قد لا يهمنا هذا كله، وقد نرفض تلك الفروض جميعا، لكن الشيء الأكيد الذي يهمنا والذي كان حقيقة لا نستطيع ولا يمكن أن يكون الملك أو حاشيته أو وزراؤه وندماؤه وشعراؤه ومنجموه وعبيده قد شكوا فيه هو أن العبارة قد قيلت، لا يهمنا على أي صورة من الصور قيلت، ولا يهمنا ذلك الرجل المجهول الذي قالها ولا بأي صوت أو أي طريقة، ولا المصير الذي انتظره ولا العقاب أو المكافأة التي كانت من نصيبه، كما لا يهمنا أيضا أن نعرف ماذا كان رد فعل الملك أو الخليفة أو القيصر أو فرعون أو الإمبراطور أو السلطان: أيكون قد ضحك مستهزئا واستمر في طعامه ونشوته؟!
أم بكى كطفل وفزع وترك مائدته وتركتها الحاشية وراءه؟! أم أصبح بعد سماعها حكيما يعكف على كتب الحكماء، ويحرص على سماع حكاياتهم وأسرارهم، أم أمر بشنق الرجل المجهول أو صلبه أو قطع رقبته أو إلقائه في قاع الجب أو السجن، أو أمر على العكس من ذلك بمكافأته بكيس مملوء بالذهب والفضة أو خلع الحرير عليه وعلى أسرته، أو أمر بتنصيبه وزيرا في البلاط أو حكيما بدل حكمائه الخرس المنافقين، أو إطلاقه يهيم حرا في بلاد الله بعد أن ألقى الحسرة في القلب الكبير؟!
لا نعلم شيئا ولا يهمنا أن نعلم، المهم كما قلت لكم أن العبارة قيلت ذات يوم، وهو أمر لا يصح أن تشك فيه مهما تسرب إلينا الشك في صيغتها وكلماتها ومعناها، المهم أنها الآن موجودة أمامنا تقول لفرعون والخليفة والقيصر والإمبراطور والوالي والسلطان: تذكر يا مولاي أن الملوك جميعا يموتون، أو تقول: تذكر يا مولاي أنك ستصبح ترابا وطعاما للديدان.
أو تقول أخيرا على أحسن الأحوال: «تذكر يا مولاي أنك أيضا ستموت في يوم من الأيام!»
البئر
قالت أمي: إياك أن تمر أمام هذا البيت!
قلت مستنكرا: ولكني أفوت عليه كل يوم!
قالت بسرعة كأنها تريد أن تتخلص من الموضوع كله: إذن فلا تقترب منه ولا تنظر إليه، امش في حالك والسلام.
سكت، وأدركت أنها لم تقنعني كما كانت تريد، فتركت الثوب الذي كانت ترفعه وقالت: هل تريد أن يطلع لك شحاتة بك؟ هي كلمة وبس، إياك أن تعتب هذا البيت.
أخذت حقيبة كتبي ومضيت إلى حجرتي، أخرجت كراسة الواجب ووضعتها أمامي، لكني لم أجد لي نفسا في شيء، ما الذي يخيف أمي من هذا البيت؟ لا أمي وحدها، بل أبي أيضا، وأخي الأكبر، والتلاميذ في المدرسة، كل إنسان يتجنب سيرته، وإذا جاء على لسان أحد غمغم بكلمات غامضة، وسرعان ما يسكت أو يستعيذ بالله من الشياطين، مع أنه بيت مثل كل البيوت، قديم، عال، سلالمه متآكلة، جدرانه سقط من عليها الطلاء، وعلى واجهته الرزينة المتجهمة آثار عز زائل، كان يبدو من منظره كأنه مهجور، ولولا أنني كنت أرى بنفسي في بعض الأحيان شباكا مفتوحا فيه، أو أشاهد بعض الناس يدخلون أو يخرجون منه، لاعتقدت - أنه - كما يقول البلد كله: مسكون، صحيح أنني لا أراه إلا بالنهار.
Halaman tidak diketahui