طبيعي أن يحزن الناس ويستعيذوا بالرحمن الرحيم، لكن يظهر أنهم في مثل هذه الحالات، وبغريزة كغريزة الحيوان، يطوون حزنهم في الصمت المطبق القديم، ويمضون في عملهم كأنهم لا يفهمون ولا يهتمون.
جهز الميت، وسار النعش وعليه العمامة الخضراء، ويتزاحم على حمله الفلاحون، كانت الجبانة في الناحية الأخرى من الجسر المتآكل القديم، وكان عليهم أن يصلوا على الشيخ سيد في الجامع قبل أن ينقلوه إلى قبر من قبور المحسنين، وانتهت الصلاة وزاد الزحام على حمل النعش بين الدعاء والتكبير والتهليل ، الجبانة معروفة والطريق إليها مضمون، يعرفه هؤلاء الذين يسيرون في الجنازة، وكيف يجهلون الطريق المحتوم؟! لكن ما بال الشيخ يجهله ويشرد من بين المشيعين؟ ها هو النعش يغير الطريق.
إلى أين يا شيخ سيد؟ إلى أين يا نور الصالحين؟!
الزحام يشتد حول النعش والشيخ رأسه وألف سيف أن ينفذ ما في دماغه ويسحب الأهالي من الأنوف والذقون، حاسبوا يا أولاد، يا أولاد على الجبانة، يا شيخ سيد عيب، وقف يا ولد أنت وهو.
على الجبانة يا أولاد، ماذا نفعل يا عمدة والشيخ يطير؟
سبحان الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله، النعش يطير، النعش يطير، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الشيخ يطير، الشيخ يطير، أمسكوا يا أولاد، نفسكم يا جدعان، لكن الشيخ سره باتع، الشيخ يطير يا عمدة، والله العظيم الشيخ يطير.
كبر الأهالي وهللوا، انطلقت حناجرهم في صوت خشن رهيب، وانطلقت أرجلهم وراء النعش الذي لم يكن هناك شك في أنه يطير ويطير، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وفي نشوة الجلالة ودوامة التكبير والتسبيح والزغاريد ارتفع صوت قوي رهيب: لا إله إلا الله يا ظالم منك لله! - أوقفوا النعش يا أولاد، يا أولاد اثبتوا يا أولاد.
لكن صوت العمدة ورجاله يتوه ويضيع كالحصى في دوامة الريح، وعمامة الشيخ تجري كالرهوان، والشيخ سره باتع يا عمدة، الشيخ جبار وعنيد، الشيخ يشدنا يا عمدة، يكفينا على وجوهنا يا ناس، يدفعنا من ظهورنا ويحرك حناجرنا لا إله إلا الله، يا ظالم منك لله، انطلق النعش يجري والناس وراءه، النسوان زغردت وصاحت: بركة يا جدعان! والرجال داخوا يا ولداه من الشد والجذب والجري والوقوف، والأطفال وجدوها فرصة للسباق والصياح والعفرتة والشماتة في الأعداء ورجاله والأعيان: بركة يا عمدة، طر يا سيد، طر يا شيخ!
وبعد أن تعب الرجال وصارت هدومهم ماء في ماء، وانقطعت أنفاسهم من الجري والتهليل والدعاء، فوجئوا بأنفسهم أمام النقطة، رأوا العساكر أمامهم ينظرون إليهم ويتعجبون ، كان من الممكن، بل من الواجب أن يرتدوا عائدين لولا أن الأمر لم يكن في أيديهم، فها هو الشيخ يدفعهم وهم يجرون ويجرون، حتى ألسنتهم لم تستطع أن تتوقف عن دعاء تحركت به بغير تفكير: يا ظالم منك لله!
ومع لا إله إلا الله تهدر كالعاصفة، كخرفشة مكنة الطحين، كدوي الميكروفون من مئذنة الجامع القديم، اندفعوا كقطيع هائج مجنون من باب النقطة، كل من رآهم من العسكر والحراس تجمد في مكانه، بهت وزاغت عيناه، تصلب في وقفته وصار كشجرة مزروعة في الأرض مغروزة في الطين، من كان يعرف أن الميت سيأتي بنفسه إلى النقطة؟ من يصدق أن النعش يترك الجبانة ويأتي للزنزانة؟ ها هو يسير ويسير (ترى هل أطل الشيخ برأسه دون أن يشعر أحد؟) وللحكمة الإلهية يقف عند حجرة حضرة المأمور، ثم يندفع بالفلاحين المساكين كالسهم الهائج من الباب الكبير. - امسكوا يا جدعان، حاسبوا يا أولاد، اعقل يا سيدنا الشيخ، يا سيدنا الشيخ ربنا يهديك.
Halaman tidak diketahui