح بي أن علوم الورى ... اثنان ما أن فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطل تحصيله لا يفيد
وهو القائل فيمن طرشاربه " لكامل "
قد بيتن فيه الطبيعة أنها ... لبديع أفعال المهندس ماهره
عنيت بمبسمه فخطت فوقه ... بالمسك خطا من محيط الدائره
وكان ﵀ عزم على ركوب البحر إلى الحجاز حاجا فهاله ذلك فقال: " السريع "
لا أركب البحر ولو أنني ... ضربت بالعصا فانفلق
ما إن رأت عيني أمواجه ... في فرق إلا تناهي الفرق
الفيلسوف المهندس
1 / 12
كان أبو الوليد الوقشي من فلاسفة الأندلس ومهندسيها الأعلام، وكانت له معرفة جيدة بآراء الحكماء وأفكاره الفلاسفة، كما أنه كان متقنا متحققا لعلم الحساب والهندسة، وحسبك شاهدا على ذلك، أن القاضي أبا القاسم صاعد بن أحمد الطليطلين ترجم له في طبقات الأمم وعده من الحكماء والفلاسفة والمهندسين، واعتراف بفضله كعالم ممتاز لعلم الحساب والهندسة وسمع منه.
وقد كان الوقشي مرجعا للطلاب الراغبين في علم الحساب والهندسة والمنطق والفلسفة وكانوا يقصدونه ويفدون عليه من أقاصي البلاد، ويستفيدون منه، وقد نبغ من طلابه عدد غير قليل، منهم القاضي أبو القاسم المذكور، وإبراهيم بن لب المعروف بالقويدس، كان قد اتصل بالوقشي رغبة في علم الحساب والهندسة، فقرأ عليه كتاب اقليدس وغيره من أمهات الفن، حتة برع فيه وأحكمه وأصبح مرجعا لطلاب الهندسة والحساب.
وهل يمكن أن يقول هذا الشعر إلا مهندس بارع ماهر من أمثال أبي الوليد الوقشي؟! " الكامل "
قد أثبتت فيه الطبيعة أنها ... بدقيق أعمال المهندس ماهره
عنيت بعارضه فخطت فوقه ... بالسمك خطا من محيط الدائره
وقد صرح الحميري أن الوقشي كان قد عنى بالهندسة والمنطق ومليح النادرة ويسميه المقرى الفيلسوف الآريب ويقول إنه كان من أعلم الناس بالهندسة والفلسفة والمنطق والزيوج وآراء الحكماء. الذين عضوا على تعليم الكتاب والسنة بالنواجذ، ولم ينحرفوا عن الصراط السوى قيد شعرة. ولم يتحقق لدينا ما يقضي خلاف ذلك في عقيدته، وإنما شك الناس شكا في ذلك لما وصل إليهم من الأشياء المنسوبة إليه، ولم يصرحوا فيه بشيء، أو قل إنهم ما استطاعوا أن يصرحوا بشيء في ذلك لأن الآراء التي نسبت إليه زورًا وكذبا بالاطلا عبه، لم تكن لها حقيقة، ومن ثم لم يقل أحد شيئا بالصراحة في عقيدته وآرائه التي انحرف فيها عن طريق السنة، إلا أن القاضي عياض " يقول أن الكتاب قد ظهر وأخبر الثقة أنه رواه عليه سماع ثقة من أصحاب وخطه عليه " وأما ابن بشكوال فانه لا يؤكد بشيء وإنما يقول " وقد نسبت إليه أشياء والله أعلم بحقيقتها، وسائله عنها، ومجازيه بها " وأما العقيدة التي أتهم بها والرأي الذي زن به، فهو ليس إلا رأي الاعتزال وأما الكتاب الذي ظهر فاكتسب له عارا، وزهد الناس في عمله، وتركوا الرواية عنه، فهو لم يكن إلا " تأليف في القدر والقرآن وغير ذلك من أقاويلهم ".
وقد كان الفقيه أبو بكر بن سفيان بن العاصم من تلاميذ الوقشي ينفي عنه الرأي الذي زن به الكتاب الذي نسب إليه.
وليس من وظيفتنا أن نبرر الوقشي وننفي عنه الرأي الذي اتهم به وندافع عنه، كما إنه ليس من واجبنا إدانة خصومه المعارض لع، وانما وظيفتنا وواجبنا هو قول الحق، والتحقيق العلمي لا غير. فنقول إن الوقشي برئ مما زن به واتهم وذلك لأن: القاضي عياض لم يذكر اسم الثقة الذي أخبره. ثم أن هذه الثقة لم يسمع من الوقشي مباشرة، وإنما " رواه عليه سماع ثقة " من أصحابه ولا نعرف هؤلاء الصحاب الذين سمع منهم، ولا نتحقق أكانوا من أعدائه أو من أصحابه، وأما " خطة عليه " فانه ليس ببعيد من الحاسدين المزورين المزيفين وخاصة في تلك العصور المختلفة، أن يصنعوا بأيديهم ورقة من غلاف الكتاب بخط المؤلف وينسبوه إلى من أرادوا تذليله، والطعن فيه والافتراء عليه! وعندنا شهادة فقيه عدل من أمثال أبي بحر بن سفيان بن العاصي الذي كان ينفي عن شيخه الرأي الذي زن به الكتاب الذي نسب إليه زورا مما لا يترك مجالا للشك في تزوير الرأي وتزييف الكتاب المنسوب إلى العالم النبيل البري مما افترى عليه الحاسدون المطلبون، ولا يجوز لمسلم أن يشك في إيمان أخيه السلم وعقيدته إلا إذا ثبت لديه بشهادة قاطعة خلاف ذلك.
1 / 13
ونرى أن مكانته في نفوس المسلمين كانت قد ارتفعت، وحبهم له كان قد زاد، ذلك في الأيام الأخيرة من حياته. فقد رأينا يتولى قضاء المسلمين ببلنسية وهم يلجؤون إليه ليتزعمهم دون غيره من الكبراء والعلماء، ولينقذهم من الهلاك ومن تلك الأزمة الخطيرة التي واجهتهم خلال الحصار واستيلاء العدو على مدينتهم، ثم رأينا بعد موته يدفنه المسلمون بازاء المسجد الجامع بدانية، ويبالغون في احترامه، ويصبح فبره معروفا بينهم، فيذكرونه في كتبهم ومؤلفاتهم فلو كان الوقشي على رأي غير رأيهم وعلى عقيدة غير عقيدتهم، لم يكن من الممكن أن تكون له هذه المكانة في نفوس العامة من أهل ملته من الأندلسين المتحمسين لدينهم المتشددين فيه.
ثم أن المعلومات والمواد التي حصلت لدينا في خلال البحث وخاصة في خلال تحقيق الطرر والحواشي على الكامل كم ادعي اعتزاله وينفي عنه الرأي الذي زن به، وهو يظهر أمامنا كمسلم صحيح راسخ في العقيدة من المحدئين القضاء، المالكيين، ونراه يدافع عن مالك، وينتصر له، ويؤيد آرائه الفقهية، ويعضد مسلكه في التشريع الإسلامي، ويتعصب له في بعض الأحيان. فانه ينفي القول المذكور في عثمان وعلى غيرهما من لأصحاب النبي ﷺ، الذي نسب إلى مالك بن أنس في بعض تسخ الكامل المخطوطة القديمة، كما انه يفكر الحجاج في رأيه الحر كما كفره الفقهاء والأئمة من أهل السنة الراسخين في العلم والأيمان والعقيدة والله أعلم بالصواب، وعنده مفاتيح الغيب وهو عليم بذات الصدور.
آراء الأعلام في شخصيته
يقول القاضي: " وكان غاية في الضبط والتقييد والاتقان والمعرفة بالنسب والأدب، وله تنبيهات وردود على كبار أهل التصانيف التاريخية والأدبية، ويقضى ناظرها بالعجب، وتنبئ عن مطالعته وحفظه واتقانه، وناهيك عن حسن جتابه في تهذيب الكنى لمسلم الذي سماه بعكس الرتبة ومن تنبيهاته على أبى نصر الكلا باذى ومتلف الدارقطنى ومشاهد ابن هشام وغيرها.
وقال القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد وقد لقيه وأخذ منه: " أحد المتقنين في العلوم، المتوسعين في ضروب المعارف من أهل الفكر الصحيح والنظر الناقد، والمتحقق بصناعة الهندسة والمنطق، والرسوخ في علم النحو واللغة والشعر والخطابة، والإحكام بعلم الفقه والأثر والكلام، وهو مع ذلك شاعر بليغ ليس يفضله عالم بالأنساب والأخبار والسير، مشرف على جمل سائر العلوم ".
وقال ابن بشكوال نقلا عن القاضي أبى القاسم المذكور: " أبو الوليد الوعشى أحد رجال الكمال في وقته باحتوائه على فنون المعارف، وجمعه لكليات العلوم، وهو أعلم الناس بالنحو واللغة ومعاني الأشعار وعلم الفروض وصناعة البلاغة، وهو بليغ مجيد شاعر متقدم حافظ للسنن وأسماء نقلة الأخبار، بصير الاعتقادات وأصول الفقه، واقف على كثر من فتاوى الأمصار، نافذ في علم الشروط والفرائض متحقق بعلم الحساب والهندسة، مشرف على جميع آراء الحكماء، حسن النقد للمذاهب، ثاقب الذهن في تمييز الصحابة ويجمع إلى ذلك آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وصدق اللهجة.
ويقول ياقوت في الإرشاد: " كان من أعلم الناس بالعربية واللغة والشعر والمخاطبة والحديث والفقه والأحكام والكلام، وكان أديبا كاتبا شاعرًا متوسعًا في ضروب المعارف، متحققا بالمنطق والهندسة، ولا يفضله عالم بالأنساب والأخبار والسير.
ويقول الأستاذ خير الدين الزركلى: " أبو الوليد المعروف بالوقشي كاتب قاض مهندس أديب له شهر جيد من أهل طليطلة للمؤرخين ثناء عليه ".
وكان أبو محمد الريولى يقول: " والله ما أقول فيه إلا كما قال الشاعر: " الوافر "
وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كل فن بالجميع
ويقول فيه المقرى: " وكان الحافظ أبو الوليد هشام الوقشي من أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء والنحو واللغة ومعاني الأشعار والعروض وصناعة الكتابة والفقه والشروط والفرائض وغيرها وهو قال الشاعر:
وكان من العلوم ... ... ... البيت "
مؤلفاته
1 / 14
وقد ألف أبو الوليد الوقشي رحمة الله عددًا من الكتب، بين اختصارات، وتهذيبات، وردود، وشروح، وتنبيهات، وقد وصل إلينا أقل قليلها، وفقد أكثرها وجلها، وذهب بها الزمان واكلتها الأيام، ولم يبق منها إلا الأسماء والعناوين أو الإشارات المجملة إلى موضوعاتها في كتب التراجم والتأريخ والمؤلفات الأخرى للأندلسيين وغيرهم.
ويمكن لنا أن نقسم مؤلفات الوقشي إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول، وهو ما بقى من مؤلفاته واحتفظ به الزمان واستفدنا منه. والقسم الثاني وهو ما فقد أصله إلا أننا وجدنا بعض الإشارات إليه وبعض الاقتباسات منه في مؤلفات الأندلسيين وغيرهم من علماء الشرق والغرب، والقسم الثالث ما فقد أصله ولانجد له اقتباسا ولا ذكرًا حتى لا نعرف موضوعات بعضه غير الأسماء.
فأما القسم الأول الباقي من مؤلفاته فانه لا يزيد على كتابين مخطوطين، وهما نكت الكامل للمبرد " و" المنتخب من غريب كلام العرب
نكت الكامل للمبرد
وهو أول الاثنين مما بقي من مؤلفات الوقشي، وقد ورد ذكر الكتاب بهذا الاسم في خمسة من كتب التراجم والمصادر التأريخية القديمة والحديثة فمن القدماء من ذكره بهذا الاسم المقرى في نفخ الطيب وياقوت في الإرشاد والسيوطى في بغية الوعاة.
ومن المتأخرين المحدثين، العلامة اسماعيل باشا البغدادي صاحب هدية العارفين في أسماء المؤلفين والأستاذ خير الدين الزركلى في الأعلام. وقد أورد ذكره أبو عبيد الله محمد بن عبد الملك الأنصاري الأوسي المراكشي في الذيل والتكملة باسم " طرر أبى الوليد الوقشي " حيث ذكر علي بن ابراهيم ابن سعد الخير الأنصاري. كان قد جمع طرر الوقشي وابن السيد البطليوسى إلى زيادات من قبله عليهما، وهو الموجود الباقي المحفوظ من هذا الكتاب ويشمله هذا السفر.
أما الكلام عليه فان له موضعا آخر وسنفصل الحديث هناك في كزايا الشرح ومميزاته الخاصة إن شاء الله.
المنتخب من غريب كلام العرب
وهو الكتاب الثاني الباقي من مؤلفات الوقشي، وموضوعه شرح غريب اللغة كما يتبادر إليه الذهن من اسمه، ولم نعثر على ذكر هذا الكتاب القيم المغر في المراجع المغربية والمشرقية إلا أن الأستاذ الزركلي يقول إنه رآه بالرباط، وأنه في جزئين. فقد قال في الأعلام ما نصه: " هشام بن أحمد أبو الوليد الوقشي يزاد في ترجمته قبل و" توفى بدانية " " وله " المنتخب من غريب كلام العرب - خ " مجلدان " ثم زاد بالهامش: رأيته في الخزانة العامة بالرباط " د ٣٣٦ ود٧٨ ".
وقد حصلنا على نسخة مصورة للنصف الأول من الكتاب وقد اكتشفنا، في خلال دراستنا لها، أن الوقشي يحذو حذو ابن سيدة في المخصص ويقتفى آثاره ولا نبالغ إذا قلنا أن " المنتخب " هو ملخص واختصاره، إلا أن الوقشي قد اعتمد على أمهات الكتب الأخرى في غريب اللغة كغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام والنوادر لابن الأعرابي والحيوان للجاحظ والخيل لأبي عبيدة والكتب المؤلفة في خلق الإنسان وقلما يصرح بمصادره وماخذه إلا أن الناقد البصير يستطيع أن يعرفها ويستكشفها.
يقول الوقشي في خطبة الكتاب: " هذا الكتاب بدأت فيه بعون الله وتسديده، وتوفيقه، وتائيده، مما أحاط به علمي، وأتقنه فهمي، من الأسماء المختلفة الألفاظ الواقعة على الأجسام والأغراض، من الحيوان الموات، والأجناس المختلفات وبينت ذلك بالفرق بين الناس وغيرهم في خلقهم وصفاتهم وأفعالهم. وأتبعته بأبواب من حيث يكون الشئ صغيرًا إلى أن يكبر، أو قليلا إلى أن يكثر، وختمته بأبواب فيها من كلام العرب ما لا يستغني عنه أحد من أهل العلم والأدب، وكل ما صنعته من ذلك آت في موضعه إن شاء الله.
وأول الأبواب: " باب ماله اسمان فصاعدا من خلق الإنسان وغيره دون الصفات، يقال للرأس، الضريب، لكثرة اضطرابه والتحماس في لغة حمير. ويقال لجانبيه، الفودان والمذروان والقرنان، ويقال للهمامة، الملطاط والصومعة والمرقى والعامة. وإنما يقال للهمامة العامة إذا بدا لك الراكب من بعيد فرأيت هامته قلت رأيت عامته. وقال بعضهم الهامة والعامة واحد، بدلت الهاء عينا لقرب المخرجين ... الخ.
1 / 15
وآخر الأبواب من الجزء الأول " باب الأودية، الغلان أحدهما غال، وهي الأودية الغامضة في الأرض ذات الشجر والسلان. واحدها سال، وهو المسيل الضيق في الوادي، ينبت فيه السلم والخواب والجلواخ والسحبلى. الواسع من الأودية وجزع الوادى: خارج ضفته من جانبيه، ويقال منعرجه، حيث ينعطف، وكذلك المحنية والضوج بالضاد والجيم والصوح، حائطه وهما صوحان والبعشط: سرة الوادى، وكذلك اللجف، وسرارته. خيره، واللحج، الشئ في الوادي يكون نحوا من الدخل في أسفله. وأسفل البئر والجبل، كأنه نقب يضيق فمه ثم يتسع أسفله، ثجرته ويهرته وسطه ومعظمه، وجلهمته: ما استبلت من حروفه. وجمعها جلاهم، وأعراضه، جوانبه وأحدها عرض، والشجون، أعاليه، وأحدها شجن وهي الشواجن أيضا، والحاجر، ويمسك الماء من ضفتيه والجميع الحجران والشعب: مسيله وجمعه شعبان ... انتهى النصف الأول من " المنتخب " بحمد الله وحسن عونه.
وهذا الجزء يقع في ٢٩٨ صفحة. بكل صفحة نحو عشرين سطرا، وبكل سطر نحو ٨ كلمة وهو بخط معربي غير رديء.
أما القسم الثاني من مؤلفاته. وهو ما يشمل الكتب التي فقدت أصولها، وقد بقيت بعض اقتباساتها يمكن من خلالها أن نقدر قيمة الكتاب ومكنته بين مؤلفات الفن. وقد وجدنا كتابا واحدا من هذا القسم، وهو شرح السيرة النبوية لابن هشام، ولعله هو المراد بمشاهد ابن هشام عند القاضي عياض رحمة الله.
مشاهد ابن هشام
وكان للأندلسيين كبير الشغف والاعتناء بقراءة السيرة النبوية وروايتها وشرحها: ولهم في ذلك أعمال جسام وكتب حسان، وناهيك من الدليل عليه. كتاب " الروض الأنفي تفسير ما اشتمل علية حديث السيرة النبوية لابن هشام تأليف أبي القاسم السهلي ﵀ وأيضًا كان لهذا الكتاب شرح للشيخ أبي بحر سفيان بن العاصي. وقد استفاد منه السهلي ونبه على أخطائه في الروض الأنف في كثير من المواضيع. وأبو بحر هذا من تلاميذ الوقشي النابهين النوابغ.
وكان الوقشي ﵀ قرأ هذا الكتاب على شيخه الأمام الأكبر الفقيه المقرئ أبي عمر أحمد بن محمد الطلمنكي ﵀ وكانت رواية الطلمنكي، وسنده في السيرة لأبن هشام، عن أبي جعفر أحمد بن عون الله بن حديد البزاز، عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن الورد بن زنجويه البغدادي، عن أبي سعيد عبد الرحيم البرقي، عن ابن هشام ﵏.
روى السيرة النبوية لأبن هشام، من طريق الوقشي، ابن خير الأشبلي وذلك عن الشيخ أبي بحر سفيان العاصي الأسدي قرأة عليه، وقال أنه قرأ على الشيخ القاضي الوليد هشام بن أحمد الوقشي.
وأيضًا رواها عن طريقه أبو القاسم السهلي، وذلك عن أبى مروان عبد الملك بن سعيد بن بونة القرشي العبدرى، عن أبي بحر الأسدي، عن أبى الوليد الوقشي الكناني.
وقد رأينا من خلال قرائتنا للروض الأنف، أن السهيلي كان قد عكف على نسخة الشيخ أبى بحر، من شرح السيرة النبوية، واستفاد منه في كثير من المواضيع، وأنة لا يذكر اسم الوقشي لا قليلًا، ويقول في اكثر الأحيان هكذا وقع في نسخه الشيخ أو في شرح الشيخ أبى بحر ﵀ مع أن شرح أبي معظمه كان مأخوذا من شرح الوقشي والمواضع من الروض الأنف التي ذكر فيها اسم الوقشي وشرحه، تزيد من ثلاث موضعا ومن ثلاثة هامة جدًا وتلف أنظارنا ولابد من ذكرها لأنها تلقي ضؤا كافيا وتوضح لنا واضحا جليا مكانة الشرح وقيمته كما أنها تشرح لنا شغف الرجل وولوعه بجمع الكتب الثمينة. والمواضيع هي: - الأول، وهو تعليق على بيت لعبد الله بن الزبعري من شعره في وقعة الفيل وهو " الكامل ".
ستون ألفا لم يؤولوا أرضهم ... ولم يعش بعد الإياب سقيمها
فيعلق عليه السهلي قائلا: وقول " ولم يعش بعد الإياب سقيما " هكذا في النسخة المفيدة على أبى الوليد، المقابلة بلأصلين اللذين كانا عنده وقابلها أبو بحر ﵀ بهما مرتين الثاني: وهو تعليق على بيت الأمية بن أببي الصلت من شعره في سيف بن ذى يزن الحميري " البسيط "
ليطلب الوتر أمثال ذي يزن ... ريم في البحر للأعداء أحوالا
1 / 16
فيعلق عليه السهيلى: " وقولة في شعر أمية بن أبى الصلت: ريم في البحر، أي أقام فيه، ومنه الروائم، وهي الأثافي كذلك وجدته في حاشية التي عارضها بكتابى أبى الوليد الوقشي، وهو عندي غلط لأن الروائم من رأمت وإذا عطفت وريم ليس من رأم، وإنما هو من الريم وهو الدرج أو من الريم الذي هو الزيادة والفضل أو من رام يريم إذا يريم إذا يرح كأنه يريد غاب زمانا وأحوالًا ثم رجع للأعداء وارتقى في درجات المجد أحوالا، أن كان من الريم الذي هو الدرج ووجدته في غير هذا الكتاب خيم مكان ريم فهذا معناه أقام.
الثالث: وهو أيضًا تعليق على بيت العدى بن زيد العبادي الحميري من شعره يذكر فيه بن تبع " المسرح ".
بعد بني تبع نخاورة ... قد اطمأنت بها مرازبها
فيقول أبو القاسم السهيلي معلقًا علية: وقوله بعد بنى تبع بجاورة هكذا في نسخة سفيان بن العاصي الأسدي وقد كتب مصححا عليه وقد كتب في الحاشية نخاورة في المين وفى الححاشية النخاورة الكرام، وكذلك في المسموعة على ابن هشام يعنى نسختى أبى الوليد الوقشي، اللتين قابل بهما مرتين ويعني بالحاشية، حاشية تينك الأمين، وأن فيهما نخاورة بالنون والخاء المنقوطة، وهم الكرام كما ذكر.
وقد جاء ذكر شرح الوقشي في عير هذه المواضع الثلاثة، وذلك في الجزء الأول على الصفحات ٤، ٢٩، ٣٨، ٤٣، ٦٤، ٧١، ٧٢، ١٠، ١١٥، ١٦٦، ٦٦٥، ٢٣١، ٢٥٥، ٧٧، وفي الجزء الثاني على الصفحات ٩، ٤٣، ٥، ٦٤، ٢٠٤، ٢٠٥، ٢١٣، ٢٤٣، ٢٥٧، ٢٦٣، ٢٧١، ٣٤١، ٣٦٠.
وقد عرفنا قيمة شرح الوقشي، ومدى فائدته، ومكانته عند علماء الأندلس من أمثال أبى بحر وأبى القاسم، كما أننا قد عرفنا أن عنده كانت نسختين من السيرة النبوية لابن هشام اللتان عرفتا عند العلماء بالنسختين الأمين. وكانوا يعارضون بهما، وأن إحدى النسختين كانت مسموعة على ابن هشام، وهي نسخة أبى سعيد البرقي التي كان قد قرأها على شيخه الإمام أبى محمد عبد الملك ابن هشام المعافري الحميري البصري المتوفى بمصر سنة ٢١٣ هـ.
أما النسخة الثانية فلا نجزم فيها القول إلا أننا نظن أنها أيضا كانت قد قرأت بعضها على ابن هشام. ونستدل ببيان السهيلي حيث ذكر نسخة من السيرة التي كان شيخه أبو بحر نقل عنها، وهذا نص بيانه: وذكر الشيخ أبو بحر سفيان بن العاصي رحمة الله في هذا الموضع، قال: " نقلت من حاشية نسخة من كتاب السيرة، منسوبة بسماع أبى سعيد عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم، وأخويه محمد وأحمد أبني عبد الله بن عبد الرحيم، ما هذا نصه: وجدت بخط أخي قول أبن هشام هذا مما لم يذكره ابن إسحاق، هو غلط منه، قد ذكره ابن لإسحاق عن جعفر بن عمرو بن أمية عن عمرو بن أمية، فيما حدث أسد عن يحيى بن زكريا عن ابن إسحاق ". والقائل في الحاشية " وجدت بخط أخي " هو أبو بكر بن عبد الله عبد الرحيم. وفي الكتاب المذكور جاء قول أبى بكر المذكور في غزوة الطائف، بعد قوله: " فولدت له داود بن أبى مرة إلى هاهنا انتهى سماعي من أخي، وما بقي من هذا الكتاب سمعته من ابن هشام نفسه ".
فانك ترى أن هذه النسخة التي نقل عنها أبو بحر كانت قد قرأت بعضها على أبي سعيد عبد الرحيم بن عبد الله وأخويه، وبعضهما على ابن هشام، والقارئ هو أبو بكر بن عبد بن عبد الرحيم، ولا ندري أين رآها الشيخ أبو بحر؟ أعند الوقشي فتكون إحدى نسختيه الأمين، أو وجدها في مكان آخر، والأول هو أقرب الاحتمالين، والله أعلم بالصواب، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وأما القسم الثالث المفقود أصلًا من مؤلفات الوقشي، فانها مذكورة منسوبة له عند بعض أصحاب التراجم والطبقات، ولم نعثر عليها بعد إلا على أسمائها، وموضوعاتها ومحتوياته وهي:
عكس الرتبة في تهذيب الكنى لمسلم
وكان الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج القثيري المتوفى سنة ٢٦١ هـ، قد ألف كتابا في أسماء الرواة وكناهم، وسماه كتاب الأسماء والكنى وذكر بعضهم أنه في أربعة أجزاء، وتداوله الأندلسيون فيما تداولوا من كتب المشارقة، وشرحوه، وهذبوه، فمن الشارحين المهذبين صاحبنا أبو الوليد الوقشي، وقد ذكر شرحه هذا القاضي عياض فقال: " وله ردود وتنييهات على كبار أهل التصانيف التاريخية والأدبية يقضي ناظرها بالعجب وناهيك من حسن كتابة في تهذيب الكنى لمسلم، الذي سماه بعكس الرتبة.
1 / 17
ولم يذكر وجود الكتاب في مكتبات العالم، فيما عرفنا، ولعله قد ضاع وذهبت به الحروب والفتن التي أثارها الإفرنج على العرب، وانتهت بجلائهم عن الأندلس.
التنبيهات على أبى نصر الكلاباذى
وهو نقد وإصلاح لكتاب " " الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد " " للحافظ أبى نصر أحمد بن محمد بن الحسين الكلاباذي البخاري رحمة الله المتوفى سنة ٣٩٨ هـ ويتناول الكتاب تراجم الرجال الذين خرجهم البخاري في صحيحه.
والظاهر من أسم الكتاب، أن الوقشي رحمة الله كان قد قام بنقد كتاب الكلاباذي وإصلاحه وتصويب أخطائه، والتنبيه على أغلاطه، ولا نعرف له وجودا في العالم.
التنبيهات على مؤتلف الدارقطني
كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني البغدادي المتوفى سنة ٣٨٥ هـ من أهم ما كتب في أسماء الرجال والرواة، وكان للعلماء والمحدثين اعتناء كبير برواية الكتاب وقرأته والاستفادة منه. فقد كتبوا له من التكملات والذيول والاستدراكات، وهو من الكتب التي نالت إعجاب المغاربة واهتمامهم، فمن المعجبين المهتمين به: صاحبنا الوقشي، وكان قد كتب عليه الطرر والحواشي والتنبيهات، التي ضاعت وذهب بها حوادث الأيام وآفات الزمان.
تهذيب المؤتلف والمختلف في أسماء القبائل
لمحمد بن حبيب البغدادي كتاب موجز في الأنساب، مفيد في موضوعه. وقد اختلف في اسمه، فهو عند ياقوت كتاب المؤتلف والمختلف في أسماء القبائل، وعند الحاج خليفة كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء القبائل، وقد طبع هذا الكتاب مرتين، المرة الأولى في أوربا، وذلك باسم كتاب المؤتلف والمختلف في النسب، والمرة الثانية، في باكستان باسم مختلف القبائل ومؤتلفها.
وكان للأندلسيين اعتناء كبير بهذا الكتاب. فقد رووه، وشرحوه، وهذبوه، فمن هذبه أبو عبيد البكري صاحب اللالى والتنبيه على أمالي القالي، وقد ذكره ابن خير باسم تهذيب المؤتلف والمختلف لمحمد بن حبيب.
وقد هذبه صاحبنا أبو الوليد الوقشي وسماه " تهذيب المؤتلف والمحتلف في أسماء القبائل "، وهو مما رواه ابن خير عن شيوخه وذكره في فهرسته، وحدثه به الشيخ الفقيه أبو بحر سفيان بن العاصي الأسدي رحمة الله إجازة عن الإمام أبي الوليد الوقشي رحمة الله في رواية مهذبة.
الرسالة المرشدة
لم نعثر على وجود نسخة منه كما أننا لم نعرف موضوعها، وقد جاء ذكرها عند ياقوت وإسماعيل باشا البغدادي.
ديوان شعره
يبدو أن الوقشي رحمة الله. كان قد جمع شعره، وصنع ديوانا، وأخذه عنه الناس. فقد ذكر ابن الأبار أن الحكم بن محمد بن عبد الرحمن أبى العاص الأنصاري كان يروي شعر الوقشي، وأخذه عنه أبو عمرو بن عياد. وقد أنشد قصيدة الوقشي، وأبو بكر محمد بن سعد الداني في مجموعته التي اختارها من الشعر الأندلسي، وسماها بالتذكرة السعدية.
كتاب في القدر والقرآن
قيل إن له كتابا في آراء المعتزلة، ولم نجد له ذكرًا إلا عن ياقوت وابن حجر نقلًا عن القاضي عياض وهذا نصه: " ولكنه اتهم برأي المعتزلة وظهر له تأليف في القدر والقرآن وغير ذلك من أقاويلهم وزهد فيه الناس وترك الحديث عنه جماعة من مشائخ الأندلس. ولعل الوقشي تحدث فيه عن مسئلة القدر وخلق القرآن؟
أساتذته
أبو عمر ابن الحذاء ٤٠٨ - ٤٦٧
هو أحمد بن محمد بن يحيى بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يعقوب بن داود، أبو عمر التميمي القرطبي، المعروف بابن الحذاء، من أسرة عربية ذات شرف ونباهة، كانت قد هاجرت إلى الأندلس في عهد متقدم جدًا. وهي أسرة عريقة في الكرم والفضل والعلم والدين. فقد كان أبوه أبو عبد الله القرطبي، المتوفى ٤١٦ هـ، أحد رجال الأندلس فقها وعلمًا ونباهة معتنيًا بالعلوم، متقننًا فيها، متقنًا لها، وكان ممن عنى بالحديث ولآثار، وأتقن عملها، وعرف طرقها وعالمها، وكان حافظًا للفقه، بصيرًا بالأحكام وتولى قضاء بجانة. وكان جده يحيى بن أحمد المتوفى ٤٠٢ هـ. أيضًا من علماء الأندلس النابهين، وكان جد أبيه أحمد بن محمد أبو عمر، المتوفى ٣٠٦ هـ، أيضًا من العلماء البارزين، وهو مولى الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام وقد صلى بالأمير عبد الله بن محمد، وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر لدين الله.
1 / 18
وروى عن أبيه، وأكثر عنه الرواية، وندبه أبوه صغيرًا إلى طلب العلم والسماع من الشيوخ الجلة فحصل له سماع عال، أدرك به درجة أبيه، حتى قال فيه الذهبي: " وانتهى إليه علو الأستاذ بقطرة ".
وكان قد هاجر من قرطبة إلى سرقطة، بعيد انبعاث الفتن، وافتراق الجماعة، وتقلد أحكام القضاء بمدينة طليطلة، ثم بدانية. وروى الناس عنه وأخذوا منه في كل مكان سكنه، وفي كل مدينة وردها. وكان قد كتب بخطه مختصر العين لأبي بكر الزبيدي في أربعين يومًا، وهو بمدينة المرية.
" وكان أحسن الناس خلقًا، وأوطأهم كفا، وأطلعهم برا وبشرا. وأبدرهم إلى قضاء حوائج إخوانه " وتوفي بأشبيلية سنة ٤٦٧ هـ، وكان مولده ٣٠٨ هـ.
وأغلب الظن أن الوقشي تلمذ لديه وأخذ عنه وهو على قضاء طليطلة وذلك في نحو ٤٣٨ هـ.
أبو عمر الطلمنكي
أحمد ببن محمد بن عبد الله بن أبي عيسى بن يحيى بن محمد بن قزلمان المعافري المقري الطلمنكي. من كبار شيوخ الأندلس وعلمائها الفضلاء الأعيان، وكان مرجعًا لطلاب القرآن والحديث وعلومهما، وكانت له مكانة كبيرة في نفوس المسلمين الأندلسيين.
وعدد تلاميذه يزيد على الآلاف على ما ذكره الضبي وابن بشكوال وابن الأبار والمراكشي في الذيل والتكملة ولا نعرف أحدا بين علماء الأندلس من يباريه في كثرة التلاميذ والطلاب.
وكان قد أتم معظم دراساته في قرطبة عند علمائها الأعلام من أمثال أبي جعفر أحمد بن عون الله، وأبي بكر الزبيدي صاحب " مختصر العين " وغيرهما. ثم رحل إلى المشرق طالبًا، حاجًا، فأخذ عن علماء الحرمين، ومصر، وأفريقية، منهم أبو الحسن يحيى بن الحسين المطلبي وأبو القاسم الجوهرى.
وأنصرف إلى الأندلس بعلم كثير، وسكن قرطبة، وجلس للإقراء والإسماع بها، والتزم الإمامة بمسجدها، فأسرع إليه الطلاب من كل ناحية وصوب، وكان الناس يرجعون إليه في أمور الذين، ويقلدونه في المسائل الفقهية. وله جولة إلى ثغور الأندلس، انتفع الناس من خلالها من علمه. ثم قصد طلمنكة، مسقط رأسه في آخر عمره، فتوفى بها سنة ٤٢٩ هـ. وكان مولوده ٣٤٠ هـ.
وله مؤلفات قيمة، وكتب حسان، قد أشار المؤرخون إلى بعضها، ككتاب: " الدليل إلى معرفة الجليل " مائة جزء و" تفسير القرآن " نحو هذا و" الوصول إلى معرفةالأصول " و" البيان في إعراب القرآن " و" فضائل مالك " و" رجال الموطأ " و" الرد على أبي ميسرة " و" رسالة في أصول الديانات إلى أهل أشبونة " وكتاب: " الروضة في القراءات ".
وللمؤرخين ثناء عليه، فيقول الذهبي: " وكان خبيرًا في علوم القرآن، وتفسيره، وقراءاته، وإعرابه، وأحكامه، ومعانيه، وكان ثقة، وصاحب سنة واتباع، ومعرفة بأصول الديانة ".
ويقول فيه اين بشكوال: " وكان أحد الئمة في علم القرآن العظيم، قراءاته، وإعرابه، وإحكامه، وناسخه، ومنسوخه، ومعانيه، وجمع كتبًا حسانًا كثيرة النفع على مذاهب أهل السنة، ظهر فيها علمه، واستبيان فيها فهمه، وكانت له عناية كاملة بالحديث ونقله، وروايته، وضبطه، ومعرفة رجاله، وحملته، حافظًا للسنن، جامعًا لها، إمامًا فيها، عارفًا بأصول الديانات، مظهر للكرامات، قديم الطلب لمعلم، مقدمًا في المعرفة والفهم. على هدى وسنة واستقامة، وكان سيفا مجردا على أهل الأهواء والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله تعالى " وقد اعترف الضبي بعمله وفضله قائلًا: " وكان إمامًا في القرأة مذكورًا، وثقة في الرواية مشهورًا ".
ونرجع أن سماع الوقشي عنه كان نحو ٤٢٠ هـ. بقرطبة، أي قبل جولته في ثغور الأندلس ثم رجوعه إلى طلمنكة ووفاته بها، والله أعلم بالصواب.
٣ - أبو عمرو ابن الضابط السفاقى ٤٤٠ هـ
هو عثمان بن أبي بكر بن محمد بن أحمد الصدفى، المعروف بابن الضابط السفاقسى. من العلماء الغرباء الراحلين الذين وردوا الأندلس الوافدين من الشرق، وهو أستاذ الحميدي وشيخه.
1 / 19
وله رحلة طويلة في المشرق، تجول في خلالها في كثير من البلاد الشرقية. وعرف أخبارها ومن فيها من أهل العلم والرواية، وأخذ عنهم وخاصة عن علماء العراق. ومن شيوخه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ الأصفهاني، وكريمة بنت أحمد السرخسية، وأبو ذر الهروي. ثم رحل إلى الأندلس ووردها سنة ٤٣٦ هـ، وتجول في بلادها، وأكثر الناس عنه السماع والرواية، وامتدت هذه الجولة إلى سنتين، وحدث عنه علماء الأندلس قاطبة في كل بلد دخله من بلدانها، وهو أول من ادخل كتاب غريب الحديث للخطابي إلى الأندلس. ثم خرج منها إلى أفريقية، ومات مجاهدًا في جزيرة من جزائر الروم، وذلك سنة أربعين وأربعمائة. " وكان حافظا للحديث وطرقه، وأسماء رجاله ورواته، منسوبًا إلى معرفته وفهمه، وكان يملى الحديث من حفظه، ويتكلم على أسانيده ومعانيه، وكان عارفًا باللغة والإعراب ذاكرًا للغريب والآداب، ممن عنى بالرواية وشهر بالفهم والدراية، يجمع إلى ذلك حسن الخلق وأدب النفس وحلاوة الكلام ورقة الطبع ".
وكان يجيد الشعر ويعرف جيده من رديئه معرفة الناقد البصير: فقد حكى عن نفسه. وقال: بعث إلى شعراء القيروان، حين مقامي بها، وهو ابن رشيق وابن شرف، وابن حجاج، وعبد الله العطار، يسألوني أن أرسل إليهم شعري، فقلت للرسول إنه في مسوداته، فقال كما هو، فأخذته وكتبت عليه ارتجالًا، ثم بعثت به: " المتقارب "
خطبت بناتي فأرسلهن ... إليك عواطل من كل زينة
لتعلم اني ممن يجود ... بمحض الوداد ويشنأ ضنينه
فقل كيف كان ثناء الجليس ... أضمخ بالمسك أم صب طينه
فأجابوني عن بطء، بهذه الأبيات: " المتقارب "
أننا بناتك يرفلن في ثيا ... ب من الوشى يفتن زينة
فما سفرن فضحن الشموس ... وسرب الظباء وأخجلن عينه
فما نطقن سحرن العقول ... وظل القرين ينادى قرينه
أبو محمد الشنتجيالي المجاور
هو عبد الله بن سعيد لباج الأموي أبو محمد الشنتجيالي، الطويل الجوار بمكة، شرفها الله، بهذا السبب عرف بالمجاور. قيل جاورها بضعا وثلاثين، وقيل أربعين عامًا.
وكان يسكن قرطبة، فسمع من علمائها، من أمثال أبي عمر الطلمنكي، ثم رحل إلى المشرق طالبًا، حاجًا، وذلك سنة إحدى وتسعين وثلاث مائة، فسمع بمكة من علمائها، وصحب بها أبا ذر عبد بن أحمد الهروي الحافظ، واختص به وأكثر عنه الرواية والسماع. ويقال إنه لقي أبا سعيد السجزي فسمع عنه صحيح مسلم. وكان، في خلال مجاورته للحرم المقدس يسرد الصوم، فإذا أراد أن يغوط، خرج من الحرم إلى الحل، فقضى حاجته، ثم انصرف إلى الحرم تعظيمًا له. وكان كثيرًا ما يكتحل بالإثمد ويجلس للمسع، وكان يقول: لا تمنعوا العين قوتها فتمنعكم ضؤها.
ويقال إنه حج سنة ٣٩١ هـ. حجة الفريضة عن نفسه، وأتبعها خمسًا وثلاثين حجة، وزار مع كل حجة زورتين، فكلمت له اثنتان وسبعون زورة.
ورجع إلى الأندلس في سنة ٤٣٠ هـ، ودخل قرطبة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت للمحرم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وجلس للإقراء والإسماع بجامعها.
فقرئ عليه صحيح ملسم، ثم خرج منها غازيا مجاهدا إلى الثغور، فرابط ييطليموس، وشلب وغيرهما وروى عنه بتلك الجهات، وكان له فرس يسميه مرزوق، فكان يقول له يا مرزوق: رزقني الله عليك الشهادة. ثم رجع إلى قرطبة وتوفي بها سنة ٤٣٦ هـ.
وكان الشنتجيالي رجلا صالحًا، زاهدًا، متبتلًا، منقطعًا إلى ربه، منفردًا به، خيرًا، عاقلًا، فاضلًا، كريمًا، حليمًا، جوادًا.
وله من المؤلفات " مختصر في الفقه ".
أبو محمد ابن الحصار الطليطلي
هو عبد الرحمن بن محمد بن عباس جوشن بن إبراهيم بن شعيب بن خالد الأنصاري. المعروف بابن الحصار " أو الحطار "، صاحب الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع بطليطلة.
أخذ العلم ورواه عن كبار أئمة العلم والأدب في بلدة طليطلة، ثم سافر إلى قرطبة فسمع من شيوخها الأعلام، كأبي جعفر أحمد بن عون الله وغيره، ثم خرج في رحلة إلى المشرق طالبًا، حاجًا، وهو حديث السن، واتصل بعلماء الشرق وروى عنهم يسيرًا.
وكان فقيها، محدثًا، راوية، مسندًا، متصفًا بالدين والخير والحلم الوقار وحسن النقل.
1 / 20