وكذلك سبنسر، فإنك - إن نظرت في فكرته في الله - لم تجد أنه تخطى الحد الذي وصله «اسبينوزا». فكما أن الخالق عند سبينوزا لم يكن إلا شبحا إنسانيا أتمثله حالا في مكان - امتداد وفكر - كذلك كان الخالق عند سبنسر عبارة عن تمثل صرف لفكرة غير معينة هي فكرة «القوة»، وهي فكرة مستمدة من أحط الخصائص الإنسانية؛ خاصية إدراك الحس؛ إذ قال بأن الخالق «قوة خفية» تدبر الكون.
وأنت مهما قلبت وجوه الرأي وأنعمت النظر، فإنك تجد دائما أن فكرة القوة كما ثبت من قبل مستمدة من قسم من ذاتيتنا؛ أي من إدراك الحس، إذن نجد أن سبنسر بدلا من أن يجعل الخالق بعيدا جهد البعد عن الذاتية البشرية كما كان يعتقد؛ إذ إنه يتمثله على نموذج مستمد من أحط خصائص الإنسان. على أنه بعد أن حمل على «الناسوتية» لأنها تزود الله بأرقى الخصائص الإنسانية، مستقلا ذلك في جانب الله، رجع فزلت قدمه فيما زلت فيه قدم غيره من الفلاسفة، فزود الخالق بخصائص مستمدة من أحط الصفات التي يشارك فيها الإنسان أدنى الحيوانات، بدلا من أن يتركه مزودا بأرقى الخصائص الإنسانية.
ومن الجلي بعد هذا أننا في كل المباحث التي تتعلق بالنظر في أصل الأشياء، لا يجوز مطلقا أن نتساءل عما إذا كنا نصور «علة الكون» على نسق مستمد من ذاتيتنا؛ لأن تصور العلة على نسق الذاتية البشرية أمر لا يمكن أن تنصرف عنه ذات إنسانية فانية. بل الواجب أن نتساءل دائما عما إذا كنا نصورها على نسق مستمد من نظريات سطحية، أم نصورها على نموذج مرجعه السعة في النظر، والألفة التامة الموافقة لنظام العقل الإنساني.
أما وقد أظهرنا أننا لا نستطيع أن ندرك من علة الكون إلا نموذجا يرجع تصويره إلى تجاريبنا الذاتية، فإنه يكون من الجلي أن اعتقادنا في وجود إرادة عاقلة؛ أي علة خالقة، أو عدم اعتقادنا، يرجع إلى ما ندرك من فكرة السببية. وما دام فهمنا للسببية عائدا إلى ما ندرك منها حسب تجاريبنا العلمية؛ أي إنها تنحصر في القياس على السوابق الطبيعية الظاهرة أجلى ظهور، فمن الواضح أننا لا نرضى في عقليتنا فكرة التسلسل السببي إلا بالاعتقاد في أن الأشياء لا بد من أن تكون قد نشأ بعضها عن بعض متدرجة في سلسلة منظومة خلال «الزمان»، وهذا أمر يلزمنا إلزام «الفرض الضروري» بوجود إرادة عاقلة مخبوءة وراء عالم الظواهر الطبيعية، ظلت مؤثرة في الماضي والحاضر، وستظل كذلك في المستقبل.
غير أننا إذا اعتقدنا بأن السببية الحقيقية تشمل في مدلولها فكرة «الإرادة». فمن الظاهر أننا إذا أردنا أن نحتفظ بألفة العقل البشري؛ تلك الألفة الصحيحة التي لا يمكن أن نتخذ غيرها دعامة للبحث وراء الحقيقة، فمن المحتوم علينا أن نعتقد في إرادة عاقلة حرة نتخذها علة للأشياء، أو بعبارة أخرى أن نعتقد في خالق. وعلى ذلك نلزم القول بأنه كما يكون رأينا في السببية، كذلك يكون معتقدنا في الدين.
أما إذا أردنا أن نصل إلى نتيجة جلية واضحة في بحثنا هذا، فيجب أن نظهر أولا أن العلة الوحيدة التي في مستطاعنا أن نتناولها بمعرفة يقينية وبحث اختباري هي إرادتنا الذاتية، وقدرتها على تحريك أعضاء الجسم، والأجسام التي تقع تحت سلطانها. وما فعل الإرادة الإنسانية في الواقع إلا الانتقال من حركة عقلية إلى فعل طبيعي؛ أي الانتقال من العقل إلى المادة. وما دامت معرفتنا للسببية من طريق الاختبار مقصورة على ذلك، فمن الظاهر الجلي إذن أننا إذا تركنا وبداهتنا الفطرية، لزمنا أن نعود بالكون كما فعلت كل الأديان إلى فعل عقل عظيم نعرفه باسم بارئ الأشياء. فإذا ما فعلنا ذلك نكون قد حفظنا على العقل البشري تلك الألفة التي يتطلبها الاعتقاد الصحيح. •••
إن هذه النتيجة على ما فيها من من السذاجة وقربها من أحكام العقل الأولية، لا يتركها العلم من غير أن يتحداها بسلطانه. يتدخل العلم في هذه النتيجة ويهمس في الضمائر والعقول بأن تلك الحركة العقلية التي نسميها الإرادة ليست إذا ما بحثت من أساسها سببية حقيقية، ولا تزيد عن كونها ظاهرة عقلية أو عرضا من أعراض سببية حقيقية. وما تلك السببية الحقيقية لدى العلم إلا تلك الاهتزازات التي تتناول نشاط دقائق المخ ومراكز الحس العصبية. وعلى ذلك يكون مضمون السببية الصحيحة عند العلم ليس الانتقال من الحركة العقلية إلى الفعل الطبيعي، بل الانتقال من سابقة طبيعية إلى لاحقة طبيعية؛ أي من مقدمة طبيعية إلى نتيجة طبيعية، ولا تتعدى مطلقا حكم السنن التي تتصرف فيها وتنتجها.
يقول العلم: إن الحركة العقلية التي ندعوها الإرادة ليست سوى عرض يلازم اهتزازات دقائق المخ المادية، وليس لها من أثر في إحداث الأفعال أكثر من أي عرض آخر.
فإذا كانت نظريتنا في الكون ليست سوى استعراض صرف للنظريات التي تخلقها عقولنا، وإذا كان تكوين عقولنا يدل على أن الإرادة ليست السببية الحقيقية، وأنها ليست إلا عرضا من أعراض السببية الحقيقة، فظاهر أن الاعتقاد في عقل مدبر أو إرادة ترد إليها العلة في وجود الكون، يتحطم على صخور العقل البشري ويتفرق بددا، وتحل محله عندنا تلك النظرة المادية الضيقة التي تسوقنا إلى القول بأنه ليس في العالم إلا سلاسل من السوابق الطبيعية، ونتائج متلاحقة تتبع إحداها الأخرى على توالي الأحقاب وخلال تواتر الزمان، كما كانت وكما هي كائنة وكما ستكون.
على أننا إذا أردنا أن نرد على القائلين بالسببية العلمية وكفايتها لتعليل كل ما في الكون والحياة، فليس من قصدنا أن ندفع براهينهم برهانا ببرهان. ولكن قصدنا ينحصر في أن نظهر أنهم إنما ينظرون في العالم من بين أقدامهم نظرة ضيقة، يتبدلون معها من ألفة العقل والحقيقة التي في مستطاع العقل أن يدركها، بعماء صرف لا نظير له من شيء في هذا الوجود إلا عماء المادة الجامدة. •••
Halaman tidak diketahui