قال: لقد بعنا مكتبته منذ قريب.
قلت: لمن؟
قال: لإحدى الجامعات.
قلت: هذا خير، فسوف يظل أبوك حيا بك وبإخوتك، وبها كلما أشعت بنورها في طلاب العلم. كانت مكتبة أبيك فريدة في نوعها، فقد كنت أشعر كلما زرت أباك، وقضينا الأمسية في غرفة مكتبه، وحولنا خزائن الكتب تدور مع جدرانها الأربعة، وبحذاء تلك الخزائن أكداس من الكتب ركمت في غير نظام، كنت أشعر بعبير المعرفة يفوح، وما كل مكتبة توحي للجالس فيها بهذا الشعور، فما أكثر ما جالست أصدقاء في غرف مكاتبهم، وحولنا كتب، لكنها كانت كأنها قوالب الطوب أعدت للبناء. إنني أذكر الإجابة التي أجابني بها أستاذ الفلسفة في جامعة لندن، منذ عشرات السنين، أذكرها وأذكر دهشتي لها، إذ أملى علي قائمة بأسماء المراجع، ثم سألني: أتعرف من أين تشتريها؟ قلت له: نعم سأشتريها من المكتبة الفلانية، فقال بسرعة وبانفعال ظاهر: لا، لا إن المكتبة التي ذكرتها تبيع الكتب، وكأنها قطع من الفحم لوقود المدافئ، إنني لا أشتري الكتاب إلا من مكان يعرف أصحابه قيمة الكتاب من حيث هو كتاب، وأما أصحاب المكتبة التي ذكرتها فيعرفون ثمن الكتاب، ولا يعرفون قيمته، وهكذا يا إسماعيل يا ولدي، كنت وأنا مع أبيك في مكتبة داره، أحس بعطر المعرفة، وهنالك آخرون لا أشم في مكتباتهم إلا رائحة الورق. فابتسم الشاب ابتسامة حزينة، ثم قال: لقد حرصنا كل الحرص، قبل أن نسلم المكتبة لشاريها، على أن نفحص الكتب وما بين الكتب؛ لأن والدي رحمه الله، كان يبعثر أشياءه بغير حساب، فوجدنا أشياء كثيرة لم نتوقعها: وجدنا نقودا ورقية داخل الكتب، ووجدنا أوراقا بالغة الأهمية متناثرة خلف صفوف الكتب، ثم وجدنا هذه الكراسة، التي أظنها تحتوي على كتابات أدبية، فرأينا أن نتركها معك لترى فيها ما تراه. وناولني الكراسة في غلافها كما وجدها.
أخرجت الكراسة وتصفحتها تصفحا سريعا، فكان أول ما لحظته فيها، عبارة كتبها في صفحة وحدها، هي الصفحة الأولى من الكراسة، يقول فيها: إنه لا يريد لشيء مما ورد في هذه الصفحات أن ينشر في حياته، وإذا نشر منه شيء بعد موته فلا يذكر اسمه. كان المحتوى أشبه بيوميات، لكن كاتبها لم يذكر لأي منها تاريخها، وكانت تتباين في طولها، فبعضها لا يملأ صفحة واحدة، وبعضها الآخر قد يطول عدة صفحات على أن معظمها كان يتوسط بين القصر والطول.
تركني الشاب، فلم أملك على الكراسة صبرا، وأخذت أقرأ، فوقفت عند يومية منها برهة أتأمل مضمونها ومغزاها، ثم قررت نشرها كما وردت، وها هي ذي بين يديك:
إن ضمير الوالد إزاء ولده، ليتأزم إذا ما وجد الوالد نفسه بين أمرين: أحدهما يوجب عليه ألا يوصي ولده إلا بما ترضى عنه الأخلاق في مثلها العليا، بينما يوحي إليه الأمر الآخر ألا ينصح ولده إلا بما يكفل له النجاح في حياته. ولو كان هذا النجاح المأمول يتحقق للراغبين فيه تحت مظلة الأخلاق القويمة، لما كان هناك إشكال، لكن الأمر الواقع في حياتنا العملية لا يترك لنا مجالا للتشكك أو التردد، في أن المواطن الطموح قد يصادف في طريق حياته عشرات المواقف التي يكون الأمر فيها هو إما ... وإما ... أي أنه يكون إما أخلاقا قويمة ولا نجاح، وإما نجاحا ولا شيء من تلك الأخلاق القويمة فأيهما يختار.
وتلك هي أزمتي اليوم مع ضميري، فأنا أكتب هذه الصفحات، راجيا أن تتهيأ الظروف التي تتيح لولدي إسماعيل أن يقرأها، فلست أجرؤ على مواجهته بها، فضلا عن أني أوثر لولدي أن يجمع بنفسه حكمة الحياة لنفسه، وماذا كنت لأقول له إذا أردت له الهداية، اعترافا من خبرتي؟ أأوصيه - مثلا - بالتواضع كما تريد لنا الأخلاق المهذبة الكريمة أن نكون؟ ولكن كيف وأنا أريد له النجاح، بالمعنى الذي لا يفهم شعبنا النجاح إلا به؟ وخلاصة ذلك المعنى هي أن يكون الإنسان في موقع يمكنه من السلطة والتسلط. القيمة العليا، التي لا تعلو عليها قيمة أخرى في ترتيب القيم عندنا هي أن تكون ذا سلطان، لتكون نافذ الكلمة، تنفع وتضر، فيكون لك الأتباع والرعايا يحيطون بك ضارعين مادحين، التماسا للنفع ودفعا للضرر، ومواقع السلطة لا تتحقق لعشاقها إلا بشروط، أولها وأهمها: أن يحسن الواحد منهم إساءة الأدب! كلا، لا تضحك من عبارتي فأنا أقصدها بكل كلماتها وحروفها فقد يسيء الإنسان أدبه بغير تدبير محكم، فيسقط في الهاوية، لكن الذي يسيء الأدب ليصعد بتلك الإساءة سلم المجد، لا بد له من الروية والتدبير في رسم الخطة لتلك الإساءة لكي تأتي النتائج بطريقة طبيعية لا تصدم العرف بين الناس.
وأضرب لك مثلا واحدا لما أعنيه بالإساءة المدبرة في روية وإحكام، والمثل الذي أضربه هو ما أسميه بفن المسافات. كأني أراك قد رفعت حاجبيك دهشة وتساؤلا: فن المسافات! ماذا تريد؟ فأقول: نعم يا ولدي فن المسافات، فلطول المسافة بينك وبين الآخر إذا وقفتما تتحادثان، أو جلستما معا في مكان، علاقة وثيقة بالرتبة الاجتماعية التي لكل منكما، فإذا تساوت بينكما تلك الرتبة تساويا معترفا به، فلا ضير عندئذ في أن تجلسا على مقعدين متجاورين، أو على أريكة واحدة، أما إذا قر في نفس أحدكما أنه أعلى رتبة حرص حرصا شديدا على ألا تقصر المسافة بينكما إذا وقفتما، وألا يتجاور المقعدان إذا جلستما، وها هنا يتميز من يحسن إساءة الأدب طلبا للصعود عمن لا يستطيع تلك الإساءة المدبرة، فلا يكون له بإذن الله صعود. أما الأول فيعرف لنفسه مقدما أين يقف أو يجلس، ولا يترك الأمر فوضى تلعب به المصادفات، ولقد رأيت يا ولدي من لعبة المسافات هذه فنونا كلما ذكرت منها شيئا تحيرت حيالها بين الضحك والبكاء.
وأعود إلى ما كنت بصدد الحديث فيه، وهو عن الأزمة التي يتأزم بها ضميري إذا أردت لولدي شيئين معا، وهما أن يكون ذا خلق مهذب، وأن يكون في الوقت نفسه ناجحا، بمعنى النجاح الذي يفهمه شعبنا، فبماذا أوصيه إذا وجدت أن حياتنا كثيرا جدا ما تأبى أن يجتمع هذان الشيئان معا، وكأنهما نقيضان؟ أأوصيه بالتواضع فأضيعه أو أوصيه بقلة الأدب، فأضيع الأخلاق؟
Halaman tidak diketahui