26
هذه طريقة، وطريقة أخرى عند ابن رشد أن يبين لخصومه ألا اختلاف بين القول بقدم العالم وحدوثه إلا في التسمية، فالكل متفق على ثلاثة أصناف من الموجودات، صنف منها هو الأجسام، وهذه لا يختلف أحد على حدوثها، وصنف آخر فهو الموجود الذي «لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان»، ولقد اتفق الجميع على أن هذا الموجود قديم، وأما الصنف الثالث فيقع بين هذين الطرفين، وهو العالم مأخوذا بأسره (لا من حيث هو جزئيات) «فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه وجد عن شيء، أعني عن فاعل.»
27
والكل متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فالمتكلمون يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، وهم متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وموضع الاختلاف بينهما هو في الزمان الماضي والوجود الماضي، فالمتكلمون يرون أنه متناه، فالعالم مأخوذا بأسره، فيه شبه من الموجود القديم، وفيه كذلك شبه من الموجودات الجزئية الحادثة، فمن نظر إليه من ناحيته الأولى، قال عنه إنه قديم، ومن نظر إليه من ناحيته الثانية قال عنه إنه حادث، «وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا، ولا قديما حقيقيا.»
28
إن موقفنا في هذا العصر، شديد الشبه بالموقف الذي جاء ابن رشد ليجد نفسه فيه؛ إذ العناصر الأساسية في كلا الموقفين، هي: شريعة يتمسك بها الجميع، ونتاج عقلي وافد من خارج، هو إما متفق مع ما ورد في الشريعة فلا إشكال، وإما مسكوت عنه في الشريعة فلا إشكال أيضا، وإما يناقض في الظاهر ما ورد في الشريعة. فلو كان بيننا ابن رشد يؤدي المهمة نفسها التي أداها في زمانه، لحاول أن يدحض منطق الرافضين حيث يراه باطلا، وأن يبين أن مواضع الاختلاف لا تعدو أن تكون اختلافا في التسمية، مع اتفاق في مضمون المعنى.
6
كانت المواجهة التي تمت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، من أهم ما رصده تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وكدت أقول من أهم ما رصده تاريخ الفكر الإنساني على إطلاقه. وليست المسألة - كما أراها - مقصورة على كتاب أصدره صاحبه لينقد به كتابا آخر، وإلا فتاريخ الفلسفة هو سلسلة من هذه اللقاءات النقدية، لكن «التهافت» و«تهافت التهافت» كان مواجهة بين وقفتين حضاريتين، فمحور الأمر فيها هو سؤال كهذا: هل تأخذ حضارة لاحقة أصولا ثقافية من حضارة سابقة، لا سيما إذا كانت الحضارتان من لونين متعارضين، أو أن في هذا الأخذ خطرا على إحداهما أن تنمحي في الأخرى؟ إن الحضارة الأوروبية الحديثة لم تكن لترى ما تخشاه في أن تستمد أصولها من أسلافها اليونان والرومان؛ لأنها مع تلك الأصول عند الأسلاف أسرة واحدة تتعدد صورها مع تعاقب العصور، لكن أساسها واحد، وأما أن تأخذ حضارة إسلامية روافد فكرها من أصول يونانية، فها هنا يكون للسؤال مغزاه، وهو سؤال ما يزال - كما أشرنا فيما سبق - معلقا فوق رءوسنا إلى يومنا هذا، فهل نفتح صدورنا اليوم للحضارة الغربية العلمية، أو نخشى أن يصيبنا هذا بما يشبه الغزو الذي يمحو معالم ما يغزوه؟
فالغزالي حين تصدى للفلسفة الأرسطية كما وجدها منعكسة على صفحات الفارابي وابن سينا، إنما قصد أساسا إلى حماية الفكر الإسلامي مما ظن أنه يفسده ويهدم أركانا أساسية فيه. وحين اضطلع ابن رشد بالرد على الغزالي، فلقد كان صميم موقفه هو الدفاع عن ضرورة اغتذاء الفكر الإسلامي بفلسفة اليونان القدماء، ولا خطر هناك على شريعة الإسلام من مثل ذلك الغذاء، على أن نلحظ هنا بأن المواجهة بين الغزالي وابن رشد في كتابيهما، إنما تجاوز أن تكون علاقة بين طرفين، لتكون في حقيقتها صورة للعقل الفلسفي في حياة المسلمين خلال فترة تزيد على قرنين، تبدأ بالفارابي وابن سينا في القرن العاشر، ويتوسطها الغزالي في القرن الحادي عشر، ثم تنتهي بابن رشد في القرن الثاني عشر.
وأول ما أريد أن أعلق به على صلب العمل الذي نطالعه في «التهافت» وفي «تهافت التهافت» معا، هو أننا في حقيقة الأمر إزاء وقفة سلبية تبين التناقض في البناء الفكري الذي تتصدى له، أكثر منا أمام فكر إيجابي يتناول مشكلات بعينها ليقترح لها الحلول، فالكتابان مثل جيد ل «برهان الخلف» الذي تميز به الفكر الفلسفي في كثير جدا من نشاطه. ومؤدى هذا المنهج الفكري، هو أن نعرض الفكرة التي نريد فحصها، فنستخرج منها ما يمكن استخراجه من نتائج تتولد عنها، وإذا بهذه النتائج التي استخرجناها متنافرة لا يتسق بعضها مع بعض، ثم لا تتسق مع القضية أو مجموعة القضايا الأولى، التي عرضنا بها الفكرة المطروحة للبحث بادئ ذي بدء. وعندئذ لا نرى مندوحة من رفض تلك الفكرة المعروضة؛ لاحتوائها على عناصر ينقض بعضها بعضا.
Halaman tidak diketahui