كانوا جميعا يغارون منه ويتمنون أن يقفوا وقفته أمامها، وأن يكلموها بكلام لم يقولوه هم، ولكنه يصدر عن قلوبهم الوحيدة الخاوية، وأن يصرخ الواحد منهم فيها أمام المدرسة وأمام المتفرجين وأبيها الحكمدار والحكومة كلها: بريسكا! لا تتركيني! لا تتركيني وإلا سقطت في الجحيم! صحيح أنهم لم يروه ينفرد معها، فالشاويش مجاهد رابض في الصالة ووجهه أسود من الليل، وعيناه تطلقان شرارا، ولم يشكوا لحظة في أنه يمكن أن يتجرأ ويلمس شعرة منها، كما أنهم كانوا يلاحظون كيف تعامله كما تعاملهم جميعا في أدب وبرود وتعال، وكأنها فعلا الأميرة بنت الملك دقيانوس، وهم مجرد مشعوذين مساكين معفرين بتراب الزمن والكهف والنسيان، ولكنها الغيرة التي كانت تأكل قلوبهم وتسعد قلبه، وتجعله يبدو أمام نفسه منتصرا من غير أن يدخل في معركة!
ما كان أجمل هذه الأيام! إنه لا ينسى ذلك اليوم الذي تأخرت فيه عربة البوكس عن الظهور بعد البروفة، انصرف زملاؤه وتركوه يقف إلى جوارها عند سور المدرسة، ربما لم يخالجهم الشك في أن البوكس لا يلبث أن يحضر، وفيه مجاهد بوجهه الذي يقطع الخميرة ويجلب النحس، ثم إن عم حسان بواب المدرسة العجوز كان يقف معهما ويهز رأسا أسفا على شبان هذه الأيام، وعلى التمثيل والكلام الفارغ الذي يضيعون وقتهم فيه، وعندما طال انتظارهما أحضر لهما كرسيين، ومضى الوقت وهما يترقبان العربة في كل لحظة، كان يتكلم طول الوقت معها أو مع عم حسان (وإن كان بالطبع يقصدها هي) ليضيع الوقت، عن صعوبة التمثيل، عن المجد الذي ينتظر الممثل في حياته، والبؤس الذي ينتظره في موته، عن عائلاتهم التي تعيش كالمواشي ولا تفهم شيئا في الفن، ومع ذلك تجاهر باحتقاره، وعندما هتفت زائغة العينين مصفرة الوجه: يا خبر! الليل دخل! أخذته الشهامة وعرض عليها أن يوصلها، وعندما أبدت معارضتها في أول الأمر، وتلفتت إلى عم حسان كأنها تستنجد به - وهو ولا هو هنا - قال لها في صوت تعلم من كثرة الإلقاء على المسرح كيف يحافظ على ثباته: المسافة قريبة، ثم إنني لن آكلك! كانت السماء صافية في ذلك المساء كما لم يرها من قبل، فلم يكن يهتم في يوم من الأيام بأن يلاحظ إن كانت صافية أو غير صافية، وكان القمر بدرا كاملا، يمشي معهما كأنه طاقة فتحت عليه من ليلة القدر، وديعا، طيبا، مبتسما كأمير صغير يسبح في قارب فضي ويراقب رعيته من النجوم التي تحرسه من حوله.
قال لها وصوته يرتجف: ماذا تنوين أن تفعلي في المستقبل يا بريسكا؟ قالت وهي تراعي المسافة التي تفصل بينهما: أبي يريد أن أدخل الجامعة، فقال وكأنه يخاطبها من فوق خشبة المسرح: هذه إرادة أبيك، وأنت؟ فقالت في تهور وقد شجعتها نبرته القوية: سأمثل.
فسأل في توسل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل ستتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباء خيب أمله: لم لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.
قال مفزوعا: لن تمثلي على المسرح، أين إذن؟
فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتار روعه: في السينما طبعا!
قطب وجهه، وسار صامتا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها، كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقا للحديث عما يحسه نحوها، ولم لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه، ويقول لها: إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها، وقال لها في صوت جمع فيه كل لهفته وشوقه، وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة! إني أترقبك منذ وقت طويل، ولكنه لم يفعل، وشعر بيأس يخنقه، أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها، ويرتب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة، وتمخض الصراع في نفسه أخيرا عن حركة من يده، خيل إليه أنها ستغير تاريخه إلى الأبد، مد يده فلمس يدها، لم تبد معارضة، رفعها إلى فمه وقبلها فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتار أغاظه حتى تمنى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه ، ومضى صامتا مطرق الرأس، ولم يطل صمته، فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد، وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد - كما كانت سامية تسميه - يخرج منها كعزرائيل، ويفتح لها الباب فتدخل وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم، البيه كان مع النيابة في جناية قتل، وتركاه واقفا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده. وقفت العربة فأيقظته من حلمه.
وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا! تفضل معي.
وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئا كما كان يكره هذا الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز، وأين يأس يمليخا وانهزامه ونحول صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا، هل نسيت أيضا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء، أسرع، أسرع، أمامي نصف ساعة فقط، أغير فيها هدومي وأذهب للإستديو.
انطلقت تجري على السلم الرخامي الجميل وهو في إثرها، أسخطته إجابتها التي كان يتمنى أن تكون أكثر احتشاما، كما أغضبه أنها لم تعطه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج، ود لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها، وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجب لضيق عينها وتكشيرة حاجبها، التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور، التي كانت تضعها على رأسها، قالت سامية دون أن تحييها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد، عندي صداع، لا تنسي الأسبرين على المكتب، ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولا، يتأمل قطع الأثاث الفخمة، ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة، ويحدق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضا، أو تحب الكوكا كولا يا يمليخا؟! انتزع نفسه من تأملاته وقال غاضبا: قلت لك ميشلينيا! ثم في خجل من صياحه في بيت غريب عليه، وهو ينظر في تودد إلى العجوز: أشرب الشاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرة ودودة، دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة، قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة وفتحت بابا وهي تهتف: صحيح؟ هاللوا! تعال يا حسني، ليس عندي وقت للسلام والكلام، عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين، أذهل صابرا بياض جلده الشديد وصغر وجهه، ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفة غليظة داكنة، لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعا شديدا).
Halaman tidak diketahui