إنه إذا كانت المذاهب الفلسفية في العصر المعين، هي أدق ما يصور حقيقة ذلك العصر منظورا إليها في أعماقها، فمذاهب الفلسفة في عصرنا، بكل تياراتها، تصور الإنسان وكأنه يبدأ هنا وينتهي هنا، ولم يكن منه شيء قبل ظهوره، ولن يكون منه شيء بعد غيابه، فللفلسفة المعاصرة اتجاهان أساسيان، يكمل أحدهما الآخر: اتجاه منهما يصب اهتمامه على «العلم» في بنيته وفي منهجه، والاتجاه الآخر يصب اهتمامه على حياة الإنسان نفسها، إما وهو فرد حر مسئول، وإما وهو عضو في مجتمع له تاريخ، وكلا الاتجاهين - كما نرى - لا يفسح مكانا لما هو وراء هذه الحياة بتاريخها الماضي وعلمها الحاضر، إذ هو لا يهتم بما كان من قبل الحياة ونشأتها، ولا بما سوف يكون بعد فنائها، فالذي يجري أمامك على المسرح هو الرواية كلها من فاتحتها إلى ختامها. وإذن فقد حق للسائل أن يسأل: ثم ماذا؟ فإذا هو لم يجد الجواب، أخذه شعور بالقلق، وشعور بالاغتراب.
لكن المسلمين عندهم في ديانتهم الجواب. فالصورة في عقيدتهم الدينية لما سوف يكون بعد فناء الأرض وما عليها ومن عليها، صورة واضحة بكل تفصيلاتها، فهنالك البعث والنشور، وهنالك الحساب، وهنالك الثواب والعقاب، وهنالك الطريقة التي يكون بها هذا ويكون بها ذلك. وبكلمة واحدة نقول: إن هنالك العدالة بأدق موازينها. أتسألني بعد هذا: فيم الحياة وشقاؤها؟ إذن فالجواب هو: إنك تحيا بأمر الله وتعمل طاعة لله، وسيكون يوم الحساب موعدا لإقامة العدل فيما قدمت يداك، وبهذا تنتفي دواعي القلق والاغتراب وغير ذلك من الحصاد المر الذي تغص به حلوق المعاصرين.
وفي إضافة هذا الجانب إلى حياة العصر، يكون دور المسلمين المعاصرين. إننا لا نرفض العصر، بل نضيف إليه ما ينقصه، وفي هذه الإضافة نفسها يتحقق بالإسلام ما أسلم روجيه جارودي من أجل تحقيقه لنفسه، وهو أن يكون للحياة الدنيا هدفها، لكن تلك الحياة الدنيا لا بد أن نجعلها حياة مليئة بكل ما أنتجه العقل البشري من علوم وأجهزة وآلات، وبكل ما أنتجه الوجدان البشري من فنون وآداب.
نعم، إسلامنا يكفينا ولكن كيف؟
أكان غرورا مني، حين ظننت أن هذه المقالة التي أكتبها الآن، واجبة الأداء قبل أن أنصرف إلى راحة الصيف؟ فما مقالة من ضعيف مثلي، وما ألف ألف مقالة، إذ أردنا لنملة واحدة من نمال الأرض أن تغير من حياتها شيئا؟ كانت علة البصر قد اشتدت معي بعض ظواهرها في الأسابيع الأخيرة. فتعللت أمام نفسي بقدوم الصيف لأستريح؛ وذلك لأن علة البصر وحدها لم تفلح في ردعي عن الكتابة، حتى سأل سائل سؤالا ضقت به أشد الضيق؛ لأنه وإن يكن سؤالا واحدا من فرد واحد، إلا أنه كالعلامة الصغيرة التي تدل عند حاملها على مرض خطير، فدفعني شعور بالواجب، لم أملك له ردا، وهو أن مقالة حول سؤال السائل قد باتت واجبة الأداء، ولا بأس في إرجاء الراحة أسبوعا آخر. وأما السؤال فهو أقرب إلى الاستنكار منه إلى طلب المعرفة؛ إذ يسألني بما معناه: أليس الإسلام يكفينا ويغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟ على أني إذ قررت الإجابة، وليكن من علة البدن ما يكون، لم أخل من تساؤل ساخر أديره صامتا بين جوانحي، هو: أكان غرورا مني عندما توهمت أن مقالة يكتبها عابر سبيل مثلي، أو ألف ألف مقالة بمستطاعها أن تغير من عقول الناس شيئا؟
ولست أدري كيف أطمئن القارئ - قبل أن أخط كلمة واحدة بعد ذلك - أنني مصري عربي مسلم. فأنا مصري يريد الخير لبلاده، وأنا عربي لم يعد يرى لنفسه وجودا إلا وهو في حضن العروبة، وأنا مسلم لا يبيع مثقال ذرة من عقيدته بملك الدنيا وما فيها، فإذا كنت قد دعوت فيما كتبته خلال أعوام تعد بالعشرات لا بالآحاد، وإذا كنت سأظل أدعو إلى آخر نفس ألفظه، إلى المشاركة في علم العصر، وفي منهج العصر، وفي ثقافة العصر ، وفي حضارة العصر، فما دعوتي تلك إلا لأنني مصري عربي مسلم. فلما جاءني سؤال السائل لم أدهش له، برغم ما أحدثه في صدري من ضيق به، وإنما كان امتناع الدهشة عندي، صادرا عن علمي بالمناخ الفكري الذي يخيم علينا منذ سنين، وأحسب أنه باق معنا إلى عدة أخرى من سنين. وما وسعني إلا أن أستعرض بلمحة سريعة، مراحل طريقنا الفكري، منذ أول هذا القرن - أو أواخر القرن الماضي - إلى يومنا الراهن، لأرانا قد طوينا مرحلة أولى امتدت بنا إلى منتصف القرن، وانتقلنا إلى مرحلة ثانية هي التي نخوضها اليوم، وسرعان ما رأيت - أو ما رجوت - أن تأتي بعد هذه المرحلة الحاضرة، مرحلة ثالثة، هي التي تتكامل لنا فيها العناصر الثقافية والحضارية التي نريدها.
ولقد رأيت بتلك اللمحة السريعة إلى المرحلتين الأولى والثانية، أن كلتيهما كانت ضرورية لنا. فأما الأولى فهي التي فتحنا فيها أبوابنا على الأفق العصري الفسيح، ولولا ذلك لظللنا نغط نعاسنا، على ظن منا بأن دنيانا بخير، وما عندنا يكفينا، وتذكرت ما حدث عندما جاءت سفن الحملة الفرنسية إلى شواطئ الإسكندرية سنة 1798م، وكان نابليون يعلم أن الأسطول البريطاني قد سبقه، وأراد أن يتبين إن كان قد مر بالشاطئ المصري، فأرسل بعض رجاله يسألون من يتوسمون فيهم المعرفة، فما وجد أولئك السائلون عند الناس جوابا، إلا الدهشة للسؤال نفسه، قائلين: ما هي بريطانيا وأسطولها وفرنسا ونابليونها؟ إننا هنا بلاد السلطان.
إذن كانت المرحلة الأولى في طريق سيرنا، ضرورة محتومة، لنعرف بها أن وراء بلاد السلطان بلادا أخرى، ووراء العصر الذي كنا نعيش فيه، عصرا آخر جديدا أشرقت شمسه لثلاثة قرون خلون بضروب من العلم لم نكن ندري عنها شيئا. فحتى لو كانت تلك الشمس التي أشرقت، حارقة بنارها كما هي هادية بنورها، فقد كان لا بد لنا أن نحيط بوجودها علما، لنستضيء بالنور منها، وندفع عن أنفسنا لهب النار.
وإذا أراد شباب اليوم أن يعلموا إلى أي حد بعيد، كنا خلال المرحلة الأولى على صلة وثيقة بما ينتجه الغرب من علم وأدب وفن، أولا بأول، وكأن حدود بلادنا الثقافية قد اتسعت بنا لنعيش مع أقوام الغرب عبر البحر، فليرجعوا إلى إنتاج أعلامنا خلال تلك الفترة، ليروا كيف كانت أقلامهم تجري بما يحدث هناك بعد حدوثه بفترة لا تزيد على أيام يتطلبها الإرسال بالبريد، وسيرى هؤلاء الشباب أن أعلام تلك المرحلة الأولى، إذ كانت أبصارهم تتابع مسيرة الفكر في الغرب خطوة خطوة، كانت تلك الأبصار في الوقت نفسه لا تنفك مسلطة على تراثنا تنشره فتحييه، لكننا ونحن ننظر إلى أعلام المرحلة الأولى - أي خلال النصف الأول من هذا القرن على وجه التقريب - فقد يأخذنا غير القليل من الجزع؛ إذ نلمح في هؤلاء الأعلام شيئا من الإسراف في التباهي بثقافة الغرب وحضارته، مما أدى بنا يومئذ إلى العيش في مناخ كاد المواطن فيه أن يخفي مصريته وعروبته وإسلامه، حتى لا يتهم بالجلافة والتخلف. ولا أظن أن أحدا منا قد نجا من تلك التبعية العمياء القاتلة، حتى أولئك القادة الذين عرفوا تراثنا ودرسوه وناقشوه ونشروه، كنت تراهم يفعلون ذلك كله، ووراءه نبرة لا يخطئها السمع. يقولون بها ما معناه: لكننا فوق ذلك نقرأ الإنجليزية، ونتكلم الفرنسية، وندخن الغليون.
نعم، كان الصوت الأعلى هو لأصحاب الثقافة المنقولة عن الغرب، وكان الشعور بالنقص هو نصيب من درس الكنز الموروث مكتفيا به، وهو موقف فيه هزال المريض، وضعف الذليل، لا سيما إذا تذكرنا أن بلادنا في قبضة المستعمر، الذي هو نفسه صاحب تلك الثقافة، التي ينقلها ناقلوها، ثم يفاخرون الناس بما نقلوا.
Halaman tidak diketahui