وصاحب البيت الصامت النحيل يطل منها ويقول كأنه يحدث نفسه؛ لأن الناس تكون في العادة قد تفرقت: روحوا يا ناس، سيبونا في حالنا!
لم أعد أرى المرأة من ذلك اليوم أبدا، ولا عدت أسمع صوتها الذي ظل يدوي في أذني منذ تلك الليلة العصيبة، ولاحظت أن سيرتها بدأت تخف على ألسنة الناس، حتى أوشكت أن تنسى أو تختفي، وكلما تجرأت على سؤال أحد عنها أجبت بالصمت أو بكلام لا فائدة منه، أو بتحذير صريح من البعد عن سيرتها، كانت أمي تقول في حزن: الله يعينها هي وأخوها!
وأكد أبي مرة وهو يتكلم مع أحد الضيوف من الصعيد أنهم ألبسوها القميص الأبيض، ولم يسمع أحد عنها شيئا منذ أخذوها على المركز، وسمعت بعض الفلاحين - حين تجرأت مرة وسألت أحد جيران بيتها عندما كان ينزل من على حماره - سمعته يقول: إنها ماتت في مصر في المورستان عند جبل المقطم.
كما خيل إلي مرة وبعد سنين طويلة أنني ألمح في عيني أبي سخطا على أخيها وأهلها؛ لأنهم لم يزوروها مرة واحدة في المورستان، وأن المسكينة ستموت غريبة يا ولداه كما عاشت غريبة، وكان يدهشني أن القليلين الذين يذكرونها أو تأتي سيرتها على ألسنتهم مصادفة لم يقولوا شيئا عن عطشها، ولم يعرفوا شيئا عن البئر التي كانت تشير إليها، ولا الماء الذي كانت تطلبه وهي تبكي وتولول وتستغيث، وكان هذا التجاهل والنسيان مصدر إحساس خفي في نفسي بالانتصار أو الفخر، ظل يتحول مع مرور الأيام والسنين إلى شعور ممزوج بالخجل والندم والشقاء.
والآن بعد أن مرت الأعوام، وظهرت الشعرات البيض في رأسي، واختفت النحلة وحقيبة المدرسة من يدي، ومات الرجل الصامت النحيل ، ونسي الناس سيرة شحاتة بك ونظارته وعصاه، أقول لنفسي كلما مررت بالخرابة التي لا تزال قائمة وبالبيت الجديد الذي بني على أنقاض القديم: أيتها المجنونة المسكينة!
أيتها المجنونة العزيزة!
متى تظهرين في الشرفة مرة أخرى وتنادين علي؟!
متى تجدين البئر النقية البريئة، فأشرب منها وتشربين؟!
الشيخ سيد طار
ليس للإنسان أن يستهين بشيء أو بمخلوق مهما قل شأنه، فالله يضع سره - كما يقولون - في أضعف خلقه، وهم أيضا يقولون في بلدتنا عن بلدة أخرى مجاورة، عن عزبة صغيرة لن تظهر على الخريطة ولن تدخل التاريخ، إن الشيخ سيد طار، بالطبع لم تكن له أجنحة، فالشيوخ ليسوا عصافير.
Halaman tidak diketahui