وكانت ذكريات غرام الإله الأكبر لا تزال تتدفق في قلبه، وكان رنين القبل فوق شفتيها القرمزيتين لا يزال تتجاوب أصداؤه الموسيقية على شفتيه المنهومتين الملتهبتين، وكان هذا الجمال الفتي لا يزال له رجع في كل جوارحه وجوانحه.
وقفت أمام زيوس!
وكأن حلما لذيذا طوف بعينيه فرأى إلى قصة حبه تمثل بكل ماضيها الحافل أمامه؛ ورأى إلى هذه الأويقات الحلوة التي التذ فيها فتنة ذيتيس تثب فجأة من الأيام الخوالي فتغمره بسحرها وأسرها؛ ورأى إلى ذراعيه المرتجفتين ملتفتين حول خصرها النحيل، وطرفه الساهم الباكي يحول في طرفها الناعس الكحيل، ورأى إلى هذا المرمر الطروب المنصب في تمثالها يكاد يكلمه، فيروي له من أخبار العناق، وسكرات الهوى ما يفيض له دمعه، ويجب قلبه وترتعد من ذكره فرائصه. - «ذيتيس؟!» - «...؟ ...» - «ما لك؟ ... تبكين! ...» - «...! ...» - «لا ... لا ... إلي يا حبيبتي!»
وكانت كلما ألحت في الصمت والبكاء، ألح هو في التلطف والرجاء، وكانت ذيتيس تدرك ما أثارته في قلبه من غرامه القديم، فدلت وتاهت، حتى أيقنت أنه منقاد لما تطلب، ولو كلفته هدم الأولمب، وثل عروش السماء! - «أ... أخيل ...!» - «أخيل؟ ... ما له؟ ...» - «ما كفاني أن يذهب ليلقى حتفه تحت أسوار طروادة حتى يهينه أجاممنون!» - «يهينه أجاممنون؟ يهينه كيف؟» - «أغضب قديس أبوللو وكاهنه الأكبر، ولم يقبل أن يرد عليه ابنته خريسيز؛ فغضب الراهب الشيخ، ودعا ربه، فسخر الطاعون على الهيلانيين، حتى كاد يبيدهم، فلما طلب إليه أن يرد ابنة القديس على أبيها الشيخ، أبى، وأخذته العزة بالإثم، فلما ألح عليه أخيل - ولدي البائس - إنقاذا للجيش، وإبقاء على أبناء هيلاس، رضي أن ينزل عن الفتاة، إذا نزل له أخيل عن بريسيز ...
وآثر أخيل حياة المحاربين ونجاتهم، فنزل عن الفتاة للقائد الغاشم.» - «... ثم ...» - «ثم هو الآن يحترق بينه وبين نفسه، وقد اعتزل الحرب وخلا وحده في معسكره، يجتر أحزانه وتجتره الآلام.» - «لا عليك يا ذيتيس! لا عليك يا حبيبتي! قري عينا ... قري عينا ... فيما أخذه الناس بغير ما ينبغي له، لأذيقنه وجنوده البلاء المبين!»
وعادت ذيتيس جذلانة بعد أن طبع على جبينها المتلألئ قبلة ... كم كان يشتهي أن يطبعها على فمها الخمري ... لولا أن ذكر أنها زوجة. •••
زلزلت ذيتيس قلب الإله الأكبر بدلالها وقوة فتونها، وأرق طيفها الرائع جفنيه، فلم يذق طعم الكرى تلك الليلة بطولها، فهب من مضجعه السندسي فوق سدة الأولمب، واستدعى إليه إله الأحلام، فأمره بالذهاب من فوره إلى معسكر الهيلانيين. «فإذا كنت ثمة فانطلق إلى فسطاط أجاممنون فداعب عينيه واجثم على قلبه، وقل له وهو يغط في نومه العميق، إن الآلهة تأمرك أن تصبح فتنفخ في بوق الحرب، حاضا عساكرك على اقتحام طروادة، فإن زيوس يبشرك بالمدينة الخالدة، ولا يكاد النهار ينتصف حتى تكون جنودك في شوارع إليوم ظافرة منتصرة بإذنه.»
وصدع إله الأحلام بما أمره سيد الأولمب، وانطلق إلى معسكر أجاممنون في أقل من لمحة، فداعب عينيه وألقى في روعه الحلم الكاذب، وعاد أدراجه إلى مولاه.
فلما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، هب أجاممنون من نومه مذعورا، وأرسل رسله إلى رؤساء الجند، فاجتمعوا لديه قبيل الشروق، وأعلن هو انعقاد المجلس الحربي، فصمت الجميع، ونظر بعضهم إلى بعض، وكل يظن أن لا بد من أمر جلل، استدعى انعقاد المجلس في هذه الساعة من بكرة اليوم!
ونهض أجاممون فتحدث إلى القادة، وأخبرهم برؤياه. ولما فرغ؛ نهض نسطور الحكيم المحنك، فسبح باسم زيوس وأثنى عليه، وقال: لو أن أحدا غير القائد الأعلى رأى تلك الرؤيا لأثار استهزاء الجميع، ولرماه الجميع بجنة أو مس ، ولكنه قائدنا وملكنا، وسليل الآلهة العظام، أجاممنون، هو الذي رآها وهي لا شك موحاة إليه من لدن ربنا وسيدنا ومولانا مليك الأولمب، وهو لا بد ناصرنا على أعدائنا الظالمين. فهلموا أيها الإخوان إلى رجالكم فأيقظوهم، وانفخوا فيهم الحمية والحماسة، فإذا أشرقت ذكاء، فسووا صفوفهم واشحذوا عزائمهم، ولنتوكل على أربابنا، وليهتف الجميع باسم زيوس، ولنصل له، ولنسبح تسبيحا كبيرا.»
Halaman tidak diketahui