وكان يتبع الخطيبين سركيس الحائك وامرأته وأولادهما، والجميع في الملابس الفاخرة وقد بلغ الفرح منهم مبلغا، وأصغر الأولاد بطرس يمشي مرحا وينظر نظر السرور إلى كل من حواليه.
وما أعظم ما كانت دهشة الشابين؛ إذ وقعت عينهما بعد ذلك على رهط من الشيوخ هم من بقايا الزمان الماضي، بيض الشعور أو صلع الرءوس، قد أحنت ظهورهم الأيام، فاستعانوا على السير بالعصا أو دبوا حتى خيل للرائي أنهم قطيع يدفعهم الموت إلى هاوية القبر، وكان يتقدمهم أبو نصيف ذلك الشيخ الأصم الأعمى الذي عرفناه في أول القصة، يقوده جد معلم المدرسة وكل منهما قد انحنى حتى لثم التراب.
وهؤلاء الشيوخ وحدهم قد عرفهم حنا الطويل قبل سفرته وعرفوه وشهدوا أعماله، وأقروا بفضل شجاعته أيام كان في ضيعته ينافس أقرانه في اقتحام الأخطار.
فدخلت تلك الجموع الكنيسة وقد ضاقت عنهم فبقي الشابان في الخارج مع من تبقى، وما لبثا أن سمعا التراتيل على وقع الصنوج والأجراس، وزف إليهما النسيم نفحات البخور فعلما أن القداس الاحتفالي قد بدأ.
وبعد تلاوة الإنجيل المقدس ألقى الكاهن عظة ملائمة لمقتضى الحال، وكيف لا يغتنم مثل هذه الفرصة السعيدة؟ وهو الذي عرف حنا الطويل في حداثته، وهو الذي أرشده وأعده للمناولة الأولى، وهو الذي زوده بركته الأبوية ساعة رحيله عن الضيعة منذ خمسة وعشرين عاما، فضلا عن أن شيخوخة هذا الكاهن الجليلة وفضائله كانت تجعل لكلامه وقعا عظيما في النفوس، ولم تك عبارته منسجمة، لكنها صادرة عن قلب مفعم بشعائر التقى والوداد، فأثرت في قلوب السامعين أي تأثير حتى ذرفت أعينهم الدموع ولا سيما تلك الابنة الضريرة، فقد انهملت منها العبرات مدرارة عند سماعها ذكر خطيبها وأسفاره، وعودته سالما بعد مر الفراق وتفانيه في خدمة الله والقريب.
وفي الختام استمطر الواعظ بركات السماء على الرجل الفاضل، ذي الأيادي البيضاء الذي عم صنيعه كل أهل ضيعته، ومن يصف مشهد الكنيسة في تلك الساعة المهيبة، فكنت ترى الجميع جاثين على الأرض يضجون بالدعاء الحميم، قارعين الصدور ومجاهرين بالصلاة لله أن يطيل بقاء هذا الرجل المحسن ويحفظه مع عروسه في رغد ونعيم؛ ليهنأ بهما أهل الضيعة أجمعون، وقد اشترك مع الحضور كل من قضي عليهم بالقيام خارج الكنيسة.
فصاح أكبر الشابين وقد أخذته هيبة المشهد: ما أبدع هذا المنظر، لعمر الحق! إن هذا الشيخ الجليل بلغ في كلامه مبلغا من البلاغة عظيما وهو لا يدري، فقد صدق الأقدمون في قولهم: «من أراد فصاحة فحسبه أن يكون له قلب شعور.»
فلم ينتبه رفيقه إلى قوله السديد، بل صاح: لا بد لي من الوقوف على جلية هذه القصة، رضيت بذلك أم عذلتني، فقد عقدت النية على التعرف إلى حنا المذكور، فإن النفس تحدثني بنشر هذه الرواية الرائقة.
قال الكبير: ما كنت لأعذلك في ذلك ... ولكن على رسلك، ها قد فرغ القوم من الصلاة وتراهم خارجين، انظر الحفار فارس عبود، والحائك سركيس.
14
Halaman tidak diketahui