مقدمة الطبعة الثانية‏

1 - أحدب النفس‏

2 - حصان من الحلوى‏

3 - أطلال دوارس‏

4 - فاوست في قبضة الشيطان‏

5 - حلم ليلة في منتصف الصيف‏

6 - الكاتب الظل‏

7 - موت في أسرة الأحدب‏

8 - التوائم الثلاثة‏

9 - شفق الغروب‏

خاتمة‏

مقدمة الطبعة الثانية‏

1 - أحدب النفس‏

2 - حصان من الحلوى‏

3 - أطلال دوارس‏

4 - فاوست في قبضة الشيطان‏

5 - حلم ليلة في منتصف الصيف‏

6 - الكاتب الظل‏

7 - موت في أسرة الأحدب‏

8 - التوائم الثلاثة‏

9 - شفق الغروب‏

خاتمة‏

قصة نفس

قصة نفس

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة الطبعة الثانية

صدرت «قصة نفس» في طبعتها الأولى سنة 1965، وكان الكاتب قد بناها على مبدأ فني ارتآه لنفسه إذ ذاك؛ وهو أن يروي قصة تلك النفس من الباطن لا من الظاهر؛ بمعنى أن يكون محور الاهتمام بالخلجات الداخلية قبل أن يكون بالأحداث الخارجية؛ فتلك الأحداث الخارجية على مرأى من الناس ومسمع؛ وأما التأثرات الداخلية التي استثارتها تلك الأحداث في دخيلة النفس، فتحتاج إلى بصيرة نافذة إلى العمق.

لكن لما كان جزء كبير من خلجات النفس في استجابتها للظروف والعوامل المحيطة بها، هو مما يود صاحب تلك النفس أن يخفيه عن الناس؛ فقد اضطر الكاتب إلى اللجوء إلى الرمز؛ فلا الأشخاص يذكرهم على حقائقهم وأسمائهم، ولا الأحداث نفسها يصورها دائما كما وقعت بالفعل.

غير أنه - أعني الكاتب - كان كلما أحس أن الرمز قد تكثف حتى كاد يفقد شفافيته ودلالته، تعمد أن يلقي في سياق الحديث اسما ما أو حادثة معينة بحقيقتها التاريخية الصحيحة، بغية أن يشد القارئ من عالم الوهم إلى دنيا الواقع.

وبعد أن صدرت «قصة نفس» وأصبحت في أيدي القراء، وتحول كاتبها نفسه إلى قارئ لها، بل إلى قارئ ناقد، لقيت إعجابا من جمهور القراء؛ ربما لما كان فيها من تفرد في البناء والصياغة؛ إلا كاتبها، فقد لمح فيها أوجه نقص، حين طالعها بعين الناقد؛ إذ خيل إليه أن الوحدة الفنية فيها لا تخلو من تفكك، كما خيل إليه كذلك أن انتقالها من خفاء الرموز إلى صراحة العلانية، كثيرا ما جاء انتقالا مفاجئا يحدث ما يشبه الصدمة عند القارئ، ذلك فضلا عن استرسال القصة في ذكر جوانب من تلك النفس لم يكن ينبغي لها أن تجاوز محابسها لتصبح طليقة في الهواء أمام الأبصار.

من أجل هذا، تردد الكاتب في أن يعيد طبع الكتاب، برغم إلحاح الأصدقاء؛ حتى إذا ما أوشكت عشرون عاما أن تنقضي على نشر الطبعة الأولى، وهي فترة لم يكن الكاتب عندما روى قصة تلك النفس أول مرة، يتصور أنها بقيت أمامها لتحياها ولتمتلئ خلالها بخبرات جديدة وخلجات وارتعاشات.

وطلب من الكاتب أن يقدم كتابه للنشر في طبعة ثانية، صادف الطلب - هذه المرة - هوى عنده، إلا أنه هم بما يوشك أن يكون تأليفا جديدا؛ فقد حذفت من الطبعة الأولى فصول، وأضيفت إليها فصول، وأدخلت على ما بقي من فصولها تعديلات كثيرة؛ أملا في أن تجيء صورتها الجديدة خلوا مما بدا لكاتبها أنه عيوب شاهت بها صورتها الأولى.

وكان من أقوى الدوافع التي مالت بالكاتب إلى إخراج قصة تلك النفس في صورة جديدة، أنه كان قد فرغ لتوه من كتابة قصة أخرى يروي بها حياة «عقل ما» كيف سارت وتطورت، وهو يعلم أن بين تلك «النفس» وهذا «العقل» شيئا من صلة القربى، يبرر أن يضعهما معا جنبا إلى جنب بين أيدي القراء.

وبالله التوفيق.

زكي نجيب محمود

ديسمبر 1982

الفصل الأول

أحدب النفس

«الحياة عبئها ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان.» هكذا قال لي ذلك الرجل العجيب، الذي رأيته أول ما رأيته في زحمة الطريق عابسا، يلتمس لنفسه مسلكا بين مئات الناس الذين خرجوا لتوهم أفواجا من دار السينما، دون أن يمس أحدا منهم بمنكب أو قدم، يتأرجح في مشيته بعض الشيء، ولا يدق الأرض بعقبيه، نظراته تنحدر نحو الأرض أكثر مما تلتفت إلى أعلى أو أمام، كأنما أراد أن يتثبت قبل الخطو من وضع القدم. تبدو على خطواته السرعة وما هي بسريعة، وتشع من جبهته ومن فمه جهامة تصرف الناظر إلى وجهه عن رؤية ملامح عند النظرة الأولى، حتى إذا ما ثبت الناظر فيه عينيه، وأزال غلالة الجهامة عن صورته، رأى ملامح ثابتة غليظة: حاجبان قويان عريضان أسودان، وأنف طويل مليء، وشفتان مزمومتان، ولحية وشارب كثيفان، شعرهما سميك غليظ اختلط أسوده بأبيضه؛ ملامح تدل كلها على المضاء والحدة والبأس الشديد، لولا أن عينيه تفضحانه فضيحة كبرى؛ إذ تنطقان بأجلى بيان أن الرجل هادئ وادع مستسلم مستكين.

رأيته يمضي في مزدحم الطريق، وقد حمل على ظهره ما خيل إلي أنه ربطة كبيرة بيضاء، شبكها برباط تحت إبطيه لتظل حركة الذراعين حرة، فيطوحهما حينا، ويضع إحداهما في جيب سرواله حينا؛ إنه رجل عجيب يستوقف النظر بين جمع الناس الذين ملئوا الطريق؛ يبدو من دونهم جادا مهموما صامتا، كأنه ينطوي على شيء. ثم ما هذا الحمل الذي حمله فوق كتفيه!

تعقبته مستطلعا، فرأيته يخلص من قلب المدينة إلى طرف من أطرافها بعيد، وهنالك في مكان تغلب عليه الظلمة إلا من شعاع خافت جاءه من مصباح الطريق خلال أوراق الشجر، جلس على جدار لم يتم بناؤه، جلس والحمل على كتفيه، يتململ ويتأرق، ويرتكز على ذراعه اليمنى مرة وعلى ذراعه اليسرى مرة أخرى، والحمل ما زال قائما على كتفيه، فسعلت سعلة خفيفة لأشعره بوجودي على مقربة منه حتى لا يفزع إذا ما دنوت منه؛ ذلك أني خطوت إليه وحييته، قلت: هذا مكان هادئ يوحي بالتأمل.

قال، وقد هزته المفاجأة: نعم، تشعر بهدوئه إذا أويت إليه من قلب المدينة الصاخب.

قلت: إني لأعجب أن أراك ها هنا؛ فما كنت أحسب أحدا سواي يفكر في هذا الركن الهادئ البعيد.

قال: بل العجب عجبي أن أراك؛ فأنا أقضي في هذا الركن المعزول أكثر ساعات المساء، فما رأيتك قبل اليوم وما رأيت أحدا سواك، إنني آوي إلى هذا المكان لأستريح.

قلت: لكنك فيما أرى لا تريد لنفسك الراحة؛ فحملك ما يزال فوق كتفيك.

قال: ما يزال؟! وهل عرفت أنه من الأحمال التي لا تلقى عن الكتفين إلا إذا فاضت الروح؟ أنا قائم به وقاعد به ونائم به ومستيقظ به.

قلت: وماذا عسى هذا العبء الثقيل أن يكون ؟

قال: إنه عبء الحياة؛ أما ترى؟ هو عبء الحياة، وقد أنقض والله كتفي، إنه ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان.

قلت: إذن فهو حمل نفيس.

قال: ليست نفاسة الحمل بمانعة من أن يكون ثقيلا؛ فالحمار الذي ينوء تحت أثقاله لا يعبأ أن تكون أثقاله تلك من ذهب أو من حطب.

قلت: ولكنك تستطيع أن تلقيه عن كاهلك إذا أردت.

قال: كيف أستطيع؟ إنه متصل بالروح مرتبط بالجسد؛ إن رئتي لتعلوان وتهبطان في صدري كأنهما منفاخ الحداد لا يفتر عن النفخ ليظل للنار وهجها واشتعالها، فلا مناص من أن تظل جذوة الحياة مشتعلة بين جنبي - رضيت أم كرهت - وقد أتمنى لهذه الجذوة المتأججة اللاذعة المحرقة أن تنطفئ فتصبح رمادا تذروه الأعاصير كيف شاءت على يابس أو ماء.

قلت: وما لرئتيك ولهذا الحمل الذي على كتفيك؟

قال: العلاقة بينهما وطيدة وثيقة؛ فهذا الحمل أطرافه في جوفي، وهو مشدود هناك إلى أوتاده بما هو - في الظاهر - أو هي من نسيج العنكبوت؛ ذلك أنه مشدود إليها بأنفاسي هذه التي ترددها رئتاي شهيقا وزفيرا، مشدود إليها بموجات خفية خفيفة من هواء، ولكن الويل لي من هذه الأنفاس الواهية التي تنسجها رئتاي خيوطا فتشد به هذا الحمل على كتفي لأنوء به، ووددت لو عرفت أين تكون أطراف هذا المنفاخ الذي ما ينفك يعلو في صدري ويهبط كي أمسكه عن النفخ لحظة فتخمد الأنفاس وتنحل الروابط وينفك الوثاق، وبهذا ينزاح العبء الثقيل عن كاهلي؛ إن أطرافه خفية، أمد البصر في جميع أقطاري فلا أراها، وأرهف السمع فلا يقع لها على حفيف أو رفيف، وكل ما أسمعه هو هذه النفخات تتوالى من الشهيق والزفير ما ابيض لي نهار أو احلولك ليل. إني لا أذكر الآن من هو الذي قيل عنه إنه ضاق صدرا بأنفاسه التي تتردد برغم أنفه، ثم كره أن تشعل له جذوة الحياة بهذا المنفاخ اللعين وهو راغم، فكتم أنفاسه حتى مات؛ لا أذكر اسمه الآن، لكني أكبره وأحييه، وأشعر إزاءه بالضآلة والصغر؛ لأنه رأى الرأي ففعل؛ وأما أنا فأرى ثم لا أفعل شيئا.

قلت: ما هذا الذي تراه ولا تفعله؟

قال: أرى الحكمة في التخفف من هذا العبء الثقيل، ثم لا أفعل شيئا في سبيل الخلاص منه. الحق أني لا أدري كيف يظل الإنسان مشدودا إلى ما ليس يرضيه، ثم يظل مشدودا إليه برغم أنفه، وهو عالم كل العلم أن الروابط التي تشده لا تزيد على نفخات من هواء، لو سد عليها الطريق لحظة واحدة لانتهى كل شيء.

قلت: كلا يا صاحبي؛ فالروابط التي تشدك إلى حملك هذا أقوى من هذه الأنفاس؛ فليست هي بنفخات من هواء كما ظننت، إنما هي الشعور بالواجب؛ واجب الحياة. نعم إنك تستطيع في أية لحظة شئت أن تتنكر لواجب الحياة لتظفر براحة الجسد راحة أبدية، لكنه الجحيم بعينيه أن تبث في نفسك القلق حين تتخلى عن واجب وجب عليك أداؤه بحكم وجودك.

قال: الواجب كريه أيا من كان فارضه وأيا من كان مفروضا عليه، لقد حكمت الآلهة على «أطلس» - في الأسطورة اليونانية - بأن يحمل السماء على كتفيه حتى لا ينقض بناؤها، والسماء هي السماء بأنجمها الزواهر اللوامع؛ فهل رأيت واجبا أسمى وأمجد من أن تكلف حمل السماء على كتفيك؟ وحملها «أطلس» ثم ناء بحملها، حتى إذا ما جاءه «هرقل» يسأله عن مخبأ التفاحات الذهبية التي كلف بالبحث عنها في أركان الكون وبين جنباته، والتي قيل له عنها إن مخبأها ذاك لا يعرفه إلا «أطلس» حامل السماء؛ أقول: إنه ما جاء «هرقل» إلى «أطلس» يسأله أين عساه أن يجد بغيته، حتى وثب «أطلس» إلى هذه الفرصة السانحة، ليتخلص من عبئه الذي أنقض ظهره، وقال لهرقل: لست بمستطيع أن تجدها بنفسك لأن منالها عسير، فاحمل عني هذه السماء لحظة حتى أعود إليك بها، ورضي «هرقل» مسرورا بحمل السماء حتى يحقق له «اطلس» بغيته التي لقي العناء في سبيل تحقيقها. وانطلق «أطلس» إلى حيث التفاحات الذهبية، ورآها هناك تلمع في بريق الشمس يحرسها أفعوان جبار، فتسلل وغافل الأفعوان وهو في غفوة ، وخطف التفاحات، وعاد مسرعا إلى حيث ترك «هرقل» في انتظاره يحمل السماء بدلا منه.

لكن «أطلس» حين اقترب من موضع «هرقل» تذكر بشاعة الحمل الذي حمله على كتفيه هذه القرون الطوال؛ ترى هل يفي بوعده ويعطي «هرقل» تفاحاته الذهبية ثم يعود هو إلى حيث كان تحت عبئه الباهظ؟ أو ينعم بهذه الحرية التي أتاحتها له الظروف فيتخلص من عبئه ذاك إلى الأبد؟

لا؛ إنه لن يعود إلى حمله ذاك، وسيحتفظ بحريته التي ظفر بها بمصادفة قد لا تعود، هكذا اعتزم «أطلس» ودنا من «هرقل» وقال له: ابق حيث أنت حاملا السماء على كتفيك، وسآخذ أنا هذه التفاحات الذهبية إلى حيث أردت أنت أخذها. فتظاهر «هرقل» بالقبول والرضا؛ أليست هي السماء بأنجمها اللوامع الزواهر؟ إذن فليحملها راضيا على كتفيه، لكنه طلب من «أطلس» أن يتفضل عليه بصنيع واحد صغير، وهو أن يحمل الحمل لحظة قصيرة، حتى يضع الوسائد على كتفيه؛ لأن ضغط الحمل شديد على كاهله، فأخذت الشهامة من «أطلس» مأخذها، وفعل ما طلب إليه «هرقل» فعله؛ وكيف يتردد في قبول العناء لحظة أخرى قصيرة، لقاء حرية يظفر بها من هذا العبء الثقيل إلى الأبد؟

ألقى «أطلس» بالتفاحات على الأرض، وحمل السماء عن «هرقل» حتى يضع «هرقل» على كتفيه الوسائد والحشايا التي تهون عليه أداء هذا الواجب الجديد الذي ألقي عليه، لكن «هرقل» لم يكد يزيح عن كاهله حمل السماء، حتى أخذ التفاحات ومضى تاركا أطلس في مكانه القديم، يشقى بأداء واجبه الذي فرض عليه بحكم وجوده.

قلت: ماذا تعني؟

قال: أعني ما قلته؛ إن عبء الحياة ثقيل، مهما تكن صورته، ولا يشدنا إليه أو يشده إلينا إلا هذه الأنفاس نتنفسها، ولو كتمها حامل العبء لاستراح من أداء هذا الواجب الثقيل.

قلت: يا صاحبي إن الحياة التي تؤرق صاحبها هي الحياة المريضة؛ فأنت لا تشعر بوجود أي جزء من أجزاء جسمك إلا إذا اعتل، إنك لا تشعر بوجود عينيك أو أذنيك أو معدتك أو قلبك إلا إذا أصابتها أو أصابته العلة ؛ أما إذا كانت هذه الأجزاء سليمة فلن تشعر بمجرد وجودها، فضلا عن أن تحس الألم من حملها. إن حياتك - فيما أرى - قد مرضت فأحسست بوجودها ثم بحملها وثقلها، كأنما هي زائدة أضيفت إليك وليست منك ولا أنت منها. ولست أعجب الآن أن أرى حياتك المريضة هذه قد برزت فوق ظهرك قتبا كبيرا.

قال: قل ما شئت فيها؛ فهي حياتي التي لا أملك سواها، وقد ضقت ذرعا بثقلها. •••

شغلني «أحدب النفس» طول الليل؛ ذلك الرجل العجيب المكتئب العابس، الذي يحمل عبء حياته قتبا بارزا على ظهره؛ شغلني طول الليل، يملأ أحلامي إذا غفوت، وتمثل صورته أمام عيني إذا صحوت، وما زلت طول ليلي بين غفوة وصحو حتى كان الصباح.

ترى لماذا يحمل هذا المسكين حياته كالدمل الكبير فوق ظهره؟ أيكون ذلك لأنه ركز انتباهه فيها فوضحت له علتها وبرز أمام عينيه سخفها؟ ولو قد تغافل عنها كما يفعل سائر الناس لسرت في دمه، وخفيت عن بصره؟ يجوز؛ كما تكرر لفظة وتركز سمعك في جرسها، فسرعان ما تنفر من صوتها المنكر، بعد أن لم تكن قد فطنت لنكره حين استخدمتها غير آبه لها ولا ملتفت إليها؛ خذ كلمة إمبراطور وكررها عدة مرات: إمبراطور، إمبراطورمبرا، طورمبرا، طورمبراطور؛ صوت عجيب منكر، ظهر نكره وشذوذه حين ألقينا إليها السمع، وكان يمكن ألا نقف عنده هذه الوقفة الفاحصة، فيظل له في النفس هيبة وجلال.

كذلك صاحبنا «أحدب النفس»؛ ربما كان الفرق بينه وبين سائر الناس أنه قد أنعم النظر في معنى حياته، فانتهى به النظر إلى أنها أنفاس فاترة واهية من هواء فاسد، لا شيء أكثر من ذلك؛ وهو لهذا يعجب كيف يجوز أن يشد وثاقه إلى الأرض بخيوط واهية كهذه على كره منه؟

وأحسست برغبة قوية في نفسي أن ألقى هذا الرجل لقاء آخر، فقصدت في المساء إلى المكان المهجور الهادئ الذي لقيته فيه أول مرة، ووقفت طويلا أرقب من بعيد، حتى رأيته يسري في غير صوت بين الظلال كأنه الشبح؛ إنك لا تخطئه من بعيد؛ فالحمل الذي على كتفيه يميزه، وله مشية خاصة يتأرجح فيها الجذع وتلتف الساقان.

وقفت في مكاني حتى رأيته يستقر في موضعه من الجدار الذي لم يتم بناؤه، صعد على كومة وطيئة من هشيم الصخر، ومسح جبهته بمنديل، ومال مرتكزا على ذراعه اليسرى، فدنوت منه.

قلت: السماء الليلة أكثر غماما، والدنيا أشد ظلاما من ليلة الأمس، برغم وجود القمر.

قال (ولم يرتح لرؤيتي): وماذا يصنع القمر في الدنيا إذا اسودت بظلامها وغمامها؟ إن من أراد الضوء فضيا رائعا خالصا من شوائب الظلمة، فليرتفع عن الأرض وغلافها حتى يجعل الغمام من دونه، وعندئذ لا يكون ظلام؛ لكن الإنسان مشدود إلى الأرض بأحمال وأثقال؛ لا، بل إنه لمشدود إليها بهذه الخيوط الواهية؛ مشدود إليها بنفخات من هواء؛ وإذن فلا رجاء له في ضوء أكثر مما قد يتسرب إليه خلال فتحات السحاب. العجيب في هذه الدنيا أنها بيع وشراء، فلا بد أن تدفع لكل شيء ثمنه! أتريد أن تمتد بك الحياة؟ إذن فخذ من حولك هبة من الهواء شريطة أن ترد مكانه هبة مثلها، أتريد أن تخلص من ظلام الأرض ليصفو لك الضوء؟ إذن فاصعد إلى قمة هذا الجبل العالي حتى تجاوز السحاب، عندئذ تجد الضوء وقد صفا من الشوائب، لكنك ستجد كذلك برودة الثلج.

قلت: وماذا يشقيك من غمام السماء وظلمة الليل؟ انظر إلى الدنيا بعين الفنان تر السماء الغائمة في مثل جمال السماء المقمرة، أليس ظلام الليل أحيانا أشد فتنة من ضوء النهار؟ سل العاشقين يجيبوك أيهما أفعل في نفوسهم سحرا، الليل الوسنان في ستره، أم النهار اليقظان في نشاطه وصحوه؟ سل العابدين متى تصفو لهم قلوبهم للعبادة؟ سل المفكرين متى تهدأ لهم عقولهم للتأمل؟ سل المجان متى يطيب المجون؟ سل المتآمرين لماذا يدبرون الأمر بينهم بليل؟ ... فلماذا لا تلتمس يا أخي في كل شيء وجهه الجميل؟ إن الذي ينقصك هو الخيال.

قال: الخيال الذي أهرب به من الواقع؟

قلت: ليكن ذلك، ولماذا تستعبد نفسك للواقع إذا أمكن العيش الهانئ في جو من الخيال؟ أتدري ماذا تكون المرأة الجميلة في «الواقع»؟ إنها تكون كيسا من الجلد محشوا بالقذر والبلغم ومختلف السوائل والغضاريف! أتدري ماذا تكون الصورة الجميلة في «الواقع»؟ إنها تكون خرقة من قماش صب عليها خليط من الأحمر والأصفر والأخضر أو ما شاء الله من صباغ، واهصر الوردة الجميلة بين أصابعك لترى ماذا عساها في «الواقع» أن تكون ... إن الذي ينقصك - كما قلت - هو الخيال، الخيال الذي يجعل لك من المرأة شيئا جميلا، ومن الصورة شيئا جميلا، ومن الوردة شيئا جميلا، ومن غمام السماء شيئا جميلا، ومن ظلمة الليل شيئا جميلا! لماذا تنظر إلى الأرض كما تفعل الديدان، ولا تشخص ببصرك إلى السماء كما تصنع الآلهة؟

لست أدري لماذا أخذني الاهتمام بهذا «الأحدب» فامتلأت حرارة وأنا أبادله الحديث، لقد أوحي إلي عندئذ أن هذا «الأحدب» عليل النفس، مريض القلب، كليل الحياة، وأن قوة خفية تقتضيني أن أقوم فيه ما اعوج إذا استطعت إلى تقويمه من سبيل، إنه عابس ولا بد أن يبتسم، يائس ولا بد أن ينبسط أمامه الأمل، متشكك ولا بد له أن يؤمن، أعماه «الواقع» ولا بد له أن يجاوز حدود الواقع بعين الخيال.

لكن «الأحدب» قد ضاق - فيما يظهر - صدرا بحديثي، وأخذ يعتدل في جلسته مرة، ويميل على هذه الذراع مرة وعلى تلك مرة، ويشيح بوجهه عني، كأنه يريد أن يصرف الأذن عما أقول، بيد أني لم أعد أنظر إلى موقفي منه نظرة التسلية والعبث، فلا أقل من أن أستطلع بعض سره، وأستخرج شيئا من مكنون نفسه، وسادت فترة قصيرة من سكون، ونزل عن مكانه من الجدار، وقال في صوت فيه تكلف وافتعال: أنا مضطر أن أعود وسينقطع بعودتي هذا الحديث الجميل.

قلت: الأرجح أن طريقنا واحد ولو إلى حين.

ولعله لم يطب نفسا لهذه الصحبة الثقيلة في طريق عودته، لكني تجاهلت ما يريد لنفسه من عزلة الطريق، وسرت إلى جانبه، سرنا بخطوات بطيئة خفيفة، لكن وقع أقدامنا على حصباء الرمل ومنثور الحجر. كان له رنين في ذلك الركن الهادئ البعيد.

قلت مستأنفا الحديث: نعم، إن الذي ينقصك هو الخيال، ينقصك مثل أعلى تعمل من أجله فينسيك الهدف مشاق الطريق.

قال (وقد ازداد تثاقلا في خطاه): أصابني مرض الخيال وعلة المثل الأعلى منذ خمسة وعشرين عاما، ولبثت آثار المرض تتراكم، حتى كان هذا النتوء الذي تراه شائها فوق كاهلي؛ في ذلك الماضي البعيد قلت لنفسي: دع عنك الواقع وخشونته وغلظته وجلافته، والتمس لنفسك سلما في دنيا الخيال تصعد على درجاته إلى أجواز السماء، إن صحبة الأصدقاء في لهوهم «واقع» فلا تأبه له، والمرأة «واقع» فلا تلق بالك إليها، والطعام والشراب «واقع» فلا تحفل بطعام أو شراب، هذا الذي حولك كله «واقع» فاخرج من نطاقه، وهناك في صومعة وقعت عليها في جوف الجبل، آثرت العيش في كنف الخيال.

ولبثت أعمر الصومعة بخيالي عاما في إثر عام، وعقدا من السنين بعد عقد من السنين، لم تكن الصومعة خالية في بصري وسمعي، كنت أرى فيها الخيال مجسما حتى لأنسى أنه من خلق أوهامي، أحدثه وأسمع لحديثه، وأتملقه ويبتسم في وجهي، وظللت في صومعتي أعبد آلهة خيالي، لا أشهد نور الشمس ولا أريد أن أشهده، ولا أرتد إلى دنيا الناس والعمران ولا أريد أن أرتد إليها، ولا أستنشق الهواء الطلق النقي ولا أريد أن أستنشقه؛ كنت على نقيض فاوست.

فقد اتفق الشيطان مع فاوست أن يمهله ردحا من الزمن، يعمل فيه فاوست ما يشاء، شريطة أن يأتيه الشيطان بعد ذلك فيتقاضى أجر إمهاله، وليس أجره بأقل من روح فاوست، وكان فاوست عند أول اتفاقه مع الشيطان يظن أنه الكاسب في هذه الصفقة، فماذا يهمه من نفسه إذا ما ترك له الحبل على الغارب عشرين سنة أو ثلاثين؟ لكن السنين انقضت، وصبر الشيطان جميل لا ينفد، وجاء الشيطان ليستل من فاوست حياته، وعندئذ فقط أدرك فاوست أنه خسر في اتفاقه مع الشيطان خسرانا مبينا؛ إذ كيف يبيع روحه بعشرين عاما أو ثلاثين، مهما يكن ما يملأ هذه الأعوام؟

وأما موقفي من شيطاني فعلى نقيض ذلك، عقدت معه اتفاقا أن أبيعه حياتي ردحا من الزمن، على أن يردها إلي بعد ذلك خصبة مليئة قوية، وذهبت إلى صومعتي تلك، لا أعرف فيها الحياة ولا أخالط الأحياء، أعلل النفس طوال السنين بأن حياتي السلبية مردودة إلي بعد حين، بعد أن تكون كل حبة فيها قد أنبتت مائة سنبلة، وفي كل سنبلة مائة حبة، فلما انقضى على غربتي عهد طويل، طلبت من الشيطان أن يفي بوعده كما وفيت له بعهدي؛ وفعل، فإذا ما يعطينيه نفخات من هواء، هي هذه الأنفاس أرددها في صدري، ثم لا شيء غير ذاك، وضحك مني الشيطان ضحكة قوية حسبت الأرض ترتج لها تحت قدمي، وها هنا ابتسمت ابتسامة من زالت عنه غشاوة الخيال لأول مرة، وأبصر حقيقة الواقع لأول مرة، وقلت لنفسي: إذن أستريح بعد هذا العناء الطويل، إن الصومعة التي عمرها لي الخيال قد باتت خاوية إلا من أصداء أنفاسي.

لكن مضجعي لم يستقم تحت ظهري حين أردت الراحة؛ لأن عهد الصومعة كان قد خلف لي هذا الورم الأليم الذي تراه بارزا عند كتفي، إنه ورم نسجته لي الأعوام طبقة فوق طبقة، كما يفعل مر الأعوام في جذوع الشجر حين يرتسم عليها حلقة وراء حلقة.

وكنا قد بلغنا العمران، وأراد «الأحدب» أن ينصرف إلى سبيله، فقلت له مودعا: إن لي معك حديثا آخر. •••

حسب صاحبي «الأحدب» حين افترقنا أني أدبرت عنه كما أدبر عني، لكني تعقبته لأرقبه وهو يلتمس لنفسه الطريق في زحمة الناس التماس الحيي الذي يخشى أن تلتقي بعينيه عينان، إنه على وعي شديد بنفسه، إن ذراعيه تحيرانه وتربكانه، فأين يضعهما؟ وذلك وحده دليل على حيرة نفسه وارتباكها، ألا إن الذراعين لتخبرانك بمكنون النفس كما تخبرك العيون والشفاه، إنه لا يمشي في ضوء المصباح إذا وجد الظلام، ولا يقصد إلى مزدحم الطريق إذا رأى الفضاء المهجور، عيناه مصوبتان نحو الأرض دائما، وقدماه تحفان الأرض حفا خفيفا.

عبر الطريق في موضع كثر فيه العابرون، إنه في العابرين بارز واضح ؛ فهو لا يفنى في الزحام، ولا يذوب في الناس، إنه فيهم كملعقة من الزيت صبت في قدح من الماء تحركها إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين وشمال، فما تزال شيئا متميزا من الماء الذي حولها، إنه في أمواج الناس على طول الشارع لم يفقد معالمه، أخذ يعلو تلك الأمواج البشرية حينا؛ أعني أنه كان يظهر لي حينا ويختفي حينا آخر، حتى انتهى إلى شارع هادئ متباعد المصابيح.

كان ظله مروعا مخيفا، يقصر ويطول، ثم يقصر ويطول، هو الآن مطروح أمامه، وهو الآن إلى جانب، وهو الآن ممدود وراءه يتابعه ويلاحقه، وهو في كل أوضاعه أبعد ما يكون الظل عن صورة البشر، وما هو إلا أن دخل «الأحدب» دارا، بخطوات سريعة، كأنه الأرنب المذعور يأوي إلى جحره ليستكن فيه آمنا من طراد الصائدين.

فوقفت بغتة، ثم سرت مسرعا نحو الباب الذي قذف «الأحدب» بنفسه فيه، لم أر شيئا هناك إلا مصباحا كهربائيا خافت الضوء في الركن الأعلى من بهو السلم، إنه بناء عال من ستة طوابق أو سبعة، وحين صعدت بصري في لمحة سريعة إلى أعلاه، لم أر إلا نوافذ وشرفات، أكثرها معتم وأقلها مضيء.

من عسى هذا «الأحدب» أن يكون؟ أينطوي جنباه على سر دفين، أم أنه لا سر في الأمر، وأن كل ما في جوفه قد برز ورما على ظهره؟ لكنه شاذ غريب بغير شك، إنه قطعة منثورة وحدها، والويل كل الويل، ثم الخير كل الخير، من هذه القطع التي تنثرها عجلة الحياة بعيدا عن مركزها وإطارها، فتظل دائرة في فلك وحدها؛ فمن هؤلاء يكون الثائرون الساخطون، ومنهم يكون العظماء المصلحون، ويكون الأنبياء والأولياء، ويكون المجرمون النوابغ في إجرامهم، ويكون الفنانون المبدعون في فنهم، فما أقرب الشبه بين هؤلاء جميعا على بعد ما بينهم من تفاوت واختلاف، كسيل الماء العرم، هو الذي يصلح الزرع، وهو الذي يفسده، على حسب ما يحيط به من ظروف.

و«الأحدب» - فيما يظهر لي - قطعة بشرية منثورة وحدها، تدور في فلك وحدها، ترى من ذا يكون وماذا يكون؟ لقد بت ليلتي أفكر فيه وأفرض في أمره الفروض، وعاودني الشعور الخفي أن أصلح ما فسد، فأقيم في هذا المسكين ما التوى، وأقوم ما مال واعوج، أو قل إن حبي لاستطلاع أمره قد غلبني، فسترت نفسي وراء هذا الشعور الخفي، وتذرعت بهذا السلاح، ومضيت عصر اليوم التالي إلى الدار التي دخلها «الأحدب» ليلة الأمس، مضيت لا ألوي على شيء، وأخذت أسرع الخطو حتى لا يصرفني التردد عن غايتي.

لم أجد عند الباب أحدا، وتلفت ها هنا وها هنا، وتحركت خطوتين هنا وخطوتين هناك، ثم دخلت وصعدت الدرج مبطئا غاية الإبطاء، شاخصا ببصري إلى أعلى؛ الأبواب كلها مغلقة، صعدت الدرج حتى نهايته، ونهايته سطح نظيف، وقفت قليلا وقلبي ينبض نبضا شديدا من الصعود ومن الخوف معا، الخوف من هذا البناء المهجور الذي لا يعمره إنس ولا جن، لكني رأيت الضوء منبعثا من نوافذه ليلة الأمس، وهممت بالنزول، لولا أني بلفتة غريزية لويت عنقي ونظرت إلى نافذة مغلقة الزجاج في ركن السطح؛ إن وجها يطل من خلف الزجاج، إنه هو «الأحدب».

لم يعد بيني وبين كشف الغطاء إلا خطوات خطوتها نحو غرفة «الأحدب»؛ وفتح لي الباب قبل أن أقرعه؛ إن روعي ليهدأ قليلا قليلا، إن الخوف لينزاح عني إزاء هذا الوجه الباسم الذي فتح لي الباب ليتقبلني مسرورا مرحبا، ليس الوجه العابس في الطريق عابسا هنا، والصدر الضيق على الجدار الذي لم يتم بناؤه رحيب واسع هنا، ولولا نتوء الورم فوق ظهره لقلت إنه إنسان آخر، لقد استدر وهو في الطريق إشفاقي، لكنه في داره استثار حبي، إنه ها هنا يمزج في حديثه الجد بالفكاهة، ويقول النكتة في إثر النكتة، ويضحك من كل قلبه، ألا سبحانك اللهم، تضع الرجلين - بل تضع جمهورا من الرجال - في إهاب واحد.

إن مشكلة «الهوية» التي تحير الفلاسفة لم تعد تحيرني؛ فالفلاسفة يصدعون رءوسهم تصديعا في محاولة الجواب عن هذا السؤال: كيف يحتفظ الشخص الواحد بهوية واحدة مع اختلاف ظروفه؟ إنه يكون صحيحا ويكون مريضا، ويكون طفلا ويكون رجلا، ويكون شبعان ويكون جائعا، ويكون غضبان ويكون راضيا، ويكون يقظان ويكون نائما، ومع هذا الاختلاف الشديد الذي يطرأ على حالاته يظل إنسانا واحدا، فما الذي فيه يخلع عليه تلك الوحدانية مع تعدد حالاته وأوضاعه؟ كلا، لم تعد تحيرني المشكلة التي تحير الفلاسفة بعد أن رأيت «الأحدب» في الطريق وفي داره، فلا وحدانية هناك، ليس الرجل رجلا واحدا، ولكنه عدة رجال، هو في كل حالة رجل غير الرجل الذي يكونه في الحالة الأخرى؛ فمحال أن يكون «الأحدب» العابس الجاد المهموم الحزين الذي رأيته وتحدثت إليه وهو جالس على الجدار الذي لم يتم بناؤه، هو نفسه «الأحدب» الضاحك المرح المرحب بي وهو في داره.

أدخلني «الأحدب»، فعبر بي ردهة لاحظت خلاءها من الأثاث تقريبا، وانتهينا إلى غرفة هي مأواه، فيها كل شيء، فيها السرير وصوان الملابس ومكتب ومكتبة ومنضدة ومقاعد ومرآة؛ أثاثها هزيل لكنه نظيف، وتنسدل على النافذة ستارة رقيقة فيها خروق ممزقة، لكنك تشعر في غرفته بالطمأنينة وراحة النفس؛ وليست ديار الناس في ذلك سواء؛ فقد أزور الدار وأحس أثناء زيارتي أني أتقلب على الشوك دون أن يكون بيني وبين صاحب الدار ما يدعو إلى النفور، ثم قد أزور الدار فينبسط صدري وتطيب نفسي، وأتمنى لو بقيت فيه اليوم كله؛ وقد قلت ذلك لصاحبي «الأحدب» فور جلوسي على مقعده المريح، الذي كان - فيما يظهر - جالسا عليه لتوه؛ لأن الحشية كانت ما تزال دافئة بحرارته.

قلت: إن النفس لتحس بالطمأنينة في غرفتك هذه، والمنظر الذي يطالعك من نافذتك رائع جذاب.

قال: إذن لا أحسب الفجوة بين نفسينا عميقة كما يبدو للوهلة الأولى؛ فقد أعجبك مأواي هنا، كما أعجبك ملاذي الهادئ الذي ألوذ به خارج المدينة من صخب الحياة، إن النفوس الإنسانية لتشعر بالتقارب والتداني في حالات هدوئها، حتى إذا ما عج بها عجيج الحياة ألفيتها متنافرة متعاركة، لا عجب أن يكون الناس جميعا سواء وهم نيام، ثم يأتي الموت - وهو نوم طويل بغير آخر - فيسوي بينهم إلى الأبد.

وخشيت أن ينتقل صاحبي بذكر الموت إلى حالة من حالاته الكئيبة السوداء، فغيرت موضوع الحديث، وجعلت موضوعه أقرب ما وقعت عليه يدي فوق المنضدة الصغيرة الوطيئة التي كانت أمام مقعدي.

قلت: ما هذه المكعبات الخشبية الملونة المصورة؟

قال (وكان ورائي مشتغلا بإخراج الفناجين والأكواب من خزانة خشبية صغيرة في ركن غرفته): تلك لعبة من لعب الأطفال اشتريتها لألهو بها، إنها مكعبات ترص فتكون صورا لا نهاية لعددها.

ودنا مني «الأحدب» وأشار بأصبعه إلى اللعبة وقد رص ما يقرب من نصفها، فإذا هي صورة حصان عليه راكبه، ولم يبق من الصورة إلا أرجل الحصان.

قلت: أحسبك كنت في سبيل إتمام الحصان بأرجله؟

قال: هذا ما حرت فيه، حاولت عبثا منذ ساعة الغداء. فلم تستقم للحصان أرجل، حتى لقد مللت فوقفت أنظر من نافذتي حين رأيتك قادما.

قلت: وما فائدة الحصان بغير أرجله؟ إن راكبه المسكين سيظل مشلول الحركة حتى تتم لحصانه الأرجل فيسير.

هنا وضع «الأحدب» قدحين كانا في يده، وضعهما على ظهر مكتبه، وجلس، إنه ساعتئذ هو نفسه «الأحدب» الذي رأيته هناك على الجدار، وهو نفسه «الأحدب» الذي رأيته في الطريق، وليس هو «الأحدب» الذي تلقاني بالبشر والترحاب؛ لقد عبس وجهه وتجهم، ثم استرخى استرخاء من فقد القدرة على الوقوف والحركة، وابتسم لكنها ابتسامة غير التي لقيني بها؛ فهي ابتسامة صاحب النفس المريضة المعبأة بالهموم؛ ألا ما أسرع التغير في سماء هذا الرجل؛ صفو في لحظة وغمام كثيف في اللحظة التي تليها.

قال: لعل ذلك بعينه هو ما أعجزني عن إقامة الحصان على قوائمه، وإذن فما أشبه جد حياتي بلعبها! كأني بك يا صديقي قد أتيتني لتستطلع شيئا من أمري؛ فهذا هو أمري قد انكشف لك في لحظة واحدة؛ ففي هذا الحصان المقعد تتلخص قصة حياتي، ولكل امرئ جواده، ومن الجياد ما يستقيم على قوائمه فيسرع الجري، ومنها ما تعوزه الأرجل فيقبع؛ وجواده كسيح، فجسمه هنا وأرجله هناك، لكن بصري يقصر دون أن يلتمس للأرجل مكانها من البدن، وليس النقص في الأجزاء ولكن النقص في المهارة التي تقيم بناءها، إن الذي يرى أحرف الهجاء أمامه ولا يستطيع أن ينشئ منها قصة أو قصيدة يكون العجز فيه ولا يكون العيب في الأحرف.

قلت: دع عنك الآن هذا الحصان ولعبته، وانظر ماذا أردت أن تضع في هذين القدحين من شراب ...

لكنني صممت أن أستطلع قصة «الأحدب» لعلي أرد هذا الحدب الذي تورم به ظهره إلى عناصره.

الفصل الثاني

حصان من الحلوى

أخذت أحفر تحت هذه النبتة الملتوية لأتعقبها إلى جذورها العميقة الدفينة في تربة الأرض، لعلي بذلك أصل الخيوط بين الأول والآخر، بين البداية والنهاية، بين البذرة والثمرة، بين الجرثومة والمرض، بين ظروف النشأة الأولى وهذا القتب فوق كتفي صديقنا الأحدب المسكين.

فربطت أواصر الصداقة بيني وبينه، أزوره كلما واتتني الظروف، ويأنس لزيارتي ولصحبتي، ولم تكن الصحبة إلا إلى ذلك الملاذ الهادئ، خارج المدينة بعد الغروب، وتركت الحديث بيني وبينه يجري مجراه الطبيعي ليخرج لي بعض المعالم التي كنت أستند إليها في متابعة بحثي بعيدا عنه: فأين كان مولده، وأين نشأ وتربى، ومن هما والداه، ومن هم الذين أحاطوا به في مراحل حياته؟ وكنت خلال ذلك كله أتلمس اللحظات التي ظننتها تكون من حياته معالمها.

فليست اللحظات في حياة الإنسان كلها سواء من حيث فعلها في توجيه الأحداث؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها، وإن النظر إلى حياة الإنسان بمجموعة أحداثها لكالنظر إلى مشهد طبيعي أو إلى صورة فنية؛ فالعين لا تبدأ النظر من حافة الإطار اليمنى ثم تسير في خط أفقي مستقيم حتى تنتهي إلى حافة الإطار اليسرى، بل إنها لتقع أولا على نقطة بارزة هنا أو هناك، كشجرة على يمين الصورة أو جبل على يسارها، أو قمر ساطع في وسطها، ثم من هذه النقطة ينساب البصر في مختلف الاتجاهات؛ فكأنما هذه النقطة البارزة ينبوع تفجرت منه بقية الأجزاء، وهكذا يكون النظر إلى حياة إنسان بمجموعة أحداثها، فعندئذ أيضا يتجه الانتباه إلى لحظات بارزات. كانت حاسمة في توجيهها، ومن تلك اللحظات ينساب البصر إلى سهول تلك الحياة ووديانها.

ولم تكن لحظة الميلاد - بالنسبة لصاحبنا الأحدب - واحدة من لحظاته الحواسم، فكأنما هي جزء من حياة غيره أكثر منها جزءا من حياته، إنه يحددها بشهادة الميلاد، مفترضا الصدق فيمن كتبها ومن أملاها؛ لأنه لا يملك في دخيلة نفسه دليلا على صدقها أو على كذبها، ولو احتكم إلى حياته الباطنية لما وجد فرقا بين أن يكون قد عاش على ظهر الأرض خمسين عاما أو خمسة آلاف عام، فكل الشواهد التي يستدل بها على مدى ما قد عاشه من سنين، شواهد خارجية ليس فيها شاهد باطني واحد؛ إن ذاكرته لا تقفل راجعة إلى ساعة ميلاده.

وإذن فالأمر كله مرهون بشهادة غيره، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تثبت دفاتر الحكومة. •••

إن ساعة الميلاد الحقيقية هي أول ما تستطيع الذاكرة أن ترتد إليه، ولقد جعلت «الأحدب» يكد الذاكرة كدا راجعا القهقرى، لعله يظفر بأولى لحظات خبرته الحية، فوقفت به عند ليلة مظلمة شديدة الظلمة، حين عاد به أبوه من القاهرة إلى بلده في الريف، وهو بلد يقع في شمالي الدلتا بالقرب من البحر، وكان المسافر إليه يركب القطار إلى أقرب محطة في البر الغربي من فرع دمياط، ثم يستقل مركبا يعبر به النيل إلى ضفته الشرقية منحرفا بعض الشيء إلى جنوب، حتى إذا ما رسا أمام القرية المطلة على النيل صعد جسرا، وفي صعود صديقنا الأحدب ذلك الجسر مع أبيه في تلك الساعة المعتمة من جوف الليل. كان الطفل - وهو عندئذ في الرابعة من عمره - يحمل ربطة فيها حصان من حلوى المولد النبوي، اشتراه له أبوه أثناء الطريق، صعد الصبي الجسر مع أبيه، حلواه في يسراه وأبوه يجذبه من يمناه، وكلاهما يتعثر في الصعود وتنغرس قدماه في الحصى والتراب، فقال له أبوه - وهما في طريق الصعود يتعثران ويلهثان - كأنما أراد بقوله أن يخفف من حدة الصمت ومن شدة المجهود: «أريد أن أراك رجلا عظيما»، ولم يكد ينطق بحرف الميم في آخر عبارته حتى سقط الصبي على وجهه، فانفلتت يده اليمنى من قبضة أبيه، وانفلتت ربطة الحلوى من يده اليسرى وتهشم ما فيها، فأنهضه أبوه والتقط له الحلوى المهشمة التي كان غلافها الورقي قد تمزق من بعض جوانبه، فتسرب شيء من التراب والحصى إلى داخل، وتسرب شيء من الحلوى إلى خارج.

قص علي «الأحدب» هذه القصة، وأردف يقول: «لست أدري ما الذي دار في رأسي عندئذ، لكنني حتى هذه الساعة لا أقرن الكثير الذي رجوته لنفسي أيام الصبا، بالقليل الذي حققته منه في الواقع، إلا وأذكر على الفور تلك الحادثة، ترى هل كان هذا هو الخاطر الذي طرأ لي عندئذ - ولو بصورة مبهمة غامضة - أعني هذه المفارقة المؤسفة بين الأمل الذي عبر عنه والدي، وهو رغبته في أن يراني رجلا عظيما، والخيبة العاجلة التي جاءت كالإجابة الهازئة من قدر ساخر، أقول: ترى هل كانت هذه المفارقة الحادة بين الرجاء المأمول والخيبة الواقعة هي البذرة الأولى التي منها انبثقت على مدى حياتي هذه الرغبة الملحة في الوصول ثم هذا الشعور القوي بأنني لم أصل؟»

قلت للأحدب: ليست هذه حالة خاصة بك أنت وحدك، برغم هذه القصة التي قصصتها، فمن خصائص الطبيعة الإنسانية كلها هذا التطلع الذي يتشوف وراء الكائن الفعلي المحصل إلى ما هو غائب مجهول مرتقب، نعم إن من خصائص الطبيعة الإنسانية كلها هذا القفز من المتحقق بالفعل إلى ما يجب أن يتحقق، هذا القفز من الواقع إلى الممكن، من المكسوب إلى المأمول؛ فهذا التطلع من الإنسان، تطلعا يجاوز به دائما حدود الواقع إلى عالم الممكن، هو الذي يدفع به من حالة النقص إلى حالة الكمال.

قال: لكني ما زلت أتساءل: لماذا كلما رأيت الفرق شاسعا بين ما رجوته لنفسي وبين ما حققته، وثبت إلى ذاكرتي عبارة أبي في تلك الليلة التي طمست بظلامها معالم الأشياء على مرتقى الجسر، مصحوبة بعثرتي التي عفرت وجهي وهشمت حلواي؟

كنت عندئذ في زيارة «الأحدب » عصر يوم من أيام الجمعة، ولما كانت نافذة غرفته مطلة تجاه الغرب، فإن أشعة الشمس قد سبقتني إلى غرفته، وفرشت له الأرض بمستطيل من ضوئها، دخلها خلال الستارة الرقيقة فكان رمادي اللون إلا عند بقع صغيرة تقابل خروق الستارة، وكان الشهر في أوائل الصيف، فلم تكن حرارة الشمس من الضعف بحيث تحتمل الجلوس في مستطيل الضوء، كما لم يكن في الغرفة إلا تلك النافذة الغربية فكان لا بد من تركها مفتوحة؛ ولذلك فقد جلسنا على كرسيين متباعدين بعض الشيء، يقع مستطيل الضوء بينها، فكان وهو يقص علي قصة الحصان المهشم، يميل على كرسيه أحيانا ويشير بذراعيه، فيحدث ظلا على مستطيل الضوء كثيرا ما كان يتخذ أشكالا غريبة، حتى لقد جعلت أنصت إليه بنصف انتباهي، وأتتبع تلك الأشكال الغريبة بالنصف الآخر؛ فالظل أحيانا على شكل بجعة تمط عنقها الطويل، وأحيانا أخرى على شكل أرنب مقع، وأحيانا ثالثة يصبح كالطائر الذي نشر جناحيه.

ولعلي قد تعمدت أن ألهو بهذا الظل وأشكاله حتى لا أربكه بتركيز انتباهي كله فيما يقول، فينطلق مر العبارة، ناضحا ذكرياته البعيدة من أعماق نفسه، ولقد اعتقدت أني بهذه القصة الصغيرة التي رواها، وقعت على مفتاح شخصيته التي أردت فتح مغاليقها والكشف عن أسرارها.

كان عند «الأحدب» جهاز صغير يصنع فيه الشاي وهو في غرفته، وهو إناء ذو قابس كهربائي، يضع فيه الماء فلا يلبث أن يغلي بحرارة الكهرباء، ولم يكد ينتهي من قصة الحصان، حتى نهض فملأ الإناء من صنبور في البهو، ووضع القابس في مقبسه من الحائط، وراح يخرج فنجاني الشاي من خزانتهما الصغيرة، ومعهما سائر الأدوات، حتى إذا ما أعد كل شيء وجلس على مقعده، نظر إلي فكأنما راعه صمتي وتصويب نظري إلى مستطيل الضوء لا أتحول عنه؛ لأنني كنت لا أزل أراقب ظل الأحدب وهو يعبر الغرفة، لأستخرج منه بخيالي كل ما استطعت من صنوف الحيوان.

ناولني فنجاني، وراح يقول استئنافا لحديثه السابق: إني لأذكر الآن موقفا آخر في طفولتي، وكنت عندئذ في الخامسة من عمري ...

قلت في هدوء: وكيف عرفت أنك كنت في الخامسة؟

قال وهو يبتسم: إنني أعتمد في تحديد مراحل عمري بالنسبة إلى الحوادث الباكرة في حياتي على المساكن التي سكناها؛ فالحادث الفلاني قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، والحادث الآخر قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، وهكذا، ثم أحدد تواريخ سكنانا في هذا المنزل أو ذاك مستعينا بشواهد معينة من تاريخ أسرتنا.

فقد كنا - وأنا في نحو الخامسة - نسكن منزلا في حي المنيرة بالقاهرة، أذكره الآن جيدا، وأذكر «خالتي أم محمد» - صاحبة المنزل وصديقة الأسرة - وهي تسكن منزلا على السطح، وأمام منزلها مسطح كبير مفتوح إلى السماء، فيه ينشر الغسيل، وفيه دكة خشبية كبيرة مشققة الألواح من لفحة الشمس، وتحتها تربض سلحفاة كبيرة، ولكم دخلت تحت هذه الدكة أمد ذراعي بين إقدام وإحجام حتى ألمس ظهر السلحفاة لمسة خفيفة ثم أسرع خارجا وأنا أقهقه قهقهة الغازي المنتصر.

وفي شقة من ذلك البناء كانت تسكن الأسرة، وقد حدث ذات يوم أن زارنا رجلان من الأهل أو من الأصدقاء لا أدري، لكن أحدهما ما تزال صورة شاربيه عالقة بذاكرتي، لا لكبر فيهما، ولكن لاهتزاز في أطرافهما غريب كلما حرك الرجل شفتيه بالكلام أو بالضحك، ودعاني أبي من الداخل لأحيي، وكان قد حفظني عن ظهر قلب ماذا أقول عند التحية وبماذا أرد التحية، وكثيرا ما كنت أخطئ فألقى اللوم إما ساعتها أو على انفراد، كما حدث يوما حين ناولني أحد أصدقائه شيئا قائلا: تفضل، فأجبته بكلمة «العفو»، وأعاد الرجل قوله «تفضل» وهو يضحك، فأعدت جوابي بكلمة «العفو»، فأمهلني أبي حتى انفرد بي وأخذ يقرعني على هذا الخلط المعيب الذي خلطت به كلمة «العفو» بكلمة «متشكر».

دعاني أبي يومئذ من داخل البيت لأحيي ذينك الرجلين، وحييتهما بما حفظت من عبارات التحية.

فقال صاحب الشارب الراقص: هل تذهب إلى المدرسة؟

قلت: نعم.

قال: اتهج اسمك.

قلت: ر ي ا ض: رياض.

قال: ما شاء الله.

فأراد أبي أن يزيد الصورة جلاء، وسألني سؤالا في الحساب، لكني لم أسرع له بالجواب، فضربني بكتاب ضخم على رأسي، فقال صاحب الشارب الراقص وهو يضحك: «أهكذا تضربه بالدنيا كلها على رأسه؟» ولم أفهم لهذه العبارة معنى ساعتئذ، لكني أذكر كيف عز على نفسي أن أضرب بالدنيا كلها على رأسي، فانفجرت باكيا، كما يحدث كثيرا للطفل أن يبكي مؤخرا؛ فقد يصاب ويجرح وهو لا يدري، حتى إذا ما نبهوه أن دماءه تسيل، أخذ في البكاء؛ ودارت الأيام، وجاء يوم كنت فيه تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وتسلمت الأطلس الجغرافي بين ما تسلمته من الكتب أول العام الدراسي، وأخذت أقلب صفحاته وأدير فيها البصر معجبا بألوانها، فإذا جاري يهمس لي: «هذه هي الدنيا كلها في هذا الكتاب بين يديك»، فعندئذ فقط فهمت الجملة التي قالها صاحب الشارب الراقص. انفجرت باكيا لتلك الجملة ولم أفهمها، فطلب مني والدي أن أكف عن البكاء، ولما عجزت عن طاعته، صفعني وأعاد لي أمره بأن أكف عن البكاء، ولست أدري الآن كيف استطعت أن أقف البكاء، لكني فعلت، وأعاد والدي سؤاله الحسابي من جديد وأراد الجواب السريع، لكني كنت في هذه المرة أعجز عن الجواب مني في المرة الأولى، فحملني بين ذراعيه حملا، وقذف بي خارج الغرفة كما يقذف اللاعب بالكرة، وقال متجها نحو صاحب الشارب الراقص في نغمة هادئة: لن يعيش لي ولد خائب، فإما أن يفلح أو يموت.

كنت والأحدب يقص علي هذه القصة الثانية أشخص له ببصري، وأتتبع انفعالاته على وجهه، والابتسامة الخفيفة لم تزل على شفتيه، لكنه كان يروي ويمثل الأحداث بيديه وذراعيه ولفتات وجهه، وفنجان الشاي في يدي، وفنجان الشاي في يده، فلا شربت ولا شرب، حتى فرغ، وضحكنا معا، وأخذنا نشرب لا أتكلم ولا يتكلم، وأبصارنا مرسلة خلال النافذة، ووجهانا مبتسمان، وكان مستطيل الضوء قد امتد حتى أخذ طرفه الداخلي يصعد على الجدار المقابل، وزحزحنا كرسيينا قليلا لنكون في الظل، فبعدت المسافة بيني وبينه، لا أدري ماذا كان في رأسه عندئذ؛ وأما أنا فقد ازددت يقينا أنني وقعت على المفتاح، فها هو ذا رجل قد شد بصره منذ الطفولة نحو الممكن لا نحو الواقع، فكلما حدث واقع وتحقق، توقع ما وراءه وهو يائس، وكلما قصرت قدرته مرة دون بلوغ الممكن - ولا بد أن تقصر؛ إذ «الممكن» ما ينفك يتراجع أفقه خطوة فخطوة إلى الوراء - تكونت على ظهره طبقة رقيقة من الهم؛ ولبثت الطبقات تتراكم على مر السنين، فإذا هذا القتب الذي يحمله فوق ظهره، مشحونا بهموم حياته كلها، لا يخفف منه ما يصيبه من نجاح؛ لأن عينيه لا تنظران أبدا إلى ما قد تحقق، إنما تمتدان إلى ما لم يتحقق والذي كان من الممكن أن يكون. •••

كانت الشمس قد دنت من الغروب، وزيارتي قد طالت عند الأحدب أكثر مما قد عودته وتعودت، لكني وجدتها فرصة سانحة أن يستطرد في ذكريات طفولته، فتذرعت بذريعة الشمس الغاربة ورغبتي في أن أرى الشفق من سطحه ذاك الذي تقع فيه غرفته، فسألته هلا أذن لي في أن أقف معه قليلا خارج الغرفة حتى نشهد غياب الشمس وراء الأفق؟ وخرجنا معه من غرفته، فحانت مني التفاتة إلى جلدة كتاب ملقاة كما اتفق، كتب عليها «رياض عطا» فعرفت بذلك اسمه كاملا؛ إذ لم يتبرع هو قبل ذاك أن يذكر لي اسمه ولا طلب مني أن يعرف اسمي، كأنما نحن فكرتان مجردتان التقتا في ذهن إنسان، أو كأننا شبحان من الأشباح التي تذكر بنوعها لا بأفرادها التي تعينها الأسماء، وحتى تلك الساعة لم أكن قد عرفت ماذا يعمل هذا الأحدب، ومم يكسب قوته وأين يقضي بياض نهاره.

وما كدنا نقف على السطح المكشوف متكئين على حافته التي تعلو إلى نصف إنسان واقف، حتى أثرت حديث طفولته من جديد، حافزا له أن ينطلق في ذكرياته، بأن أخذت أمدح فيه هذه الذاكرة التي ما زالت تعي حوادث كهذه قد طال عليها الأمد، مع أنني مهما كددت الذاكرة إلى ذلك العهد البعيد فما تعود إلي بشيء ذي بال.

فأحس بشيء من الزهو بنفسه، واستطرد يقول: إن من الأحداث التي وقعت لي وأنا في نحو الخامسة - وأستطيع تحديد هذه السن بتاريخ سكنانا عند مدخل درب الجماميز من ناحية قسم بوليس السيدة زينب - حادث سرقة، اشتركت فيه معي ابنة عمي - وكانت في مثل سني - فقد كان أبي وعمي وأسرتاهما يسكنان شقة واحدة، ولبثا حريصين على هذه المشاركة في السكن الواحد أعواما طويلة، وساعدتهما ظروف الحياة على أن ينتقلا معا كلما انتقلا، وأن يستقرا في بلد واحد كلما استقرا.

كان على ناصية الشارع والميدان بقال يرص أكياس الحلوى على نضد رخامي سميك يمتد ما امتدت فتحة الدكان إلا منفذا صغيرا على يمين الداخل، ولو وقف الصغير ذو الأعوام الخمسة ملصقا جسده بالنضد الرخامي من جانبه الخارجي في الطريق، لما رآه صاحب الدكان من داخل، ثم لو رفع مثل هذا الصبي ذراعه، ومد أصابعه وشب على أطراف قدميه، استطاع أن يمسك كيسا من أكياس الحلوى المرصوصة عند حافة النضد، فيجذبه ولا يراه صاحب الدكان، خصوصا إذا أحسن الصغير اختيار اللحظة الملائمة.

ولست أدري كم مرة وقع منا هذا الاختلاس، لكن المرة الواحدة التي أذكرها ذكرا ناصعا، قد كانت ذات صباح - ولا بد أن قد كان الوقت صيفا؛ لأن خلفية الصورة التي أذكرها الآن مليئة برجال الشرطة وقد لبسوا بدلاتهم البيضاء، وقوفا أو سائرين في حركته بطيئة عند مدخل قسم البوليس القريب من ذلك الدكان، فما كدنا في تلك المرة نجذب الكيسين بأصابعنا كما كنا نفعل، حتى نزلت عليها يدان كل يد منهما تمسك بواحد منا، وقبضتا على أعناقنا قبضا وأخذتا ترجاننا رجا، ونصعد بوجهينا إلى أعلى لنرى ما الخبر وكيف حم هذا القضاء، فإذا عينان تلفظان الشرر وشاربان يهتزان على شفة راجفة من شدة الغضب، وفي أحرف متقطعة من شدة الانفعال، قال الرجل - وهو صاحب الدكان - إنه لبث أياما طويلة يعجب بأي أيد خفية تختفي أكياس حلواه، حتى قبض علينا متلبسين، فأخذنا نستعطف الرجل ونعده بالثمن، زاعمين له أن لم يسبق تلك المرة مرات ماضية، وأننا كنا نأخذ ما نأخذه عندئذ شراء لا سرقة، فأطلق سراحنا متوعدا أن يبلغ الأمر إلى والدينا، وقد كان بيتنا مجاورا لدكانه، فكان يرى الوالدين وهما يخرجان من البيت ويدخلان فيه.

إذن فقد قضي الأمر ونزلت الصاعقة! فما الفرق بين أن يعلم أبي بالأمر وبين الموت؟ تسللت إلى البيت خفية كأني الظل، وزحفت تحت السرير حيث قبعت هناك من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل. كانت الشقة التي نسكنها مظلمة، وكانت غرفة السرير أشد ظلاما، ثم كان ما تحت السرير كأنه الليل الدامس، وحسبت أني قد أصبحت من الخطر في مأمن، وإذا كنت أذكر جيدا، فإني أذكر أنني في مخبئي ذاك لم أشعر بخوف، كأنما الطامة قد بلغت بهذا الملاذ ختامها، لكن لم يمض طويل وقت حتى سمعت أصوات المتحدثين في غرف الدار وفي بهوها، من أب وأم، إلى عم وامرأة عم، يسألون: أين رياض؟ ثم يتوجهون بالسؤال إلى ابنة عمي مرة بعد مرة بعد مرة، كأنما المرة الواحدة أو المرتان لا تكفيهم سؤالا: لقد كان رياض معك في الصباح فأين ذهب؟ فتجيب ابنة عمي قائلة في كل مرة يوجهون إليها السؤال: تركته أمام الباب في الشارع، ولا أدري بعد ذلك شيئا.

إنني لا أزال أذكر حتى هذه الساعة، أذكر كيف أخذ الفزع يزداد بهم شيئا فشيئا، فتارة تسكت الأصوات كلها وتخلو الدار من ساكنيها جميعا؛ لأنهم خرجوا يبحثون عني في مظاني، كل يذهب في طريق، وتارة تعود الدار فتعج بأصواتهم يتساءلون في فزع جازعين، وجاء الليل واشتدت عتمته واشتد معها خوفهم، حتى شاء الله لذراع أن تمتد تحت السرير لتجر قفصا صغيرا مخزونا هناك، وراحت الذراع الممدودة تتحسس حتى أحست حركة خفيفة، هي حركة جسمي يزحزح نفسه قليلا إلى ناحية الجدار، فرفعت الذراع ملاءة السرير المدلاة، وإذا بالشارد الضال مختبئ هناك في كهف! فصرخت صاحبة الذراع - ولا أذكر من هي - صرخة امتزجت فيها الفرحة بالدهشة بالترحيب بالوعيد بكل العواطف الإنسانية حين تمتزج في خليط واحد، وأخرجت من مكمني جرا إلى البهو، يسألونني ولا أجيب، وأخيرا جاء أبي من دورة بحثه عني ، فإذا هو يلقاني فيدهش فيسأل، ولا جواب إلى هذه الساعة.

وضحك الأحدب ضحكة صافية من كل شوائب السخرية التي كثيرا ما يمزج بها ضحكاته، وقال: أحسب أن صاحب الدكان لم يقل شيئا لوالدينا، وأن ابنة العم كتمت أمرها وأمري، فلم يزد أهلي عندئذ على أن أضافوا هذا «الفصل» إلى فصول أخرى كانوا يحصونها علي ولم أكن أدري من أمرها شيئا، مما كانوا يتخذونه دليلا على زعم لهم عني ثبت عندهم ورسخ، وهو أني «عبيط»، وها هو ذا شاهد على «عبطي» جديد، فكان مما يتندرون به دائما أني وأنا صغير - الظاهر أن سن الخامسة عندهم كانت سنا كبيرة - كنت آخذ منهم خمسة القروش أو عشرة القروش، لأشتري لهم شيئا من الطريق، فأغيب عنهم قليلا ثم أعود لأقول: لقد أكل الحمار قطعة النقود، فيذهب منهم ذاهب ليجد قطعة النقود موضوعة في فجوة كانت بين أحجار الحائط عند مدخل البيت.

فرغ رياض عطا من ذكرياته، وهو منبسط النفس، منشرح الصدر، معتدل القامة، حتى كدت لا أرى على ظهره قتبا، وكأنما النشوة التي شاعت في أساريره قد قللت من عمره فجأة عشرة أعوام كاملة، وكانت الشمس قد غابت وبقايا الشفق القرمزي منتثرة في الأفق، حين حييته وانصرفت إلى مدخل الدرج، ونزلت أتحسس الطريق بقدمي درجة درجة حتى كنت في الطريق أسير الهوينا من عمق انشغالي بالأحدب وقصته.

أي مفتاح تريد لشخصيته أجلى وأوضح من هذا الذي ذكره الآن؟ إن اختفاءه في الظلام اتقاء لشر مرتقب، ثم إرهاف الحس ليتتبع مجرى الحوادث من حوله دون أن يغادر مخبأه، فيهما محور حياته كلها؛ انطواء من ناحية، وتسلل بالسمع والبصر في الخفاء إلى ما يدور في العالم من وقائع وأحداث من ناحية أخرى، إنه كمن يريد أن ينظر إلى العالم من ثقب الباب، يريد أن يرى ولا يرى، إنه ليخيل إلي أن شخصيته نسيج من ثلاثة خيوط، يأس أكثر من الرجاء، وانطواء أكثر من الظهور، ورغبة في إقامة البرهان على قدراته ليمحو به تهمة «العبط» والتي اتهموه بها وهو صغير؛ أما اليأس فقد كانت بداية خيطه حادثة الحصان المهشم، وهي الحادثة التي تلاحق فيها الأمل والخيبة تلاحقا مباشرا؛ وأما الانطواء فقد كانت بداية خيطه حادثة كيس الحلوى حين أحس الطمأنينة في مخبئه تحت السرير؛ وأما تهمة «العبط» فقد بدأت قبل أن تعي ذاكرته أولى الحوادث التي كانت تسوغها.

وبالإضافة إلى هذه الأضواء التي بدأت تكشف لي عن سره الدفين، فكأنما انفتحت لي طاقة في السماء ليلة القدر حين نظر إلي بعين فيها النفاذ وفيها طيبة القلب، وقال مبتسما: كأني بك تريد عني مزيدا من علم! ونهض بحركة سريعة واستخرج لي من خزانة ملابسه كراسة ممزقة وقال: هاك مذكرات كنت كتبتها من سنين وهممت بتمزيقها، ثم عدت فأبقيت على ما بقي منها، فلعلها تشفي عنك غليلا.

الفصل الثالث

أطلال دوارس

أخذت كراسة المذكرات في لهفة شديدة؛ لأنني اعتقدت أني واقع فيها على كنز ثمين؛ ففي صفحاتها سأشاهد الأحدب وجها لوجه، فيعفيني مشقة البحث والتنقيب، ولكني وجدتها ممزقة منقوصة الصفحات مطموسة الفقرات، مما أكد لي أن كاتبها ربما أحس بعبث الجهد في الكتابة عن نفسه، فكتب ما كتبه ثم هم بتمزيقه، كما يفعل كثير من الأدباء والشعراء حين يقرنون حيواتهم الفانية بالأبدية فيرونها أقل شأنا من أن تشغل الوقت بالكتابة عنها.

ومهما تكن الحال فقد أسرعت العودة إلى منزلي في تلك الليلة، نافد الصبر مشوقا إلى استطلاع المنثورات التي بقيت مما كتبه الأحدب، ولم أنم حتى أتيت عليها تمحيصا وضما لما يمكن ضمه في أجزائها، وها أنا ذا أثبت ما ظفرت به من فقرات مرتبة بحسب ترقيم الصفحات:

ليست لحظات الزمن في حياة الإنسان سواسية كلها من حيث قوتها في توجيه الأحداث، وأثرها في تكوين الشخصية وتشكيلها؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها، ولا عجب أن تجيء حيوات الأفراد متفاوتة الوزن والقيمة، متباينة الخصوبة والثمر؛ فمنها ما تتابع فيه اللحظات على وتيرة واحدة، حتى لكأنها في نهاية الأمر لحظة واحدة مكررة معادة، فضلا عما تتصف به هذه اللحظة الواحدة من حواء؛ ولذلك فهي حياة تمضي وكأنها لم تكن شيئا، ولكن منها كذلك حياة تجيء لحظاتها ثقالا بأحمالها، فتمضي تاركة وراءها أثرا يبقى على وجه الدهر أمدا طويلا، وبأمثال هذه اللحظات الحبالى تصنع الحضارات وتبنى.

إن النظر إلى حياة بمجموعة أحداثها، لكالنظر إلى صورة فنية لا يسير عليها البصر في خط مستقيم بادئا من حافة الإطار هنا إلى حافة الإطار هناك، بل إنه ليقع أول ما يقع على نقطة مركزية فيها، كشجرة فارعة على يمينها، أو قمة شامخة على يسارها، أو بقعة لونية في أي موضع منها تلفت النظر إليها لتكون له نقطة ابتداء، ثم ينساب البصر في مختلف الاتجاهات، عائدا آنا بعد آن إلى نقطة البدء، فكأنما هذه النقطة المركزية ينبوع تفجرت منه سائر النقاط، وكذلك قل عند النظر إلى حياة فرد من الأفراد بمجموعة أحداثها، فها هناك كذلك يتجه الانتباه إلى لحظات أمهات كانت حاسمة في توجيه صاحب تلك الحياة.

فما هي تلك اللحظات الأمهات في حياتي؟

ليس منها ساعة الميلاد؛ لأن تلك اللحظة جزء من حياة سواي أكثر منها جزءا من حياتي؛ فقد فرضت علي ولم أردها، ولم يكن لي حيلة في إلغائها أو في إرجائها أو في تغيرها، إنني أحددها بشهادة الميلاد، مفترضا صدق أولئك الذين أملوها والذين كتبوها؛ لأنني لا أملك في دخيلة نفسي شاهدا على صدقها أو على كذبها؛ إذ لو احتكمت إلى حياتي من باطن لما وجدت فرقا بين أن أكون قد عشت على ظهر الدنيا خمسين عاما أو خمسة آلاف عام؛ فكل الدلائل التي يستدل بها على مدى ما عشته من سنين، دلائل خارجية عني، وليس فيها شاهد باطني واحد؛ لأنني إذا ركنت في الشهادة على ما تسجله الذاكرة، ألفيت الذاكرة لا تقفل راجعة إلى ساعة الميلاد، وقصاراها أن ترتد إلى السنوات الأولى بعد الميلاد، ثم يكتنف الضباب كل شيء فيطمسه، وإذن فالأمر كله - بالنسبة إلى ساعة ميلادي - مرهون بشهادة غيري، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تسجل دفاتر الحكومة، أليس عجيبا بعد هذا كله أن يتمنى إنسان لو استطاع أن يمد له في الأجل مائة أو مائتين أو ألفا من السنين؟ إنه لا يحمل في جوفه دليلا على أنه لم يعش هذا الأمد الذي يتمناه لنفسه، لو كان متوحدا معزولا فلم يجد أحدا من حوله يروي له نبأ مولده ونشأته الأولى، لما كان في وسعه أن يعلم متى ولد وكم عاش.

لا، ليست لحظة ميلادي من اللحظات الأمهات التي أعنيها؛ لأنني لا أعلم عنها شيئا من باطن نفسي، وكل علمي بها آت من سواي؛ فهي إذن أقرب إلى أن تكون جزءا من حياتي؛ ففي أول صفحة مقروءة، بعد عدة صفحات ممحوة لا تبين، قرأت العبارة الآتية:

من بين ما يروونه لي أني ولدت في منزل من قرية، زرته فوجدته بيتا نصفه الأسفل من حجر ونصفه الأعلى من قش وطين، لكنهم إذ يحكون لي أني في هذه الغرفة التحتانية المعتمة ولدت، وفي تلك الغرفة الفوقانية المضيئة ختنت، أحس كما لو كانوا يحكون لي تاريخ طفل لا شأن لي به الآن؛ فليس في جسدي اليوم خلية واحدة من خلاياه التي ولد بها، ولم تكن في رأسه عند ولادته فكرة واحدة مما هو في رأسي اليوم.

إنه لوهم غريب هذا الوهم الذي يوهم الإنسان باتصال شخصه من لحظة الميلاد إلى لحظته الراهنة، نعم إنها وسيلة نافعة لغيري من الناس أن يعدوني فردا واحدا متصل الحياة، بدأ في اللحظة الفلانية ولبث ينتقل هنا وهناك حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن؛ أقول: إنها وسيلة نافعة للناس لكي يسهل عليهم عد الأفراد عند الإحصاء، ولكن ما لي أنا وما ينفع الناس عند العد والحساب؟ المرجع عندي هو خبرتي كما أحياها واعيا بها، وليس ذلك الطفل الذي يروون لي عن زمان مولده ومكانه جزءا من تلك الخبرة الحية الواعية ...

ثم استقامت معي صفحات الكراسة، فقرأت فيها ما يلي:

العجيب أني حينما أعود بالذاكرة إلى سني الطفولة الأولى، فسرعان ما اصطدم بشخصية أبي تملأ مسرح الحوادث، ولكن مهما حاولت فلا أعثر على صورة أمي عندئذ، فأين كانت؟ هل كانت من الخفاء والانطواء بحيث تنمحي من صفحة الذاكرة فلا يسمع لها صوت ولا يظهر لها أثر؟

والحق أن اختلاف الخصال كان بعيدا بين أبي وأمي؛ فهو منبسط لا يكاد يخفي من نفسه شيئا، وهي منطوية لا تكاد تظهر من نفسها شيئا، هو لا يخشى الناس ولا يفر منهم، وهي تخشاهم وتفر، هو حريص على إثبات وجوده، وهي أحرص على إنكار وجودها، هو لا يضحي بنفسه إلا قليلا، وهي تضحي بنفسها بحيث لا تبقي لنفسها إلا قليلا، يغلب عليه المرح الصاخب إلا في ساعات قليلة تراه قد سكن وكأنما هو غارق في فكر عميق، ويغلب عليها الهدوء الصامت في غير جهامة وعبوس، إلا في ساعات قليلة تراها قد أخذت تصبح زاعقة في هذا أو في هذه، كأنما تنفس عن طاقة مكبوتة، كلاهما يتعبد ويؤدي الشعائر كلها، لكني طالما أحسست أن تعبده موجات على السطح، وأما تعبدها فخفقات من القلب، يثور على الناس فتهدئه ملتمسة لهم الأعذار، حتى أطلق عليها أبي اسم «الهلباوي» مشيرا بهذا إلى نهوضها للدفاع دائما؛ وأما هي فإذا ثارت على أحد من الناس فإنه ينفخ لها في النار لتزداد اشتعالا ... نعم لقد كان اختلاف الخصال فيهما بعيد المدى، ولكن هل بلغ ما بينهما من حدة التباين أن حفظت ذاكرتي كثيرا عن أبي وأوشكت ألا تحفظ شيئا عن أمي؟ إنه مهما تكن حقيقة الأمر، فيقيني هو أني عن أبي أخذت الذكاء وعن أمي أخذت الخلق، عنه أخذت النفس القلقة الطامحة في عجز، وعنها أخذت الرغبة في الخفي عن قناعة ورضى، ومن مزج النقيضين وقع الصراع. ... التشاؤم والانطواء صفتان في حياتي بارزتان، فمن شأن المتشائم اعتقاده بأن نتائج الأشياء وأواخر الأحداث عبث كلها في عبث، اعتقاده بأن الحياة عملية معقدة من جمع وطرح وضرب وقسمة، فيها أعداد صحيحة وفيها كسور، وفيها ربح وفيها خسارة ، لكن الناتج النهائي صفر دائما؛ لأن الناتج النهائي عدم محتوم، إنه سيجيء اليوم الذي تبرد فيه الشمس، وعندئذ تتعادل حرارة الكون شمسا وأرضا، وعندئذ تكف الأرض عن دورانها ويسكن كل شيء في مكانه، فلا نماء ولا دثور، ولا حياة ولا موت، ولا ليل ولا نهار، ولا صيف ولا شتاء، ولا ريح ولا مطر؛ فأين عندئذ يكون فرد من الناس بكل ما قد بذل من جهود وما قد حقق من نجاح؟

وهكذا تراني أنظر إلى الأشياء وإلى الأحياء وإلى المواقف وإلى الحوادث، ولكنها نظرة لا تمنع عندي جهاد الحياة ولا تحول دون السعي نحو التقدم، بنفسي وبغيري عن الناس، برغم كوني أحس في أعماق نفسي أنه جهاد وأنه سعى تمليهما ضرورة الحياة ما دامت الحياة قائمة؛ وأما الحياة نفسها فهي - كما قال المعري - عبث، لكني لا أعجب - كما يعجب المعري - من راغب في ازدياد من ذلك العبث؛ لأني أعلم أن «الرغبات» شأنها شأن العقل في كونها من صميم الحياة ولبها؛ فليس من حق العقل أن تكون له وحده الكلمة فيما يعمل وما لا يعمل؛ لأن «للرغبة» اللاعقلية مجالها، وها هو ذا المعري قد أملى عليه عقله أن الحياة عبث كلها، وأنه إنما يعجب من راغب في ازدياد من ذلك العبث، فهل كف المعري نفسه عن «الرغبة» في الزيادة؟

على أن نظرتي المتشائمة هذه كثيرا ما تقتضيني أن أسارع إلى استحضار الضد الأسود أمام ذهني كلما مر بخاطري ضده الأبيض، وأمور أخرى؛ أنظر إلى المرأة الجميلة فأقول: ولكن جوفها يحمل العفن، وأنظر إلى الطير الصاعد فأقول: إنه لا بد بعد صعوده هابط؛ واختصارا فإني أنظر إلى كل إناء مليء إلى نصفه فأقول: لكنه كذلك فارغ في نصفه الآخر؛ وهي بغير شك نظرة معوقة لصاحبها في ركب الحياة، لكنها هي نظرتي.

وأما انطوائي فهيهات أن يرى منه الرائي بمقدار ما أحسه في باطني؛ لأن فيما يراه مني الرائي تكلفا وتصنعا قد يخفيان إلا على الخبير بطبائع الناس، إنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم أحسست - وأنا أغلق الباب من دوني - بنشوة العائد إلى مكمنه بعد أن تعرض لأهوال الغابة، ولست أعرف كيف يحس الأرنب المطارد حين يلوذ بجحره، ولكنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم، ارتسمت في ذهني صورة لأرنب راجف، عادت إليه الطمأنينة بعد أن لاذ بمأواه، إنني لأخاف الخروج من مكمني كما يخاف العليل برئتيه أن يعرض نفسه للفحة برد.

وقد أتشجع فأواجه الناس، لكنني وحدي أعلم الناس بما يرتجف من نفسي عندئذ؛ فمثل هذه الشجاعة الظاهرة كثيرا ما تكون خجلا معكوسا، قل إنه ضعف، وقل إنه مرض، لكن هو الواقع على حقيقته، ومرة أخرى أقول: إنها طبيعة معوقة لصاحبها عن السير السريع في ركب الحياة، لكنها هي طبيعتي.

ماذا تظنني أسرح إليه حين أسترسل في أحلام يقظتي، لا أقول مرة في الشهر، ولا مرة في الأسبوع، بل أقول مرة أو عدة مرات كل يوم؟ إنني في أحلام يقظتي أسرح باحثا عن مكان ملائم ألوذ به لأعيش هناك في عزلة الرهبان: هل أختبئ في غرفة من مكان مجهول على شاطئ البحر - لأني أضيق بالحر ضيقا شديدا؟ أو هل يكون مخبئي في موضع من الصحراء؟ ولكن أين؟ أيكون في دير من أديرة الرهبان النصارى، وهل يجوز يا ترى للمسلم أن يعيش مع رهبان المسيحية في أديرتهم دون أن يشاب إسلامه بشائبة؟ ... صور من هذا القبيل تتلاحق، وأظل في كل صورة منها أعيش مع الخيال برهة لأحس حسناتها وعيوبها قبل أن أنتقل إلى الصورة التي تليها، لكنها أحلام يقظة لا ألبث بعدها أن أمارس عملي كأنني مقبل على الحياة مع المقبلين.

إنه لا تناقض بين أن يميل المرء بوجدانه إلى شيء، وأن يخضعه بعد ذلك لتحليل العقل فلا يجده على ما كان الوجدان قد صوره، وعلى ذلك فلا تناقض بين أن أختار لنفسي - بالوجدان - أن أعيش منطويا على ذاتي، غاضا نظري عن الدنيا التي حولي، وبين أن أرى بعقلي بعدئذ أن دفعة الحياة تقتضي أن نخرج من ذواتنا إلى حيث الأشياء المادية المحسوسة، فكأنما أريد الحالة الوجدانية الأولى لنفسي، وأريد الحياة العقلية الثانية للناس.

ها أنا ذا أشهد الله والناس أني ما قرأت مرة عن المتصوفة في صدورهم عن عرض الحياة الدنيا، وفي ازدرائهم لشهوات الجسد وإشباعها، إلا ووجدت لهم في أغوار نفسي صدى عميقا، كأن هذه النفس قد أعدت وهيئت لمثل هذه الحياة العزوف، ومع ذلك فإني أتمنى أي شيء لقومي إلا أن يسود فيهم العزوف عن تيار الحياة الحسية المادية العملية العقلية العلمية، والتي تعنى كل العناية بتطبيقات العلوم على الزراعة والصناعة، وباصطناع القوة المادية في شتى مظاهرها؛ وهكذا ترى وجداني على هوى وعقلي على هوى آخر، ولا تناقض بينهما ما داما يجيئان على تعاقب. ••• ... إنني حتى الخامسة من عمري لم أكن - فيما تعيه الذاكرة - قد شعرت بأني عضو من أسرة، تربطني بأفرادها علاقات تختلف باختلاف مواقفي من أفرادها، فكلما تذكرت نفسي في الخامسة أو قبلها، تذكرت كيانا مستقلا بذاته، يرتبط بغيره من الأفراد ارتباطا خارجيا لا ارتباطا باطنيا.

أما حين أنتقل بالذاكرة إلى عامي السادس وعامي السابع، فإنني أتذكر على الفور أنني جزء من جماعة؛ فقد كان أبي قبل ذلك هو الشخص «الآخر» الوحيد الذي يكون مع وجودي محورا أدور حوله أو أسير بإزائه عن خوف أو عن رضا؛ أما الآن - في العام السادس وما بعده - فأمي قد أخذت تظهر بوضوح، وكذلك أخي، وكذلك عمي وامرأة عمي وأبناء عمي، وكذلك نفر من ذوي القربى كانوا يعاودون زيارة بيتنا زيارة تقصر حينا وتدوم عدة أيام حينا آخر.

وإنما يعين الذاكرة على انتقالها هذا بين المرحلتين المتعاقبتين: مرحلة الكائن المفرد، ومرحلة الكائن الاجتماعي، انتقالنا المادي عندئذ من بيت إلى بيت؛ فقد انتقلت الأسرة - والأسرة إلى ذلك الحين معناها أبي وعمي ومن يتبعهما - انتقلت إلى مسكن آخر في حارة السناجرة، أو ما كان يسمى بهذا الاسم حينئذ بالقرب من مسجد السيدة زينب؛ لأن القاهرة قد تبدلت في يومها عن أمسها، فاتسعت شوارع لتبتلع ما كان يصب من فيها الحواري؛ انتقلت الأسرة إلى مسكن آخر، وفي هذا المسكن الجديد تحددت الروابط بيني وبين أبي - وقد كان لها بدايات سابقة - وبيني وبين أمي، وبيني وبين أخي بصفة خاصة؛ فلأول مرة أشعر بوجود أمي معي، تحميني دون أن تقتضيني مقابل هذه الحماية خوفا، فلم أكن أبدا لأخشى بأسها مهما يكن ما أقترفه جسيما، وذلك برغم صرامتها في معاملتي ضربا و«قرصا» وشتما وزجرا، لكن هذا كله منها كان كالموج الذي يطمئن السابح على حياته بدفعه إلى شاطئ الأمان ولا يهدده بالغرق، ولقد لبث هذا هو الفارق الواضح بين علاقتي بأمي وعلاقتي بأبي؛ كلاهما يحمي، لكنه - دونها - يتوقع مقابلا لحمايته: فزعا منه وخشية لبأسه مما كان يسميه «أدبا».

وكذلك تحددت عندئذ علاقتي بأخي على نحو لم يتغير قط مع تقدم السنين، فكأنما نحن منذ تلك السن الباكرة قد تعاقدنا تعاقدا صامتا غير منطوق ولا مكتوب، أن يكون كل منا حليفا للآخر فيما عسى أن تفاجئنا به الأيام من هجمات المهاجمين؛ والمهاجم الخارجي قد يتغير نوعه، لكن موقفنا في التحالف ثابت؛ فكل منا يطلع أولا فأولا على ما يقترفه الآخر من زلات العصيان، لكن أحدا منا لا يشي بالآخر عند الوالدين أو عند غيرهما ممن يعنيه الأمر، فإذا سئل أي منا عن خطأ وقع: من فعل هذا؟ أجاب: لا أعرف، وتكون النتيجة دائما أن يضرب كلانا؛ فقد كان أخي مغرما بكشط قطع الأثاث بالمبراة، لا يردعه عن فعل ذلك توعد ولا وعيد، لكنه كلما كشط وسئلت: من؟ أجبت: لا أعرف. وكذلك حدث مرة أن اشتروا له معطفا جديدا ولم يشتروا لي نظيره لجدة معطفي، فقصصت معطفي بالمقص شرائط شرائط، حتى أرغمهم على شراء معطف آخر، وسئل وسئلت: من؟ وكان الجواب من كلينا: لا أعرف. فنال العقاب منا على السواء، على الرغم من أنهم يعلمون أتم العلم أنه هو كاشط الأثاث، وأنني أنا الذي قص المعطف.

هكذا تآزرنا على الخير وعلى الشر منذ تلك السن البعيدة، كما يتآزر المعرضون لخطر مشترك، وتلازمنا قياما وقعودا ومشيا وجريا وخروجا ورجوعا ولعبا وجدا، حتى تلازم اسمانا على الأفواه، فلا ينطق أحد باسم أحد غير مقرون باسم الآخر، فيقال «رياض وعماد»، لا ينفصل شق فيه عن شق إلا إذا نودي أحدنا بحرف النداء.

ولعل حارة السناجرة التي سكناها عندئذ أن تكون الحارة الوحيدة في حياتنا التي نزلنا بها لنلعب مع أطفال الجيران، وحتى عندئذ فقليلا ما فعلنا. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أن أفراد الأسرة جميعا قد ذهبوا لبعض شأنهم ذات عصر، وتركوا معنا مفتاح البيت، على أن نلعب في الحارة مع الأولاد إلى أن يعودوا، ولست أدري أي فكرة مجنونة طافت برأسينا عندئذ، أن نقيس مقدار شجاعتنا بأن نعري جسدينا ونسير هكذا في مواجهة الأولاد لنرى ماذا في وسعهم أن يصنعوا، لكننا وجدنا من سخريتهم ما لم نحتمله، فصممنا أن نسارع إلى العودة إلى دارنا، ونبحث عن المفتاح فإذا المفتاح مفقود، فوقعنا بين نارين: حملة السخرية التي أخذت تشتد كلما ازددنا أمامها ضعفا، والقلق الشديد المهموم المغموم على هذا المفتاح الضائع، وربما كان ذلك من أول الدروس التي لقنتنا إياها الحياة الاجتماعية فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الفرد بالمجتمع، فإما أن تكون متجانسا مع الآخرين إذا أعوزتك قوة المقاومة، وإما أن تتصف بالجرأة المتبوعة بصفاقة الوجه إذا أردت أن تتفرد وحدك بسلوك خاص؛ أما أن تتحدى المجتمع بالعصيان الذي يأبى التجانس دون أن تكون مزودا بما يلزم هذا من سلاح المقاومة، فذلك إنما يؤدي بك حتما إلى اختلال في اتزان عناصر النفس، ومن ثم إلى صراع داخلي فانطواء، وما هي إلا أن عادت طلائع الأسرة الغائبة لتصدم بهذا الموقف الغريب، وراحت عيونهم تلفظ أوار الغيظ الكظيم، تمهيدا لما هو لاحق بنا حتما إذا ما انفتح الباب ودخلنا، وجيء بنجار، وكسر الباب، ودخلنا، وكان ما كان من عصي تهوي على جسدينا العاريين.

وفي تلك الفترة من عمري دخلت المدرسة الأولية، وكان اسمها مدرسة السلطان مصطفى، عند مدخل حارة الكاشف بجوار المدرسة السنية للبنات، وهي دار أثرية قديمة، ولا أذكر منها شيئا إلا سلالمها التي كانت تبدأ من الباب الخارجي مباشرة؛ فليس للمدرسة فناء. وكان التلاميذ الصغار يتجمعون في حارة الكاشف، المحظوظ منهم يأكل البليلة، وغير المحظوظ تأخذه العزة فيبعد، أو لا تأخذه فيقترب سائلا. وكانت السلالم عالية الدرجات على من كان في مثل عمرنا، وكذلك أذكر شعاعا من الشمس ساعة العصر ينفذ من جهة الغرب خلال النافذة ذات الزجاج الملون، كنت أرتقب سقوط هذا الشعاع على درجي كل عصر فارغ الصبر، ولا أدري هل كان ذلك بسبب الألوان الجميلة التي كان يلقيها ذلك الشعاع أمامي، أو كان ذلك علامة على دنو ساعة الانصراف.

وعلى أي حال فقد كان ارتفاعي في درجة الوعي عندئذ بما يشبه القفز والطيران؛ ففي عام واحد أو عامين، انتقلت انتقالا كالمفاجئ من طفل لا يعي إلى صبي تفتحت حواسه؛ ولا أدل على ذلك من متابعتي لما كان يقوله ابن عم لي وابن عمة يكبراني بخمسة أعوام، وكان عندئذ تلميذين في مدرسة محمد علي الابتدائية، فكانا يفخران أمامي بما يعلمانه مما لست أعلم: كلمات إنجليزية وعبارات، فكنت أسارع إلى حفظها عنهما لأسايرهما فيما يعلمان.

لكن الذي لم أستطع قط أن أسايرهما فيه، هو ما كانا يسميانه «مطارحة» بالشعر، فيقول أحدهما بيتا من الشعر، ليرد عليه الآخر ببيت يبدأ بالحرف الذي انتهى به البيت السابق، فمن أين لهما بهذا الكلام؟ أين يجدانه وكيف يحفظانه؟ وقد مضيت الآن منذ ذلك العهد عشرون عاما، وما زلت أذكر بيتا قاله أحدهما في المطارحة وأعجبني لفظه فحفظته عنه لساعته، فرسخ في الذاكرة - وذاكرتي يغلب عليها الضعف - لسبب لا أدريه، وهو:

نونان نونان لم تكتبهما قلم

وفي كل نون من النونين عينان

حفظته ولم أعلم ماذا عساه يعني، بل لا أظن أن قائله كان يعلم.

كذلك تحددت في تلك الفترة من العمر علاقتي بالجنس الآخر؛ بمعنى أنني أدركت إدراكا واضحا ماذا يكون بين الجنسين في تستر وخفاء؛ فلست أنسى ذات مساء والبيت يعج بزواره، كيف اتفقت مع طفلة من الأسرة الزائرة أن نلعب زوجا وزوجة، وانثنينا إلى غرفة بعيدة عن الأعين، وأغلقنا من دوننا بابها، ولم أكن أعلم الطفلة من قواعد اللعبة أكثر مما علمتني، ولم تكن تعلمني أكثر مما علمتها؛ فالطفل والطفلة كلاهما - وهما في السابعة أو نحوها - كان يعلمان ما يكفي. كما حدث في هذه السن نفسها أن سافرت مع أهلي إلى القرية لنقضي إجازتنا بها، وكنت في الضحى ذات يوم ألعب على سطح الدار مع طفلة ريفية من الجيران، فما هو إلا أن تفاهمنا، وكان إلى جوارنا «سحارة» كبيرة عميقة، بابها مربع خشبي صغير يغطي فتحة على وجهها الأعلى، فقفزنا إلى سطح السحارة، ورفعنا بابها وهبطنا واثبين إلى جوفها، ولكن كيف الخروج والسحارة عميقة كأنها البئر؟ وعبثا حاولنا، فكان لا بد للسر أن يفتضح، فأخذنا ندق جوانب السحارة بقبضات أيدينا، ونركلها بأقدامنا، ونصيح في بكاء الفزع، حتى سمعنا من سمعنا، وانتشلنا، وما كادت القصة تسري حتى كانت الضحكات من هذه «الشقاوة»، ولكن هل أدرك الراشدون مدى ما قد ذهب إليه لهو الطفلين؟! لا أظن ذلك؛ وهذه هي براءة الأطفال، وهذه هي طهارة الريف، وتلك هي سذاجة الراشدين.

هكذا كملت جوانب الشخصية الاجتماعية بين السادسة والسابعة، وتحددت لها طرائف مختلفة في ردود الأفعال لمختلف البواعث، أو قل هكذا نشأت مجموعة الأشخاص التي تكون جوانب نفسي «الواحدة»، وما كان على الأيام بعد ذلك إلا أن تطور هذا الذي بدأ؛ فموقفي إزاء أبي هو هو نفسه موقفي إزاء كل سلطان متحكم، أثور عليه في داخلي تارة، وأنفجر بالثورة العلنية تارة، وأكتب لأهدم ما أراه طغيانا - سواء في ذلك الأشخاص أو النظم - فتجيء الكلمات كأنها شواظ وشرر، وكثيرا ما دهش من لم يكن يعرفني ثم رآني، فرأى شخصا تغلب عليه الوداعة والهدوء، فكيف يمكن أن تجيء تلك الثورة من هذا المستكين؟

وموقفي إزاء أمي هو موقفي من الصديق أحبه حبا خالصا غير ممزوج بالحذر والخوف، وهو الموقف الذي أقفه ممن تربطني بهم علاقة الود وأصطفيهم دون سائر المعارف، وموقفي من أخي هو نفسه موقفي من نفسي، أسر إليه بما لم أكن أسر به إلى أب أو أم أو صديق، أطلب منه النصح جادا، وأعتصم به آمنا. وموقفي من أقربائي الذين كانوا يكبرونني ويسبقونني في مراحل التعليم، هو موقفي من كل سابق في طريق العلم؛ أجد السير لألحق به. وأما موقفي من الجنس الآخر، فبرغم العبث الطفلي الذي عبثت به مع الطفلتين إلا أنه سيتحدد بفعل شيطانة من الجن في سن المراهقة.

إنهم يصدقون حين يقولون عن الأسرة: إنها نواة المجتمع؛ لأنها هي المجتمع الصغير الذي يتعامل الطفل مع أفراده، فيعامل كلا منهم بما يحقق له صالحه كما يتصوره، يحب هذا ويخشى ذاك، ويخلص الود هنا ويمكر بالحذر هناك، حتى إذا ما خرج إلى المجتمع الكبير، جسد في مواقفه وفي ناسه ما كان قد لقيه في المجتمع الأسري الصغير، فكم ثائر ثار على الدنيا حتى غير وجهها، تراه - إذا ما رددت ثورته هذه إلى أصولها - إنما يثور في الحقيقة على أب طغى به وهو صغير، فانتقم منه في سواه حين استطاع، وقد يجيء هذا الانتقام المقنع خيرا فيكون صاحبه من الأبطال المصلحين، أو قد يجيء شرا فيكون من المفسدين، وكم ملحد أنكر وجود الله إذا ما رددت إلحاده هذا وإنكاره إلى أصولهما، تبين كذلك أنه في الحقيقة يريد أن يكفر بالوالد أو بالمعلم الذي أغلظ له القسوة وهو ضعيف، وهكذا حلل حب المحبين وكراهية الكارهين وعبادة العابدين وزهد الزاهدين، وحلل نشاط العالم في معمله، والرحالة في ارتياده للمجهول، تجد كل ذلك امتدادا لأصول نشأت في النفس وهي ناشئة بين رعاتها ولداتها، فكان ما كان بعدئذ من خسة هنا ومجد هناك؛ أتقول لي: لكن هذه نظرة متشائم إلى القيم الإنسانية العليا؟ لكن كانت كذلك، فلا حيلة لي في نظرتي المتشائمة؛ لأنها وليدة حياتي التي عشتها حتى بلغت السابعة أو نحوها. •••

انتقلت الأسرة إلى السودان والصبي في تاسعته. كان له ما كان من أحداث الحياة، لكنه ذهب والأحداث مكنونة في جوفه لم يظهر بعد منها شيء على ظهره، ذهب والظهر معتدل وعاد والظهر مقوس معوج، لقد طفح الداخل إلى خارج وتكور.

الشمس فوق رأسي كأنها عين فتحت في جهنم! ذلك هو أول انطباع تلقيته في الطريق من المحطة إلى المنزل؛ إذ جلست فوق الحقائب المحملة على عربة لأحرسها، ولست أذكر بعد ذلك شيئا سوى أنني أرقد مصابا بضربة الشمس تحرسني عناية الأبوين نهارا وليلا لبضعة أيام، صحوت بعدها وجلت قليلا، فتبينت أننا قد انتقلنا من الظل إلى الوهج، ومن رطب إلى يابس، ومن حركة إلى سكون، ومن غزارة حياة وصلات إلى تخلخل وتفرق؛ فالمسافة بين بيت وبيت هنا أبعد، وبين دكان ودكان أطول، والناس قليلون، والأفراد متناثرون، والشارع ميدان، والميدان فلاة، والمشي كأنه وقوف، والجلوس كأنه رقاد، وشدة الحر تزيد الناس بعثرة بعضهم عن بعض؛ لأنهم لائذون بالسقائف، حتى ليتعذر على الخيال أن يتصورهم «جمهورا» بمعنى الحشد المتجمع في مكان، كما يتعذر على العقل أن يتصور قيام رأي عام ينتقل بين الأفراد بطريق العدوى، وفي ظني أن ظروفا للعيش كهذه من شأنها أن تزيد من اعتداد الفرد بنفسه وبفرديته، لقلة صلته الطبيعية القريبة بسائر الأفراد، وبالتالي فهي تقلل من استعداده للتفاهم السهل مع سواه، فعوامل تكوين «الرأي» الواحد هنا مفرقة مبعثرة، وحوافز التفكير واهنة؛ لأنه لا تفكير بغير مشكلات، وإذا قربت الحياة من البساطة فلا مشكلات.

أنا لا أتحدث عن السودان الآن، لكنني أتحدث عن موقف الصبي الذي ذهب إليه وهو في التاسعة، وكان ذلك منذ أمد بعيد، ذهب إليه وإحدى قدميه ما تزال مغروسة في أرض الطفولة، والأخرى أخذت تخطو نحو نضج الشباب الباكر، وقد بدأت خبرات الصبي هناك بموقفين متضادين في آن واحد. كان في أحدهما طفلا لاهيا وكان في الآخر إنسانا مسئولا.

فأما أولهما ففي الكتاب الذي أرسلنا إليه لنقضي بعض أشهر حتى يبدأ العام الدراسي في كلية غوردون، وفي الكتاب عرفت ما «الفلقة» وعذابها؛ فالكتاب كله غرفة واحدة لا أذكر أن لها نوافذ، يفتح بابها على سقيفة مفروشة بالحصير؛ ولذلك فهي - أعني السقيفة - مضيئة وللهواء فيها حركة، إذا قيست إلى الغرفة في ظلمتها وسكون هوائها، وتحت السقيفة كان يجلس الشيخ الدرديري - صاحب الكتاب والقائم فيه بالتعليم كله - وإلى جانب مقعده منضدة وطيئة عليها قلتان، وحدث ذات صباح أن وجدت المقعد خاليا من شيخه، ورأيت القلتين تلمعان بما يبلل سطحيهما من ماء، فأخرجت من جيبي قلما من أقلام «الكوبيا» وطفقت أخط به على القلتين، ولم أكن أتوقع أن أجد هذه المتعة كلها في التخطيط بالقلم «الكوبيا» على سطح مبتل، فانطلقت أرسم الأشكال وأكتب الأحرف، فتسيح الخطوط وتتشابك في زخرف جميل، وهنا «طب» الشيخ فجأة، فأخذته صاعقة لما رأى، وأمر فمدت «الفلقة» وربطت فيها قدماي، وطرحت على الأرض ظهرا، ورفعت القدمان مزمومتين في شقي الفلقة، والفلقة يحملها ولدان أمسكها كل منهما بطرف، والشيخ الدرديري يهوي علي بالسوط في غير رحمة كأنما نسي أنهما متصلتان بكائن حي، وعدت إلى البيت مورم القدمين؛ وغير هذا الحادث لا أذكر من هذا الكتاب شيئا، إلا أن زائرين كثيرين كانوا يزورونه، فإذا دخل الزائر انتفضنا وقفين واضعين أكفنا الصغيرة على جباهنا «تعظيم سلام»، مرددين في صوت عال بيتين حفظناهما لهذه المناسبات، أظنهما يجريان هكذا:

من نال العلم وذاكره

حسنت دنياه وآخرته

فحياة العلم مذاكرة

وحياة العلم مذاكرته

نمط الهاء في آخر الشطر الأول مطا منغما موصولا بالشطر الثاني، وكذلك نقف قليلا عند التنوين في آخر الشطر الثالث وأخيرا نجعل الوقف على الهاء الأخيرة كضربة الطبل معلنة ختام التحية، وعندئذ نؤمر بالجلوس.

وأما الموقف الثاني الذي وقفت فيه موقف رجل مسئول؛ فهو أن لصوص المنازل قد كثروا خلال ذلك العام كثرة قيل إنها لم تعهد من قبل، وكان مرد الأمر إلى قلة في المطر وقحط في المحصول، وما يتبع ذلك من عوز وجوع، وقد رأى الموظفون - ومنهم أبي - أن يساعدوا رجال الشرطة بأن يكونوا من أنفسهم دوريات تجوب الشوارع أثناء الليل، لتفزع اللصوص كما تفزع العصافير من فوق الغصون بقرعات خفيفة على الصفيح، فلصوص ذلك العام لم يكونوا لصوصا محترفين لهم جرأة وتدبير، بل كانوا لصوصا تدفعهم الحاجة الماسة العاجلة إلى أي شيء يؤكل أو يلبس أو يباع، إلى أقل شيء، إلى رغيف يأكلونه، إلى قميص يلبسونه، إلى إناء يخطفونه ليبيعوه في السوق برغيف أو قميص، وإذن فتخويفهم أمر ميسور تكفي له هذه «الدورية» من الموظفين تجوب شوارع المدينة ليلا.

لكن كان لا بد للبيوت كذلك من حراسة بالليل، فعلى كل أسرة أن يتناوب أفرادها في اليقظة لتكون هنالك العين الساهرة دائما، والشاخصة نحو الأسطح وحوافي الجدران الخارجية؛ فاللص إما أن يهبط إلى فناء الدار من سطح الغرفات - والدور كلها من طابق واحد يتوسط غرفه فناء يحيط به السور الخارجي - وإما أن يهبط إليه واثبا فوق السور المحيط به، وكان يقال لنا إن أقل صوت يصيح به الحارس اليقظان إذا رأى لصا يهم بالهبوط إلى الفناء، كاف لتخويفه، يفر كأنه الظل يختفي بلا صوت.

ومن ذا في بيتنا تقع عليه هذه الحراسة سواي؟ إن أخي أصغر من أن يوكل إليه هذا العمل الجريء، وأمي وحدها لا تغني؛ لأنهم يريدون للحراسة «رجلا»، و«رجل» البيت في غيبة أبي هو أنا الصبي ذو الأعوام التسعة؛ لأنني أنا «رشيد العائلة» كما كان يحلو لأبي دائما أن يقول، كان علي إذن أن أقف في وسط الفناء، ممسكا بيدي حطبة من حطب الموقد - وحطب الموقد هناك قطع غليظة من فروع الشجر الجافة - وأظل أتطلع بعيني إلى حافة السطح وإلى حوافي الأسوار. وإنني لأكتب هذه الأسطر الآن وما يزال في نفسي مزيج المشاعر التي كانت تملؤني أثناء عملية الحراسة بضع ساعات من كل ليلة؛ فشجاعة مصطنعة تجعلني أشد بقبضتي على الحطبة الخشنة، وزم للشفتين وحبس للأنفاس، ودفع بالصدر إلى أمام، وتثبيت للقدمين على الأرض، ووراء كل هذا رجفة الخوف تعتريني من الرأس إلى القدم؛ وماذا تتوقع من صبي صغير أمر أن يضع في إهابه رجلا؟ إنه لا مناص من أن تكون الرجولة البادية الظاهرة مبطنة بطفولة خافية مستترة؛ ألا ما كان أرهبها من لحظة تلك اللحظة من جوف الليل الساكن، التي نظرت فيها إلى حافة السطح المطلة على الفناء، لأشهد ساقين تدلتا وجذعا في سبيله إلى الظهور، ولم تكن بعدئذ إلا حركة واحدة من الواثب ليكون معنا في فناء الدار، فارتعشت ركبتاي، وزعقت في صوت مكتوم ماتت حروفه في حلقي، ولكن استطعت أن ألفظ الكلمتين: «امسك حرامي»، فيا لعجبي من تلك الزفرة المبحوحة من طفل راجف، تكفي لطرد الشيخ إلى حيث لا أدري! وقل ما شئت عما ملأني من شعور بالزهو لشجاعتي المزيفة، فكأن تلك الليلة كانت مولدا لمركب شعوري أحسبني لا أزال أحمله بين جنبي، هو مركب الشجاعة الخائفة، أو الخوف الشجاع. •••

كانت النقلة واسعة مما كنت عليه في كتاب الشيخ الدرديري، إلى ما أصبحت فيه بكلية غوردون؛ فهي نقلة من طفل يفرض فيه أنه لا يعرف شيئا ولا يعلم شيئا إلى طفل يفرض فيه أنه يعرف كل شيء ويتعلم أي شيء.

كان المدرسون في المرحلة الابتدائية أكثرهم من المصريين وأقلهم من أبناء السودان؛ هذا هو مدرس اللغة العربية الذي تولانا أول من تولى، أستاذ أزهري من المصريين، فيه من الجد والصرامة ما لو قسم بين عشرين مدرسا لكان من كل واحد فيهم مدرس ناجح، إنه أوشك ألا يفرق بيننا نحن الصغار الذين جاءوا إليه ليبدءوا حياتهم الدراسية، وبين متخصص في دراسة اللغة العربية من علماء الأزهر؛ فقد كان يأمرنا أن نسطر له هوامش كتاب النحو المقرر بخطوط مائلة، لنكتب عليها ما يمليه من إضافات، على نحو ما نكتب الحواشي في الكتب القديمة، ويعلمنا الإعراب فيما أشكل من آيات الكتاب الكريم أو من أبيات الشعر الجاهلي، بعد أن يشرح لنا هذه وتلك شرحا وافيا، لكنني كنت أحفظ الإعراب عن ظهر قلب دون أن أفهم من مصطلحه شيئا، فما زلت أحفظ من تلك السنة الأولى أن «إذا ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه»، ولا بد أن يكون ذلك الأستاذ القدير قد شرح المعنى المقصود بكل هذا، لكنني كنت أعجز عن استيعابه، فكلمة «الظرف» عندي لم تكن تعني إلا الظرف الذي يوضع فيه «الجواب»، خصوصا وكلمة «الجواب» واردة في آخر العبارة، و«الاستقبال» عندي لم يكن إلا استقبالا للضيوف، و«الشرط» لا يكون إلا فرقا في الثوب، فما علاقة «إذا» بهذا كله؟ لم أكن أدري، ولكني أحفظ عن ظهر قلب، والأستاذ يحدوه فينا أمل يجاوز قدراتنا.

وهذا هو مدرس اللغة الإنجليزية، شاب مصري شاحب الوجه حاد الفكين، لا فرق - في الصرامة والجد - بينه وبين مدرس اللغة العربية إلا في الزي، فذلك شيخ وهذا أفندي، نعم كان بأيدينا كتاب المطالعة الذي يبدأ بدرس عن ثور يركبه صبي فلاح، لكن هل كان يكفيه هذا؟ كلا؛ فالمادة المضافة لا أول لها ولا آخر، وأعمدة الأفعال وتصريفها، وقوائم الكلمات التي نحفظها كل يوم كانت تلاحقنا بلا هوادة، إلى الحد الذي كنا نخرج معه إلى فناء المدرسة بعد درس الإملاء، فيسأل بعضنا بعضا (وهذا مثل حقيقي تعيه ذاكرتي منذ ذلك الحين): كيف كتبت كلمة

boy ؟ - كتبتها هكذا.

فيعود السائل ليقول: لا إنها

buoy

التي معناها «عوامة»، وإلا لما كان للجملة معنى، وكيف كتبت كلمة

story ؟ - كتبتها هكذا.

فيعود السائل ليقول: لا، إنها

storey

التي معناها الطابق في البناء؛ لأن كلمة «قصة» لا تجري مع السياق؛ وهكذا عبأنا الأستاذ بمادة اللغة تعبئة لا أكاد الآن أصدق مداها حين أذكرها.

ولما بلغنا السنة الرابعة الابتدائية، تولى تدريسنا الإنجليزية ناظر المدرسة - وكان مصريا - وهو رجل غاية في الأناقة والنظافة والدقة والنظام، بذلاته بيض من تيل هزاز، ويخيل إليك أن له في كل ساعة من ساعات النهار «غيارا» نظيفا، وكان لا يمسك الطباشيرة إلا وهي ملفوفة إلى نصفها بالورق؛ فهو يعين تلميذا خاصا لإعداد هذا الطباشير المكسو بالورق، ليمده به كلما طلب، وكنت أنا في فرقتي صاحب هذه الحرفة. كان من عادته أن يكلفنا شراء زجاجات من المداد الأحمر؛ لأن طريقته في تصحيحنا لأخطاء الهجاء هي أن نكتب الجزء المغلوط من الكلمة بالمداد الأحمر.

وأما الحساب فحيا الله أستاذه وأكرمه إن كان ما يزال حيا، وأسبغ الله عليه رحمة واسعة إن كان ميتا؛ لأنه موهوب، ولك أن تضيف إلى موهبته تلك الحماسة التي كانت تسري فيه وفي زملائه لتعلم أي أستاذ كان.

وقد كانت لنا في الترجمة دروس خاصة، من الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية، ووالله لا أذكر مستواها إلا ويأخذني العجب. كان يدرسها مدرس سوداني طويل نحيل، أرسل لحية قصيرة جعداء الشعر في أخريات أيامه، وما أخريات أيامه تلك إلا تهمة بالسرقة وجهت إليه، وغاب عنا، وكانت له في نفوسنا هيبة حتى لقد صدقنا من قال إنها تهمة مزورة أريد بها الانتقام منه لأسباب سياسية، ومضت بعد ذلك شهور، ثم شاءت المصادفات أن أكون بمحطة السكة الحديدية على استعداد مع بقية الأسرة للسفر إلى مصر، فمن ذا أرى هناك يقف محروسا بجندي مسلح، إلا مدرسنا ذاك في وقاره وهيبته، فما كان مني إلا أن نطقت باسمه ذاهلا دهشا، فالتفت الرجل نحوي بحركة لا إرادية، فما هو إلا أن نهره السجان بصوت غليظ أجش: انظر أمامك يا مسجون! ... ومسحت عن وجهي دمعة سالت.

لكنني كذلك لا أنسى قسوة مدرسينا في المدرسة الابتدائية - من مصريين وسودانيين - قسوة جاوزت كل حد معقول، وكانت لهم فيها فنون. كان مدرس الجغرافيا شيخا سودانيا، وكان يطلب منا أن نحفظ خمسين صفحة من صفحات الكتاب بين ليلة ويوم، بحيث نتلوها كما تتلى الفاتحة - على حد عبارته - وإلا فسوطه القصير المخبأ في كم ردائه على استعداد أن يهوي فوق الظهور، ولم يكن مدرس اللغة الإنجليزية يكفيه أن تمد له الأكف ليضربها بالمسطرة - والمسطرة عنده هي أداة العقاب - بل كان يضفر قلما في أصابع اليد، ثم يضرب على ظهر الكف لا على بطنها، وبسن المسطرة لا بعرضها، وكانت العقوبة عند مدرس اللغة العربية جلوسا على الركبتين فوق البلاط، وقد لا يكتفي بذلك فيجعل حصاة تحت كل ركبة، ثم قد يضيف إلى هذا وذاك رفع الذراعين إلى أعلى؛ وأما ناظر المدرسة فكانت طريقته أن يستعين بمدرس الألعاب الرياضية و«جلدته»، فيجيء فراشان ويشدان المذنب المعاقب على ظهر كرسي من الخيزران، فينثني المعاقب فوق ظهر الكرسي، وكل فراش ممسك بذراع، ومدرس الألعاب يضرب بالجلدة على مؤخرة الجسم عدد الجلدات الذي يقرره حضرة الناظر، وكان في المدرسة مدرسان للألعاب الرياضية، كانا «صولين» في الجيش أكملا فترة التجنيد، أحدهما يدعى إبراهيم والآخر يدعى فرنسيس، وكلاهما مصري؛ أما إبراهيم فشديد السمرة غليظ الكبد لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا؛ وأما فرنسيس فأشقر اللون أصفر الشعر طيب القلب رحيم، إذا أمر بجلد تلميذ فتراه ينزل الجلدة خفيفة؛ ولذلك كان الناظر حريصا دائما على أن يكون إبراهيم هو أداته في تنفيذ العقاب.

وننتقل إلى المدرسة الثانوية فيتغير المنظر تغيرا جوهريا؛ فالتدريس هنا كله بالإنجليزية، والمدرسون أكثرهم إنجليز، ومن أول المدرسة الثانوية يبدأ التخصص المهني، لينتهي بنهايتها، لكن هذا التخصص كان يتركز في السنتين الأخيرتين، ففيهما يكون قسم للمهندسين، وقسم للمدرسين، وقسم للقضاة الشرعيين وهكذا.

على أن أهم ما يميز الدراسة هو الحياة الاجتماعية والرياضية؛ فالتلاميذ مقسمون إلى «بيوت» أربعة، وهو ما نسميه في مدارسنا المصرية بنظام الأسر، يختص كل بيت من البيوت الثلاثة الأولى بالتلاميذ الوافدين من جهة معينة من جهات السودان، فهؤلاء من الجنوب، وأولئك من الشرق أو من الغرب؛ وأما البيت الرابع فلتلاميذ «الخارجية» ومن هؤلاء كان المصريون جميعا.

وكانت كرة القدم إجبارية على التلاميذ كافة، فيقسمون أحد عشر درجة بحسب قدراتهم، وكلما أظهر اللاعب قدرة ارتفع إلى فريق المستوى الأعلى، حتى يصل إلى الفريق الذي يلاعب الفرق الخارجية باسم المدرسة، وكانت كلية غوردون محاطة بملاعب لكرة القدم كثيرة العدد، حتى لتمتد رقعتها إلى مسافة بعيدة.

ولا أذكر هذه الملاعب إلا وأذكر عقوبة أمر علي بها الرئيس الإنجليزي الذي يشرف على «البيت» ألذي كنت أنتمي إليه؛ وذلك لأنني أخرجت ساعتي خلال الدرس، وكانت العقوبة أن تؤخذ مني الساعة أولا، وأن أظل ثلاثة أسابيع مدة ساعتين كل يوم أجمع الأحجار الصغيرة التي قد تكون مخبوءة في العشب النامي على الملاعب، على أن يكون ذلك بالطبع بعد نهاية اليوم الدراسي نحو الساعة الرابعة عصرا، وأشهد أن تمتعت خلال هذه العقوبة أكثر مما تألمت؛ لأنني كثيرا ما كنت أنعم بالجلوس مع الزملاء «الداخلية» على العشب - وكانوا يجلسون حلقات حلقات - وأشرب معهم الشاي الجيد بلونه الذهبي في أكوابه الخاصة، والذي كنت أعجب له أنهم يجلسون بجلابيبهم البيضاء على العشب فلا تتسخ، وأجلس ببذلتي البيضاء فأقوم وعليها رقعة خضراء، (كانت الثياب البيضاء شرطا واجبا؛ فالسودانيون يلبسون الجلابيب البيضاء والعمائم السودانية البيضاء، والمصريون يلبسون بدلات بيضاء، وأربطة عنق سوداء، على ألا يكون الحذاء إلا بني اللون)، وقد تفتقت حيلتي ذات عصر عن طريقة ظننتها تنجيني من تلك الرقعة الخضراء إثر الجلوس مع الزملاء على العشب ساعة الشاي، وهي أني خلعت حذائي وجلست عليه، فإذا الرقعة هذه المرة مزيج من البني والأخضر، وأسأل نفسي الآن: ولماذا لم أستخدم ورقة أو منديلا فرشا أجلس عليه، ولا أستطيع الآن أن أقع على التعليل لأني نسيت.

على أن أهم ما أقلقني من تلك العقوبة - فضلا عن الرقع الخضراء التي كنت أعود بها كل يوم فتستشيط أمي غضبا - هو ساعتي وضياعها؛ لأني أخفيت أمرها عن والدي، وكنت في خشية دائمة أن يجيء الوقت الذي أسأل فيه أين الساعة؟ فلا أجد الجواب، لكن الله سلم في آخر لحظة من العام الدراسي؛ فبينما أنا هابط السلم مع طابور التلاميذ إذ ناداني العريف (رئيس البيت من الطلاب) وأخذني إلى غرفته حيث أعطاني ساعتي بعد نصح وتقريع، فأخذتها وهرولت أنزل السلالم درجتين درجتين، وأنا أصيح بأعلى صوت لأسمع أخي الذي سبقني مع الطابور:

فلعلها ولعلها ولعلها

ولعل من عقد الأمور يحلها.

لكني لا أكتب هذه المذكرات لأقص تاريخا، بقدر ما أكتبها لأتعقب علتي إلى جذورها؛ فمهما يكن لزملاء كلية غوردون علي من فضل؛ فقد أساءوا إلي - من حيث لا يشعرون - إساءة لا أخطئ كثيرا إذا قلت إنها كانت هي الحد الفاصل بين أن أكتم علتي في جوفي وبين أن يفلت مني زمامها فتخرج - خرجت - قتبا على ظهري؛ وذلك أنهم غرزوا في أعماق نفسي عقدة نقص ما زالت تسيطر علي إلى يومي هذا، ثم ما زالت تتفرع في شعاب النفس أشكالا وألوانا، كأنها الأخطبوط، إذا بترت منه خيطا نبتت خيوط.

والبداية بسيطة ككل البدايات! ذلك أن صغار الزملاء قد أدركوا - ونحن بعد في أول المرحلة الابتدائية - ما في بصري من قصر ملحوظ في زري لعيني اليمنى كلما أردت النظر إلى شيء، وأعجب العجب أني لم أكن أعلم قبلئذ أن بصري يقصر دون أبصار الناس، كلا ولم يكن يعلم ذلك أحد من أهلي، حتى وجدته موضع السخرية من هؤلاء الزملاء الصغار.

كل ما أذكره قبل ذاك حادث عابر جاء وذهب في لحظة قصيرة؛ فقد كنا نعبر النيل عند الخرطوم في مركب اشترته جماعة من الموظفين الأصدقاء، الذين يسكنون من النيل في ضفة ويعملون في الضفة الأخرى، ليكون المركب تحت تصرفهم دائما، على نحو ما يملك المالك اليوم سيارة خاصة؛ واصطف الراكبون صفين متقابلين، وفي الصف المقابل لي كان والدي وكان أحد أصدقائه، وأحسبني قد زررت عيني اليمنى، حين قال ذلك الصديق: «أتزر عينك منذ الآن يا بني؟ فماذا أنت صانع إذن حينما تتقدم بك السنون؟» مع حرف النون الأخير في عبارته وقعت كف والدي على وجهي صافعة، وهو يزجر: «افتح عينك حين تنظر.»

لم أكن أعلم قبل ذلك - إذن - ولا كان أهلي يعلمون أن بعيني ضعفا، حتى كشف لي الأمر صغار الزملاء من السودانيين، حين راحوا يطلقون علي أسماء من قبيل «الأعور» و«الأعمش»، ثم استقروا أخيرا على مصطلح لم أفهمه بادئ ذي بدء، وهو قولهم «7 و4» أحيانا، و«5 و6» أحيانا أخرى، ولطالما عجبت من العلاقة بين هذه الأعداد وبيني، لكنني كنت على يقين عندئذ أن الإشارة في هذا كله إلى عيني، وأخذت أحاول أن أنظر كما ينظر أصحاب النظر السليم، فالكتابة على السبورة لا أراها لكني أكتم الخبر، وقد حدث ذات يوم أن أقبلت علي طائفة من الزملاء، وأحاطت بي ليرى من لم يكن قد رأى كيف أني أزر عينا دون عين، فأردت أن أدحض لهم دعواهم، وبالغت في فتح عيني حتى أبرهن لهم أن ليس بها عيب يعاب، فازدادوا ضحكا، وازددت عجبا وريبة، ولما عدت إلى الدار وقفت أمام المرآة لأفتح عيني كما فتحتهما في الصباح لأرى كيف ظهرتا للمشاهدين، وإذا بالزملاء معذورون؛ لأنها في الحق حملقة تضحك من قصد إلى السخرية والعبث.

ومنذ ذلك العهد الباكر من حياتي، وعيناي العليلتان مصدر عجيب لكل ضروب العوامل التي تدفع صاحبها إلى الأمام مرة، وترده إلى الوراء مرة؛ فقد كان مما قيل في أوساط الأسرة - وقد عرفت حقيقة بصري - أنه لا جدوى من أن أكمل مراحل التعليم إلى آخر أشواطها، ما دام هذا البصر الكليل عقبة في سبيل التوظف على كل حال؛ فالتعليم عندهم وعند الناس أجمعين في ذلك العهد طريق للوظيفة، فإذا لم يكن الطريق موصلا إلى غايته بطل أن يكون طريقا، وكان عبئا ومضيعة للجهد والوقت والمال، وسمعت هذا اللغط يسري بين من يهمهم أمري ومن لا يهمهم من أفراد الأسرة الكبار، فزادني صلابة وعنادا وإصرارا على المضي فيما أرادوا أني يصدوني عنه، فإذا قال القائل: لا تقرأ حرصا على بصرك. كان رد الفعل عندي أن أقرأ ضعف ما أردت أن أفعل، ولست أشك في أن أقوى ما دفعني إلى حياة الدراسة هو ذلك العزم الذي بدأ عنادا أول الأمر، ثم انتهى إلى ميل وعادة.

ولست أنسى يوما - وكنت في السنة الثانية الابتدائية - حين «سرحت» عن الدرس، وسبحت بنظري خلال النافذة شاخصا إلى قطع السحاب تتسابق مع الريح، وتتخذ لنفسها أشكالا عجيبة، فجعلت أتأمل ماذا عساها أن تكون؟ فهذا جمل ذو سنامين وخمسة أرجل، وتلك بطة سابحة تلوي عنقها ذات اليمين مرة وذات الشمال مرة، وذلك تمساح فتح فكيه ليبتلع سمكة تجري أمامه ولا يلحقها، ثم جاءت سحابة ضخمة تشبه وجه الرجل الكهل بلحية طويلة وشاربين كبيرين، وعلى الوجه جلال وعظمة، فقد رأيته وكأنه يأمر بقية السحاب فتجري بأمره وتقف بأمره، فمن ذا يكون هذا الآمر العظيم؟ آه لقد عرفت، إنه «الله »؛ فقد حكوا لي أنه يسكن السماء، يا سلام! هذا - إذن - هو «ربنا»!

هكذا كانت خواطري تجري وأنا أنظر إلى قطع السحاب، حين جاءتني ركلة بالقدم في جنبي، وضربة بجمع اليد في كتفي، ومجموعة الأولاد في الفصل تنفجر ضاحكة، ونظرت مذعورا إلى الضارب، الذي هو المعلم وإذا به يكشر عن أسنانه اللوامع البيض: فيم زررت عينك يا أعور؟ وإلى أي شيء في السماء تنظر؟

وليت المعلم يعلم الآن أن العين العوراء ما زالت تنظر إلى السماء باحثة عن الله - لكنها هذه المرة تبحث عنه وراء قطع السحاب - سائلة عن الكون ونشأته وعن الإنسان ومصيره، وليت المعلم يعلم كذلك كم كانت تلك العين العوراء حافزا وكم كانت مصدر ألم ممض، فمنذ ركلته بالقدم، وضربته بجمع اليد، في تلك اللحظة الهائمة المتأملة، قد أصبحت العين العوراء هما مقيما على صدري، لا ينزاح ولا يزول، تبعث في نفسي كل صنوف المخاوف مما قد تضرب به الأيام فتصيب مني مقتلا، وإنما هي الشبح المخيف والظل الكئيب، الذي أراه مطروحا أمامي في الطريق أينما سرت، فيظلم الأفق ويصد عني شعاع الشمس المضيء. •••

كان للغلام فيما بين عامه العاشر وعامه الخامس عشر سبحات شاطحات في أحلام يقظته، معظمها يدور على محورين: أحدهما: هو أن يكسب مالا كثيرا يقيم به الدليل على «شطارته». والآخر: هو أن يضل في التيه طريدا شريدا.

فما سار يوما من البيت إلى المدرسة - ذلك الطريق الطويل برماله الغزيرة وشمسه الحارة وهوائه المعفر - ألا وقد طأطأ الرأس مثبتا عينيه في قدميه، وشاردا بخياله؛ إلى أين؟ إلى غابات الجنوب - وكان قد سمع عنها ما يثير خياله - فيتاجر مع أهلها، فيكسب المال الكثير، وأهله أثناء غيبته لا يعلمون أين ذهب، فيبحثون عنه حتى يأخذهم اليأس، فيقولوا: مات، أو فقد لغير رجعة، فإذا به بعد أعوام يعود إليهم ومعه صرر كبيرة، يسألونه: ماذا تحوي؟ فيجلس بينهم ويفتحها، فيتدفق المال، وتنفغر الأفواه من عجب، فيوزع عليهم أنصبتهم، ويبقي لنفسه نصيبها ...

وما جلس وحده يوما، إلا وقد راح يحلم بأنه يخبط في فجاج الأرض طريدا شريدا، يأكله الجوع فلا يجد اللقمة، ويقتله العطش فلا يجد جرعة الماء، وتتمزق ثيابه، وتنهد قواه، وربما اضطر إلى التسول ليقيم الرمق وهو في عزلة الشريد المجهول.

فأما موضوع المال وكسبه، فقد هم الغلام عندئذ بإخراجه من دنيا الأحلام إلى دنيا الواقع بصور شتى، فيها السذاجة الشديدة التي انتهت به ذات يوم إلى «علقة» ترده إلى صواب العقلاء؛ فمن ذلك - مثلا - أنه فكر: لماذا لا يتاجر ليكسب؟ ومر بالدار ساعتئذ - وكان أهله في زيارة - بائع الدجاج، فاشترى منه زوجين، وعاد الأهل من زيارتهم فظنوه اشترى الدجاج لحسابهم، وحمدوا له الصنيع لأنه دجاج جيد بسعر رخيص، لكنه في الحقيقة كان يضمر في نفسه تجارة؛ فبعد يومين مر بائع للدجاج آخر، معروف للأسرة لكثرة تردده على البيت بائعا، وهو رجل ضرير اسمه «صيام»، فلم يجد في الدار غيري، وما فتحت له الباب حتى بادرني بقوله: عندي دجاج سمين، فقلت له: وأنا كذلك عندي دجاج أسمن، فهل لك في الشراء؟ فتعجب الرجل لبيتنا يباع منه الدجاج وكان الظن أن يباع له، لكنه طلب البضاعة المعروضة ليفحصها، وأمسكت بدجاجاتي من فناء الدار بعد جري وراءها وهي مع بقية الدجاج في الفناء تندفع مذعورة هنا وهناك وتصيح كأنها تطلب الغوث ممن يغيث؛ أمسكت بدجاجاتي وعرضتها على «صيام» فراح يتحسسها، ثم سعرها بثمن يشتريها به، وهو ثمن يزيد قرشين عما كنت دفعته لشرائها، فأسلمته الدجاج وقبضت الثمن فرحا بكسبي، وعاد شمل الأسرة فاكتمل: أبا وعما وأما وامرأة عم، وعلموا بالأمر، فأخذتهم الدهشة المحيرة التي لم تنفك عنهم أسبابها إلا بالعصا؛ ولم تكن حيرتهم في أمري بأشد من حيرتي في أمرهم! لماذا تضربونني وقد اشتريت الدجاج لأتاجر فيه؟ فتزداد العصا أداء لمهمتها في تقويم غلام فسد واعوجت به السبيل!

ومن مغامرات الكسب أيضا أن اشتريت من جار لنا في مثل عمري بضع صور من بطاقات البريد المصورة، باع لي البطاقة بقرش، وكان مشروعي هو أن أقيم من تلك البطاقات ما يشبه السينما فأربح منها الكثير، وكيف ذلك؟ بأن أضع الصورة داخل زجاج المصباح، فينظر إليها الناظرون وهي خلف زجاج! ... وانتظرت الزبائن من أولاد الجيران وبناتهم، ولكن لا زبون، وكلما أغريتهم ازوروا عني واشتدوا نفورا، ولم أدرك كم أخطأت الظن إلا حينما عرضت على من كنت اشتريت الصور منه أن يجيء ليتفرج عليها لقاء مليمين للمرة الواحدة، فدهش وقال: ماذا تريدني أن أرى؟ ما الفرق بين رؤيتها أمام الزجاج ورؤيتها خلف الزجاج؟!

ومغامرة ثالثة للكسب مشروع شاركني فيه أخي عماد، وهو أن اشترينا نعجة قبل فصل المطر، ويسمونه في السودان بفصل الخريف، وهو في حقيقته فصل الصيف؛ أملا في أن نطعمها بما ينبته المطر من عشب، فتكبر، فتلد، فنبيعها هي ونبقي على الحملان لتكبر وتلد وهلم جرا، فما أكثر ما سمعنا عن أغنياء بدءوا حياتهم مثل هذه البداية البسيطة؛ لكن لم يكد ينبت العشب في الأرض الفضاء الفسيحة خارج البلد، ولم نكد نأخذها إلى هناك مع الصباح لتغتذي ونعود بها ساعة الظهر؛ أقول: إننا لم نكد نفعل ذلك أسبوعا أو أسبوعين، حتى نفقت النعجة بعد انتفاخ شديد أصابها، وقال العارفون من جيراننا إنها لا بد أكلت عشبا ساما كانوا هم يعرفونه ويجنبون أغنامهم إياه، لكن من أين لنا مثل هذا العلم بالعشب والغنم؟!

وأما أحلام التشرد والتسول والعزلة الضاربة في القفار، فما تزال هي هي الأحلام التي تعاودني بعد أن هذبها نضج الدراسة، فأصبحت أحلاما تحلم بعزلة المتصوفة الزاهدين.

ضلال ليس بعده ضلال في فهمنا لأنفسنا وفهمنا للناس، أن نلتمس محورا واحدا ندير حوله أحوال النفس جميعا؛ فلكل نفس محاور عدة تدور حولها في تصريفها لشئون حياتها، فلو قلت للناس - مثلا - إنني في أعماق نفسي زاهد في زخرف الدنيا، لا أريد مالها ولذائذها، قيل لي: لكنك تجد ساعيا في كسب المال وادخاره، وتزيد في حياتك من أسباب الراحة والترف. وإن قلت للناس: إنني في أعماق نفسي أحب العزلة، قيل لي: لكنك تأنس لحديث الأصدقاء. وإن قلت للناس: إنني أجعل من ذاتي وخبرتها أساسا أولا وأخيرا في تقويم الأشخاص والأشياء، قيل لي: إذن فقيم دعواك التي قلبت بها الأرض وأوجعت بها الدماغ، في وجوب أن يكون معيار التقويم دائما موضوعيا مستقلا عن الذات وأهوائها؛ وها أنا ذا أصيح بملء فمي: نعم، نعم، إنني هذه الجوانب كلها، وقولوا ما شئتم أن تقولوا. ••• ... إنني إذ ارتد إلى أعوام المراهقة الباكرة، أجدني ملتقى أخلاط عجيبة تشابكت أطرافها من دين وجنس وشعر؛ فقد أحاطت بنا جماعة من الأصدقاء لا تكاد تنطق بكلمة واحدة في أحاديثها إلا ولها صلة بأمور الجنس، وكانوا يكبروننا بأربعة أعوام أو خمسة، فكان لهم من الخبرات ما لم يكن لنا به علم، وكنا نستمع إليهم وكأننا نستمع إلى قادم من عالم مسحور يروي عن ضروب من الحياة والأحياء لم ترها عين من قبل ولم تسمعها أذن، نعم لقد حدث لي قبل ذلك بسنوات أن أخذت أدرك أن بين الجنسين أمرا يحرص الناس على أن يجري في خفاء وتستر، لكنني لم أكن أحس شيئا في هذه الفتنة التي يحدثنا عنها الأصدقاء، وإذن فلا بد أن تكون أبواب هذا العالم المسحور مغلقة عندي حتى ذلك الحين تنتظر مزيدا من النضج يتميز بعلامات حفظتها عن هؤلاء الأصدقاء حفظا، وجعلت أرتقبها مشوقا إليها، وأتعجل حدوثها كمن يتعجل قدوم الغائب الحبيب، لكنهما ارتقاب وتعجل لم يخلوا من شعور المرتاع من داهم مجهول.

كان منزلنا يبعد عن النيل مسافة نصف الساعة مشيا، وعن لي ذات عصر أن أحمل حصيرة صغيرة وأقصد بها إلى شاطئ النيل، فافترشها لأنظر إلى غروب الشمس على صفحة الماء، وأظنها كانت أول مرة أقصد فيها إلى شاطئ النيل في تلك البقعة بذاتها؛ إذ لم أكن أعلم أن عشرات السابحين يلهون بالسباحة في النيل عند ذلك المكان وفي تلك الساعة من النهار. لقد اخترت المكان عفوا لأن الطريق إليه كان يشق حديقة من شجر الليمون، توهم الإنسان بأنه سائر في ظل الشجر، والحقيقة أن لم يكن هناك ظل يحميه؛ لأن الأشجار قصيرة ومعراة من الوراق والثمر ، وعند شاطئ النيل افترشت الحصيرة وجلست وحدي، لا أجد ما أسند ظهري عليه، فكنت أستند إلى ذراعي من خلفي حينا، وأقرفص مشبكا ذراعي على ركبتي حينا آخر، وأستلقي ناظرا إلى السماء حينا ثالثا، فربما ظهر هذا التغير في الأوضاع لمن يشاهده كأنه قلق في النفس، لا مجرد بحث من الجسم عن وضع يريحه، فجاءتني فتاتان سودانيتان ما زلت أذكر منهما لمعة العيون التي تناديك في إغراء بل في إغواء صامت دون أن ينطق اللسان بكلمة، كما أذكر منهما صدورا ناهدة تستثير أصابع القديسين أن تمتد لتخمش. كانتا سمراوين أفتح لونا من اللون السائد بين نساء السودان، وأغمق لونا من اللون السائد بين نساء مصر. جلستا على الحصيرة واتكأتا على الذراعين، راكعتين على الركبتين، كأنما دربتا أن تقوما بهذه الحركة معا في توقيع موسيقي، وشخصتا إلي بعيون ضاحكة وشفاه باسمة كاشفة عن أسنان ناصعة البيضاء؟ وقالت إحداهما - ورددت الأخرى قولها: «إنك لتتململ قاعدا راقدا، باسطا ذراعيك قابضا لهما، كأنما في القلب جمرات نحن نعرفها»، فأخذتني رعشة هزت كياني هزا، من أعلاه إلى أسفله ومن باطنه إلى ظاهره، فكأنني هذه الساعة أسمع ما دق به قلبي دقا عنيفا، وتذكرت الدنيا المسحورة العجيبة التي طالما حدث عنها الأصدقاء، والتي طالما ارتقبتها، وخيل إلي أن تلكما الفتاتين هما اللتان أرسلهما الغيب لتفتحا الباب الذي لبث حتى تلك اللحظة مغلقا، لا أدري ماذا وراءه إلا عن طريق الرواية، لكني تذكرت كذلك أن علامات النضج التي هي جواز المرور إلى داخل العالم المسحور لم تظهر بعد، فقلت لهما بأنفاس متقطعة: «لكني ما زلت صغيرا»، فضحكتا في دلال لا يعرفه إلا من عرف كيف تدل الفتاة السودانية بأنوثتها، وقالت إحداهما - ورددت الأخرى قولها: «صغير؟! هذه هي السن التي جئنا نبحث عنها»، فلم أشعر عندئذ إلا بالقشعريرة الشديدة تلم ببدني كأنها المرض الداهم، وجمعت حصيرتي وأسرعت عائدا، تاركا ورائي فتاتين تضحكان ضحكات عالية الرنين.

ذلك كان نوع الارتقاب الذي كنت أرتقب به دخول العالم المسحور، ارتقابا مشوبا بالفزع ، وتلك كانت هي نفسها الأيام التي سمعنا فيها عن ألف ليلة وليلة، لكننا سمعنا عنها من أفواه أولئك الأصدقاء الذين استعرت نيران الجنس بين جوانحهم، فأقبلنا على قراءتها لا من حيث هي أدب من الأدب القصصي الرفيع، بل من حيث هي كتاب فيه لمسات من الدعارة المحرمة؛ ولذلك وجب أن يقرأ في خفاء عن أولياء الأمر، فطفقنا أياما متلاحقة في إجازة الصيف، نجتمع الصباح كله والعصر كله في منزل زميل لنا كانت له في داره غرفة خاصة لا أثاث فيها إلا حصيرة ممزقة على أرضها، فنضع الكتاب على الأرض وننكب عليه، أحدنا يقرأ في صوت مسموع، والآخرون يتابعون قراءته بالنظر الصامت، حتى فرغنا من قراءة أجزائه جميعا.

وكانت تلك هي نفسها الأيام التي أخذ فيها الشعور الديني يملأ قلوبنا؛ فالأمر هنا لم يقتصر على صلاة تؤدى في أوقاتها، وعلى صوم نصوم به شهر رمضان في حر يجفف الحلوق ويحيلها حطبا يابسا، بل تجاوز أمر التدين عندنا كل هذه الحدود، حتى كاد يبلغ بنا حد «الدروشة»، أو قل إنه قد بلغها وأوغل فيها، فكما أرادت لنا أيام المراهقة صحبة من أصدقاء تفتح أعيننا وآذاننا على عالم مسحور هو عالم الجنس؛ فقد أرادت لنا كذلك أن نجتمع بحلقة دينية، يتولى إمامتها شيخ وقور من أهل السودان، قيل لنا إنه قد تخرج في الأزهر، وكانت الحلقة تمتد ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.

ففي ميدان فسيح بالقرب من دارنا، مبنى صغير يعلو عن مستوى الأرض درجتين أو ثلاث درجات، له بوابات بغير أبواب من جهات ثلاث. كان معدا ليكون مكانا يقف فيه حاكم السودان عند الاحتفال بالمولد النبوي، لتمر أمامه الفرق الصوفية ببيارقها؛ وأما بقية العام، فالمبنى متروك خلاء لمن شاء أن يأوي إليه في ليل أو في نهار، وفي هذا المبنى كانت تعقد الحلقة الدينية كل مساء بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.

وكان أعضاء الحلقة يستأجرون دكانا صغيرا على بعد أمتار قليلة من ذلك البناء، يخزنون فيه الحصر، حتى إذا ما قربت ساعة الغروب ذهب منهم متطوع يرش أرض المبنى بالماء رشا خفيفا، ويكنسه، ثم يجيء بالحصر من مخزنها ذاك فيفرشها، فإذا ما أذن المغرب يكون الأعضاء قد تكاملوا، فيقيمون الصلاة، يؤمهم شيخ الحلقة ورائدها ومعلمها، وهو الشيخ أبو قرين؛ حتى إذا ما فرغ المصلون من صلاتهم، جلس الشيخ النحيل الوقور وحوله الأعضاء، وأخذ يقرأ الدرس الديني ويشرح، إلى أن يحين موعد صلاة العشاء.

تلك كانت هي الحلقة الدينية التي وصلنا أنفسنا بها في ذلك العهد الذي أتحدث عنه، ثم ما هي إلا أن أصبحنا نحن؛ أنا وأخي؛ العضوين اللذين يوكل إليهما - إما معا أو بالتناوب - رش المكان بالماء وكنسه وفرشه وملء القلل بالماء البارد، إعدادا للصلاة وللدرس الديني، ولو كان هذا الدرس اليومي مقتصرا على شرح أصول الدين وقواعده، لما كان منه في نفوسنا إلا حصيلة من علم، قد تلتمس طريقها إلى الرءوس دون أن تمس من القلوب شغافها؛ إذ لا بد من التفرقة بين من «يعلم» أصول الدين وقواعده، وبين من يتحول ذلك «العلم» في قلبه إلى «وجدان»؛ فهذان جانبان مستقل أحدهما عن الآخر، قد يجتمعان في إنسان واحد، وقد يتوافر أحدهما دون الآخر، فهنالك العالم المتبتل، وهناك العالم في غير تبتل، وهناك التبتل عن غير علم، وهناك من يخلو من العلم والتبتل كليهما؛ أربعة أنماط من الناس، لا بد من التفرقة بينها حتى لا نظن أن كل علم بالدين مقرون بالشعور الديني، وإنما قصدت بهذا أن أقول: إن ذلك الدرس الديني الذي لبثنا نستمع إليه أشهرا طويلة لا نتخلف عنه يوما واحدا، بل يحلو لنا أن نقوم نحن بإعداد العدة له، في تلك السن الهائجة بمشاعرها، لم يكن درسا دينيا للعلم وحده، بل كان يمتد إلى أشياء تهز وجداننا هزا عنيفا.

مثال ذلك أن الشيخ أبو قرين يبين لنا أسرار آيات قرآنية معينة، وأسرار كلمات معينة؛ فهذه الآية إذا قرئت كذا ألف مرة في ظلمة الليل، أو تلك الكلمة إذا نطق بها كذا ألف مرة تعد على المسبحة، ظهر ملك من ملائكة السماء فيبارك القارئ في دنياه وفي آخرته على السواء؛ فهل كنا نسمع هذه الأشياء لمجرد العلم بها؟ كلا، بل كنا نسمعها لننفذها فورا، فإذا ما جن الليل ونام الأهل، أوى كل منا إلى ركن مظلم، وأمسك بمسبحته وراح يهمس الآية أو يتمتم بالكلمة كذا ألف مرة كما أوصى، وكنا حريصين ألا ينتبه أحد من أفراد الأسرة إلى هذا الذي نصنعه، حتى لا يحول بيننا وبين أدائه، ولكن الملائكة المرتقبة لم تظهر أبدا، فهل كان يطوف ببالنا عندئذ أنها لم تظهر لأن الأمر كله خرافة في خرافة؟ كلا، بل إنها لم تظهر لأنه لا بد أن يكون هنالك نقص فينا، كأن نكون على غير طهر في الجسد، أو على غير صفاء في النفس بالدرجة التي يتطلبها ظهور الملائكة، وهكذا نرد العيب دائما إلى شيء في استعدادنا الجسمي أو النفسي، ولم نرده قط إلى تعاليم الدرس وتوجيهات الشيخ.

قيل لنا: إن من يؤذن للصلاة يظفر عند الله بثواب أكبر، فكنا نتسابق إلى الأذان للصلاة بأصواتنا المتسلخة، ولست أدري كيف كان يؤذن لنا بذلك برغم ما في أصواتنا من رداءة الأداء وقصر المدى، ولعلهم أحجموا عن منعنا خشية أن يكون في هذا المنع غضب ينزل عليهم من السماء.

تلك كانت هي الموجة الدينية الجارفة ونحن في سن المراهقة، لكنها برغم ذلك لم تكن لتتعارض في أعيننا مع حلقات أخرى، نجتمع فيها مع ثلة الأصدقاء الذين لم يكونوا يتحدثون قط إلا في الجنس وما يتصل به! أيكون هذان الجانبان من النفس الإنسانية على علاقة وثيقة أحدهما بالآخر، حتى ليحدث كثيرا أن تكون النقلة يسيرة بين الإمعان في الدعارة والإمعان في الزهد والعبادة؟ كما حدث للقديس أوغسطين، ولرابعة العدوية، ولتاييس؛ نعم، قد يكون الأمر كذلك، حتى لقد اجتمع المعنيان في كلمة عربية واحدة، هي كلمة «الحرام» بمعنى المقدس وبمعنى الممنوع فعله، فيقال المسجد الحرام بالمعنى الأول، ويقال هذا الفعل حرام عليك بالمعنى الثاني. ومهما يكن من أمر، فقد جمعت أعوام المراهقة في حياتي بين حلقتين في آن واحد: الحلقة الدينية، وحلقة الحديث في شئون الجنس.

لكن التقاء الجانبين في نفس واحدة تعاني تحول المراهقة، لم يكن يخلو من صراع داخلي عنيف، وكيف أنسى ذلك اليوم من رمضان وقد نال الصوم مني ما نال، فتهافت الجسد وانهار، وانتشى الروح لهذا الضعف نفسه الذي هد الجسد؛ إذ علمونا أن الروح والجسد عدوان ما ينفكان يتصارعان، وهزيمة الإنسان هي في أن تكون الغلبة للجسد وشهواته، وسموه إنما يكون في أن تتغلب الروح؛ إذن فقد كنت يومئذ مهدود الجسد منهوك القوى من وطأة الصيام في ذلك الحر الشديد، لكنني كنت بروحي في سماء عالية من الطمأنينة والرضى.

ويومئذ مررت في بعض طريقي على دار أسرة تربطنا بها وشائج الصلة الوثيقة، لأقضي فيها ساعة القيلولة قبل أن أستأنف السير، ودخلت غرفة الضيوف وهي قريبة من الباب الخارجي، بعيدة عن بقية أجزاء المنزل، وفي تلك الغرفة وجدت فتاة من الأسرة - في مثل سني - قد جلست إلى مكنة الخياطة تهز قاعدتها بقدميها، وتمسك الثوب المخيط بيديها، فيكون لجسمها بهذه الحركة شيء من التوقيع والنغم؛ أما أنا فقد حييت وجلست إلى منضدة قريبة وفتحت القرآن - وكنت أحمله معي - وأخذت أقرأ في همس، لا أحول بصري نحو الفتاة إلا إذا وجهت إلى شيئا من عابر الحديث، فأرد عليها أو أوجه إليها شيئا فترد؛ فلقد كان بيننا وبين أسرة الفتاة من قوة الروابط ومن إلف العشرة ما لم يجعلني أفكر في الفتاة على أنها قد تكون من ذلك الجنس العجيب الذي تحدث عنه الأصدقاء في أسمارهم التي لم تنقطع ساعة واحدة من نهار، ولم يطف برأسي قط - والله يعلم أنني صادق فيما أروي - أن تلك الفتاة التي تجلس على مقربة مني، قد تكون هي النافذة التي سأطل منها - لأول مرة - على ذلك العالم المسحور، أبدا لم يطف ببالي شيء من هذا، وكأن كياني كله عندئذ كان هو ذلك القرآن الذي أخذت أتلو آياته في همس، مدخلا نفسي في عالمه، ومازجا معانيه - بقدر إدراكي لها - بشغاف قلبي؛ فكم علمنا الشيخ أبو قرين أنه رب صائم لم ينله من صيامه إلا الجوع والعطش، ولم أرد أن أكون أنا هذا الصائم الذي يصوم عبثا، وفجأة دبرت الأحداث أمرا، وهو أن دخل عم الفتاة يسألها إن كان لديها شيء يلف فيه ثوبا جديدا كان يحمله على ذراعه، فأجابت بالنفي وخرج العم، وعلقت الفتاة بعبارة تشير بها إلى معنى خفي، وقرنت العبارة بابتسامة تنادي وبنظرة تدعو.

فإذا كنت قد رأيت شرارة النار ماذا تفعل بكومة من الدريس الجاف، فقد رأيت ماذا فعلت تلك الشيطانة بجسدي الذي كان الصوم قد جففه! لقد أشعلت في أحشائه نارا - على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز - لأنني أحسست عندئذ لهب النار يأكل جوفي أكلا، ويعلو إلى وجهي فيشويه، وتحول كياني الملتهب إلى عينين ذاهلتين تنظر إلى الشيطان وقد تجسد في إنسانة من البشر! لكن لساني لم ينطق بحرف، وسمر بدني كله على مقعدي، وعيناها ما زالت تدعو، وابتسامتها ما زالت تنادي؛ ومضت ساعة أو ساعتان أو لا أدري كم ساعة مضت، حتى دنا وقت الغروب ووجب الرحيل.

خرجت أسلم باللفظ من بعيد، وذهبت إلى دارنا؛ مصحف القرآن في يدي، وجسد الصائم المنهوك يمشي بخطوات سريعة، لا أعلم من أين جاءه الوقود ليسرع، لكنه أسرع، ووصل إلى الدار لحظة غروب الشمس، وأفطر الصائم، وذهب ليستمع إلى الدرس الديني بين يدي الشيخ - بعد صلاة العشاء والتراويح - منصتا أضعاف ما كان ينصت كل ليلة، وخاشعا أضعاف ما كان يخشع، كأنه أراد بذلك أن يقيم الأسوار الحصينة بينه وبين الغواية؛ لكن هيهات؛ فلقد انفتح الباب الموصد عن العالم المسحور، لقد كانت روحي يومها من جسدي كأنها يوليسيز من سفينته أثناء تجواله في البحر، حين ربط جسده إلى قلعها وشد على نفسه الوثاق؛ إذ قيل له إن الساحرات في إحدى الجزر على الطريق، تغنين بصوت خلاب لا يملك دفعه إنسان من البشر، فينعرج الملاحون بسفائنهم إلى حيث الصوت الساحر، حتى إذا ما وقعوا في فخاخ الساحرات دارت بهم الحتوف، ولم يرد يوليسيز أن يضعف أمام الإغراء، فشد نفسه إلى قلع السفينة شدا، لكن السفينة اضطربت أي اضطراب ومالت أيما ميل، وهكذا كنت يومئذ من ساحرتي؛ تلك الشيطانة التي رسمت في نفس الفتى المراهق صورة للمرأة كيف تكون، فتوالت الأيام وكرت الأعوام، لكن الصورة قد رسخت في نفسه لا تزول.

وها هنا يخطو الفتى خطوة نفسية قصيرة المدى، فإذا هو مغمور بحبه لقراءة الشعر، وما هو أقرب إلى الشعر من نثر الناثرين؛ فالزملاء في المدرسة ما يفتئون يباهي بعضهم بما قرءوا من الشعر وبما حفظوا، وأخذت تتردد بينهم أسماء سمعتها لأول مرة: الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، وليالي سطيح والبؤساء لحافظ إبراهيم، والعبرات للمنفلوطي، فاندفع فتانا في هذا العالم الجديد اندفاعا، لكن كلما قرأ قصيدة في الغزل، أو وقع على كلام فيه لوعة الحب، فهمه على ضوء ما كان يحسه إزاء تلك الشيطانة التي رسمت أمام خياله معالم الطريق.

فلطالما عبرت طريق الأعراف بين عالم الجسد وعالم الروح، فأعرج إلى السماء مرة وأهوى إلى الأرض مرة، وتجسدت لي العلاقة بين الأرض والسماء، كم هي قريبة إذا شاء الله. ذات يوم وكان قد جاء إلى الأسرة وافدتان جديدتان هما أختان، ثم وافد ثالث هو أخ لم يلبث على وجه الأرض إلا عاما وبعض عام، وثقلت عليه العلة، ولم ينقطع له أنين عدة أيام، وفي ذلك اليوم الذي أعنيه - ساعة الضحى - لم يبق في الدار - فيما أذكر - إلا أمي وأنا، ولا أدري أين ذهب الباقون، وكان لا بد للأم أن تنظر في شئون البيت، فأجلستني متربعا على السرير، ووضعت الطفل العليل على ركبتي لئلا أرفع عن وجهه نظري؛ لأنها كانت تخشى فيه أمرا، ومضت ساعة أو أكثر أو أقل، والحشرجة تزداد في صدر المحتضر، ثم ما هو إلا أن مال برأسه وسكنت الحشرجة، ولم يعد الصدر يعلو ويهبط كما كان يفعل؛ لقد مات راقدا على ركبتي، فصرخت فازعا، وجاءت الأم في هلع، ونظرت إليه، وحملته ملهوفة عليه، وكأنها لم ترد أن تصدق أنه مات، فصاحت في: اذهب كالبرق وناد خالتك أم محمد لتفحصه؛ فلا أطباء، ولا أحد من أفراد الأهل الأقربين هناك لأدعوه، ولم يبق أمامها من موئل إلا جارة وقورا، هي التي صاحت بي أمي أن أناديها على عجل.

وكان ذلك أول موت شهدته على مقربة، حين كانت النفس مني حائرة بين أرضها وسمائها، فعلمت بما قد رأيت أن المسافة قريبة بين الأرض والسماء.

وأراد الله أن يعوضنا أخا مكان الأخ، فجاء من لقي منا كل إعزاز وتدليل، وما يزال يلقى. ***

بهذا انتهت مذكرات الأحدب، أو ما استطعت أن أستخرجه من مذكراته؛ لأن بها أجزاء كثيرة ممزقة أو مطموسة تتعذر قراءتها، وهي مذكرات كتبها وهو في الخامسة والعشرين أو نحوها ومضت عليها خمسة وأربعون أخرى؛ لأنه اليوم في السبعين.

الفصل الرابع

فاوست في قبضة الشيطان

أحسست من الطريقة التي أعطاني بها الأحدب مذكراته القديمة الممزقة، أنه أراد أن يفض الأمر بينه وبيني، فإذا كنت أتعقبه لأكشف عن سره، فها هو ذا سره مكتوبا، ولم يعد بعد ذلك ما يدعو إلى تعقبه في وحدته؛ لكنه في الحقيقة قد أخطأ الظن؛ لأن قراءتي لمذكراته تلك لم تزدني إلا رغبة في معرفة ما بقي من قصة حياته؛ لأن تلك المذكرات إنما وقفت عند سن المراهقة أو بعدها بقليل، فماذا كان بعد ذلك حتى بلغ ما بلغه الآن من عمر؟

لقد ختمت مذكراته بذكر أخ أصغر أضيف إلى أسرته، وكأنما أضيف إليها تعويضا عمن كانت فقدته قبل ذلك بقليل، فماذا لو بدأت البحث بالسؤال عن بقية أفراد أسرته؟ إنني في الحقيقة لم أكن أسعى إلى تفصيلات حياته في حد ذاتها؛ لأنها لا تثير اهتمامي إلا بمقدار ما تكشف لي عن السر الدفين في أن تكونت له تلك العاهة النفسية التي برزت على ظهره قتبا يكبر حينا ويصغر حينا، وهي نفسها العاهة - أو لعلها أن تكون - التي مالت به إلى خشية الناس وإلى الانفراد بنفسه في مسكن منعزل أو في ركن من المدينة قصي بعيد .

ولم يطل عنائي في السؤال عن أفراد أسرته، والمصادفات في أمثال هذه الأمور تسعف الباقين أكثر جدا مما يتصور الناس، كأن لهذه المصادفات قوانينها التي تشبه قوانين العلوم، فيندر أن يتغيا الإنسان في حياته غاية يريد بلوغها، إلا وتولد له المصادفات مما يشبه العدم أو المحال، فتقدم له المعونة وتخلق له الظروف التي تحقق له غايته المنشودة.

جلست على مقهى في ميدان السيدة زينب بالقاهرة، ولم تكن تشغلني عندئذ مسألة الأحدب وأسرته، فما هو إلا أن لمحني في الطريق صديق قديم منذ عهد الدراسة، فضلا عن كونه منتميا إلى القرية نفسها التي أنتمي إليها، فجاء مسلما، ودعوته للجلوس، فنظر في ساعته ليرى إن كان الوقت يسمح له بجلسة قصيرة معي، ثم جلس، ثم لم تكد أطراف الحديث تتصل بيننا حتى ورد ذكر الأحدب ورودا سريعا في حديثه، فاستوقفته في لهفة نبهته إلى أهمية الأمر عندي، مما دهش له.

قلت: من هذا الأحدب الذي ذكرته الآن؟

قال: هو رجل عرفته منذ سنين، حين تزاملنا في إحدى مدارس الريف، وبيني وبينه قرابة بعيدة.

قال: هلا حدثتني بأي شيء تعرفه عن أفراد أسرته؟

قال: وما سر اهتمامك به؟

قلت: لقد عرض لي في طريق الحياة لفترة وجيزة، أثار فيها استطلاعي، ولم أعلم عنه بما يشبع رغبتي، ولو لم يكن على شيء من الغرابة اللافتة للأنظار، لما عنيت به، ولكان واحدا من ألوف الناس الذين يجيئون في طريق الحياة ويذهبون.

قال: صدقت، إنه على كثير من الغرابة، ولكني - على كل حال - لا أعلم عنه إلا أقل من القليل؛ بسبب انطوائيته الشديدة في معظم الأحيان، انطوائية لا تشجع أحدا على الاقتحام، ومع ذلك فصلة القربى البعيدة بيني وبينه قد أتاحت لي أن أعلم بأن أباه كان ملحقا بحكومة السودان، ولقد اصطحب ابنه هذا إلى هناك وهو غلام، ومضت أعوام لا أعرف عددها، ثم عادت الأسرة كلها إلى القاهرة، وكانت عند العودة مؤلفة من الوالدين وثلاثة أبناء وبنتين، وهذا الأحدب هو أكبر الأبناء.

قلت : ومن هما أخواه؟

قال: أحدهما قريب من سنه، وهو يزامله مزاملة لم أشهد مثلها في أخوين؛ فلقد كانا على طريق في الدراسة واحد، وتخرجا معا، واشتغل كلاهما بالتدريس أول الأمر، وأظن شقيقه هذا الآن مديرا للتعليم في منطقة القناة؛ وأما أخوهما الأصغر فأظنه طبيبا في إحدى عواصم الصعيد.

وتركنا سيرة الأحدب بعد هذه العجالة المفيدة، واستأذن صديقي بعد دقائق قليلة، وتركني على عزيمة بأن أقصد إلى شقيقه مدير التعليم، لعله أن يكون طريق الوصول إلى ما كنت أبتغي الوصول إليه من تفصيلات تكمل سيرة حياته، ويكون لها عندي دلالتها في تكوينه النفسي.

ولن أطيل في ذكر التفصيلات التي اعترضت طريقي في البحث عن شقيق الأحدب، وهو الذي قيل لي عنه إنه والأحدب بمثابة التوءمين بالروح؛ فهما وإن يكن بينهما في العمر سنتان، والأحدب يكبر بها شقيقه ذاك، إلا أنهما بدءا الدراسة معا وتلازما في كل مراحل الحياة بعد ذلك، حتى لقد تشابها في الفكر وتشاركا في مجموعة الأصدقاء، وتزاملا في كل ما قد عرض لهما أثناء الطريق، ولا يكاد أحدهما يكن سرا لا يطلع عليه توءم روحه، فهما في الحق - كما قال لي القائل عنهما - قد أوشكا أن يكونا شخصا واحدا في جسدين.

وصلت إلى الشقيق خلال إجازة قصيرة كان يقضيها في القاهرة، ولم أرد أن ألف معه وأدور، بل كاشفته بكل ما جئته من أجله؛ وهو أني رأيت في أخيه الأحدب ما أثار اهتمامي وأردت أن أتعقب تاريخه، لا حبا مني في استطلاع غوامض الناس لمجرد الاستطلاع، بل لأني أردت أن أتخذ منه موضوعا للتحليل المفيد؛ فهو بغير شك يمثل نموذجا صالحا للدراسة التي نستبين بها مدى ما تفعله عوامل النشأة في تكوين النفوس، ولو كان إنسانا على الصورة المألوفة للأناسي، لما لفت الأنظار، لكنه هو حبه للعزلة والانطواء على نفسه وخوفه من مخالطة الناس؛ دون أن يكون ذلك صادرا عن شك في نواياهم بالنسبة إليه، وإنما هي عزلة وانطواء وخوف قد أصبحت جزءا من كيانه، لا يطمئن إلا بها، ولا يكتمل له وجوده إلا إذا تحققت له، فما الذي ينتهي بإنسان إلى مثل هذا؟ ذلك هو السؤال.

استمع إلي شقيقه برحابة صدر، ثم سألني: أين التقيت به، وكيف؟ فقصصت عليه ما كان، وذكرت له شيئا من مذكراته التي أعطاني إياها عن حياته الأولى، لكنها مذكرات تنتهي عند أول الشباب.

فروى لي الشقيق في إيجاز عن أخيه - وهو لا يشير إليه باسم الأحدب كما كنت أشير - بل يسميه باسمه الحقيقي، وهو رياض، فقال: كان أخي رياض لم يزل في سن باكرة من شبابه حين أوشكت كلية غوردون الثانوية أن تنحرف به إلى عمل متواضع يؤديه لحكومة السودان؛ إذ إن تلك الكلية لم تنشأ أساسا إلا لتغذية الحكومة بمن تريدهم من العاملين على اختلاف الأنواع؛ من عمل فني أو مهني إلى عمل كتابي أو غير كتابي؛ فأسرعت الأسرة بإرساله إلى القاهرة ليستأنف دراسته، ولحقت به أنا بعد قليل، حيث عدنا إلى متابعة السير على طريق واحد.

وما هو إلا أن فرغنا من المرحلة الثانوية، وكان علينا أن نختار من المدارس العليا القائمة عندئذ ما يطيب لنا أن نختار - وتلك المدارس العليا هي التي تحولت بعد قليل إلى كليات الجامعة - وها هنا لعبت الأقدار لعبتها المألوفة، وهي أن تقذف في طريق الإنسان عندما يكون في مفترق الطرق، ما يميل به إلى هذا الطريق أو ذاك، فترى الإنسان في أمثال هذه المواقف الحاسمة قابلا للتأثر بأوهى العوامل.

ولقد شاءت المصادفة أن يكون لنا قريب تخرج من مدرسة المعلمين العليا ويعمل بالتدريس في إحدى المدارس الثانوية، لكنه كان من ذلك الصنف الذي يجيد حسن المظهر، وكان الوقت أوائل الصيف، عندما انعقدت في القاهرة لجان التصحيح للشهادات العامة، وجاء صاحبنا من مدرسته التي يعمل بها - وأظنها كانت في الإسكندرية - ليشارك في لجان التصحيح، ورأيناه نحن عندئذ نزيلا في فندق ممتاز، ويلفت الأنظار بروعة هندامه، وارتفاع المستوى الذي يتحرك فيه كلما قضى سهرة هنا أو جالس بعض أصدقائه هناك، حتى لقد خيل إلينا أنه النموذج الحي لما نريد لحياتنا أن تكون عليه.

وإذن فقد انحل الإشكال وتحدد أمامنا طريق الاختيار، وهو أن نسلك الطريق نفسه الذي سلكه صاحبنا؛ فإلى مدرسة المعلمين العليا بغير تردد؟

ولم نكن في هذا الاختيار على ضلال؛ لأن طريق المعلمين العليا - بالنسبة إلى طلاب الدراسة الأدبية - لم يكن عندئذ ينافسه طريق آخر لمن أراد أن يضمن لنفسه «وظيفة» بعد تخرجه؛ ولا غرابة أن كانت «الدفعة» التي شملتنا ممن دخلوا مدرسة المعلمين العليا في ذلك العام (1926) تحتوي على نسبة كبيرة جدا من أصحاب المجموعات العالية في امتحان «البكالوريا». •••

سار شقيق الأحدب بالحديث إلى هذا المدى القصير، ولأمر ما أخذه القلق وأراد أن يترك الرواية للأحدب نفسه، لا سيما ومطلب الباحث هو العوامل الداخلية التي عملت على تكوينه؟ فحتى هذا التوءم الروحي له - أعني شقيقه - قد تخفى عليه الخلجات الباطنية ولا يرى من الأمر إلا ظواهره، ولقد تعهد لي أن يصلني بأخيه الأحدب على النحو الذي يشق أمامنا الطريق، وذلك ما حدث.

وابتسم لي الأحدب كأنما أراد أن يسألني: أين كنت؟ وفيم اللجوء إلى أخي؟ ولم يكد أخوه يتركنا وحدنا حتى دار بيننا حديث مقتضب في أمور مختلفة، استطعنا بعدها أن نضع أنفسنا في موقف نستأنف به الرواية عند النقطة التي ختم بها أخوه حديثه، قال: أربع سنوات قضيتها في مدرسة المعلمين العليا. كانت هي التي وضعت لي أساس التحصيل العلمي الغزير، وهي التي أمدتني بمجموعة الأصدقاء الذين كانوا هم العالم الصغير الذي أحاطني بعوامل الحب والتنافس معا، وهي التي بذرت في نفسي تذوق الأدب والفن، وهي التي وضعت أمامي عددا من النماذج البشرية التي أحتذيها ومن النماذج التي أنفر منها وأجتنبها، وهي التي كانت بمثابة المرحلة التحضيرية الحقيقية لمستقبلي كله قارئا أو كاتبا.

كانت الأسرة - والوالد بصفة خاصة - قبل ذلك هي المحيط المؤثر بكل ما فيه من حوافز تحفز ومحيطات تؤدي إلى الكساح؛ وأما بعد ذلك فالمحيط المؤثر هو تلك المدرسة بما ذكرته عنها؟ ولعلي لا أخطئ كثيرا لو أجملت أثر المرحلتين في نفسي فقلت إن عوامل الحفز في المرحلة الأولى كانت على سبيل التحدي؛ وأما عوامل الحفز في المرحلة الثانية فقد جاءت عن طريق التنافس والطموح الإيجابي الذي لا يتحدى أحدا بذاته، ولكنه يريد المزيد ويريد الصعود لذات الزيادة والارتفاع، وكانت الحلقة الواصلة بين المرحلتين هي أخي توءم الروح - كما قيل لك عنه بحق - فقد كان معي في المرحلة الأولى ونحن نتحدى العوامل التي تحيط بنا معا، كما كان معي في المرحلة الثانية ونحن نطمع في مزيد ونطمح إلى صعود ...

سكت الأحدب، وانقبضت أسارير وجهه وسرح ببصره إلى السماء، وفوجئت بهذا التغير الغريب؛ حتى لقد نظرت أنا الآخر إلى حيث اتجه ببصره لأرى إن كان هناك ما استدعى ذلك التغير، لكن لا شيء، إنها طبيعته المتقلبة بين انبساط سهل وانقباض بائس، ولماذا لا أقول: إن هذه الطبيعة نفسها هي طبيعة المصري، وكل ما في الأمر عند الأحدب أن تلك الطبيعة المتأرجحة بين بسط وقبض قد تطرفت فوضحت معالمها، إنك لا تدري أين الصواب حين تريد وصف الطبيعة المصرية؛ أتقول عنها إنها سهلة منبسطة ضاحكة في غير تعقيد؟ أم تقول عنها إنها مأساوية حزينة؟ أقول: إنك لا تدري أين الصواب هنا؛ إذ يبدو أن الصواب فيهما معا. وحسبك أن تقف أمام التماثيل المصرية القديمة لترى جهامة الجد قد عبست بها الجباه، لكن الشفاه مع ذلك تفتر عن ابتسام، هو أقرب إلى ابتسام الساخر من الحياة؟ ألا ما أكثر ما يوصف المصري أو يصف نفسه بالمرح ولذع النكتة، وما أكثر كذلك ما سألت نفسي: أصحيح ما يوصف به المصري من مرح؟ إني لا أراه كذلك؛ وإلا فأين جانب المرح في نتاج أدبائه؟ وأما النكتة اللاذعة فلا ريب في شيوعها، ولكنها على الأغلب نكات المرارة والإحباط.

وصديقنا الأحدب مصري صميم، فيه ما في طبيعة مصر التي ربما حددت معالمها خضرة الزرع في الوادي ملاحقة لصفرة الرمل في الصحراء؛ فبين اللونين خط فاصل حاد لا يتدرج في هذه الناحية أو في تلك، وبذلك تجاوزت نفس المصري حالة الأمل الضاحك وحالة اليأس العابس، ينتقل من إحداهما إلى الأخرى بغير تمهيد وبلا تدرج.

ظللنا صامتين فترة، ثم استدرجته لمتابعة الحديث، فقلت له: قد أفهم أن تمدك دراسة المعلمين العليا بالعلم الغزير، ولكن لا أفهم كيف جاءك منها تذوق الأدب والفن؟

فأجاب: لعلها مصادفات؛ فلقد شاءت المصادفة أن يبدأ لنا أستاذ الأدب الإنجليزي بشرحه لقصيدة ورد زورث التي نظمها عن النرجس الأصفر، والتي يقول في سطرها الأول ما معناه: «تجولت وحدي كالسحابة.» وأخذ ذلك الأستاذ يحلل هذا السطر وحده في درس كامل، مما جعلني أستمع إليه وأنا ذاهل لما يمكن أن يتكشف عنه بيت واحد من الشعر لو وجد الناقد الدارس الذي يفجر ألفاظه تفجيرا ليخرج مكنونها، ولم أكن أعهد فيما قرأناه وحفظناه قبل ذلك من الشعر العربي، لم أكن أعهد مثل هذا التحليل العجيب؛ فلو قلت الآن إن هذا الدرس الأول في النقد الأدبي، الذي تناول به الناقد المعلم الشارح سطرا واحدا هو فاتحة القصيدة، لو قلت الآن! إن هذا الدرس عن ذلك السطر الأول هو بذرة التحول عندي في قراءة الشعر كله والأدب كله، لما بعدت عن الصواب.

وربما شاءت مصادفة نكدة أن يجيء محاضر الأدب العربي في إثر ذلك الدرس الأول العجيب في الأدب الإنجليزي، فكان هذا المحاضر العربي شيخا يضع أمامنا أبياتا من الشعر الجاهلي وكأنه يقدم لنا أحجارا خشنة غلاظا لا تقوى على هضمها أقوى المعدات، ولا هو في وسعه أن يفك تلك الجلاميد لتخرج مكنونها أمام الأبصار، فبقدر ما كان الدرس الأول طاقة فتحت أمامي الطريق إلى سماء في الفهم الأدبي تعلوها سماء. كان الدرس الثاني - ولو بالمقارنة بما قبله - صارخا بأن تراثنا العربي يحتاج إلى أيد أخرى غير الأيدي التي كانت تعبث بذلك التراث وهي عجماء.

وكذلك كان لنا أستاذ في الفنون، لا أقول: إنه ذواقة للفن بحيث جاءتني منه العدوى؛ لأنني - حتى في تلك السن - كنت أدرك أن تعليقه على أعمال الفنانين ينقصها شيء من الحساسية، لكنني برغم ذلك أشهد له بأنه كان بمثابة من فتح أمامنا بابا وقال: هاكم المروج الفسيحة إذا أردتموها فادخلوا إليها من هذا الباب؛ ومن هنا بذرت في نفسي بذرة ربما كانت ضئيلة ضعيفة مقيسة إلى بذرة التذوق الأدبي؛ أقول: إنه من هنا قد بذرت في نفسي بذرة الالتفات إلى دنيا الفنون.

وقد أظلم نفسي إذا لم أذكر هنا بأن الحاسة الأدبية - متمثلة أول الأمر في الحس بالألفاظ وجرسها - قد انغرست عندي منذ الطفولة الباكرة التي قد لا تصدقني إذا حددت تلك الطفولة الباكرة بسن التاسعة أو العاشرة، وإنه لمن الأحداث المحفورة في ذاكرتي منذ ذلك الحين البعيد ما حدث لي ذات يوم وقد دعيت مع بقية أفراد الأسرة إلى حفلة زواج، وما كان أشد دهشة الحاضرين جميعا والحاضرات، وهي دهشة اختلطت معهم بضحكات الهزء والتصغير، عندما فاجأت الجميع بأن صعدت على كرسي في ركن الغرفة وأخرجت ورقة وأخذت أتلو خطبة التهنئة التي كنت قد أعددتها سرا.

أذكر ذلك لأستشهد به على ميل مبكر نحو صياغة اللفظ التي قد تكون عتبة الدخول في رحاب الأدب تذوقا وإنشاء، وربما كان هذا الميل المبكر عندي هو الذي جعلني ألتقط شعاع النور حين أرسله أستاذ الأدب الإنجليزي وهو يقدم لنا قصيدة ورد زورث، وهو الشعاع الذي أضاء لي طريق الأدب كيف يكون إبداعه وكيف يكون فهمه وتذوقه، فإذا كان جرس اللفظ هو الذي ملأ سمعي قبل ذلك، وهو أيضا ما أراد أن يؤكده في آذاننا شيخ الأدب العربي يومئذ، فإنني بعد ذلك الدرس الأول الملهم قد أدركت أن الأدب شيء آخر، يستخدم قوة اللفظ والعبارة بما فيها من تنغيم، ليجعلها أداة موصلة لذلك الشيء الآخر، وهذا الذي انغرس في نفسي عن الأدب، قد اتسع معي فيما بعد ليكون مبدأ عاما يشمل جميع الفنون.

ولقد ظهرت معي محاولات أولى منذ ذلك العهد، أمزج فيها بين النغم والمعنى، لعل من أوائلها حادثا عابرا كان أقرب إلى اللهو المازح منه إلى الجد البناء؛ وذلك أن مجلة مصورة في ذلك الحين - أظنها كانت مجلة «اللطائف المصورة» - قد أعلنت عن مسابقة يكتب فيها المتسابقون أسطرا لا يزيد عدد كلماتها عن أربعين كلمة - فيما أذكر - بحيث يصفون في هذه الأسطر القليلة ماذا عساهم صانعين لو علموا أن نهاية العالم ستكون بعد ساعة واحدة، فكتبت مع الكاتبين، وبالطبع لا أذكر ما كتبته، لكنني أذكر أنني قلت إنني لا أعمل شيئا، وما تزال ترن في أذني إلى اليوم عبارة وردت في أسطري، فقلت فيها: إنني وقد «وجدت الدقائق تمر سراعا، والقلب يدق تباعا»، مع ما تكاثر في خاطري مما ينبغي عمله في هذه الساعة الواحدة الباقية، لعجزت عن التنفيذ.

وجاءت نتيجة المسابقة بفوزي بجائزتها الأولى، وكانت جنيهين! لا، إنه لمن أفدح الخطأ ألا تقيس هذه الأمور بما يصاحبها من مشاعر وبما يحيط بها من ظروف، فأنا الآن حين أقول: إني كسبت جنيهين لا يسعني إلا الضحك كما أراك أنت الآن ضاحكا مما سمعت ...

أردت الاعتذار فقاطعني الأحدب قائلا: لا تعتذر؛ فهو أمر طبيعي لا غرابة فيه، لكنه هو نفسه الأمر الذي يميل بأبناء الحاضر أن يظلموا أسلافهم عند الحكم عليهم؛ فقد يقيسون أعمالهم بمقاييس عصرنا فيجدونها ضئيلة نحيلة فيهزءون! ما علينا من هذا الآن، كسبت ذينك الجنيهين من تلك المسابقة، فقل ما شئت عن فرحتي التي أحسستها بالفوز في ذاته أولا، وبالمال نفسه ثانيا.

ماذا تظن من موقفنا عندئذ من المال؟ بضعة قروش نتحرك في مجالها! وجاءني صديقان ممن كانت الصلة قد توطدت بيني وبينهم، يلحان في نزق الشباب وخفته أن نذهب جميعا، أنا وأخي والصديقان، لننفق هذين الجنيهين في «فسحة» نخططها لتستوعب كسبي كله، وكانت أول الخطة أن نذهب إلى مسرح يوسف وهبي.

وذهبنا، وكانت المسرحية القائمة تلك الليلة هي «كرسي الاعتراف». لم أكن قد شهدت قبل ذلك في حياتي مسرحا، ولا عرفت كيف يكون! كنت أسمع عن دنيا المسارح، لكني كنت أحسبها بديهية من بديهيات الرياضة أنها لم تخلق لي ولا خلقت لها، أما وقد ذهبنا، وأما وقد رأيت ما رأيت، فلست أدري بأي لغة أستطيع أن أصور لك الهزة العميقة العميقة العميقة التي اهتزت بها نفسي لما رأيت؛ فكل ما رأيته جديد، وكل ما سمعته جديد، وعدت إلى داري ذلك المساء لأحلم بما قد رأيت وسمعت، والحق أنه كان فتحا جديدا في حياتي، لا لأن المسرحية والتمثيل يستحقان كل هذا الثناء؛ فأنا لم أكن ليلتها على أدنى درجة من العلم بدنيا المسرح؛ فقد تكون تلك المسرحية جيدة وقد لا تكون، وقد يكون الممثلون أجادوا أو لم يجيدوا، لم يكن ذلك هو مدار انتباهي، بل كان المدار هو هذه الدنيا الجديدة نفسها حين انكشف عنها الستار. •••

نهض الأحدب واقفا بغير تمهيد، ودون أن تبدو على وجهه معالم الضجر المألوفة عنده حين يضيق صدره، قال: لماذا لا نخرج في الهواء الطلق ساعة أو ساعتين، وقد نكمل الحديث هناك؟ - أنت وما تريد.

وخرجنا معا، وكأني بالأحدب قد استقام ظهره بعض الشيء، لكنني لم أمعن النظر حتى لا أعكر عليه الصفو الذي هو فيه، وسرنا في الطريق لا يبدو على سيرنا أنه هادف إلى مكان بعينه؛ فلم أكن من ناحيتي أريد التدخل، وتركت له القياد، قانعا بأن يكون الحديث بيننا في أثناء الطريق مسترسلا في مجراه الطبيعي الهادئ، على أنني ما لبثت أن تبينت خطة سيره؛ إذ أراد لنا الجلوس في مكان يقع على النيل في مكان قصي شمالي القاهرة، كثيرا ما مررت به وسألت نفسي: ترى أي مجنون تحدثه نفسه بالجلوس في هذا المكان البعيد عن كل عمران، ومع ذلك فلا بد أن يكون له زائرون وإلا لأغلق صاحب المكان أبوابه وانصرف إلى سواه.

جلسنا هناك وكنا وحدنا؛ فقد يكون زبائن مكان كهذا من ذوي المزاج الشاذ الذين إذا اختار سائر الناس ساعات النهار اختاروا هم ساعات الليل، ولم نكد نستوي على مقاعدنا ونطلب شراب الليمون، حتى حركت في صديقي شهوة الحديث فيما كان بصدده ونحن في غرفة مسكنه.

قال: الذكريات حلوة حتى وإن كانت في حينها مصدرا للمرارة والألم، وإن حياتنا في تلك السنوات الأربع التي قضيناها - أخي وأنا - في مدرسة المعلمين العليا، لهي في الحق حياة لم تخل من ضنك وضيق، لكننا برغم ذلك لم نكن نحس مما نحن فيه إلا بالحيوية الدافقة تدفعنا إلى العب من ثقافة أيامنا عبا ليمتلئ الإناء! كنا نجمع كل ما كان يخرجه أعلام الفكر والأدب من كتب خلال العام الدراسي لنجعله زادنا في أثناء إجازة الصيف، على أن كل ما كانت تخرجه المطابع عندئذ خلال العام كله لم يكن ليجاوز أصابع اليدين، ولم تكن أثمان الكتب بحيث نعجز عن الشراء.

كان أحمد حسن الزيات قبيل ذلك الزمن بقليل، قد أخرج كتابيه المترجمين: «آلام فيرتر» لجيته، و«رفائيل» للامارتين، فكم مرة تظنني قد قرأت هذين الكتابين؟ لو قلت إنني قرأتهما على الأقل ثلاث مرات متوالية لما بالغت؛ لأن لغة الترجمة سحرتني إلى حد الفتنة! وإن لم تكن هي فتنة المسحور، فماذا تسمي هذا السلوك الآتي: أردت أن أكتب خطابا إلى أبي، وكان لم يزل في منصبه في حكومة السودان بالخرطوم، وكنت قد عدت من إجازة قصيرة قضيتها معه هناك، وكان طريق السفر تتخلله مرحلة بالسفينة البخارية فيما بين أسوان ووادي حلفا، وفي هذه المرحلة النهرية كان يحدث للسفينة أن تقف بركابها عند أبي سمبل، ليستطيع من أراد أن يزور ذلك المعبد القديم المنحوت في حجر الجبل، فلما أردت الكتابة إلى أبي بعد عودتي إلى القاهرة، أغرتني صفحات جميلة في «رفائيل» يتحدث فيها الكاتب عن معبد قديم، فانتحلتها لنفسي وكتبتها خطابا مستفيضا لأبي، دون أن أذكر له شيئا عن حقيقة ما كتبت، لأدهمه بأنني صاحب هذا الإبداع، ومن الفتنة نسيت أن أضع في الخطاب - لا في أوله ولا في آخره - التحية المألوفة في الخطابات يرسلها ابن إلى أبيه فأرسل إلي يعاتبني على إهمال تحيته في الخطاب، ولم يذكر لي شيئا عما ورد في الصفحات الطوال التي نسختها وبعثت بها إليه.

فتنت بأسلوب الزيات يومها، فلا هو الأسلوب الذي يفوح بالقدم لما يرد فيه من لفظ غريب وسجع أغرب، ولا هو الأسلوب الذي يخلو من العناية باختيار اللفظ وبصقل العبارة صقلا يعطيك شيئا من التوازن بين أجزائها؟ نعم كانت كتب المنفلوطي هي الأخرى أمرا يشبه أن يكون واجب الأداء؛ فليس قارئا بين الشباب من لم يقرأ «العبرات» و«النظرات» للمنفلوطي، ولكن كان شائعا بين هؤلاء الشباب من الكاتبين أن يستخدموا كثيرا من «لوازم» المنفلوطي في التعبير. ولست أقول: إني نجوت من هذه العدوى، لكنني أقول: إنني أضفت إلى ذلك ما لم يضفه كثيرون غيري، وهو الإعجاب بأسلوب الزيات إعجابا تمنيت أن يكون له أثر عندي وصدى.

وكانت «للمطالعات» و«المراجعات» وغيرهما مما أخرجه العقاد في ذلك الحين أو قبله بقليل، أثر في عقولنا أكثر منه أثرا في قلوبنا أو في أسلوبنا! فعند العقاد وجدنا زادا فكريا غزيرا، لقطناه ووعيناه ورددناه في أحاديثنا إلى حد الإسراف؛ فمن ذلك مثلا أننا حين عرفنا فكرة العقاد عن الجمال بأنه هو الحرية؛ بمعنى أن الشيء يكون جميلا بمقدار ما يتغلب على القيود وينساب في حركة سهلة، كالنهر الجاري بالقياس إلى الماء الآسن، وكالبدن الراقص بالقياس إلى البدن الثقيل البطيء، وكالزهرة الطبيعية التي تشف عما يجري في أوراقها من عصارة الحياة بالقياس إلى زهرة شبيهة بها صنعت من ورق ... وهكذا وهكذا؛ أقول: إننا حين عرفنا فكرة العقاد هذه في إرجاعه صفة الجمال في الشيء إلى ما يكون في ذلك الشيء من حرية الحركة وعفوية الحياة؛ ملكت علينا عقولنا إلى الحد الذي جعلنا - أخي وأنا - حين ذهبنا في إجازة الصيف إلى الريف، واعتدنا الجلوس أمام دكان لبقال كان يرحب بأمثالنا من طلبة العلم يجلسون للمناقشة أمام دكانه، يسمع منهم معجبا وهو صامت؛ إلا ذات مرة طرقنا نحن فيها فكرة العقاد في الجمال! ففي هذه الحالة لم يستطع البقال الريفي - وكان على شيء يسير جدا من العلم الأزهري - أن يمسك لسانه بالصمت، فتدخل في حديثنا ساخرا من هذا الكلام الفارغ الذي نقوله أو يقوله العقاد عن الجمال، ثم زعم لنفسه المعرفة العملية - لا النظرية - بالموضوع، وهي عنده معرفة ترجح ألف مرة ما ينقله القارئون من الكتب؛ فهو - كما قال متحمسا - متزوج من أربع زوجات، ولم يكن للعقاد زوجة واحدة؛ فمن حق أمثاله أن تكون لهم كلمة في طبيعة الجمال أكثر جدا مما يكون ذلك من حق رجل كالعقاد، أو من حق شباب مثلنا لم يكن لهم بدنيا النساء علم! قال ذلك جادا، فلئن كان الرجل عجيبا في انعراجه بالحديث إلى ما لم نكن نعنيه، فذلك مفهوم من رجل مثله لم يتسع أفقه لأمثال هذه الأفكار النظرية في علم الجمال؛ أقول: إن كان هذا الرجل عجيبا، فنحن كنا أعجب منه وأغرب؛ لأننا قابلنا جده بجد مثله، وأخذنا بكل الحرارة المشتعلة ندافع أمامه عن فكرة العقاد تلك، بأن الجمال كائن في الحرية من القيود والمعوقات مهما يكن نوع الشيء الجميل، ومهما تكن ضروب القيد والتعويق.

وكان سلامة موسى داعيا آخر من دواعي انشغالنا الفكري في تلك السنين، خصوصا حين نشر كتابه عن «الحرية» وكتابه عن «التطور». وسأقص عليك القصة الآتية: إنني حين قرأت كتاب «حرية الفكر» - وهذا هو عنوان الكتاب كاملا - وجدت فيه قصة الإمام ابن حنبل وما تعرض له من محنة يقشعر لها البدن لما فيها من قسوة فظيعة بالرجل، لمجرد أنه خالف رأي الخليفة المأمون في مسألة القرآن: أهو قديم أم حديث مخلوق؟ فالخليفة يريد للناس أن يقولوا عن القرآن إنه مخلوق، والإمام أحمد بن حنبل يصر على أنه قديم، فكان ما كان من تعذيب له حتى يغير رأيه، لكنه لم يغيره.

لم أكن قبل ذلك سمعت بهذه المشكلة الغريبة، ولم أفهم شيئا من هذين المصطلحين «مخلوق» و«قديم» بالنسبة للقرآن، فانتهزت فرصة في أول محاضرة في التاريخ الإسلامي - وكان هو مقررنا في التاريخ لذلك العام - وسألت الأستاذ المحاضر عن المشكلة وما أصلها وفصلها؟ وكان الأستاذ قد عاد لتوه من بعثته بإنجلترا، وكنا قد لاحظنا عليه نواحي كثيرة من ضعف الشخصية ومن الخصائص التي تبعث على الاستخفاف به والسخرية منه، حتى لسرعان ما أصبحت نوادره حديث مجالسنا، لكن لم يكن لأي شيء من ذلك دخل في جدية سؤالي، وفي جدية المأخذ الذي توقعت أن أجاب به، فما كان أشد دهشتي حين ثار الأستاذ ثورة صبيانية، وأمرني بالخروج من قاعة الدرس، وبينما كنا نتجادل في عنف دق الجرس، فأسرعت لأشكو إلى العميد هذا التصرف من الأستاذ، وخصوصا وقد قضى بحرماني من حضور محاضراته إلى آخر العام؛ فلكم دهشت مرة أخرى حين رأيت الأستاذ يجري جريا في فناء المدرسة ليصل إلى غرفة العميد قبل أن أصلها، ودخل هو وأمرت أنا بالانتظار، حتى إذا ما خرج سمح لي بالدخول، ولم أبدأ الحديث إلا وقد تلقيت اللعنات والشتائم، والأمر بألا أحضر محاضرات التاريخ الإسلامي إلى أن يأذن لي الأستاذ بذلك.

وأما طه حسين فقد كان هو الذي ملأ خيالي في تلك الأعوام، ليست المسألة هنا متعلقة بالمادة المكتوبة نفسها؛ وإلا فلست أظن أن طه حسين بما كان ينشره عندئذ أغزر فكرا من سواه، لا بل ربما كان العقاد أو سلامة موسى أو الدكتور محمد حسين هيكل أوفر محصولا من محصوله، لكن المسألة متوقفة على الروح التي يبثها في النفوس؛ ولذلك فقد كان طه حسين دون هؤلاء جميعا هو الذي انشقت له جماعة المثقفين معسكرين: معسكر معه يؤيده ويسانده، ومعسكر ضده يعارضه ويحاربه، ولقد كنت بغير شك من المؤيدين المساندين. إنك تظلم طه حسين لو وزنت مقداره بوفرة المحصول الفكري الذي قدمه للناس في كتبه؛ لأنه استمد معظم قيمته من قدرته على تغيير الاتجاه، إنه لم يكتب ما كتبه لمجرد الرغبة في الكتابة أو الرغبة في اكتساب الرزق، بل ولا مجرد عرض الأفكار المنقولة أو المبتكرة، وإنما كان يكتب ليغير وجه الثقافة في الأمة العربية، ومن ثم جاءت خطورته، إنه لم يتحرج ذات يوم أن يقول عن مراكز التقليد الثقافي في مصر التي كانت عقبة كأداء في سبيل التغير المطلوب؛ أقول: إنه لم يتحرج ذات يوم في أن يعلن في الناس عنها، إنه لا بد من هدم قرطاجنة ليستقيم لنا السير.

لست أمدح نفسي ولا أذمها حين أصفها أمينا فأقول: إن لديها استعدادا قويا؛ لا بد أن تكون له جذوره البعيدة في طفولة لم تجد فرصتها في نمو حر طليق؛ استعدادا قويا لتلقف كل فكرة تراها مؤدية إلى تقويض ما هو شائع مقبول، لتقيم مكانه جديدا مأمولا؟ إنني لأتصيد الأفكار التي يثور بها أصحابها على التقاليد المستقرة الراسخة تصيدا، وأخرج كلما وقعت منها على شيء يغذي هذا الميل في نفسي، فلو كان مجموع الناس على اتفاق بأن الشيء الفلاني صحيح، ثم ظهر كاتب يقول إنه خطأ لم أجد في نفسي رادعا يصدني عن تأييد هذا الكاتب الخارج على الإجماع، فأنا أؤيد خروجه أولا، ثم أنظر بعد ذلك في صدق حجته، ولكي أنصف نفسي لا بد أن أضيف أن هذه الرغبة القوية في تأييد الخارج على التقليد الشائع، إنما هي رغبة في التحطيم حين يكون البناء المراد تحطيمه قد أكله البلى ولم يعد صالحا إلا للعناكب تعشش في سقوفه وجدرانه، وللعفن يسري في أجوائه فيزكم الأنوف.

لقد كتبت بعد تلك السنوات الأربع التي أضع معالمها الآن على الورق؛ أقول: إني كتبت بعدها بأكثر من ربع قرن، في مقدمة كتابي عن فلسفة برتراند رسل؛ أقول: إنني وإن لم أكن تابعا كل التبعية لبرتراند رسل في فلسفته، ولا رافضا كل الرفض لها، إلا أنني مع ذلك أشعر برباط قوي بينه وبيني، وهو الدفاع الحار الذي ينهض به رسل في سبيل حرية الفرد من كل طغيان؛ طغيان التقاليد الاجتماعية وطغيان الحكومات؛ فإني لأوشك أن أرى الصدق كل الصدق في دعوى «رسل» بأن النظم الاجتماعية والسياسية كلها - في أرجاء العالم أجمع وعلى اختلاف العصور - مؤامرة كبرى يراد بها الحد من حرية الفرد التي كان ينبغي أن تكون هي الأساس وهي المدار لكل نظام في اجتماع أو سياسة، وإن شئت فانظر في أي بلد من بلاد العالم إلى ما يسمونه «التربية» تجدها تسابقا من الهيئات ذوات السلطان للاستيلاء على عقل الناشئ ومشاعره! واستمع إلى رجال «التربية» يسألون: ما الغاية من التربية ؟ ثم يجيبون: هي إنتاج «المواطن الصالح». وصلاحية المواطن هي دائما - كما ينبهنا «رسل» - الموافقة على النظم القائمة، ويستحيل عندهم أن يكون معنى «الصلاحية» هو الثورة على تلك النظم، وإنه لمن العجب كما يقول رسل «أنه بينما تستهدف الحكومات جميعا إخراج رجال من طراز يؤيد الأنظمة القائمة، ترى أبطالها من رجال الماضي هم على وجه الدقة رجال من الطراز نفسه الذي تحاول الحكومات أن تمنع ظهوره في الحاضر».

وكذلك بيني وبين برتراند رسل رباط آخر يقربه من نفسي، هو تلك الفرحة الكبيرة التي يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقاد كان يظنه الناس بديهية لا تحتمل الشك والجدل، وربما قيل إن مثل هذه النزعة انقلابية هدامة خطيرة، وإن صاحبها يكون في شخصيته شبيها ب «مفستوفوليس» شيطان فاوست، لكني أراها برغم ذلك ضرورية لتمهيد الطريق نحو تغير الأوضاع الاجتماعية والأفكار والمعتقدات التي قد تتحجر على مر الزمن، فيظن الناس أن صلابتها تلك هي صلابة الصواب واستحالة الخطأ، إن أصحاب هذه النزعة هم دائما بمثابة الفدائيين الذين يتسللون إلى حصون العدو فيمهدون الطريق إلى دكها وتخريبها، والفرض هنا - بالطبع - هو أن ما يراد دكه وتخريبه ومحوه، بناء فاسد يستوجب التغيير والإصلاح.

وهكذا كان طه حسين فيما كتب يومئذ، وهكذا كنت حين تابعته بقلبي وبعقلي معا. •••

وفي تلك السنوات الأربع التي هي فترة الدراسة في المعلمين العليا، نشأت مجموعة الأصدقاء التي منها تكون النسيج الاجتماعي الذي لبثت أتحرك بين لحمته وسداه حينا طويلا من الدهر، فهي المجموعة التي كان يقاس إليها كم حقق أفرادها من النجاح ومن الفشل، من من هؤلاء الأفراد كان سابقا ومن كان مسبوقا. كانت تلك المجموعة الصغيرة التي لم يتجاوز عدد أفرادها عشرة، هي المناخ الاجتماعي الذي أتنفسه، بقدر ما كان في ذلك المناخ من نقاء استنشقت الصحة، وبقدر ما كان منها من عكر استنشقت المرض. كانت من التجانس بحيث لا أغلو إذا قلت إنها إذا اجتمعت في مكان، جعلت لنفسها لغة خاصة يفهمها أفرادها ولا يفهمها سواهم، بما ملأت به تلك اللغة من إشارات مختصرة إلى خبرة مشتركة ماضية، وأكاد أقرر كذلك بأن كانت لتلك المجموعة نكاتها الخاصة بها، تضحك لها وقد لا يضحك لها غيرها.

أما وقد مضى على تلك الصحبة ما يقرب من نصف قرن كامل، فإنني لأتساءل الآن عن الصفة أو الصفات المشتركة التي وحدت بينهم، ولا أجد الجواب عن هذا التساؤل حاضرا ميسرا؟ فهم بغير شك يختلفون فيما بينهم أبعد اختلاف يفرق بين إنسان ولا إنسان؟ وليست أهدافهم في الحياة موحدة ولا متقاربة؛ فمنهم من كان هدفه الصعود في مناصب التعليم ولا زيادة، ومنهم من كان هدفه تحصيل العلم ومع العلم تحصيل الشهادات الدالة عليه، ومنهم من كان هدفه جمع المال، هكذا تفرقت بهم السبل حتى لقد كان بعضهم يسخر من أهداف بعض، لكنهم مع ذلك كانوا هم الصحبة الحميمة التي لم يكن ليستغني أحد منهم عن أحد!

ولعل الرباط الوثيق الذي وحد بينهم جميعا، وجعل بعضهم لبعض رفيقا أقرب رفيق، هو التواضع الاجتماعي الذي ينطوي بصاحبه على خلصائه ولا يريد أن ينشر أجنحته عراضا على رقعة أوسع؛ ولقد حدث خلال السنين أن تمرد من تمرد من تلك المجموعة على انطوائها الضيق فأخرجته المجموعة من حسابها أو أخرجها هو من حسابه، كما حدث خلال السنين كذلك أن أضيف إلى المجموعة من وجد بينه وبينها صلة القربى النفسية على أساس التواضع الاجتماعي الذي يؤدي إلى كثير من الانكماش والتخفي.

ولما كان هذا التواضع والانكماش والتخفي جذورا راسخة في نفسي - هكذا قال الأحدب ضاغطا على حروف الكلمات ليؤكدها - فقد كانت تلك الصحبة أنسب مناخ عشت فيه على طبيعتي، فلم أكن في تلك المجموعة أقل من حقيقتي ولا أكبر من حقيقتي، ولئن باعدت بيننا السنون بعد ذلك، فلست أظنها قد استطاعت أن تمحو ما كان بيننا من صلة نفسية وثيقة، فيها الازدواجية العاطفية التي لا بد من وجودها بين الأصدقاء أو الأقرباء؛ وأعني بها ازدواجية التجاذب والتنافر في آن معا.

كانت مجموعة من الأصدقاء، لكن كان بين أفرادها اختلافات بعيدة المدى؛ فمنهم من كان شديد الاهتمام بالحياة الثقافية - وكنت أنا واحدا من هؤلاء - ومنهم من لم تكن له بالحياة الثقافية صلة، كأن تلك الحياة في واد وحياته هو في واد آخر، ولقد حدث لنا نحن الذين مالت بهم الرغبة نحو الحياة الثقافية، أن تنشأ لدينا فكرة الالتحاق بالصحافة نشبع فيها هوايتنا في أوقات فراغنا، وكنا بالفعل قد بدأنا نكتب مقالات أدبية في المجلات الأسبوعية، وهي مجلات كانت تكون يومئذ ركنا هاما من أركان الثقافة؛ فمنها «السياسة الأسبوعية»، التي كانت تصدرها جريدة السياسة المعبرة عن حزب الأحرار الدستوريين (وهم أقرب إلى من نسميهم اليوم بحزب اليمين)، كما كان منها «البلاغ الأسبوعي» الذي كانت تصدره جريدة البلاغ الناطقة بلسان حزب الوفد، وهو حزب تقدمي بالنسبة إلى الأحرار الدستوريين.

وكان الأغلب على السياسة الأسبوعية أن تنقل عن الثقافة الفرنسية، كما كان يغلب على البلاغ الأسبوعي أن ينقل من الثقافة الإنجليزية، أو هكذا كان انطباعنا بحكم أن الأولى كانت تنشر لطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهما من الذين تلقوا العلم في السوربون، وأن الثانية كانت تنشر للعقاد الذي وإن لم يتلق العلم في إنجلترا، إلا أن مصادره الرئيسية كانت من الأدب الإنجليزي.

بدأنا نحن نكتب المقالات في هاتين الصحيفتين، وأذكر أن أول مقالة كتبتها في حياتي الأدبية كانت تعليقا على الأغاني التي شاعت في ذلك الحين وامتلأت أصواتها - ولا أقول كلماتها؛ لأنها كانت في بعض أجزائها أصواتا بغير كلمات - أقول: إن مقالتي الأولى كانت تعليقا على تلك الأغاني التي امتلأت أصواتها بما يوحي بالدعارة؛ ونشرت لي تلك المقالة الأولى في السياسة الأسبوعية سنة 1927 فيما أذكر.

أقول: إننا أحسسنا برغبة قوية في أن نتصل بالصحافة، أنا وأخي ومعنا ثلاثة من مجموعة الأصدقاء ذوي الهواية الأدبية، واتفقنا بادئ الأمر على تكوين جمعية أدبية تنمو مع الزمن، وأقمنا عليها من بيننا رئيسا وسكرتيرا وأمينا للصندوق؛ أي إنه لم يبق منا إلا عضوان فقط بغير ألقاب، كنت أنا أحدهما، وقررنا في أول جلسة من جلساتنا التي كنا نعقدها في منزل الرئيس، أن يكون الاشتراك الشهري عشرة قروش - وهو كل ما كنا نستطيع الاستغناء عنه - كما قررنا أن نبدأ في تكوين مكتبة للجمعية تنمو هي الأخرى مع الزمن، وبدأنا بشراء كتاب كان قد صدر حديثا وارتجت له الصحافة الأدبية، هو كتاب «عصر المأمون» للدكتور فريد الرفاعي، ثم ماذا؟ ثم حزمنا أمرنا ذات يوم، وصممنا على أن نعرض أنفسنا للخدمة مجانا في الصحيفة التي تقبل العرض.

وبدأنا بجريدة الأهرام، ودخلنا نحن الخمسة على رئيس التحرير، يقودنا رئيسنا ونتبعه في صف كأننا جماعة من الطلاب جيء بها أمام ناظر المدرسة مشكوة، ويراد بها التحقيق فالعقاب، فكان هذا الدخول المتعثر المتخاذل الضعيف كفيلا وحده بأن يوحي إلى رئيس التحرير بالرفض السريع: ماذا تريدون؟ - نحن جمعية أدبية تريد الاشتغال بالصحافة (وكان المتحدث هو الرئيس)، وهو أجرأنا في توجيه نظره نحو من يحدثه في غير خجل، ولا عجب أن كان هو الوحيد من مجموعة الأصدقاء كلها، الذي صعد فيما بعد إلى مناصب الوزارة أكثر من مرة، وعمل في منصب من أعلى المناصب في منظمة العمل التابعة لهيئة الأمم المتحدة لفترة دامت عدة سنين)، ونحن لا نريد أجرا على عملنا - هكذا مضى رئيسنا في توجيه الخطاب إلى رئيس التحرير - وكل ما نريده هو أن يؤذن لنا بالاشتراك مع هيئة التحرير، نطيع ما نؤمر به، لتكون لنا بذلك فرصة للتدريب حتى إذا ما تخرجنا جعلنا الصحافة مهنتنا عن خبرة ودراية.

فقال رئيس التحرير في نغمة العطف، لكنها في الوقت نفسه نغمة المستخف بأحلام شباب نمر ساذج: أتمنى لكم التوفيق، لكن يحسن أن تنصرفوا إلى دروسكم، وأن ترجئوا هذا الحديث إلى ما بعد التخرج.

أجاب رئيسنا: ولكننا لو تركنا أمورنا تجري مجراها الطبيعي، فقد يجرفنا التيار، ونشتغل بالتدريس الذي نعد من أجله، مع أننا ذوو ميول أدبية واضحة، وربما ضاعت هذه الميول إذا نحن وأدناها في براعمها.

فأجاب رئيس التحرير بلهجة حاسمة: لا، لا، معاذ الله أن تفهم مني إنني أدعوكم إلى إهمال مواهبكم العظيمة، لكن صحيفة الأهرام تعتذر لأنها لا تستطيع قبول ما تعرضونه عليها.

وخرجنا من عنده صفا متعثرا متخاذلا ضعيفا كما دخلنا، وكل ما هنالك من فرق بين الحالتين، هو أن رئيسنا هذه المرة كان في مؤخرة القافلة، وما كدنا نخرج من دار الأهرام إلى الطريق حتى وقفنا قليلا إلى جوار الجدار، ونظر بعضنا إلى بعض ثم انفجرنا ضاحكين، إلا الرئيس فلم يضحك، بل قال في عزم: هلموا إلى صحيفة أخرى، تعالوا نذهب إلى جريدة السياسة.

وتبعناه إلى جريدة السياسة في شارع المبتديان، وطلبنا مقابلة رئيس التحرير، فلم يكن في مكتبه ذلك المساء، ولكن أمرا حدث لم نتوقعه؛ وذلك أن الدكتور حافظ عفيفي أرسل إلينا من يستوقفنا ونحن نهبط السلم خارجين، وعدنا لنجده يستقبلنا استقبال الرائد للمسترشد، وأمر ففتحت لنا الغرفة المقابلة لغرفة رئيس التحرير، ودخلناها لنجدها «صالونا» فاخرا فرش كله بالقطيفة الحمراء؛ بساط وستائر وكراسي وأرائك، وجلسنا على أطراف المقاعد، وجلس أمامنا حافظ عفيفي، فقال في صوت هادئ: ماذا تريدون؟

فأجاب رئيسنا: نحن جماعة أدبية ... إلى آخر القصة.

قال حافظ عفيفي بصوته الهادئ: الدكتور هيكل غائب هذه الليلة، وسأرتب معه لقاء بكم، لكني أحب أن أوجهكم منذ الآن بنصيحة: إن جريدة السياسة - كما أرجح - ستقبل تدريبكم كما تريدون، لكن فلتعلموا منذ الآن أن الصحافة لم تعد كلاما يستقطع من رءوس الكتاب بغير اطلاع ولا دراسة؛ فمهما يكن الموضوع الذي قد يرد على خواطركم لتكتبوا فيه، فسوف تجدونه موضوعا قد سبقكم إلى الكتابة فيه من هو أعلم منكم وأوفى بحثا ودراسة. وإذن، فالنصيحة الواحدة التي سأكتفي بها الآن هي: ألا كتابة بغير درس وقراءة تسبقها.

شكرناه على عطفه الأبوي، وانصرفنا على أن نعود في مثل هذا الوقت من الليلة التالية. ففعلنا، وكان الدكتور هيكل عندئذ في مكتبه، وكان قد سمع بأمرنا، فلم يسأل: ماذا تريدون؟ لأنه يعلم ما نريد، بل أخذ يوزعنا من فوره على أقسام الجريدة؛ فاذهب أنت إلى فلان في القسم الفلاني، واذهب أنت إلى فلان في الغرفة الفلانية ، واذهب أنت إلى مصححي التجارب في المكان الفلاني ... ثم أردف يقول: إن أماكنكم هذه ستتبدل مرة كل أسبوعين.

لكن الأسبوعين الأولين لم ينقضيا، حتى دعانا الدكتور هيكل لتناول الشاي ذات مساء في داره - وكانت عندئذ شقة من عمارة في جاردن سيتي - وقولوا ما شئتم عن مشاعر الغبطة التي ملأتنا. وذهبنا في الموعد لنستوي بعد قليل إلى مائدة مثقلة بأصناف الفطائر والفاكهة إلى جانب الشاي، وبدأ الدكتور هيكل حديثه معنا قائلا: لقد فكرت في أفضل طريقة يستفاد بها من ميولكم الأدبية، فوجدت أن تعاونوني على إخراج كتيبات صغيرة تباع مع الصحف بأثمان رخيصة، كل كتيب منها يبسط موضوعا مما يتصل بتاريخنا وأدبنا، وبخاصة القديم منها، حتى نذيع أصولنا الثقافية في أوسع دائرة ممكنة، وسأخصص لكل منكم موضوعا، يجمع لي ما استطاع جمعه من مادة فيه ومهمتي أنا هي الإخراج والخلق والصياغة، فما رأيكم؟ - رأينا هو ما ترى.

وأذكر أن نصيبي في هذا التوزيع كان موضوع «سميراميس» كما ورد في الأساطير. وبعد عدة أسابيع من تجميع للمادة والتقاء مع الدكتور هيكل كلما تجمع لدينا من المادة ما يستحق العرض، صدر الكتيب الأول، ولا أذكر ماذا كان موضوعه.

وبيع عند باعة الصحف، وكان أول همنا نحن أن نسرع لنرى كيف ورد ذكرنا في هذا المشروع، وأظن - لأني قد نسيت - أننا لم نذكر بالاسم، بل وردت في المقدمة عبارة تنوه بجماعة من الطلاب يعاونون في جمع المادة من المراجع. ولا أدري إن كان شعورنا بخيبة الأمل، أو كان اقتراب موعد الامتحان في آخر العام الدراسي، هو الذي حتم علينا أن ننفض أيدينا، وبذلك انتهى الأمر مؤقتا؛ وأعني أن ذلك المشروع المعين قد أخفق لساعته، وأما النشر الأدبي في الصحف فقد لبث قائما في صدري، حتى ألح علي آخر الأمر فجعلته مدار عملي.

فرغ الأحدب من هذه الرواية الطويلة، وكأنما أحس بشيء من التعب، فأسند ظهره إلى مقعده، ونظر إلي نظرة تكاد تسألني: ماذا تريد مني بعد ذلك؟

سألته: وماذا جرى للجمعية الأدبية بعدئذ؟

فقال : مات أمين الصندوق بعد بدء تكوينها بشهور قليلة، وانقطع بموته دفع الاشتراك، وأصبحت كما كانت في البداية مجموعة أفراد أصدقاء، ضمن المجموعة الأشمل، يلتقون حيثما تيسر لهم اللقاء ... وأما المكتبة التي أردنا تكوينها، فلم يدخلها إلا كتاب واحد، هو «عصر المأمون»، ولا أدري إلى أينا ذهب.

وبابتسامة خفيفة على شفتيه، استأنف الأحدب حديثه عن جماعة الأصدقاء في تلك السنوات الأربع من حياته، قال: لا تنس ما قلته لك، وهو أن تلك الجمعية الأدبية لم تكن تمثل بميولها الثقافية مجموعة الأصدقاء التي تحدثت عنها؛ فمن تلك المجموعة من كاد لا يعرف من معارف الدنيا حرفا أكثر مما ورد في مذكراته التي يحفظها للامتحان؛ ومنهم من كان أقرب في ميوله إلى الفجور الذي لا يستحي؛ ومنهم من كان يؤثر الخفاء في وسائل متعته؛ لكن جميعنا كان يحب النكتة والمرح وحلقات السمر، والحقيقة أن تنوع ميولنا ذاك هو الذي ربط أطرافنا في مجموعة متجاذبة؛ لأن كلا منا كان لا بد واجدا ما يشبع فطرته بكل أبعادها داخل تلك المجموعة النادرة من الأصدقاء.

ففضلا عما كان بين أفرادها من رباط مشترك، هو كما قلت لك التواضع الاجتماعي، ممزوجا بكثير جدا من الفكاهة والمرح، حتى لقد كانوا يجعلون من أنفسهم موضوعا لفكاهتهم بل موضوعا لسخريتهم أحيانا؛ أقول: إنه فضلا عن تلك الصفات المشتركة بينهم، فقد كانت بينهم بعد ذلك فوارق شاسعة كما ذكرت لك، هذه التشكيلة العجيبة هي التي تكون منها المحيط البشري المباشر الذي هو بمثابة المجتمع بكل ما يعطيه لأبنائه من حوافز ومن معوقات.

فقد كانت تلك السنوات الأربع (1926-1930) هي البوتقة الحقيقية التي صهرتنا بخيرها وشرها، وهي التي شكلتنا فيما نحن فيه؛ ففي تلك الفترة تجسدت لكل منا مثله العليا التي يريد احتذاءها، وقد كان مثلي الأعلى يومئذ مزيجا من عدة عناصر، قد يسهل التقاؤها معا وقد يصعب؛ فهو مثل أعلى فيه جانب الأستاذ الأكاديمي المتمكن من مادته، وهو جانب انطبع في قرارة نفسي انعكاسا لشخصية أستاذ التاريخ الحديث شفيق غربال ؛ وفيه جانب الأديب صاحب الصوت المسموع والمواقف الثقافية الحاسمة، كما طبعني به الدكتور طه حسين؛ وفيه جانب الأديب المفكر المكافح الذي يدفعه الفهم العقلي إلى سكب ثقافات الأولين والآخرين - إذا استطاع - في ذات نفسه، كما كانت صورة العقاد عندي أيامها ... فهل كان يسهل لهذه الجوانب كلها أن تجتمع في شخص واحد ولو بمقادير متواضعة، شريطة أن تجتمع عند من يغلب عليه التواضع الاجتماعي، كما تغلب عليه الرغبة الشديدة في الانعزال والتخفي؟ لست أدري، لكن الذي أدريه هو أنني وجدت عسرا شديدا في محاولة جمع هذه العناصر معا، فكنت إذا حصلت شيئا من جانب الأستاذ، أفلت مني جانب الأديب، وإذا تحقق لي جانب الأديب ضاع مني عنصر الأستاذ، وإذا تحقق لي شيء من هذا وذاك وجدت نفسي أقف على الطريق جامدا لا أتحرك في دنيا الناس خطوة إلى أمام.

فهل عرفت يا صديقي سر الشعور بالخذلان الذي أعاني منه حتى ظهرت آثاره على بدني؟ لقد رأيتك تسعى لاهثا لكشف السر، ولعلي قد أرحتك في كثير مما أردت أن تكشف عنه الستار.

الفصل الخامس

حلم ليلة في منتصف الصيف

انقطعت صلتي بالأحدب لبضعة أسابيع، ولم تكن نفسي قد اطمأنت - كما ظن هو - بما رواه لي عن نفسه خلال الأربعة الأعوام التي قضاها في الدراسة العليا؛ لأن ما رواه لي لم يكن فيه ما يكفي لكشف السر كله وراء حياته الانفعالية بما سببته له من علل.

ثم أسعفتني مصادفة سعيدة؛ أخذت القطار إلى الإسكندرية ذات صباح من صيف، وجلست في مقعدي الذي أختاره لنفسي دائما ما وجدت إلى اختياره من سبيل؛ لأنه مقعد فرداني من جهة، ويتجه الجالس عليه مع سير القطار من جهة أخرى، وفضلا عن ذلك فهو يواجه مقعدين يغلب أن يشغلهما زميلان فيتحدثان، فأتسلى باستراق السمع لما يقولان من جهة ثالثة.

ولم أكد أنشر صحيفة الصباح بين يدي قبل أن يتحرك القطار، حتى فوجئت بما لم أكن أتوقع حدوثه؛ وهو أن يكون شاغلا المقعدين اللذين يواجهان مقعدي هما صديقي القديم فريد - صديق الشباب - وزوجته عفاف، وكنت لم أرهما ولم أسمع عنهما منذ أمد طويل؛ فاضطربت لرؤيتهما؛ لأن اللقاء مباغت؛ فأسقطت عند قيامي لأسلم عليهما حقيبة صغيرة كان يرفعها فريد ليضعها على الرف، ولبث ثلاثتنا يتحركون ويتكلمون في غير هدوء ولا انسجام، حتى لقد سددنا الطريق على المارة من المسافرين، وأخيرا استوينا على مقاعدنا، لا ندري أين نبدأ الحديث ولا كيف نبدؤه بعد هذا الغياب الطويل الذي باعد بيننا بعد أن كان اجتماعنا المطرد المتكرر جزءا لا يتجزأ من حياتنا، وقد كنا نأنس أحدنا بالآخر أنسا، حتى ليقصد أحدنا إلى الآخر في كل صغيرة أو كبيرة من أحداث حياته، يطلعه على خفايا نفسه وأزماتها، وعلى مشكلاته التي تنشأ في علاقاته مع سائر أفراد أسرته، أو مع أحد من بقية الأصدقاء.

كنت أحس دائما إذا ما تحدثت إلى فريد كأنني أحدث نفسي؛ لا أكتم سرا ولا أدعي غير الحق؛ فلا أتظاهر بثراء لا وجود له، ولا بفقر أبشع من الفقر الذي كنت فيه، وذلك كله على الرغم من أن بين شخصيتينا خلافا جوهريا؛ فهو يعلي العمل على الفكرة، وأنا أعلي الفكرة على العمل، وهو يضحك من قلبه وأنا أضحك من وراء قلبي، وهو يحب الناس لأشخاصهم لا لآرائهم، وأنا أحب الناس لآرائهم لا لأشخاصهم؛ ولذلك فهو محدود في صداقاته بالناس الحقيقيين الذين يملئون عليه حياته؛ وأما أنا فصداقاتي قد امتدت إلى المؤلفين وإلى الشخصيات الوهمية التي تحيا على صفحات القصص والمسرحيات، هو يريد من صديقه أن يبادله النكات وهما يشربان أقداح الشاي التي كان يصنعها بنفسه، لا يركن في صنعها إلى أحد سواه، وأنا أريد من صديقي أن يجادلني في فكرة أو في مذهب نظري؛ هو لا يميل إلى القراءة، ويكره الكتابة كراهية شديدة - ولعله كان يستطيعها إذا أراد - وأنا أميل إليهما معا، وفوق هذا وهذا وذاك من بذور التباين بين الشخصيتين، أنه كان يبحث عن شريكة حياته بعد تخرجنا بقليل؛ لأنه لم يتصور حياته بغير زوجة وأبناء، وكان مدار بحثه عن الزوجة أن تكون من ذوات الثراء؛ وأما أنا فقد كانت فكرة الزواج عندي أمرا لا يرد على التصور، كما لا ترد فكرة الدائرة المربعة؛ إذ لم يكن التضاد بين نفسي وبين هذه الفكرة أقل من التضاد بين التدوير والتربيع.

وكان صديقي فريد أثناء بحثه عن زوجة تناسبه، لا يفوته أن يجعل من البحث موضوع فكاهة نضحك لها كلما اجتمعنا؛ فقد كان أمس يزور أسرة ليرى فتاة مقترحة له، فيجيء اليوم ليروي لنا ما دار بينه وبين والديها، أو ما دار بينه وبينها من أحاديث، فنجد في روايته مواضع كثيرة تثير الضحك إذا ما كانت الأسرة المقصودة أعلى مما ينبغي أو أخفض مما ينبغي؛ ففي كلتا الحالتين نضحك على مفارقات الموقف؛ في الأولى يتظاهر بما ليس فيه، وفي الثانية يتظاهرون هم بما ليس فيهم.

تخرجنا - أنا وفريد وسائر الأصدقاء - في سنة جفت فيها الضروع ويبست موارد الرزق، لا في مصر وحدها بل في أرجاء العالم أجمع، غنيه وفقيره على السواء؛ فنحن نعيش في عالم إذا انهارت به سوق المال في نيويورك تداعت لها الأسواق في لندن والقاهرة وطوكيو! قد يقع تجار المال هناك في خطأ، فينتج عن الخطأ ألا نجد نحن الشباب في القاهرة وظيفة واحدة خالية! هكذا كانت الحال حين تخرجنا، أزمة اقتصادية طحنت الدنيا طحنا، لكنها طحنتها بمعنى يختلف عن أفاعيل أزمة اليوم؛ فاليوم تمتلئ أيدينا بالمال ولا نقوى على الشراء؛ وأما يومها فقد تبخر المال كما يتبخر الماء في حمارة القيظ، وأصبح معلم المدرسة الإلزامية في قرى الريف، بجنيهاته الأربعة التي كانت راتبه الشهري يومئذ، أيسر حياة وأكثر بحبوحة من مالك الثلاثين فدانا من الأرض أو الأربعين؛ ولذلك كان من الحوادث المألوفة أنه يبيع أصحاب الأرض أرضهم، فيشتريها أصحاب الجنيهات الأربعة.

في ذلك العام المقفر تخرجنا، فكنا كالسلعة البائرة تشترى بالثمن القليل. كان الفرض هو أن نخرج للتدريس في مدارس الدولة، فإذا الدولة تصدر أوامرها - علينا وعلى كل يائس تخرج في ذلك العام - بألا تفتح أبواب الحكومة لعامل واحد جديد ، فانتشرنا في الأرض نسعى؛ المدارس غير الحكومية تشتري بعضنا بأبخس الأجور، ومدارس الريف التي لم تكن تطمع في رجل واحد يحمل إجازة عليا، باتت تتلقى حملة الإجازات العليا ساعين إليها والعرق يتصبب على جباههم فتنتقي منهم مدارس الريف وتختار، والأعمال التي ألفت أن تؤدى بأيدي كتبة صغار، قصد إليها القاصدون من هؤلاء الكبار أو الذين ظنوا أنهم قد أصبحوا كبارا؛ وفي هذه السوق الكاسدة وجدت أنا ركنا في الريف، ووجد صديقي عملا صغيرا في دار الكتب بالقاهرة.

وكانت دار الكتب في القاهرة مزارا أتردد عليه مرارا متلاحقة منذ أيام الدراسة، فازدادت جاذبية بوجود صديقي بين العاملين فيها، ولقد كان ييسر لي ما كان عسيرا؛ فهنالك من الكتب ما لا يعار إما لنفاسته وإما لخساسته، فكان يهيئ لي ما كنت أريده من الصنفين! وقد تفهم ألا يعار الكتاب لنفاسته خوفا عليه من الضياع، ولكن ما هي تلك الكتب التي تخس فلا تعار؟ أأقولها؟ نعم قلها؛ فهي «نفس»، وأنت في رواية لقصتها؛ فما خفي من سرها قد يكون أهم مما ظهر من علنها، فهنالك كتب من أفحش الكتب عن الجنس، عرفها صديقي وعرفني بها وأعانني على استعارتها خفية لأنقل مادتها كما أريد، ولم يكن هنالك ما يمنع أن هذا الذي يستعير الفحش سرا، هو نفسه الذي يستعير كتب أفلاطون أو أرسطو علنا، ويا ما أكثر ما تحويه النفس البشرية من عجائب ومتناقضات!

كنت أقول عن صديقي فريد إنه أخذ يبحث عن الزوجة الملائمة بعد تخرجنا بقليل، وكانت روحه المرحة تجعل من بحثه ذاك موضوعا نتفكه به جميعا إذا ما التقينا، ولكن هذا الهزل كله لم يلبث أن انتهى معه بجد الزواج نفسه، وكانت الزوجة هي عفاف، ولقد كان الزوجان منذ تزوجا على بعد نفسي بعض الشيء أحدهما من الآخر؛ فهي تدل عليه بفرق في الثراء بين أسرتها وأسرته، وهو يتعاظم عليها بفرق كبير بين ثقافته وثقافتها؛ فهي فتاة وقف تعليمها في مدرسة فرنسية عند مرحلة أولية، ولكنها مع ذلك كانت من ذلك الصنف الذي يضع ألفاظا فرنسية في حديثها، حتى مع من كانت تعلم أنهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة؟ وكان محالا عليها ألا تدع بعض الإشارات تتساقط في كلامها أو في سلوكها، لتدل بها على أنها ليست كسائر النساء اللائي تلتقي بهن في زمرة أصدقاء زوجها وأقاربه.

أخذنا نتبادل الأخبار عن الأحداث التي لا بد أن تكون قد حدثت خلال السنوات الطويلة التي باعدت بيني وبين فريد، وفجأة سكت الكلام، وأردت أن أملأ فجوة السكوت، فقلت بلا مقدمات: إن مسألة غريبة تشغلني بسبب لا أدريه، فلأمر ما شغلت برجل عجيب قابلته صدفة لكنه أثار اهتمامي الشديد بغرابة سلوكه وعمق لفتاته الفكرية، وبشذوذه عن المألوف في أشياء كثيرة، ويستحيل عليك أن تخطئه إذا ما رأيته وسط زحام الناس في الطريق؛ لأنه فريد ...

فقاطعتني عفاف قائلة وهي تضحك في نشوة طبيعية: صدقت، إنه شاذ وهو فريد (مشيرة إلى اسم زوجها).

فقلت: لا، لست أقصد فريدنا هذا، فصاحبنا الشاذ ذاك اسمه رياض عطا.

قال فريد في اهتمام ظاهر عليه وعلى زوجته معا: رياض عطا المدرس؟

قلت: لا أعلم ماذا يعمل، لم أجرؤ على سؤاله، بل إن اسمه نفسه لم أعرفه إلا بمصادفة عابرة، كل ما عرفته منه فيما يتصل بعمله هو أنه تخرج من مدرسة المعلمين العليا؛ لأنه قص علي طرفا من حياته فيها.

قال فريد: أهو أحدب الظهر قليلا؟

قلت: إنه أحدب الظهر كثيرا لا قليلا.

قال: لا بد أن يكون هو رياض عطا الذي تعنيه.

قلت: حدثني عنه ما استطعت.

قال، وكان قوله التقاء أسماعنا، حتى لقد مالت رءوسنا الثلاثة في وضع يجعل منها مجموعة تصلح لرسم لوحة يطلق عليها اسم «الرواية»؛ قال: روى لي صديق كان مدرسا بمدرسة أجا الابتدائية، قال: جاءنا مدرس جديد للغة الإنجليزية فلفت إليه الأنظار فور مجيئه، ولم تكن الأنظار لتلتفت إليه بكل قوتها كما فعلت لو كانت كل غرابته محصورة في تشويه ظهره بالقتب الذي يقوسه بعض الشيء، ولكن ما وجه إليه انتباهنا وانتباه الناس جميعا، هو مسلكه في حياته الخاصة، الذي جعل منه إنسانا متميزا متفردا؛ فقد كان يلبس منظارا ذا عدسة واحدة يضعها على عينه اليسرى، بغير إطار يحيط بها، وفي العدسة خيط أسود يمتد حتى يدور حول عنقه، وهي طريقة لم يكن أحد منا قد ألفها فيما شاهد فوق أعين الناس من مناظير، وقد حسبنا أول الأمر أن عينه اليمنى قد تحررت من المنظار لقوة إبصارها، لكننا عرفنا فيما بعد أنها عين لا رجاء فيها لأنها لا تبصر، فآثر صاحبنا أن يقصر منظاره على العين الواحدة التي ترى، فلم يكن عجيبا أن أسماه بعضنا بأبي نظارة، على الرغم من أن كثيرين غيره كانوا ممن يستخدمون المناظير.

سكن دارا وحده، وكانت العادة بيننا أن يشترك أكثر من واحد في دار، ولبث أشهرا طويلة لا نكاد نسمع صوته محدثا إلا وهو يلقي دروسه على التلاميذ، وهي دروس كان ينطق فيها كلمات اللغة الإنجليزية وجملها بلسان غير عربي يحاول به أن يقلد أصحاب اللغة التي يعلمها، فزاد هذا في غرابته، كأنما غرابته هذه كانت تتبدى إذا أخطأ السلوك وإذا أصاب؛ لأنه في كلتا الحالين كان ينحرف عن المألوف؛ وندخل حجرات الدراسة بعده لنرى ماذا كان يصنع لعلنا نقع على أشياء جديدة فيه نجعلها مدار التعليق، فنرى السبورة مزدانة بالطباشير الملون هنا وهناك؛ فكلمات يكتبها باللون الأحمر وأخرى يكتبها باللون الأزرق، فضلا عن اللون الأبيض، بل نراه يكتب الكلمة الواحدة بعدة ألوان فنضحك ونخرج لننشر الخبر بين سائر الزملاء.

يدخل المدرسة صامتا ويخرج منها صامتا، ولعل صمته لم يبلغ حده الأقصى مرة كلما بلغه ذات مساء، حين سمع في حجرة المدرسين نبأ تدور به الألسنة بأن مدرسا جديدا للغة العربية سيصل إلى المدينة في المساء، فأين عساه ينزل يا ترى؟ ومن ذا سيقابله في المحطة ليئويه في هذا البلد، سمع هذا فلم ينطق بكلمة، لكن - فيما علمنا بعدئذ - ذهب إلى المحطة في المساء، خشية ألا يقابل المدرس القادم أحدا فتأخذه الحيرة كما حدث للأحدب نفسه ليلة وصوله، فلما لم يجد أحدا هناك سواه، صمم على أن يضطلع بهذا الواجب، وأمعن النظر فيمن نزلوا من القطار، حتى اهتدى بالسليقة إلى شاب نزل ومعه حقيبة وسلتان، وضعها أمامه وراح يتلفت، فاقترب منه الأحدب وسأله إن كان هو المدرس الجديد، ولما علم من جوابه أنه هو سأله إن كان له مكان يبيت فيه، وعلم أن لا مكان، فدعاه إلى المبيت معه في منزله حتى يدبر أمره في الصباح، وعاونه على حمل أمتعته، وذهب كلاهما إلى الدار، ولم يكن بها إلا سرير واحد، فأنزل صاحبنا الأحدب اللحاف وفرشه على الأرض ورقد، تاركا السرير للضيف.

كل هذا جميل، ولكن القبيح في الأمر هو أنه منذ قبل الضيف دعوته وهما في المحطة، ختم الأحدب على شفتيه بخاتم الصمت فلم ينطق بكلمة واحدة إلى ضيفه هذا الذي تبرع بمقابلته وبدعوته؛ ففي صمت تام سارا، وفي صمت تام دخلا الدار، وفي صمت تام أعد الأحدب فراشه على الأرض، وفي صمت تام قضى الليل، وفي صمت تام استيقظ في الصباح وأعد لضيفه الفطور، وارتدى ثيابه وخرج، وترك وراءه الضيف الغريب لا يدري ماذا يصنع بنفسه، حتى شهدناه وهو يلتقي بالأحدب في بهو المدرسة ليسلمه مفتاح منزله شاكرا. ولقد روى لنا المدرس الجديد قصته هذه وهو في عجب شديد من هذا المضيف الذي تطوع بالفضل، ثم سلك هذا السلوك الشاذ كأنما قد أحس بالندم على الفضل الذي تطوع بأدائه مختارا، وقل ما شئت فيما أحدثته هذه القصة من دوي في مجالسنا الخاصة؛ لأنها جاءت آية جديدة تفسر غوامض هذا الرجل الفريد؛ فهو يؤدي الواجب أداء كاملا، ثم ينسحب مختفيا عن الأنظار والأسماع.

الفردية هي طابع هذا الرجل؛ فهو لا يطمئن نفسا إلا إذا تفرد واختلف عن غيره قليلا أو كثيرا؛ فقد حدث لنا ونحن ما نزال ندرس في المدرسة الابتدائية بمدينة أجا، أن زار البلد رئيس الوزراء، واستعدت الحكومة المحلية في المدينة بألوان من الترحيب مما يطوف بالخيال وما لا يطوف، ومن ذلك أن أعد سرادق فسيح ليحشد فيه الناس حشدا كي يخطب فيهم القادم الكبير، وكان رئيس الوزراء عندئذ حاكما مستبدا ظفر بمنصبه كرها وغصبا، وكان على الموظفين جميعا، وعلى المدرسين بصفة خاصة، أن يذهبوا ليرصوا على المقاعد مع سائر من يرص من أبناء الإقليم، وذهبنا جماعة واحدة كما أمرنا أن نذهب، كأنما نحن قطيع من الغنم يسوقه الراعي مجتمعا حتى لا تشرد منه غنمة فتضل الطريق؛ ذهبنا جماعة واحدة إلى السرادق، ومعنا الأحدب بنظارته ذات العدسة الواحدة على عينه اليسرى، وكان مقدرا للمدرسين أن يجلسوا في صفوف خلفية، وفعلوا كما أمروا إلا صاحبنا الأحدب فقد نفر كالقط المفترس، وفي خطوات فسيحة مندفعة قصد إلى الصف الأول في السرادق حيث اتخذ مجلسه، فلما أن نبهه المنظمون أن ليس هذا موضعه رفض حتى أن يلتفت إليهم بنظره أو أن يجيب، فحدثت حركة ملحوظة بين جماعة المنظمين ومعظمهم من ضباط الشرطة، حتى جاءوا له برئيسهم، فلم يعرف هذا إلا أن يخيره بين أمرين؛ فإما أن يجلس حيث يجلس زملاؤه، وإما أن يأمر رجاله فيقذفوا به في الطريق، وهنا أخرج له الأحدب تذكرة الدعوة من جيبه، وقال إنه تلقى هذه الدعوة فجاء ملبيا، ولم يكن بالدعوة ما يدل على مكان معين للجلوس؛ ولذلك فهو مصر على البقاء حيث هو، وليفعل صاحب الشرطة ما يشاء، فإن قذف به في الطريق كما توعده، فقد خدمه بذلك خدمة سيشكره عليها؛ لأنه ترك مسرحية «حلم ليلة في منتصف الصيف» مقروءة إلى نصفها، ولأن يتمها خير له من أن يسمع ما جيء به ليسمعه، فاستشاط الضابط غضبا وصمم أن يعلمه درسا، بادئا بأن نفذ ما قد توعد به، وأمر رجاله أن احملوه وارموا به خارج السرادق، لكن رجاله لم يجدوا من يحملونه؛ لأن صاحبنا الأحدب ترك مكانه وخرج، ولا أدري هل أصابه بعد ذلك سوء أو لم يصبه.

تفرد عجيب في هذا الرجل كما وصفه لي صديقي الذي أنقل عنه روايته: هكذا استطرد فريد في روايته، ومضى يقول:

كان بين أخباره التي رواها لي صديقي عن الأحدب، أن ناظر المدرسة قد استدعاه يوما ليحدثه في أمر ابنه التلميذ، وكان ذلك الناظر موضع استخفاف من المدرسين لتفاهته وجهله، فلما أن ذهب إليه الأحدب شكا إليه الناظر ضعف ابنه في اللغة الإنجليزية ضعفا يلفت النظر؛ لأنه عاجز عجزا تاما عن أن يكتب كلمة واحدة صحيحة الحروف، فهلا تولاه الأحدب بعناية خاصة؟

قال الأحدب: وماذا تريدني أن أصنع لابنك هذا؟

قال الناظر: تعوده على كتابة الإملاء، وأنت الرجل «الفني» القدير.

وأنت تعرف - هكذا وجه فريد الكلام إلي قاطعا بذلك مجرى روايته - أنت تعرف أن مدارس الريف لم تكن قبل ذلك قد شهدت المدرسين ذوي المؤهلات العليا؛ إذ كان المعلمون فيها يؤخذون من كل صنف، ويكفي فيهم أنهم يقرءون ويكتبون ويلمون بمبادئ الحساب، قال فريد هذه الملاحظة العابرة، ثم عاد إلى روايته، وكانت قد وقفت عند الحوار الذي دار بين الأحدب وناظر المدرسة.

قال الأحدب وكأنه يمزح: علاج ابنك هو أن يلعب البنج بونج.

فأجاب الناظر في دهشة: يلعب البنج بونج ليصلح أخطاءه في الإملاء؟!

قال الأحدب: نعم.

قال الناظر ساخرا: وكيف كان ذلك يا مولانا؟

أجاب الأحدب في شيء من التعالي وكأنه أراد أن يذكره بالفرق بينه وبينه: إن ابنك حين نطلب إليه هجاء كلمة تهجاها صحيحة، فإذا كتب أخطأ؛ وإذن فالضعف هو في العلاقة بين المخ وحركة اليد، وقد تنضبط هذه العلاقة بلعبة توثق الصلة بين مركز إصدار الأمر في مراكز المخ وأداة التنفيذ الحركي في الذراع واليد.

فبهت الرجل لهذا «الفن» التربوي العجيب؛ ودارت الرواية في المدرسة كلها، وأصبحت من النوادر التي تروى.

ولقد أثار ذلك الأحدب ضجة حوله كادت تودي به في أول اشتغاله بالتدريس، وقصة ذلك أنه كان يكتب مقالات كثيرة في مجلة أدبية كانت صدرت حديثا في تلك الأيام، ولم يكن زملاؤه يتبعون ما يكتبه إلا عن طريق الإشاعة، حتى فوجئت المدرسة ذات يوم بخطاب من مدير التعليم في الإقليم، يطلب من ناظر المدرسة أن يحقق معه في شكوى رفعت إليه من شيخ أزهري في المدينة. كان يعرف باسم «الدكتور غراب»، وكان الشيخ قد أرفق بالشكوى عددا من المجلة فيه مقالة للأستاذ رياض عطا هذا، وقد ورد في المقال رأي عن أحد الفلاسفة بأن الله لم يكتمل وجوده بعد، ولكنه في طريق التكوين، وأنه ليس الصواب هو أن نقول إن الله قد كان، بل الصواب هو أن نقول إنه سيكون، لأن ذلك الفيلسوف المنقول عنه نصير لمذهب التطور على طريقته هو الخاصة، ولا يكون للتطور معنى إلا إذا كان الكمال هو الغاية وليس هو البداية، وكلام كثير من هذا القبيل؛ فطلب المدير في خطابه أن يسأل هذا المدرس إذا كان يقول كلاما كهذا للتلاميذ.

وقد ارتعد ناظر المدرسة لهول الواقعة؛ ففي مدرسته مدرس ملحد وهو لا يعلم! وأما الأستاذ عطا فقد كان ثابت الجنان ولم يزد في التحقيق على قوله: إن ناقل الكفر ليس بكافر، وأنه من البديهي أنه لا يقول كلاما كهذا أمام تلاميذ مدرسة ابتدائية، وأرسلت إجابته إلى المدير، الذي أحال الأمر كله بدوره إلى القاضي الشرعي في مديرية الدقهلية، فأفتى بأن ليس على هذا المدرس لوم ما دام قد اعترف بأنه لا يأخذ بمثل هذا الرأي الذي ينقله، وبأنه لا يتحدث في موضوعات كهذه أمام التلاميذ.

لكن المسألة وإن تكن قد انتهى أمرها من حيث الإدارة والتحقيق، إلا أن نبأها سرعان ما انتشر في المدينة حتى على أفواه عامة الناس، وأخذوا يروون إشاعات من خلق أوهامهم، يصفون بها كيف أن الله يرسل لهذا الملحد نذره ليستقيم بعد ضلال؛ من ذلك أنه كان يسير ذات يوم في شارع السوق والهواء عاصف، فسقطت كتلة ضخمة من الخشب على بعد قدم واحدة منه هاوية من سطح مرتفع، فما هو إلا أن شاع في الناس أن الله جلت قدرته قد أراد أن يتوعده هذه المرة، فإن لم يرتدع أنزل عليه شديد العقاب.

واتجهت الأنظار إلى الشيخ الدكتور غراب، لترى ماذا هو صانع بعد أن فسدت شكواه الأولى التي طلب فيها من مدير الإقليم أن يعزل المدرس لأنه خطر على أبنائهم، فأخذ صاحبنا الشيخ يترقب فرصة أخرى، وسرعان ما سنحت؛ وذلك أن المدرسة قد أعدت للبلد برنامجا ثقافيا يلقي فيه مدرسو المدرسة محاضرات عامة، وكان أن اختار الأستاذ رياض عطا موضوع الأحلام وتفسيرها على الطريقة العلمية الجديدة، قائلا للناس إنها لا شأن لها بالغيب، وأنها تعكس الماضي ولا تصور المستقبل إلا باعتباره امتدادا للماضي، مختتما محاضرته بقوله: «فإذا كنت قد هدمت لكم عقيدة راسخة من نبوءة الأحلام؛ فليس الذنب ذنبي أنا، ولكنه ذنب العلم الحديث.» وكان الدكتور غراب من الحاضرين، فلم يلبث أن أقامها حربا عنيفة على هذا الذي جاء «ليهدم العقيدة الراسخة» على حد قوله. وبدأت الحرب أن نهض فورا ليسأل المحاضر: وماذا تقول في تأويل الأحلام على لسان سيدنا يوسف عليه السلام؟ فأجابه المحاضر على البديهة: لو كان مثل هذا التأويل في وسع الناس كافة، لما عد معجزة لنبي من أنبياء الله. لكن هذه الأمور في مثل هذه الظروف لا تسير بالحجة، بل تسير بصرخات الانفعال، وهذا هو ما كان يومئذ؛ مما أوقف رياض عطا بعد ذلك موقفا فيه الشهرة وفيه الخطورة في آن معا.

ولست أدري ماذا كان شعوره الداخلي إزاء هذا كله؛ لأنه لم يكن يخالطنا بما يكفينا لنعلم دخيلة نفسه، ولم يمض بعدئذ أسبوع واحد، حتى فاجأنا بغرابة جديدة.

فقد كان التلاميذ يجتمعون ساعة الغداء تحت سقيفة كبيرة في فناء المدرسة، وكان كل منهم يجيء ومعه غداؤه منذ الصباح؛ ومعظم التلاميذ من القرى المحيطة بالمدينة؛ فثيابهم - كما تعلم - عنوان الفقر كله والبؤس كله، وكذلك طعامهم الذي كانوا يصرونه في مناديلهم القذرة إلى أن تحل ساعة الغداء، وإذا بصاحبنا يذهب إلى تلك السقيفة ذات يوم، والأولاد مجتمعون على غدائهم، فيقف أمامهم صامتا ينقل فيهم عينيه، ثم يبدأ لهم في درس يعلمهم به كيف يجعلون ثيابهم أقرب إلى الذوق الجميل، وطعامهم أدنى إلى قواعد الصحة؛ وقد خرجنا نحن المدرسين من حجرتنا «لنتفرج» على هذا «الإمام الواعظ» ماذا يقول لأطفال صغار ينوء أهلوهم تحت فقر فظيع وجهل أفظع، فكانت أول عبارة سمعتها قوله: «فلا تختر ملابسك من ذوات الألوان الفاقعة، ولا تجعلها ظاهرة الخطوط ...» إلى آخر هذه القواعد التي تفترض أن الطفل السامع في وسعه أن يختار بين ألوان وألوان، وبين خطوط وخطوط، كأنه لم يعلم أن سامعيه كانوا من فقر آبائهم بحيث لا يكون في الأمر اختيار بين ثوب وثوب وبين طعام وطعام.

لكنه التعليق بالمثل العليا - والحق يقال عن هذا الرجل - هو الذي أظهره في صورة الشاذ الحالم؛ إنه يتمنى الأمنية ثم يحاول تحقيقها فيوفق حينا ويعجز أحيانا، فيأخذه البأس لعجزه أكثر مما يأخذه السرور لتوفيقه.

لم يكن كثير الذهاب إلى المقهى عندما جاءنا مدرسا ناشئا، وكان في البلد شبه ناد يرتاده الموظفون عادة، فقصد إليه وحده ساعة العصر من يوم قارص البرودة، وأراد أن يأوي من المكان إلى ركن دافئ، ففتح بابا مغلقا ليجد نفسه في غرفة خالية إلا من قطع الأثاث التي تبدو للرائي على الفور أنها أعدت لفئة ممتازة من المرتادين، ولم يتعب نفسه بالتأويل والتفسير وبالسؤال والجواب، فحسبه أن وجدها غرفة نظيفة تحقق له الهدوء والخلوة، وما هو إلا أن جاءه المناول - وكان يونانيا - وشيء من الفزع على وجهه، ففاجأه الأحدب بطلب فنجان من القهوة.

المناول :

هل تسمح - من فضلك - بالذهاب إلى الناحية الثانية؟

الأحدب :

أية ناحية ثانية؟

المناول :

هناك، مع الناس، هناك في القهوة.

الأحدب :

وما هذه الغرفة إن لم تكن جزءا من «القهوة»؟

المناول :

هذه غرفة الحكومة.

الأحدب :

غرفة الحكومة؟! ماذا تعني؟

المناول :

أعني البك المأمور والبك القاضي والبك وكيل النيابة والبك الدكتور.

الأحدب :

وما رأيك في البك المدرس إذا أراد الجلوس هنا؟

المناول :

ممنوع.

الأحدب :

اذهب وهات فنجانا من القهوة، سكره قليل.

المناول :

من فضلك هذا ممنوع، في هذا ضرر يلحق بي.

الأحدب :

اذهب وهات فنجانا من القهوة، سكره قليل، ولا تنطق بكلمة واحدة بعد هذا.

ذهب المناول وعاد ومعه القهوة ويصحبه رجل آخر لعله صاحب المقهى، وحاول الاثنان حمل صاحبنا على العدول عن الجلوس في تلك الغرفة الخاصة، قائلين له إنه لا مانع من أن يشرب قهوته هناك، أما بعد ذلك فالأفضل له أن يجلس حيث الناس كثيرون.

لم يلق لهما بالا، وأخرج من جيب سترته كتابا صغيرا، وراح يقرأ كأن لم يكن واقفا إلى جانبه أحد.

ولبث هناك نحو ساعة، والباب مغلق عليه وحده، وإذا بالباب يفتح فجأة وبعنف شديد بيد رجل ضخم دخل الغرفة وهو يضحك بأعلى صوت تستطيع أن تخرجه حنجرة بشرية، ووراءه اثنان يضحكان معه في صوت خفيض كأنهما أرادا أن يكونا بمثابة البطانة الضاحكة التي تحيط بضحك الزعيم لتبرزه؛ لكن ذلك العجل البشري الهادر المنقض على الهواء أمامه كأنه يريد أن يبتلعه كله في جوفه الكبير، ما كاد يخطو بإحدى قدميه داخل الغرفة حتى رأى صديقنا الأحدب يفرد منظاره على عينه اليسرى، وقد جلس في ركن الغرفة يقرأ، لا يحرك ساقا ولا ذراعا، ولا يخرج عينه من وراء صفحات الكتاب.

وقف الثلاثة لحظة، راح العجل البري خلالها يلفظ من فمه خوارا غير مفهوم، ثم صفق بكفيه تصفيقا مدويا، جاء على إثره المناول اليوناني يهرول. - ما هذا؟ أيباح للجمهور استخدام غرفتنا؟

المناول :

يا سعادة البك المأمور، أتعبنا أنفسنا معه فلم يخرج.

المأمور :

إذا جاءت بقية الإخوان فقل لهم: إننا مجتمعون في منزل البك وكيل النيابة.

وخرج الثلاثة ولم يعودوا، ومنذ تلك الليلة أصبحت الغرفة الخاصة غرفة للمدرسين؛ فقد سمعوا بالخبر وهم في بهو المقهى، وجاءوا فجلسوا مع الأحدب يشدون أزره ويؤيدونه؛ أما الأحدب فلم يكن يعنيه ذلك؛ لأن ارتياد المقهى لم يكن جزءا من حياته؛ وأما رجال «الحكومة» فلم يعد أحد يراهم هناك، وقيل إنهم اتفقوا على أن يجعلوا من بيت وكيل النيابة الأعزب مقرا جديدا لهم. •••

سمعت هذه الرواية عن الأحدب أيام شبابه، فكنت كمن يصحو من حلم، يختلط عليه الأمر بين ما يراه ويسمعه في دنيا الواقع من قوله، وبين أشياء مرت به في الحلم! وذلك أني كنت وأنا أنصت في القطار لما يقص علي صديقي فريد، أحس إحساسا غامضا بأن تلك الأحداث كلها وتلك الأحاديث كلها إنما حدث لي مثلها وتحدثت بما يشبهها، وإن في ذلك لسرا غامضا لم أتبين حقيقته إلى يومي هذا.

نعم إن بيني وبين الأحدب من أوجه الشبه شيئا كثيرا، لكن أوجه الشبه بين رجلين لا تجعلهما رجلا واحدا، أو هكذا ظننت عندئذ، فحسب هذا التشابه بيننا أن يفسر لي هذا التجاذب الشديد الذي صادق بيننا إلى الحد الذي يجعل كلا منا يفرح بلقاء الآخر ويسعى إليه، أما أن يشتد إلى درجة الهوية بين شخصينا فذلك هو موضع العجب، ومع ذلك فهو تشابه يجاذبه اختلاف بعيد يفرق بين مزاجه ومزاجي.

كلانا بدأ حياته مدرسا، وكلانا سلخ أعوام شبابه عزبا، ولكلينا ولع خاص بالثقافة من إحدى زواياها؛ فهو مثلي يتتبع المذاهب الفكرية العامة في الفلسفة والنقد، وفي الفن وفي السياسة وفي الاجتماع، تتبعا يجنح نحو التجريد في الفكرة والبعد بها عن التطبيق؛ ولذلك فنحن كلانا نبرع في الجدل النظري، بقدر ما نعجز عن التماس طريقنا في الحياة العملية، وإن يكن الأحدب بعد هذا التشابه بيني وبينه يعود فيختلف عني في درجة والولوغ والإيغال في عالم الثقافة هذا، ويتسع هذا الاختلاف بيننا حتى يشمل طريقة النظر إلى الحياة؛ فهو سوداوي المزاج قلق متشائم ثائر على الأوضاع كلها كيفما وجدها، فلا يرضيه أن يكون الأبيض أبيض ولا الأسود أسود، وقد انعكست هذه النظرة على طريقة معاملته للناس، وها أنا ذا قد وجدته في عزلته لا يكاد يعرف أحدا أو يعرفه أحد، وفوق هذا كله فهو يدس في خفايا نفسه شعورا بالنقص ما يفتأ يستفحل أمره معه فيؤثر على سلوكه تأثيرا صريحا واضحا، على حين أني - برغم ما بيني وبينه من تماثل في كثير من الوجوه - قد لا أكون راضيا عن بعض الأمور فأكتم السخط لأظهر الرضا، وأمجد الغيظ لأبدو هادئا، وأقيم الثورة في جوانحي لأستسلم للأمر الواقع، فلئن كان الأحدب يترك زمامه لدفعات الهوى، فإني كثيرا ما ألجم الأهواء بشكيمة العقل .

بلغ بنا القطار غايتنا وغايته - مدينة الإسكندرية - وتفرقت بيني وبين صديقي فريد وزوجته سبل الطريق، وكنا لم نزل في أول الضحى، فأخذت طريقي إلى شاطئ البحر لأمضي سويعات انتظار لموعدي هناك، فجاءت جلستي أمام البحر في الكازينو الذي كاد ساعتها أن يخلو من زبائنه؛ أقول إن جلستي تلك قد جاءت فرصة مناسبة أتأمل فيها هذا اللغز النفسي العجيب، وهو أن أسمع روايات تروى أمامي عن الأحدب في بدء حياته العملية، فإذا هي روايات تحدث في نفسي شيئا كرجع الصدى، وكأنما هي ذكريات من شبابي لا قصص تروى عن شخص آخر.

لكن الله قد أراد لذلك اللغز أن يزداد إلغازا بدل أن يجد شعاع الضوء الذي يفك طلاسمه، وذلك أن صوتا جاء يناديني من الخلف، هو بذاته صوت الأحدب كما عهدته؛ فالتفت ورائي دهشا، لأرى صديقا لم أتوقع قط أن أراه؛ لأنني كنت ظننته قد غادر البلاد في بعثة دراسية، فما إن جلس وألقيت عليه السؤال حتى أفهمني حقيقة موقفه، وهي أنه إنما تعذر عليه السفر كما تعذر على سواه في تلك الأيام السود، فصمم على أن يعوض ما فاته بدراسة يؤديها هنا بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما زالت عن العالم غمته وسنحت فرصة السفر إلى أوروبا مرة أخرى. كان قد قطع شوطا على الطريق يدنيه من غايته.

كنت أعرف في صديقي هذا - واسمه إبراهيم - منذ أيام الدراسة تعدد المواهب والقدرة على خلق المبتكر، حتى ولو كان ذلك المبتكر الذي يخلقه شيئا لا نفع فيه؛ وكان يتميز دون سائر الزملاء بجمال الخط ودقة الرسم ونظافته؛ ولذلك كان يبحث عن العمل الذي يتطلب الكتابة والرسم، ليتمكن من عرض خطه الجميل ورسمه الدقيق النظيف، حتى لو كان هذا العمل لسواه لا لنفسه، لقد كان هذا الصديق قوي الخيال في غير منهجية واضحة تنظم ذلك الخيال ليجيء خيالا منتجا بناء؛ فهو خيال أقرب إلى خيال الأطفال حين يصور لهم الوهم أن العصا بين أرجلهم حصان أو قطار.

لكن ذلك الخيال القوي عند صديقي، قد كان من خصائصه النافعة - من جهة أخرى - أن يصور له الغايات قبل وقوعها تصويرا ناصعا، حتى ليظن هو أن تلك الغايات المأمولة قد باتت واقعا محسوسا، ومثل هذا التصور الناصع للغايات، من شأنه أن يحفز صاحبه على العمل؛ لأنه يخرج الأمل من دنيا الأحلام ليدخله في دنيا الحقائق.

وبهذا التصور القوي للغايات المرجوة البعيدة، رسم صديقي إبراهيم لنفسه خطة دراسته التي يستعد بها انتظارا للفرصة إذا سنحت للسفر، ولما قابلته كان بالفعل قد قطع شوطا لا بأس به من الطريق، ظفر فيه بشهادتين من جامعة لندن: الشهادة الأولى، والشهادة الوسطى، ولم يكن قد بقي له إلا شهادة الختام، وأخذ يشرح لي بشيء من التفصيل ماذا قرأ وفي أي اتجاه يسير، وأين اجتاز الامتحان؛ وعلمت مما رواه لي أن سيره يتجه به في طريق الدراسة الفلسفية، وأن امتحانه للشهادة الأولى كان في مدينة القدس قبل محنة القدس بعشرات السنين؛ لأن جامعة لندن لم تكن بعد قد جعلت القاهرة مركزا لنشاطها الخارجي؛ وأما امتحان الشهادة الوسطى فقد كان في القاهرة.

سألته قائلا: لكن لماذا تبدأ الشوط من أوله، ودرجة الليسانس التي بين يديك تعفيك من بعض المراحل؟

فأجابني: أردت أن أجعل طريق السير متجانسا ومتكاملا، وفيم العجلة؟! إنني أستهدف الدراسة نفسها بقدر ما أستهدف الشهادات، وقل إن المسألة كلها فيها من التسلية العلمية مقدار ما فيها من جدية الأهداف.

لم يدهشني اختياره للدراسة الفلسفية؛ لأنني كنت أعلم أن له فيها ماضيا مليئا بالجهود الممزوجة بالحب الشديد؛ وهل أنسى أننا حتى ونحن في أيام الدراسة كنا قد لحظنا فيه هذا الميل بوضوح، فأطلقنا عليه اسم «سقراط». وأذكر أني سألته ذات يوم منذ زمن بعيد: ما الذي مال بك نحو الفلسفة بكل هذا الحب؟ فأجابني بأنها المصادفة البحتة هي التي أوقعته على كتاب إنجليزي صغير عن الفلاسفة الثلاثة الكبار: سقراط وأفلاطون وأرسطو، فلما قرأه كان كمن كشف عن نفسه الغطاء؛ إذ أحس أن مثل هذه المادة العقلية هو ما خلق من أجله؟ فإذا كان «شن» - في المثل العربي القديم - قد وافق «طبقة»، فكذلك قد وافقت الفلسفة طبيعتي. ولعله منذ تلك اللحظة لم يحد عن الطريق. •••

أقول: إن لغز العلاقة بيني وبين الأحدب قد ازداد إلغازا حين قابلت إبراهيم على شاطئ البحر؛ فمنذ سمعت صوته يناديني بنبرة هي نفسها نبرة الصوت عند الأحدب، ثم حين جلس معي يوجز لي جهوده الدراسية التي اضطلع بها من تلقاء نفسه بعد التخرج، وجدت هذا الشعور العجيب يملؤني؛ فمحال ألا تكون هنالك علاقة لا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب بيني وبين الأحدب، ثم بيننا وبين إبراهيم؛ فلقد أحسست كأننا ثلاثة أعضاء من كيان عضوي واحد؛ أسمع عن الأحدب أخباره فأحب أن أسترجع أخبار الماضي الذي عشته، ثم يتحدث إلي إبراهيم عن جهوده فيخيل إلي أنه إنما يذكرني بنفسي، فمن أين جاء هذا الخلط العجيب بين أشخاصنا الثلاثة؟

تركني إبراهيم لأرسل بصري إلى الأفق البعيد، مسترجعا لنفسي شريط الأحداث كما وقعت لي بعد التخرج من مدرسة المعلمين العليا، فإذا المشهد أمامي ينشق إلى ثلاثة فروع تنبثق كلها من أروقة واحدة؛ ولا فرق عندي بين أن يكون هذا هو الماضي كما وقعت بالفعل، وبين أن يكون من خلق أوهامي، وحسبي أنها صورة صحيحة في أساسها وفروعها.

فلقد توهمت حين أرسلت البصر إلى الأفق البعيد أن أمامي ثلاثة رجال، سار كل منهم في طريق، لكن الطرق الثلاثة كانت تلتقي عند رأس واحد، فهنا رجل إلى اليسار قد أخذ في مشية متعثرة خفيفة الخطى، تقوس ظهره وكأنه الأحدب الذي عرفته، يتلفت يمنة ويسرة كأنه العصفور المذعور يخشى هجمة العقاب المفترس، وهناك رجل آخر إلى اليمين قد سبق بخياله مواقع قدميه، ونظر إلى بعيد فمرت الدنيا تحت أنفه وهو لا يراها لأنه انشغل بغده عن يومه، تبين الرجلين ثالث قيده الأمر الواقع بقيوده، فسار وكأن لم يكن أمامه أفق بعيد يرسل إليه البصر، وكأن لم يكن بعد يومه غد يرتجيه.

وكان لكل من الرجال الثلاثة نشاطه الخاص؛ الأول مدفوع بغرائز الفطرة، وكانت فيه بذور الأديب والفنان ؟ والثاني طموح، وجد نفسه يسكن الطابق الأرضي الذي لم يكن فوقه طابق يعلوه، فأراد أن يقيم بيديه الطوابق العليا واحدا فوق الآخر ليصعد إلى هواء نقي نظيف؟ وأما الثالث فهو يعمل كسبا للقوت، راضيا بما قسمه له خالقه من دنياه، أو لعله ركن إلى جناحيه الأيسر والأيمن ليكملا له جوانب النقص؛ فالأيسر منهما يطير بنا في دنيا العاطفة حتى ولو كانت هوجاء عمياء، والأيمن منهما يبني بالعقل الصرف صرحا هو في حاجة إلى بنائه لتعلو به مدارج الإدراك وإن لم يتبع ذلك علو في مدارج الحياة؛ فقل إنهم ثلاثة رجال، أو قل إنهم رجل واحد في ثلاثة شخوص؛ فالقولان سيان.

ولقد جاءت هذه الخواطر بصورة الأحدب إلى صفحة ذهني، فوجدتني مشوقا إلى لقائه، ولم أضيع دقيقة من وقتي بعد أن فرغت من مهمتي التي من أجلها ذهبت إلى الإسكندرية، وعدت مسرعا، وقصدت إلى مسكنه فور وصولي إلى القاهرة، كنت أصعد سلم داره، لافتا وجهي إلى أعلى إبان الصعود؛ وقبل أن أبلغ من «السلالم» نصفها، سمعت وقع قدميه هابطا، ولمحت أطراف سراويله، فوقفت حيث كنت، قدم أعلى وقدم أدنى، ويد ممسكة بالحاجز الخشبي.

رآني فأسرع الهبوط حتى كاد ينكفئ على وجهه، ولقيني والبشر يملؤه على نحو لا عهد لي به.

قال: أهلا، أين كنت؟ لقد طال غيابك عني، مع أن لدي من المفاجآت ما أردت أن أحدثك عنه.

قلت: مفاجآت في حياتك أنت؟!

قال: في حياة من تريد؟! لقد وجدتها بعد كل هذه الأعوام الطوال.

قلت: وجدت من؟

قال: وجدت من فتحت لي بابتسامتها المنادية مصاريع العالم المسحور.

قلت: ... وبعينها التي تدعو؟

كنت ما أزال أقف على السلم بقدم على درجة أعلى والأخرى على درجة أسفل، ويد ممسكة بالحاجز الخشبي، ولم أكد أنطق بهذه الجملة الأخيرة التي استعدتها من مذكراته التي كان أعطاني إياها لأقرأها عن حياته إبان المراهقة؛ أقول: إني لم أكد أنطق بهذه الجملة حتى سبح بنظرته قليلا، في مزيج من الدهشة ومحاولة التذكر، لكن سرعان ما عاد إلي بوعيه، قائلا إن القصة طويلة، والموعد قد دنا؛ فهيا معي، وسأحدثك عن الأمر في الطريق.

وأخذنا ننزل الدرج معا، وسألته ونحن نازلان: موعد مع من؟

قال: مع سميرة وزوجها؛ لكنك لا تعرف بعد من سميرة هذه.

وهنا كنا قد خرجنا من الباب إلى الطريق، ومال بنا نحو اليمين، وهو اتجاه يضاد الاتجاه المؤدي إلى مكان اعتزاله الذي يأوي إليه بعد الغروب من كل مساء، وأذن فقد حدث ما غيره من نقيض إلى نقيض، فما ذاك يا ترى؟ أتكون سميرة هذه هي الشيطانة التي ألهبت جوانحه ذات يوم من شهر الصيام، وهو لم يزل على عتبة الشباب؟

على أننا ما كدنا نستوي على الطريق - وكان مزدحما بالمارة ازدحاما شديدا، حتى لقد كنت أنا والأحدب كثيرا ما ينفصل أحدنا عن الآخر في الزحام ثم نعود فنلتقي - ما كدنا نستوي على الطريق حتى أخذ يقص علي في نشوة الطفل الفرح المغتبط بقصة يرويها لأبيه عن مردة الجن، كيف ذهب ذات مساء - أثناء غيبتي بالإسكندرية - إلى كازينو الشاطئ، ولم يكن يعلم أنه غاص بمرتاديه إلى ذلك الحد الذي رآه، وبحكم عادته في إيثار العزلة، اختار منضدة على الطرف الأقصى حيث يقل المرتادون، وبينما هو يتهيأ للجلوس، إذا بالرجل والمرأة الجالسين على المنضدة المجاورة يتلفتان إليه تلفت من يحاول التذكر، وأما هو فإزاء هذا التطلع منهما فقد جلس ونصف ظهره إليهما، حتى يحرمهما من رؤية وجهه رؤية واضحة، وفي الوقت نفسه لا يحرم هو إرسال بصره تجاه النيل، لكنه سرعان ما تذكر أنه بهذا الوضع إنما يعرض عليهما تشويه ظهره، فاستدار ليجلس مستقيما، وجهه إلى النيل، وصفحة وجهه اليمنى إلى الجالسين بجواره.

لم يكن التطلع مقصورا على ذينك الجارين، لكنه ما لبث أن امتد إليه، برغم ادعائه لنفسه أنه حبيس أنفاسه، مكتف بذاته، يحيط نفسه بأسوار من وهمه حتى لا ينفذ أحد إلى حصنه، يقول لي الأحدب وهو يروي قصته - ونحن ما نزال نشق طريقنا في الزحام، وكثيرا ما قطع الزحام حديثه عند كلمة في سياق الرواية، فيعود لاهثا ليكمل الحديث حيث انقطع، وكان الأحدب أقصر مني بمقدار ما احدودب ظهره؛ ولذا فقد كان يضطر أن يشرئب بعنقه نحو مسمعي؛ يقول لي الأحدب وهو يروي قصته، إنه - بدوره - قد أخذ يتطلع خلسة، فكان كلما وجه النظر إليهما، وجدهما ناظرين إليه بأعين غامضة، فيعود منسحبا بنظرته كأنما يريد أن يخفي عنهما أنه هو كذلك ينظر.

ثم ما هو إلا أن هتف في دخيلة نفسه هاتف ارتج له قلبه بنبضة قوية كأنها جاءت نبضة زائدة على مجرى النبض المعتاد؛ ذلك أنه تذكر مؤخرا - كالصدى يجيء بعد النطق - أنه بنظرته الأخيرة إليهما قد لمح في المرأة سنة أمامية لها بروز خفيف وتفصلها عن السنة المجاورة فجوة صغيرة، ولم يكن قد تنبه إلى شيء إذ هو ينظر إليها نظرته الخاطفة، فما إن اعتدل في جلسته حتى جاءه الهاتف يهتف بل يصيح: أتكون هي؟

واستطرد الأحدب يقول لي كيف أنه أعاد النظر بلفتة حادة سريعة جاءت رغم أنفه، فإذا هما يقطعان باليقين ما كان عندهما موضع شك، ونادت المرأة بصوت أبح: رياض!

فاندفع الأحدب إليها كالمجنون: سميرة! هذا مستحيل، هذا مستحيل! ومختار!

وكان بين الثلاثة ما يكون بين الأحباء ضربت الأيام بينهم حينا طويلا، ثم لاقت بينهم على غير انتظار منهم، ولو انتظروا لما تحقق لهم مثل هذا اللقاء، لكنها الأيام وحبها للمباغتة تفاجئ بها الناس، ليعلموا أن وراء تدبيرهم الضيق تدبيرا أوسع وأعم.

كانت سميرة ومختار متقاربين في العمر مع الأحدب؛ أما هي فأعوامها لم تزدها - في عين الأحدب - إلا نضجا أنثويا؛ فالشفتان المليئتان بعض الشيء ما زالتا - في عينه - تناديان، والعينان العميقتان المتلألئتان الضاحكتان ما زالتا تدعوان، والبشرة ما زالت على صفائها القديم، والصوت الأبح قليلا ما زال يثيره، وكأن شعراتها البيض لم تفعل سوى أن زادتها إشراقا على إشراق، وملاحة على ملاحة، فإذا وصفت سميرة بجملة واحدة قيل إنها ذات الوجه الصبوح؛ فملامحها لا تعرف الجهامة، ووجهها لا يعرف العبوس، وذكاؤها اللماح متوقد في عينيها ، إنها لم تكن قد زادت في دراستها على سنوات قليلة في مدرسة أولية؛ فهي تكاد تخلو من كل تحصيل مدرس، لكن من ذا يبحث وهو معها عن تحصيل؟! فها هنا تكون فطرة الأنثى على أتمها وأكملها، بحيث يشعر الرجل وهو بين يديها أنه في حضرة الجنس كله وقد تجمع في واحدة من بناته، بل إنها كلما استخدمت في حديثها كلمة أو عبارة مما اعتاد نساؤنا وهن على الفطرة أن يستخدمنها، ومما يحرص من تعلمن منهن أن يتجنبنها، جاءت تلك الكلمة أو العبارة على أعماق نفسه كالموقظ للطبيعة النائمة.

إنه في الحق لأمر عجيب يستحق النظرة الفاحصة؛ يتعلم أبناؤنا وبناتنا، فيتطور المتعلم الفتى في كل شيء إلا في مثيراته الجنسية؛ فهذه تظل كما كانت لتكون لو لم يتعلم شيئا، على حين لا تكاد تتطور المتعلمة الفتاة في شيء إلا في مثيراتها الجنسية، فلا يبقى فيها شيء مما يكون عند أختها المتروكة على الفطرة، مع كون الأختين من ثقافة اجتماعية واحدة.

وسميرة امرأة من اللائي نشأن على فطرة التقليد الثقافي للمرأة، واحتفظن بما نشأن عليه، ولا اعتبار لأن يكون الأحدب قد قطع ما قطعه من أشواط في التحصيل الثقافي اتساعا وعمقا وارتفاعا؛ فهو ما زال عند التقائه بها بعد ذلك الفراق الطويل، يلتقي بقلبه معها في مستوى فطري واحد؛ هي تنادي وهو يجيب، وهي تدعو بفطرتها وفطرته تستجيب.

وأما مختار زوجها، فرجل طويل القامة، معتدل الجسم، كثيف العنق طويله، على صدغيه وفي رسغه وشم قديم، حاول أن يمحوه، لكن بقيت منه آثار، فيقال إنه ريفي التحق بالجندية وقضى فيها مدته، ثم خرج منها موظفا مدنيا في الجيش؛ لأنه كان على شيء من التعليم المتوسط، فكأنه بدل ثيابه العسكرية، ولكنه لم يستطع أن يبدل من حركات جسده وطريقة حديثه؛ فهو لم يزل مزيجا من سذاجة الفكرة التي تلحظها في الريفي وصلابة الحركة التي تراها في الجندي، وهو طيب القلب إلى أقصى الحدود، لا تفارق الابتسامة شفتيه، لكنها ابتسامة المرتبك أكثر منها ابتسامة المطمئن الراضي.

إن الأحدب ليتحدث معه الآن حديثا منقطعا فيما يدعي له أنها ذكريات حلوة، عن الأسابيع الأولى بعد زواجه من سميرة، وكيف زارها في دارهما بدعوة منه؛ ذلك أن الأحدب عندئذ لم يجد في نفسه الشجاعة أن يزور الزوجين؛ فلقد كان يومئذ - برغم ما التهب به حبه شغفا بفتاته تلك - غارقا إلى أذنيه في العبارة ممعنا في التهجد، حتى أوشك أن يقع في غيبوبة الدراويش، فكان له ذلك رادعا عن ارتكاب الإثم، كما كان رادعا عن السير في طريق قد يؤدي به إلى إثم، لكن ذلك كله لم ينقص من نبضات قلبه نبضة، ومرت بعد زواجها أسابيع قليلة، ثم جاءته دعوة من الزوج يدعوه بها إلى زيارة على عشاء، فأدرك أن الدعوة هي في الحقيقة من سميرة متخفية وراء زوجها، فذهب وقلبه يسبقه إليها، وجلس ليلته هناك جلسة محفورة في ذاكرته إلى اليوم، برغم عشرات السنين التي انقضت ما بين مراهق الأمس وشيخ اليوم.

علمت كل ذلك من الأحدب ونحن سائران في الطريق، فسألته: وإلى أين نحن ذاهبان الآن؟

قال: إلى كازينو الشاطئ، فأنا معهما على موعد.

قلت: وهل ترى وجودي مناسبا؟

قال: ليس شيء في الدنيا أنسب لي من وجودك؛ لأنك ستسد لي ثغرة الزوج، لكي أعيش أنا الساعة أو الساعتين مع سميرة، إنه رجل طيب.

ووصلنا حيث وجدنا سميرة وزوجها مختارا قد سبقانا إلى هناك.

ولم يكن حتى تلك اللحظة يعرف اسمي، فأسعفته به، قائلا: فوزي الراوي. وحيينا وجلسنا، وقدمني الأحدب لهما، ولبثت الوجوه الأربعة مبتسمة في توتر، والعيون ناظرة إلى فراغ؛ لأنها شاردة كأنها تجتنب اللقاء وتبادل النظرات الكاشفة عن دخائل النفوس.

وكنت أنا بينهم وحيدا في بعدي عن المشكلات العاطفية القديمة، فمن لمحة واحدة عرفت أن سميرة والأحدب ما يزالان ينظران بأعين مترعة بالعشق المحروم الظمآن، وأن مختارا يساوره القلق الخفيف مما يراه بينهما من خيوط تخفى عن العين ولكنها ظاهرة ظهورا واضحا أمام بصيرته، ولعلها كانت ظهرت منذ الزيارة الأولى التي قام بها رياض عطا للعروسين بعد زواجهما بقليل، ومضت أعوام كانت كفيلة أن تحيل الديار العامرة طلولا خربة، لكنها لم تمح ما بين هذين القلبين، وكدت أقول بين هذين الجسدين؛ لأنني أحسست جسديهما يتجاذبان؛ ففي كل جسد منهما ميل خفيف نحو الآخر، وإذن فقد كنت وحدي بينهم قادرا على فتح الحديث بأعصاب هادئة، وقلت: أنبأني الأستاذ رياض ونحن في الطريق إليكم أنكم قد التقيتم بعد غياب طويل.

فقالت سميرة ناظرة إلى الأحدب (والعجيب هنا هو أن الحدب كاد عندئذ يختفي إلى حيث لا أدري؛ فقد خيل إلي أنني أنظر إلى ظهر مستقيم كسائر الظهور) قالت: نعم. كان آخر عهدنا به ونحن عروسان.

ثم انتقل الحديث بيننا جميعا إلى أمور عابرة توحي بها الأحداث الدائرة حولنا، وجاءت لحظة صمت، فهممنا بالانصراف، ولما أن انفردنا أنا والأحدب على طريق العودة، وقلت له: لقد كان هذا اللقاء صفحة من ماضيك، لكنها صفحة وضعت في يدي مفتاحا هاما.

قال الأحدب في ضيق: أي مفتاح؟

أجبته: لقد رسمت لك سميرة في مراهقتك صورة المرأة، وتغيرت ثقافتك ولم تتغير الصورة، فنتج ما نتج عندك من صراع بين ما تقتضيه ثقافة الرجل العصري في بناء أسرته، وما اقتضته الصورة التي رسخت في نفسك منذ أول الشباب؛ فأنت إلى يومك هذا لا تدري أي الثقافتين تطيع وأيهما تعصي؟

الفصل السادس

الكاتب الظل

لم أعد أستطيع التخلص من هذه الفكرة العجيبة التي سيطرت علي، وهي أنني أنا والأحدب ومعنا صديقي إبراهيم الذي لقيته في الإسكندرية لا بد أن يكون بيننا رباط وثيق، يجعل منا ثلاثة جسوم لنفس واحدة، نعم، قد يكون هذا سطحا مني في التصور، ولكن ما أكثر ما تقرأ عن شخوص تتعدد مع روح واحد، حتى لتجد من المذاهب والعقائد ما يجعل الإنسانية كلها؛ بجميع ماضيها وحاضرها وسائر ما سوف يولد من أفرادها إلى أبد الآبدين، شعابا لنفس واحدة، لكنني لا أريد أن أغلو في القول إلى ذلك الحد البعيد، ويكفيني ثلاثة أشخاص، إبراهيم والأحدب وأنا، لأزعم لهم نفسا واحدة تشعبت في اتجاهات ثلاثة.

أقول: إني لم أعد أستطيع التخلص من هذه الفكرة، حتى ولو كانت فكرة باطلة من حيث الواقع الحسي؛ فهي ما تزال صالحة لتصورات الخيال؛ لأن ثلاثتنا - إذا جمع بعضنا إلى بعض - صنعوا إنسانا متكامل الجوانب، وماذا يراد لمثل هذا الإنسان المتكامل من عناصر؟ أليس الذي يراد له هو:

أولا:

عمل يرتزق منه، ويجري فيه على تجانس مع أبناء المجتمع الذي يعيش فيه.

وثانيا:

خيال يجمح به آنا بعد آن ليفر من قيود المكان والزمان كلما ضاق بهذه القيود.

وثالثا:

طيران بالعقل إلى أهداف بعيدة تريد التحقيق في دنيا الواقع ولو بعد حين، فلا هو يخضع للأمر الذي تفرضه عليه ضرورات العيش، ولا هو يطير بأجنحة العاطفة التي تشبع نفسها ولكنها لا تغير من الواقع شيئا.

فإذا كانت هذه هي العناصر الأساسية المطلوبة ليتكامل الإنسان؛ فهي هي نفسها العناصر التي تتجسد فرادى في شخصي، وفي شخص رياض عطا (الأحدب) وفي شخص صديقي إبراهيم؛ فأنا الذي حملت على كتفي أعباء الأمر الواقع وما يقتضيه، ورياض هو الذي ترك قياده لعاطفته، وإبراهيم هو الذي أخذ يخطط بالعقل الصرف لمستقبل علمي يرفعه عن درب ضربته الأقدام.

فها نحن أولاء نقف جنبا إلى جنب على عتبة الحياة العملية، وكان ذلك سنة 1930، لكن سرعان ما تفرقت بنا السبل، ولقد كان بيننا من الأصول المشتركة ما يجعل في أشخاصنا شيئا من التداخل؛ بمعنى أنني وإن كتب علي أن أسير على الدرب الذي ضربته لي أقدام السائرين الآخرين من عباد الله، فلم يكن ذلك ليحرمني من ساعات لشطح العاطفة، وساعات أخرى للأمل في أهداف بعيدة وجديدة، وكذلك الأحدب، فإن يكن قدره أن تشتعل به العواطف وتحتدم الغرائز؛ فهو بالطبع لم يخل من لحظات يستسلم فيها للأمر الواقع، أو لحظات يخطط فيها لنفسه بالعقل كيف يخطو إلى أمام ثم نقول القول نفسه عن زميلنا الثالث إبراهيم؛ فهو إذا كان قد غلب عليه المستقبل بطموحه حتى غض النظر عن الحياة كما تمر بموكبها أمام عينيه، فلم يكن هذا الانصراف إلى بناء المستقبل ليلهيه أحيانا عن الاستماع إلى صوت اللحظة الراهنة، أو الميل أحيانا إلى جموح العاطفة أو نداء الغريزة.

ثلاثتنا جميعا كان لهم نصيب موفور في حياة الفكر والتعبير؛ أما نصيبي أنا فقد كان شبيها بما يفعله عارض الأزياء في نوافذ الدكاكين، ليراه المارة في الطريق واقفا وراء الزجاج بالثياب المعروضة، وإذن فلم يكن له من فضل أكثر من فضل المعلن عن شيء موجود، فتكون قيمته مرهونة بعدد الزبائن الذين يغريهم عرضه فيقبلون على الشراء، فإذا لم يجتذب للثياب من يتذوقها ويشتريها. كان وجوده وعدم وجوده على حد سواء.

ظهرت مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات في يناير من سنة 1933، وكنت - كصاحبي الأحدب - مدرسا في ريف الدقهلية. كانت قريتي تنتمي إليه قبل أن تتحول فيما بعد إلى محافظة دمياط، فما إن صدر العدد الأول من «الرسالة» حتى انفتح أمامي الميدان الذي أنظم فيه نشاطي الفكري الذي يفيض لي بعد شواغل مهنتي، فأخذت أرسل المقالات تباعا، و«الرسالة» تفسح لي صدرا رحبا، ولكن فيم كانت تلك المقالات بصفة أساسية؟ كانت فصولا في الفلسفة الغربية، يغلب أن تختص كل مقالة منها بفيلسوف؛ فهذا هو برجسون، وذلك هو نيتشه أو شوبنهاور أو غيرهما، وهكذا لم يكن نصيبي عندئذ من الفكر أكثر من نصيب السمسار الذي يتوسط بين صاحب السلعة من جهة وشاريها من جهة أخرى.

ولذلك لم أدهش بعد أن مرت بي السنون وأوقفتني المصادفة على صاحبي الأحدب، وعرفت كيف سايرت حياته حياتي في خطين متوازيين، مع هذا الفرق الذي أشرت إليه، وهو أني كنت أسير على الدرب المدقوق بالأقدام، على حين أنه كان يربأ بنفسه عن مثل هذا السير الرتيب؛ أقول: إني لم أدهش حين علمت فيما بعد بما كان يضطرم به صدر الأحدب في تلك الفترة نفسها من ضيق بالمعروف المألوف، وتشوف إلى ما هو ذاتي أصيل، فرأيت له مقالة وكأنه كتبها ليعارضني، يقول فيها شيئا كهذا:

لقد قرأت في صدر شبابي كل ما أنت به اليوم معجب مفتون، واجتزت عهدا أراك تجتاز مثله الآن، عانيت فيه ما عانيت من كرب وضيق، وكم قرأت وقرات، فكنت أتلون بما أقرأ كأني حشرة حقيرة تدب على ظهر الأرض وتسعى، فتصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وتخضر إن كانت تزحف فوق الحقول.

كنت أقرأ للشكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن، هذا كتاب متشائم أطالعه فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي، وذلك كتاب متفائل أطالعه فإذا أنا الهاش الباش المرح الطروب، لكن أراد الله بي الخير فأفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة تعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني.

وضرب الأحدب في مقالته تلك الأمثلة؛ ضرب مثلا بالإمام الغزالي الذي قرأ ما قاله الحكماء والفلاسفة، فلم يكن له منها سوى أن ارتجت نفسه ارتجاجا عنيفا، وأخذه الشك من كل جوانبه، حتى نالت منه العلل بما نالت، لم يشفه منها إلا أن يستمع إلى وحي نفسه؛ وضرب مثلا بتولستوي الذي غاص في أغوار الفكر ما غاص، وانتهى به الأمر إلى اضطراب وحيرة، فما كان منه إلا أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه أباطيل؛ لقد قرأ تولستوي للفلاسفة الأعلام جميعا، قرأ لأفلاطون وكانت وشوبنهور وباسكال، لكنه تبين أن آراء هؤلاء الحكماء إنما تكون واضحة ودقيقة حينما تبعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها في ميدان هذه الحياة لا تهدي الحائر سواء السبيل.

كنت إذن أنقل الفكر من غيري، وكان الأحدب يتمرد على الفكر الذي ينقل عن آخرين، ولا يريد من الشراب إلا ما ينضح به إناؤه هو لا ما ينسكب من آنية الغرباء، فماذا كان صديقنا إبراهيم يضع في تلك الفترة نفسها؟ إنه تناسى واقعه وغض عنه النظر، وجعل من نفسه «تلميذا» مرة أخرى، فلقد صمم على هدف يتحقق في موعد قريب أو في موعد بعيد، فذلك لا يهم، وإنما المهم هو الهدف والسعي إلى بلوغه، وما هدفه ذاك إلا أن يظفر بالدراسة الجامعية للفلسفة، ودراسة تنتهي به إلى «شهادة» يغير بها مجرى حياته، ولتكن تلك الدراسة العلمية في إنجلترا، أولا لأنه كان يؤمن بصلابة الثقافة الإنجليزية إذا قيست إلى ميوعة الثقافة في سواها، وثانيا لأنه كان بحكم دراسته في مدارس إنجليزية في المراحل الابتدائية والثانوية، وحتى المرحلة العليا لم تخل من اهتمام واضح باللغة الإنجليزية وأدبها؛ أقول: إنه كان بحكم هذه النشأة ملما بتلك اللغة إلى درجة الإتقان، ولم يكن له إذ ذاك من سبيل إلى جامعة إنجليزية، لا مبعوثا من الدولة بسبب الضائقة الاقتصادية التي ألمت بالعالم في أول الثلاثينيات، ولا على حسابه الخاص لخواء جيوبه وجيوب ذويه من المال الذي يكفي لذلك، وحتى لا يضيع الوقت في أوهام، أخذ يعد نفسه لامتحانات تجريها جامعة لندن في الخارج لمن يريد الانتساب إليها، فقسم إبراهيم حياته قسمين: أما نهاره فللعمل من أجل العيش؛ وأما ليله فللتحصيل كما هو الشأن مع أي «تلميذ» صغير أو كبير. •••

جئت إلى القاهرة منقولا من مدارس الريف، ويبدو أن ضباب الأزمة الاقتصادية العامة كان قد أخذ ينقشع بعض الشيء، فبدأ التعيين في وظائف الحكومة بعد أن كان بابها مغلقا على الجميع، وكنت أنا وشقيقي الذي وصفته في الصفحات السابقة بأنه توءم روحي، ومعنا نفر قليل من أصدقاء الدراسة؛ أقول: إننا كنا أوائل الدفعة عند التخرج، ولم يكن تفوقنا ذاك بذي معنى لأن الضائقة قد شملت الأوائل والأواخر جميعا، فلما انفرجت الأزمة بادرت مدارس الأوقاف الملكية التي كانت تتبع الملك، والتي كانت تجمع خيرة المدرسين حيثما كانوا لتضمن أن تكون لها الصدارة بين المدارس، بادرت باستدعاء من كانت الأزمة الاقتصادية شتتتهم في أرجاء البلاد، وكنا نحن أول من وقع عليه الاختيار، وما إن عدنا إلى القاهرة بعد غيبة قصيرة حتى تلقانا مدير التعليم المشرف على مدارس الخاصة الملكية، بنوع عجيب من التهديد المخيف؛ فنحن الآن - كما قال - في أشرف ساحة من ساحات التعليم؛ لأنها ساحة في كنف صاحب الجلالة، وإن ذلك حده ليلقي على عواتقنا تبعة أن نصون لتلك المدارس الممتازة امتيازها، ثم نحن الآن - كما قال أيضا - كمن ألقي به في اليم وفي يده طوق النجاة، فإما عرف كيف يطفو بذلك الطوق فتكون له حياة، وإما خاب فغرق واندثر، على أن مقامنا في تلك المدارس التي بعثت في نفوسنا كثيرا من الرعب، لم يطل؛ لأن تلك المدارس المخيفة المحطمة لنفوس العاملين فيها، سرعان ما ذابت في مدارس الدولة ولم يعد لها وجودها المتميز الذي كان.

ومع ذلك فحياتي العاملة لم تكن عندي إلا زائدة بغيضة حصرتها بين قوسين، حتى لا تعرقل سيري في الجانب الذي كانت أوثر العيش فيه، وهو جانب القراءة والكتابة، لكن الكتابة عندي - كما أسلفت القول - لم تكن إلا القراءة نفسها بعد أن يتحول المعنى المقروء إلى معنى مكتوب، وذلك هو الذي جعلني في تلك الأعوام أقرب إلى عارض الأزياء.

لم أكد أبلغ القاهرة حتى قصدت إلى رئيس تحرير مجلة الرسالة بعد أن كنت أرسلت إليها من بعيد بضع عشرة مقالة، ربما كان لها وقع حسن عند القراء، وكانت إدارة المجلة في غرفة لجنة التأليف والترجمة والنشر (وكان رئيس التحرير عضوا فيها) فقدمني لمن كان موجودا ليلتئذ من أعضاء اللجنة، ومنهم رئيس اللجنة الأستاذ أحمد أمين، فرحبوا بي ترحيبا أكثر مما كنت أراني جديرا به من علماء أجلاء ومن أدباء ذائعي الشهرة والصيت، ولم تمض دقائق حتى عرض علي أستاذ كبير أن أشاركه في إخراج كتب يكون أساسها عرضا لكتب إنجليزية نختارها، مما هو مؤلف في الموضوع الذي نحب الكتابة فيه، عرضا لا يتقيد بالترجمة كما هي مفهومة، لنفسح المجال للشرح.

فرحت بالعرض فرحة شديدة، ولم تمض بضعة أشهر حتى كنت قد أكملت الكتاب الأول، وأعطيت شريكي الكبير أصول الكتاب، وبعد أيام لقيت الأستاذ في مقر لجنة التأليف والترجمة والنشر - وكنت خلال تلك الأيام قد التحقت باللجنة عضوا - فأعطاني مقدمة أعدها للكتاب، وطلب مني قراءتها، فلما أخذت أقرأ، وقعت في السياق على صيغة تدل على أن المقدمة موجهة إلى القارئ منه وحده، لا من الشريكين معا، فقلبت الصفحات الباقية مسرعا لأقفز إلى الإمضاء، وإذا الإمضاء - كما توقعت - له وحده؛ ولا بد أن يكون وجهي قد امتقع، فقال لي: ماذا ترى؟ كن صريحا، ألا توافق على أن تكون المقدمة مني؟ إذا كان الأمر كذلك عدلت في العبارة وجعلتها مقدمة منا معا؛ فقلت خجلا: لا، لا، هذا هو الوضع الصواب، وقد كان.

وكانت هذه بداية وضعت مبدأ لما سوف نشترك فيه معا من كتب بعد ذلك، وهي كثيرة، ثم ماذا؟ إنني إذا قلت ما أقول الآن، فإنما أقوله لأنه كان - والله شهيد - من العوامل التي اعتملت في نفسي بضروب من الصراع بيني وبين نفسي نادرة المثال، ولست ألقي الذنب على أحد في كل تلك المحنة النفسية التي طالت معي أعواما ليست بالقليلة، لست ألقي الذنب إلا على الترتيب المضطرب المتناقض الذي ركبت عليه نفسي؛ فبينما أواصل الليل بالنهار جهدا وجهادا في سبيل أن أميز نفسي بما كانت تسحق أن تتميز به، تراني أجفل من اتخاذ الخطوة المناسبة أو العبارة الملائمة في المواقف التي تستدعي تلك الخطوة أو هذه العبارة فيضيع مني ما رجوت كسبه من تقدم.

فلأنني جبنت دون القول الصريح عما كنت أريده حقا، وهو أن تظهر الكتب بين القراء على حقيقتها التي هي أنها مشاركة، سارت الأمور معي بخطوات سريعة نحو أن أكون أمام الناس في منزلة التابع لا الشريك، ولم يسع شريكي الكبير إلا أن يعاملني هذه المعاملة ما دمت قد رضيتها لنفسي؛ أكلمه بالتليفون ذات مرة بضرورة قصوى، فيختلط عليه الاسم باسم شبيه لأحد أصدقائه، فيهش في طريقة الحديث، حتى إذا ما أدرك أنه أخطأ الظن، عبس في رنة الحديث ليمحو ما كان قد هش به حتى لا يفلت الزمام؛ ويكتب إلي خطابا ذات مرة لضرورة قصوى لذلك، فيجعل الخطاب أربع كلمات، منهما كلمتان أوليان تقولان: «السلام عليك»؛ لأن «عليكم» فيها ميم زائدة على المطلوب.

التواضع صفة جميلة إذا وقف عند حد معقول؛ وإلا فسرعان ما ينقلب على صاحبه ضعة وقلة قدر وتفاهة قيمة، وهكذا كان أمري؛ فقد خرجت من الشركة الأدبية «صغيرا»، حتى لقد اضطررت فيما بعد إلى مضاعفة جهودي أضعافا مضاعفة لكي أنفق بعضها في محو التصغير الذي لحقني، وأكسب ببعضها الآخر خطوة إلى الأمام، فكلما سار غيري خطوة واحدة تكون كلها كسبا له في ميدان الفكر والأدب. كان لزاما علي أن أخطو عشر خطوات، تذهب تسع منها في محو ما قد رسخ في الأذهان من أنني تابع تصدر إلي الأوامر فأطيع، فلو كنت منذ البداية وضعت الأمور في نصابها، فإما تعادل وإما انفضاض، لحدث أحد الأمرين بغير إجحاف، فمن الإنصاف أن يكون الكبير كبيرا لأنه كبير، وأن يكون الصغير صغيرا لأنه صغير؛ وأما أن يزداد الصغير صغرا ليزداد الكبير كبرا، فذلك ما أسميه إجحافا. •••

والحق أني سرعان ما وجدت أن هذا التباعد بين الكبير والصغير هو دستور التعامل بين أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ فقد كان من هؤلاء الأعضاء فئة من قادة الفكر وأعلام الأدب، كما كان منهم مثلي من البادئين عند أول الطريق، ولقد كنت توهمت عند انضمامي لتلك اللجنة أن الطريق قد أصبح مفتوحا أمامي لأندمج في هؤلاء القادة والأعلام، لكنني لم ألبث أن وجدت الزمالة عسيرة الأسباب؛ إن آلهة الأولمب لا يهبطون من قمتهم الشامخة بما ظننت من سهولة ويسر، نعم إن أعضاء اللجنة هم من الوجهة النظرية أعضاء أسرة واحدة، لكنهم كجزر الأرخبيل، تقوم كل جزيرة وحدها ويحيط بها الماء من كل أقطارها، فلم أبادل الأرباب حديثا ولم يبادلوا، وجلست معهم لا كما يجلس الزميل؛ إذ تبينت أن الأرباب أشد من سواد الناس حرصا على أن يظل الأمر بينهم درجات، فلا يصغر الكبير من أجل الصغير، ولا يكبر الصغير ليستوي مع الكبير، وأوشك كل أن يضرب حول نفسه نطاقا من حراس وحجاب حتى لا يظن ظان أن الملتقى سهل يسير.

وأقف هنا مع القارئ وقفة قصيرة، أنقل له فيها نموذجا مما كتبته عندئذ لأعبر عما اضطرب بين جوانحي من مشاعر، وهي مشاعر إن تكن في هذه الحالة خاصة بفرد واحد، إلا أنها في حقيقتها تعكس ضربا من التفاوت بين الأفراد في حياتنا، أكاد ألا أجد له مثيلا في شعب آخر، حتى بين الشعوب التي يصفونها آنا بالتخلف وآنا بالتنامي، وهو تفاوت يصبح محالا معه أن يعرف الناس معنى للمساواة، مهما ترددت هذه الكلمة على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين؛ فقد كتبت تحت عنوان «ذات المليمين» (وهي قطعة من النقود كانت في تلك الأيام متداولة بين الناس) كتبت ما يلي:

لست أدري متى وكيف تسللت هذه القطعة ذات المليمين إلى نقودي، ولكن الذي أدريه في يقين هو أنها بقيت هنالك شهرا كاملا تنتقل معي حيث أنتقل، وتسير حيث أسير، تحاول جاهدة أن تجد سبيلها إلى الإنفاق، وأنا أغالب طبيعة البشر فأعاونها على ذلك فلا أجد لها السبيل، ولعلك تدري شيئا من هذا الصراع الدائم، القائم بين المال وصاحبه، هذا يشد المال إلى جيوبه شدا لا يريد له أن يشهد النور، والمال يبتغي لنفسه أن يتنفس الهواء الحر الطليق، فيجري دافقا سيالا بين أصابع المتعاملين، تارة تحسه أيد ناعمة، لكنها تستخف به وتزدريه، وطورا تظفر به أيد خشنة، لكنها تتقبله قبولا حسنا وتكرم له المأوى، وإن ذلك لمن عجب الحياة الذي لا ينقضي، فإن طاب لك المأوى ألفيت به الشوك والحسك معا، يستذل النفوس، ويؤجج الصدور، وإن التمست لنفسك العزة ألفيت مأواك خشنا غليظا؛ ومهما يكن من أمر، فقد ألحفت هذه القطعة تنشد لنفسها الفكاك، وغالبت نفسي وعاونتها على الإنفاق، ولكن كان لها القدر بالمرصاد.

فها أنا ذا عند دار السينما أضرب بمنكبي مع الضاربين، لعلي أجد السبيل إلى شباك التذاكر، وقد ضربت حوله زحمة الناس نطاقا يخنق الأنفاس، وأين من هؤلاء القوم من يواتيه حظه السعيد فيبلغ عتبة الشباك؟ إن عيون المتزاحمين لتكاد تفتك به من حسدها له على توفيقه فتكا؛ وحان الحين وكنت أنا المرموق بهاتيك العيون الفواتك، ووقفت أمام الشباك أملأ عارضته بمرفقي، ولكنني أسرعت الحركة والكلام لتطمئن نفس المنتظرين الناظرين فلا يحقدوا، وضربت يدي في جيبي وأخرجتها، فقذفت بما أخرجت لبائعة التذاكر، فإذا بها ذات المليمين تتحرك على رخامة الشباك في رعونة الأيفاع.

وجلست في مقهى مع طائفة من الأصدقاء ممن لا تزال بيني وبينهم حواجز الكلفة قائمة، يحاول كل منا أن يستر من نفسه الفقر والجهل والضعة، ليظهر الثراء والعلم ورفعة المكانة بين الناس، وجاء الخادم ليتقاضانا ثمن ما شربنا، فتسابقت الأيدي مخلصة إلى الجيوب - يا ليتها تدرك أصحاب المسغبة بعشر معشار هذا الوفاء لأصحاب اليسار! - فهذا موقف من المواقف النادرة التي ينعم فيها من يثبت للآخرين غناه، وأخرجت كل يد ما فيها على المنضدة في سرعة متلهفة، فقذف واحد بريال قوي العضلات صداح الرنين، ونشر آخر جنيها من الورق بين أصبعيه؟ وقذفت على المنضدة بما حملت يدي مع القاذفين، فإذا بنصف ريال يأخذ مكانة لا بأس بها بين القذائف، ولكن دارت إلى جانبه ذات المليمين، فحطت من قدره وقيمته، وشاء الحظ العاثر أن تتعثر هذه القطعة المنكودة في دورانها حتى هوت إلى الأرض في رنين ضئيل، فانحنى أحد الأصدقاء إليها وردها إلي، فأخذتها والجبين يتندى من الخجل؛ فليس يشرف المرء في مثل هذه المواقف أن يضم جيبه شيئا من ذوات الملاليم.

وكنت أجالس فئة من رفاقي، وأرادت المصادفة أن يدور بيننا حديث أخذ يشتد فيه الجدل ويشتد حتى اضطرم واشتعل، فجاء زميل يجمع منا قدرا من المال نحسن به على خادم طاحت يد المنون بزوجه، وعجزت دراهمه أن تقلقل الجثة من سريرها إلى القبر، فجاءنا يطلب الإحسان - والموت يقسو على الفقير كما تقسو عليه الحياة، فلا هو إن عاش حي بين الأحياء، ولا هو إن مات واجد سبيلا ميسورة إلى مراقد الموتى - ودار الزميل الكريم يلقف من الأصابع ما امتدت به، ومددت أصابعي ذاهلا مشتغلا بما أنا فيه من الجدل، وقد كدت أنتصر، وإذا بالزميل يبتسم لي قائلا: لا بأس، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وضحك الحاضرون جميعا، ونظرت فإذا بذات المليمين بين أصبعيه، فجذبتها في حركة عصبية سريعة، وفمي يتمتم ألفاظ الأسف، وأخرجت ضعف ما أحسن به الآخرون لأعوض هذه السقطة؛ فمن أمثال هذه السقطات ترتسم شخصية الرجل في أذهان الناس.

حقا إن العرق دساس، ومن تجري في عروقه دماء النذالة والضعة هيهات يخفي عن الناس طويته، فالنفس لا بد يوما مفضوحة بسلوكها، ولو حاولت أن تسدل على مكنونها ألف ستار وستار؛ فهذه القطعة ذات المليمين - فيما يظهر - قد استغلت شبهها بذات القرشين استغلالا دنيئا خسيسا، وأشهد الله أني من إجرامها بريء؛ فقد عن لي يوما أن أسلك نفسي في زمرة الوجهاء - ولست منهم في عير ولا نفير - فركبت الترام في الدرجة الأولى، وجاء الكمساري يجبي من الراكبين الأجور، وكنت منه في أقصى المقصورة، فمددت له يدي بذات قرشين، وأراد أحد الراكبين أن يعينني على ما قصرت عنه ذراعي، فأخذ مني قطعة النقد ليعطيها للعامل، ورأيته ينظر إلى القطعة في يده ثم إلي، ولكن أدبه قد شاء له ألا يتدخل في أمر لا يعنيه، وناولها إلى بائع التذاكر، فنظر إليها الرجل وقال: ما هذا؟ فقلت: خذ قرشا وهات قرشا، فقال: عشنا ورأينا ذات المليمين تلد من جوفها القروش! فأدخلت يدي إلى جيوبي في رعشة الخجل، وأصلحت الخطأ، وقدمت إلى الرجل المعذرة بالابتسام وبالكلام، وأردت أن أثبت للجالسين براءتي - ووجاهتي - فأحسنت بذات المليمين إلى فقير قفز إلى سلم العربة يطلب الإحسان، وانتهى بذلك تاريخ مؤلم طويل، لكن الله، الذي يضمر الخير في الشر، قد أراد لهذه القطعة الخبيثة ألا يذهب عني بلاؤها بغير درس مفيد، بصرني بناحية من طبائع الناس، مؤسفة مضحكة معا.

فقد جلست بين جماعة ذات مساء، وكان في الحاضرين أديب شاب لم يتجاوز العشرين، هو الذي حشر نفسه في زمرة الأدباء حشرا، بغير دعوة منهم ولا قبول، ولست أعلم من ماضيه الأدبي إلا مقالة نشرتها مجلة أسبوعية، ولو اكتفى بهذا الحد من الأحلام لكان جميلا؛ لأن الأحلام الحلوة التي تنفع صاحبها ولا تؤذي الآخرين ليس بها بأس ولا ضرر، ولكن الغرور أخذ من هذا السخيف مأخذا شديدا، فإذا به لا يكتفي أن يكون أديبا من الأدباء، ولكنه - لو أنصف الزمان وعرف للناس أقدارهم - (هذا وسوس له الغرور) لكان في الطليعة منهم، غير أن شيوخ الأدب (هكذا توهم) يقفون له بالمرصاد، فلا يخلون بينه وبين النشر؛ لأنهم ينفسون عليه ما وهبه الله من عبقرية ونبوغ! ... فقلت لنفسي: أليس هذا بين الناس قطعة من ذوات المليمين، تستغل شبهها بذات القرشين، فتدس نفسها بين الريالات وأنصافها دسا دنيئا قد يخدع الغافلين؟

وحدثني صديق، أراد لنفسه الصدارة فالتحق بجمعية أعضاؤها طائفة ممتازة من علية القوم، فخالطهم، ولكنهم لم يخالطوه، وهش لهم وابتسم، ولكنهم تولوا عنه وعبسوا، فجاءني شاكيا باكيا من لؤم الطباع الذي يؤلم ويشقي، فقلت له، وقد تلقيت العبرة من ذات المليمين: اعلم أن في النقود ريالات ومليمات، فإن وجدت واحدة من ذوات المليمين نفسها بين الريالات، فظنت نفسها «عضوا» في هذه «الجماعة»، فأصابها ما أساء إليها وأشقاها؛ فليس الذنب ذنب الريالات المتكبرة، لكنه ذنب ذات المليمين؛ لأنها أرادت أن تكلف الأشياء ضد طباعها؛ إذ أرادت - خطأ - أن تكون ريالا.

وإني لطلب المغفرة من القارئ أن أعدت أمامه المقالة كاملة، وهي المقالة التي كتبتها في أواخر الثلاثينيات لأعبر بها عما يحسه صغير وجد نفسه فجأة بين الكبار، ولقد أردت بإعادة المقالة كلها لأجعلها أمام القارئ نموذجا للمقالة «الأدبية» كما كتبتها، وما أزال ألجأ إلى كتابتها أحيانا إلى يومنا هذا، كلما وجدت الموقف يتطلب صورة أدبية معبرة، ولا يكفيه العرض التحليلي العلمي المجرد.

أخذت هذا التفاوت مأخذ الأمر الواقع، ومضيت فيما بدأت المضي فيه، وهو الشركة الأدبية بيني وبين الأستاذ الكبير.

وهكذا كان شأني عندئذ؛ أعرض الأفكار نيابة عن أصحابها، وأتلقى ما أتلقاه من إحسان أو إساءة، فماذا كان الشأن عند جناحي الأيسر؛ وأعني «الأحدب»؟ فلم يعد خافيا أمامنا أنني أنا والأحدب وزميلنا إبراهيم أضلاع لمثلث واحد، أدركنا ذلك أو لم ندركه بالوضوح الكافي.

حز في نفس الأحدب أن يكافح ما يكافح، حتى لقد كان يعمل من ساعات اليوم الواحد ما لا يقل عن خمس عشرة ساعة، ثم يلقى هذا التصغير بلا مبرر معقول ، لو كان صغيرا في حقيقته، فلماذا رضي الكبار أن يزاملوه ويشاركوه؟ فلم يجد أمامه إلا أن ينكمش وينطوي وأن يمسك القلم ليبثه آلام نفسه التي انكمش عليها وانطوى، فكتب مقالات رامزة، يفهمها من يعرف طبيعته؛ وأما من لا يعرف تلك الطبيعة فيجد فيها ما يجده القارئ لقطعة روعي فيها شروط الإنتاج الأدبي في فن المقالة.

وكان من تلك المقالات التي لفتت الأنظار مقالة عنوانها «البرتقالة الرخيصة»، بدأها بأن راح يتغزل في صفات البرتقالة الجميلة ليأخذه العجب كيف تباع - برغم ذلك - في الأسواق بأرخص الأثمان، ولا تلقى من الفاكهاني أقل العناية، بينما التفاح معطوب وقد يسري في جوفه الدود، ومع ذلك فهو يلف في الأوراق ويرص في الصناديق، ويباع بالثمن المرتفع، «إن البرتقالة لتشبع الحواس جميعا؛ فهي بهجة للعين بلونها، وهي متعة للأنف بأريجها، ولذة للذوق بطعمها، ثم هي بعد ذلك راحة للأيدي حين تديرها وتدحرجها، ولقد لسبت البرتقالة معطفا من جلد جميل، فإذا ما انتهت إلى آكلها، نضت عن نفسها ذلك العطاف الذي لامسته الأيدي، لتبدو لصاحبها بكرا لم تفسدها جراثيم السوء والمرض، وهي فوق ذلك كله لم تنس أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين، لأنها قررت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليملحه فيأكله طعاما شهيا، وليس بالقليل أن يظفر زارع البرتقال بقشوره ما دام السادة قد نعموا باللباب ...» هكذا كتب صاحبي الأحدب وقتئذ، ليتألم وليسخر نيابة عن صنوه الذي هو أنا.

لا، لم أكن شبيها بصنوي الأحدب، ولا كان الأحدب شبيها بي، برغم هذه العلاقة الغريبة الوثيقة التي كشفت لنا عن نفسها فأظهرتنا وكأننا إخوة من رحم واحد، وحتى في المجال الواحد - مجال الفكر والأدب - لم نكن شبيهين؛ فأنا أتوارى خلف غيري من المؤلفين؛ وأما هو فيثور داخل نفسه على مثل هذا الطغيان، ولقد حدث أن انضم إلى اللجنة الأدبية نفسها صديقنا الشاعر فخري أبو السعود - الذي مات منتحرا فيما بعد - وكانت طبيعته الثائرة قريبة جدا من طبيعة الأحدب، بقدر ما هي بعيدة عن طبيعتي، فلما رأى تلك العلاقة الاستبدادية العجيبة التي كانت تنظم التعامل بين كبار الأعضاء وصغارهم، كأنهم الموظفون في ديوان الحكومة، منهم الرئيس الشامخ بجبروته ومنهم المرءوس الصاغر المطيع؛ أقول: إن صديقنا الشاعر حين رأى تلك العلاقة العجيبة قائمة بين أعضاء لجنة أدبية، حاول - وكأنه أحدب آخر - أن ينفخ في صدري روح التمرد قائلا: إنني لم أعد أطيق أن يتركوني مربوطا أمام المذود انتظارا لما يجودون به علي من صدقات، وكان في الحق صادق التعبير كل الصدق بهذه الجملة التي قالها؛ لأن الكبار في تلك اللجنة الأدبية كانوا يعطون الصغار فرصة الكتابة والنشر كما يعطي صاحب المال صدقة لمتسول جلس إلى جانب الطريق وفتح كفه يستجدي.

قلت لصديقي: وماذا تريدنا أن نفعل؟

قال: ننفصل وحدنا وننشئ لجنة أدبية أخرى.

قلت: يفتح الله عليك وعلي، فأنا أعرف الناس بقدر نفسي، وما دمت على طريق الثقافة أحبو، فلأدع للأوصياء أن يهدوني سواء السبيل.

قلت ذلك عن إرادة ضعيفة، لا عن اعتقاد بصدق ما أقول؟ فكأنما كان صنوي الأحدب ساعتئذ قد كمن بين جوانحي، وأخذ يصيح لي من داخل نفسي صيحة غاضبة، بأنني إنما أعبد الأصنام، وبأن هؤلاء الكبار إنما صار معظمهم كبارا بقلة الحياء لا بكثرة العمل وجودة الإنتاج.

كان واضحا طوال هذه المرحلة - أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات - أن الفواصل لم تكن حادة بيني وبين صنوي الأيمن إبراهيم؛ فلئن كان مجاله الخاص الذي يستوعب نشاطه هو العمل العلمي الصرف؛ ولذلك فقد كان همه الأكبر في تلك الأعوام أن يجتاز امتحانات ويظفر بشهادات، فقد كنت أنا في الوقت نفسه أقف إلى جواره على حافة النشاط العلمي، حتى لقد اضطررت أن أتحدث باسمه عندما سنحت له فرصة البعثة إلى إنجلترا، وأوشكت أن تضيع منه بعد أن سنحت؛ نعم اضطررت أن أتحدث باسمه، وأن أضرع بين يدي الكبار نيابة عنه؛ لأنه كان في تحصيله العلمي مشغولا عما يجري حوله، وهل كان يتصور بأن هؤلاء الكبار لم يكن في ضمائرهم ما يمنع من وضع اسم مكان اسم في غفلة من صاحب الحق؟

ومع ذلك فهذه أمور لم تكن تثير سخطي ولا سخط إبراهيم إلى الحد الذي يشل فاعليتي ويجمد فاعليته؛ أما صاحبنا الثالث رياض - أحدب الظهر - فكان كلما لحظ شيئا كهذا تفجر من الغيظ، وإما أن يصب غيظه هذا على الورق، وإما أن ييأس من قلمه وورقه ويلوذ بمخبأ من داره على نحو ما فعل أخيل عندما أفرغ غضبه بأن انسحب من حومة القتال إلى ضيعته.

وكان التعبير عن الغيظ بالكتابة طريقته هذه المرة - وإن يكن هذا التعبير قد ظل مختزنا في نفسه فترة من الزمن قبل أن يسيل مدادا على سن القلم - فكتب بعنوان «أصنام تحطمت» - وإنك لتعرف أسلوب الأحدب حتى من العنوان - يقول: صادقتني أيام الشباب طائفة قليلة من رجال، نزلوا من نفسي عندئذ منزلة إكبار لا ينتهي وإجلال ليس بعده مزيد، ثلاثة منهم أو أربعة كانوا دوما أمام أعيني مثلا أتمثل به حين أطلب لنفسي، أو حين أسوق للناس مثلا، للرجل كيف يصلب عوده وتتعدد جوانبه وتتنوع نواحيه، كنت أنظر إليهم نظرة الطفل إلى أبيه، يراه عملاقا قادرا على كل شيء؛ فهو إن شاء أمسك بالقمر، وهو إن أراد أنزل المطر، وأراني بالقياس إليهم قطرة من محيط أو ذرة من جبل، آه لو كان لي قلم فلان وشهرته؛ أو لو كانت لي هذه الحيوية الدفاقة التي لفلان وهذا الأفق الواسع والعلم الغزير! إن شخصه ليملأ الفضاء حتى ليكاد يتعثر به السمع والبصر أنى مضيت، وانظر إلى فلان كيف كسب القلوب بترفعه عن الصغائر وازدرائه لما ينغمس فيه الناس إلى أذقانهم من توافه، وأين لك مكانة فلان في هدوئه واعتداده بنفسه حتى لتتوجه إليه الأنظار أينما حل ... ومضت الأعوام وازددت خبرة بالناس وطبائعهم، وراقبت عن كثب وفي شيء من الدقة والتفصيل، بعد أن كنت أنظر من بعيد وعلى وجه التعميم والإجمال، فأخذ نفر من هؤلاء العمالقة يصغرون ويضؤلون حتى لأراهم اليوم أقرب إلى الأقزام، كنت أحسبهم أقوياء بنفوسهم، فرأيت كيف يضعفون أمام أيسر الدوافع وأصغر ضروب الغواية ؛ إنها أصنام عبدناها وتحطمت.

الفصل السابع

موت في أسرة الأحدب

ازدادت الصلة بيني وبين الأحدب وثوقا وقربا، حتى لم يعد أحدنا يستغنى عن أخيه لحظة واحدة، وقد اطردت معنا الحياة على وتيرة واحدة؛ ففترة الصباح للعمل، وفترة ما بعد الظهر حتى ساعة متأخرة من الليل في أحاديث ينصرف شطر كبير منها في أن يقص علي وأقص عليه تفصيلات زياراتنا إلى مواضع حبنا، حتى لكأني أزور معه ولكأنه يزور معي. وتبدل الوضع بيننا، فلم يعد هو وضع المرشد للمسترشد، بل أصبح تعاونا بين متساويين في حياة واحدة، فما هو إلا أن أوحى الموقف بالمشاركة في مسكن واحد؛ لأنه توقع أن يزار وكذلك توقعت، وإذن فالخير في أن نسكن في منزل أرحب وأليق باستقبال الزائرين.

لبثنا شهورا - سافر خلالها إبراهيم إلى إنجلترا - وتيار الحياة ينساب مطمئنا هادئا، وكنا عندئذ كمن تحالف مع الزمن، فلا نحن نشكو ولا هو يفاجئ، وأوشك الأحدب أن يعتدل ظهره وتستقيم مشيته، وحدثني أن مقالاته الأدبية تغيرت نغمتها، والعجيب أنه وجد أن الكتابة أصبحت أعسر عليه؛ فما كان أيسر عليه قبل ذلك أن يكتب ثائرا محطما ضاربا بهراوته حيثما وقعت؛ وأما الآن فكلما هم بنقد ثائر لم يجد في نفسه مددا؛ ولذلك فقد كان يضطر إلى البحث عن موضوعات لا شأن لنفسه بها، فيكتب عن مذهب في الفلسفة أو نظرية في السياسة أو وجهة من وجهات النقد الأدبي، متناولا هذا وهذا وذاك من خارج لا من باطن نفسه وانطباعات خبرته، وكثيرا ما أوحت إليه بموضوعات الكتابة رسائل كانت تجيئه من إبراهيم يذكر له فيها أشياء كثيرة مما تصادفه في حياته الدراسية الجديدة في إنجلترا، وفي مدى التغير الذي يتحول به عقله من نظر إلى نظر.

كان حبه يختلف عن حبي؛ فحبه لسميرة هو الحب بين الأنداد، بما في ذلك من بسطة في الحديث وسهولة في اللقاء والزيارة، حتى لأوشكا أن تزول بين نفسيهما الحواجز كما تزول بين الزوجين فيما يختص بوسائل التعبير؛ وأما حبي ففيه الحذر والخوف والحرج والتردد؛ لأنه برغم راحة النفس وخفقة القلب. كانت هنالك الحوائل النفسية الكثيرة التي تعرقل خطوتي إليها، وأكثر منها الحوائل النفسية التي تعرقل خطوتها إلي؛ لذلك كانت صلاتي وزياراتي أقل حدوثا من صلات الأحدب وزياراته؛ ومن هنا كانت أحاديثنا تمسه أكثر مما تمسني.

وفجأة وقعت للأحدب وقائع اضطربت لها حياة كلينا معا؛ فإلى ذلك الحين لم يطرأ لي أن أسأل الأحدب عن أسرته؛ لأن أمثال الأحدب من الناس يوهمونك أنهم من أنفسهم في عزلة تامة عن الكون والكائنات، فلا يعن لك أن تسأل: من ذا يكون أبوه، وهل له إخوة وأخوات وأبناء عم وخال؟ لا يعن لك أن تسأل هذا؛ لأنه فرد قائم بذاته تبدأ حقيقته بشخصه وتنتهي بشخصه، ولا أثر فيه لما بينه وبين غيره من روابط وصلات.

وفجأة جاءني ذات ليل في ساعة متأخرة ينهنه بالبكاء، ويمسح عينيه بمنديله ويكف لحظة وعيناه محمرتان، ثم يعود فينهنه بالبكاء، وأنا منه في حيرة، لا أدري ماذا دهاه، وأسأله فلا يجيب، فشفتاه - حتى وهو منقطع عن بكائه لحظة - راجفتان، يحاول بمجهود ظاهر أن يوقف فيهما الرجفة فينهمر في البكاء، وهكذا حتى مضت نصف الساعة، وأخيرا قال وهو يبكي: عمي مات ... وهذا ثاني عم لي يموت، مات أولهما غرقا عند أسوان حين كنت ما أزال طفلا، أبكي لبكاء الآخرين لا عن حرقة في نفسي، وهذا هو الثاني أبكيه من سويداء القلب.

قلت: هل كان مريضا؟

قال: كان مريضا بالسكر، وتعفنت له أصبع في قدمه اليمنى، وأخذ الداء يسري، فلم يكن بد من بتر ساقه إلى نصف الفخذ، كنت كل يوم أخطف نفسي من العمل خطفا لأزوره وأرعاه، وكانت آخر كلمة قالها لي من قلب يحبني كما أحبه، قالها وهو ينظر إلي ساعة حملوه إلى غرفة العمليات، وعيناه شاخصتان إلي وحدي برغم وجود أخيه وأبنائه بجواره؛ إذ قال: أدعو لك يا رياض براحة السر وسعادة العيش، ربنا يسعدك يا رياض يا ابني ... وعاد رياض إلى البكاء.

ولبث أسابيع لا يبادلني حديثه المعتاد، ولا أجرؤ أن أبادله ؛ فهو يغيب عني، ثم يحضر ليأكل وينام.

وأول ما حدثني عنه عندما عادت إليه القدرة على مبادلة الحديث هو ملاحظة أبداها عما شهده من جدته ليلة أن نقلت جثة ابنها إلى القرية ليدفن هناك، قال الأحدب: سئل سوفوكليز، وكانت السن قد تقدمت به: «ماذا ترى الآن في الحب يا سوفوكليز؟ ألا تزال قادرا عليه؟» فأجاب: «صه! نشدتك الله ألا توقظه في قلبي من جديد؛ فكم يسعدني أن أراني قد فررت من حبائله، فأحس كأنما فررت من مستبد متوحش مجنون!» ... ولست أريد في الحقيقة أن أتكلم الآن عن الحب، بل أريد على ضوء هذا الذي قاله سوفوكليز أن ألاحظ لك عما يصيب العواطف كلها من برودة الانفعال مع مر السنين ... لقد مات لي عمان، جاء موت الثاني بعد موت الأول بفترة طويلة، وشهدت موقف جدتي في الحالتين - وإن أكن قد شهدت الحالة الأولى وأنا صغير - فكأنما شهدت امرأتين مختلفتين أشد ما يكون الاختلاف بين الناس، شهدت في المرة الأولى أما جزعت على موت ابنها جزعا لم أشهد له مثيلا في كل ما رأيت من الأمهات اللائي ثكلن أبناءهن، شهدت عندئذ أما لا يكاد ينقطع لها بكاء، تهيم على وجهها أحيانا في شوارع القرية صارخة نادبة، وتصوم عن الطعام أياما، فإن أكلت تعمدت ألا يكون طعامها من أطيب الطعام، وكثيرا ما كانت تذهب إلى قبر ابنها حيث تقضي اليوم كله والليل كله، وتأبى أن تفترش غير الحصير الغليظ الخشن، على أن تكون السماء غطاءها مهما كان البرد قارسا، وألد أعدائها هم أولئك الذين يتقدمون إليها بالنصح أو بالتعزية والمواساة؛ لأنهم إن فعلوا كان معنى ذلك عندها قصورهم عن إدراك المصاب بكل هوله وفداحته ... ثم شهدت جدتي هذه لما مات ابنها الثاني، وكانت تقدمت بها السن إلى ما يقرب من السبعين، وذلك حين نقلنا جثمان عمي هذا الذي مات منذ قريب، إلى القرية حيث تقيم جدتي، وحملنا النعش من السيارة إلى بهو الدار، فرأيت جدتي واقفة في سوادها - وكان الليل قد انتصف والسكون ضاربا ليشمل القرية كلها في صمته العميق - وكانت الأضواء خافتة في الدار، حتى كاد الأشخاص أمام عيني يتحولون أشباحا؛ وقفت جدتي لحظة شاخصة ببصرها إلى النعش بعد أن وضعه حاملوه على أريكة خشبية في بهو الدار، وقفت لحظة صامتة لا تتحرك ولا تنطق، فلم يسعنا إلا الوقوف معها في صمت خاشعين، ثم صرخت صرختين تنطق فيهما بلفظ «يا ولدي»؛ فكان ذلك كل ما أبدته جدتي من علامات الجزع، وبعدها جلست هادئة في المأتم، لا تصرخ ولا تبكي ولا تندب ولا تلطم صدرا ولا تمزق ثوبا؛ لقد تخلصت مع الأيام من حدة الانفعال، فكانت بمثابة من تخلص من «مستبد متوحش مجنون» على حد ما قال سوفوكليز عن حبه الذي بردت مع الشيخوخة جذوته.

قلت للأحدب: وهل برد حبك اليوم بالنسبة لما كان عليه بالأمس؟

قال: لقد تغير نوعه. كان هيجانا على السطح، فأصبح تغلغلا في الأعماق. كان كالشلال يقفز ماؤه فوق الصخور قفزا أرعن لا يبالي أي الأحجار يفتت وأيها يزحزح، فأصبح كماء المحيط العميق عندما يتبدى للعين ساكن الموج وفي جوفه تيارات جوارف.

قلت: أصبت. ولعل هذه هي مميزات ما يسمونه بغرام الشيوخ؛ فهدوء في حركة الجوارح الظاهرة، فلا اندفاع ولا جرأة ولا مغامرة، ولكن تآكل في الجوف وانهيار في الروح.

وصمت الأحدب قليلا كأنه يفكر فيما يقوله، ثم قال والقتب على ظهره يشتد في عيني بروزا، والعبوس على شفتيه والجهامة فوق جبهته: الحياة ثلاث لحظات: لحظة الميلاد، ولحظة الزواج، ويعنون به النسل الذي يحفظ البقاء، ثم لحظة الموت؛ أما الأولى فكما قلت لك ذات مرة ... لا، لا أظنني قلتها من قبل ...

فقاطعته قائلا: كتبتها في مذكراتك.

فقال: أي مذكرات تعني.

قلت: أعني مذكراتك التي كتبتها عن نشأتك وأنت مدرس شاب.

قال: ومن ذا أدراك بها؟ وأين رأيتها؟ لقد مزقتها منذ زمن طويل.

قلت: عثرت على حطامها، وجمعت منه ما أمكن جمعه، فعشت معك أكثر مما تظن، وفي هذه المذكرات تقول إن لحظة ميلادك أدخل في حياة الآخرين منها في حياتك؛ لأنك لا تعيها، والعبرة عندك بالخبرة الواعية.

قال: هذا ما أردت أن أقوله، وأما اللحظة الثالثة؛ وأعني لحظة الموت فلن يكون لي علم بها؛ لأنها تجيء بذهابي، فلا التقاء بيني وبينها، وبقيت اللحظة الوسطى، لحظة الزواج والنسل، فهي لحظة لم أعشها حتى الآن، وإذن فماذا بقي لي من حياتي، وبأي معنى أقول: إنني أحيا؟ أبالأنفاس التي أرددها.

قلت: في مستطاعي أن أقول هذا الذي تقوله، ومع ذلك فأنا أشعر في أصلابي بدفعة الحياة وتيارها، «فداؤك منك» - كما يقول المعري - «وما تشعر»، بشعورنا نحيا وبشعورنا نموت.

فردد الأحدب قولي: «بشعورنا نحيا وبشعورنا نموت»، ثم استطرد يقول: هذا صحيح، نخلق دنيانا بنوع شعورنا، تكون كبيرة فتصغر في شعور المزدري لها، وتكون صغيرة فتكبر في تهاويل الشعور؛ ثم ابتسم الأحدب ابتسامة ساخرة. •••

توالى الموت في أسرة الأحدب؛ فكلما مضت بضعة أشهر جاءني بنبأ جديد، وكانت النظرة السوداء قد عاودته لتقيم معه هذه المرة أمدا طويلا، فلم يكن موت أحبائه ليزيد من حزنه النفسي شيئا كبيرا، فزوجة عمه تموت بعد زوجها فيكون موتها امتدادا لموت زوجها، ماتت يوم أحد، وأسرع الأحدب إلى الأسواق ليشتري رباط رقبة أسود قبل أن يحين حين الجنازة، لكن الدكاكين كانت حينئذ تغلق في أيام الآحاد، فقال لنفسه: وهل يكون الرباط الأسود أشد سوادا من نفسي، فلأحزن من الداخل، وإلى الجحيم ما يقوله الأقربون والأبعدون، لكنه كان يغالط نفسه؛ لأنه ما زال قلقا إلى اليوم خشية ما قد يكون هؤلاء الأقربون والأبعدون قد ظنوه في عقوقه لمن عاشت له كالأم طيلة حياتها.

ومات أبوه؛ صحبه إلى المستشفى ولم يطف بباله قط أنه خروج من الدار إلى غير عودة، وكأنما جاءت لحظة موته بمثابة النطق بحكمين في آن واحد؛ حكم ببراءة الراحل وحكم باتهام ابنه. لم تنكشف للأحدب براءة أبيه فيما كان ظنه اعتداء وقسوة، إلا لحظة أن كشف عن جثمانه الغطاء الأبيض في غرفة المستشفى ليقبله قبل الرحيل، فيرى وجهه الميت وكأنه وجهه الحي الذي يعرفه؛ كم ألف ألف مرة يتذكر الأحدب ما قد كان أحسه إزاء أبيه من سوء ظن، فيعض أصابعه عضا من الندم على سوء فهمه، لطالما يقول الأبناء إن آباءهم لا يفهمونهم وينسون أن الآباء كذلك من حقهم أن يقولوا إن الأبناء لا يفهمونهم.

كانت لحظة موت أبيه بداية لضمير الأحدب أن يكيل لنفسه اللائمات لائمة فوق لائمة؛ «من ذا يعيده إلى الحياة ولو شهرا واحدا لأؤدي له واجب الولاء أكثر مما أديت»، هكذا لبث يقول بعد موت أبيه، ويسمعه أصغر الإخوة فيطمئنه بأنه كان يؤدي أكثر مما يؤديه الأبناء لآبائهم، لكن الأحدب قد وجد لنفسه ذريعة كبرى يتهم نفسه على أساسها؛ لأنه يحب اتهام نفسه فيزداد التواء وتعقيدا على تعقيد.

وإنه ليذكر جنازة أبيه في هيبتها وقد تقدمتها كوكبة من الفرسان جاء بها ابن عمه الضابط الشاب المتوقد حيوية ونشاطا، وسار الأحدب في مقدمة المشيعين مطرقا رأسه نحو الأرض لا يرى إلا قدميه وبضع أقدام أخرى على يمين ويسار، وقلما كان يرفع رأسه فيبصر بالنعش محمولا على أعناق حامليه في طمأنينة وهدوء، ثم يعود فيطرق رأسه نحو الأرض مرة أخرى، وكان في إطراقه ذاك كثيرا ما يتنبه لنفسه تنبه المستيقظ من نعاس عميق، ليجد نفسه سارحا في ذكريات عجيبة يستخرجها من ركام السنين، فيخجل أشد الخجل إذ يرى نفسه سابحا في أعماق ماضيه وجثمان أبيه على بعد خطوة واحدة منه، لكن لحظة الخجل لا تلبث أن تتملكه حتى تزول ليغوص في أغوار الماضي مرة أخرى.

فمن سبحاته تلك أنه تذكر كيف أخذته الرغبة وهو غلام في أن يجمع من الأقفال أكبر عدد يستطيع جمعه، وأن تكون وسيلته إلى ذلك هي السرقة لا الشراء؛ فلجأ إلى طريقة غريبة ولكنها سهلة التنفيذ، وهي أن يشتري قفلا بادئ ذي بدء، ثم يدور على كل مكان تقع عينه فيه على قفل من الصنف نفسه، فيدبر له خطة أن ينفرد وحده بالقفل لحظة ويفتحه بمفتاح القفل الشبيه، ويأخذه ويمضي؛ ومن ذلك أن خزانة الأوراق التي لم يكن يعلم ما كنهها، خزانة الأوراق أمام مكتب الإدارة في مدرسته الابتدائية وهو تلميذ صغير. كانت مقفلة بقفل أراده لنفسه، فبحث حتى وقع على شبيهه في السوق واشتراه، ولكن متى ينفرد بتلك الخزانة والمدرسة مليئة بالتلاميذ والخدم والموظفين؟ إن ذلك لا يكون إلا في ساعة مبكرة من الصباح قبل أن يتنبه أحد، وتسلل إلى الردهة حيث وضعت الخزانة التي ضم مصراعاها بالقفل المنشود، وفي خطفة أسرع من البرق فتح القفل وانتزعه، وأسرع الهبوط على السلم المجاور، فسمع المصراعين ينفتحان ويخبطان على الحائط خبطة مفرقعة؛ فقد كانت الخزانة تميل على قفاها إلى الخلف؛ إذ رفعت قائمتاها الأماميتان على مربعين صغيرين من الخشب، دون قائمتيها الخلفيتين، مما أدى إلى انفراج مصراعيها بهذه السرعة وانقذافهما إلى الخلف وخبطتهما المدوية على الحائط، وكان للص الصغير شعور النصر شجعه على التماس نصر آخر في اليوم نفسه على قفل لمحه بين أقفال التلاميذ شبيه بما عنده، وعاد إلى داره وفي جيبه قفلان أضافهما إلى ما عنده، فأصبحت ثلاثة أقفال من أسرة واحدة، لم يدر ماذا يصنع بها، سوى أن يوزعها على جيرانه الصغار، وعليهم هم أن يجدوا لها المفاتيح.

فلما أشبع في نفسه هواية الأقفال، اشتهى منافيخ الدراجات؛ فللدراجة منفاخ يركب محاذيا للقائمة المعدنية التي عليها يستند المقعد، وما أيسر أن تنتزعه يد السارق من مكانه لو واتته الخلوة التي تنجيه من أعين الناظرين، ودراجات التلاميذ تصطف صفوفا في مكان لها معين يحاذي سور المدرسة من الداخل، فإذا وجد السارق الصغير فرصة يخلو فيها إلى بغيته فأين يخفيها بقية اليوم الدراسي؟ وتفتق ذهنه عن حيلة بسيطة تنجح أحيانا وتخفق أحيانا، وهي أن يقصد إلى مكان الدراجات في اللحظة المناسبة، وينزع أقرب منفاخ إلى يديه، ثم يقذف به خارج سور المدرسة في الطريق - وهو طريق بعيد عن حركة المدينة، فيقل فيه المارة من الناس؛ حتى إذا ما خرج آخر اليوم الدراسي، بحث عن الفريسة، ويغلب أن يجدها ملقاة على الجانب الرملي من الشارع، فيدسها في حقيبة كتبه ويمضي ... وماذا يصنع بهذه المنافيخ التي تجمعت لديه؟ إنه يوزعها على من شاء من الأصدقاء الصغار، ولم يكن له ولا لأحد من هؤلاء الأصدقاء الصغار دراجة حتى يحتاج لها إلى منفاخ!

كانت تلك هي السن نفسها التي يقرأ فيها مع لداته أو يسمع القصص عن «طاقية الإخفاء»، ولكم سرح بخياله بعد أن ألبس نفسه طاقية الإخفاء بوهمه، فيدخل على الناس في بيوتهم ليستمع إلى أسرارهم وهم لا يشعرون، ويستوي على موائدهم فيأكل وهم لا يعلمون ... أي شهوة اشتهاها ذلك السارق المتسلل ولم يحققها بطاقية الإخفاء إذا تعذر تحقيقها في الواقع المحسوس؟ لقد بلغ الحلم واشتعلت شهوته، فماذا يكون السبيل أمامه إلا أن يلبس لهن طاقية الإخفاء ويتسلل إلى مخادعهن ولو كن في حصون محصنة؛ وكبر وقصد ذات يوم إلى متحف الفنون، فإذا هو يقف أمام صورة لفنان معاصر نسي اسمه، لكنها صورة تصور مدخل بيت وجانبا صغيرا من الدرج الخشبي المؤدي من المدخل إلى الطابق الأعلى، على غرار ما نراه في بيوت أوروبا، وعلى بضع الدرجات الخشبية التي ظهرت في الصورة امتد بحذاء الحائط ثعبان ثنى جسده مع زوايا الدرجات، حتى تدرج معها ممتدا من المدخل إلى الدرجة الرابعة أو الخامسة، والصورة رائعة رائعة رائعة بألوانها وبالضوء والظل فيها، هي من الفن الواقعي برغم كونها لفنان حديث، فوقف أمامها صاحبنا طويلا، وفجأة وثبت على ذهنه الأقفال والمنافيخ وأحلام طاقية الإخفاء أيام أن كان غلاما صغيرا فشابا مراهقا، وابتسم للذكريات، وقال: أتكون هناك طرق أخرى للتسلل إلى بيوت الناس وأسرارهم يسلكها المتسللون؟

وصحا من غفوته الطويلة ليدير البصر فيما أمامه وما حوله في جنازة أبيه.

وماتت أمه الحبيبة التي تعلم منها كيف يكون الحب خالصا لوجه الحبيب، والتي عنها أخذ صفاته الخلقية كلها، ماتت من كانت تزيل عنه هموم نفسه، فإذا راكمت له الدنيا من صدماتها ما ينقض ظهره، أزاحت عن ظهره ما استطاعت من أحمال.

وجفت في عينه الحياة، فلا ري ولا نضارة، يرى نفسه في الحلم أنه يعبر نهر النيل ، ويستعد لخوض الماء، لكن وا عجباه، إنه لا ماء، والقاع جاف، عليه علامات تدل على أن كانت هنا مياه تجري! ويمشي على القاع الجاف مشية وئيدة، يمشي خطوة خطوة، ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شيء ضاع، فلا يرى إلا الحصى وآثار جريان الماء، وفجأة يجد شيئا معدنيا يلمع، إنه مبراة غرزت في التراب إلى نصفها، وبرز نصفها، إنها مبراة أبيه، فيلتقطها، ويضعها في جيبه، ثم يمشي مشية وئيدة، يمشي خطوة خطوة، ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شيء ضاع، حتى يصل إلى الشاطئ الآخر، فيصعد ما يشبه المرتقي الوعر، يصعد حانيا جسده إلى أمام حتى لا يهوي من خلف، يصعد ليرى أنه في مدينة الموتى، جفاف في جفاف، وهناك يرى عربة، ولكن أي عربة! عربة كلها حجر في حجر، هي أشبه بالصندوق الكبير، انكشف غطاؤه الأعلى، والصندوق من حجر خشن، والعجلات من حجر مصمت، والحصان المشدود إلى العربة من حجر غليظ، ثم ماذا؟ ثم ينظر في الصندوق الحجري فيرى جثمان أمه وقد غطي على نحو ما تلف المومياء عند المصريين القدماء، وبينا هو عالق بحافة الصندوق ينظر، إذا بالعربة الحجرية تسرع جارية بين منازل الموتى، تدور إلى اليمين في هذا المنعطف وإلى اليسار في ذلك المنعطف، فتثير من الغبار وحبات الرمل ما يكتنف العربة كلها، ويملأ خياشيمه وفمه، ويدير وجهه إلى الخلف فلا يرى إلا سحابة كثيفة من الغبار وحبات الرمل، ويشد أنفه فلا يتنفس، فيتنفس من فمه، فيشهق هواء مليئا بالغبار وحبات الرمل، كل هذا وهو عالق بذراعيه على حافة الصندوق، وجسمه مدلى يتأرجح مع سير العربة السريع، فيخبط العجلات الغليظة وهي تدور.

ويصحو من هذا الحلم الفظيع، قائلا: اللهم اجعله خيرا. ولكن أي خير يا ترى يرجى من هذا الجفاف واليباب والموت؟!

يقص علي الأحدب هذا الحلم، ثم يقول: لقد حاولت عندئذ أن أفسره على النظرية الفرويدية في تأويل الأحلام، فقلت إن مبراة أبي التي وجدتها إلى نصفها مغروزة في قاع النهر الذي جف ماؤه، هي رمز الذكورة التي أورثنيها، والتي ربما كانت في حياته مكبوتة وهمت الآن بالظهور، لكن مجرى الحياة قد جف ماؤه، وبهذا الجفاف وقفت سلسلة التوالد، ثم ماذا وجدت حين عبرت إلى الضفة الأخرى، الضفة الغربية التي كانت هي المستقر الأبدي عند أجدادي القدماء، وجدت مواتا في موات، لم يكن هناك كائن حي واحد، ولكن لماذا أرادت أمي في كفنها أن تشدني معها إلى عالم الموتى، وبهذه الطريقة البشعة المخيفة؟ لقد كانت عودتني طول حياتها أن ترعاني من الأذى، حتى وأنا رجل مكتمل النمو، ترعاني كأنني ما زلت في عينها الطفل الضعيف الذي تهدده العوادي، أتكون قد أسرعت بعربتها وتابوتها لأنها في عالم الغيب قد لمحت بروحها الخالدة خطرا داهما يحيق بي، فجاءت لتنقذني منه قبل وقوعه ... لست أدري، لكني على كل حال قمت لساعتي، وبحثت عن مبراة أبي في مخلفاته، فوجدتها صدئة بعض الشيء، فنظفتها، أرهفت نصلها، وخبأتها في خزائني، وما زلت حتى اليوم أحملها معي كلما ارتحلت هنا أو هناك، لكن ما مسستها مرة إلا وتذكرت ذلك الحلم المخيف وأخذتني الرجفة، وما وقعت عيني عليها مرة في أدراج مكتبي إلا ونحيت عنها وجهي بحركة آلية سريعة، لكنني سرعان ما أضحك من ضعفي أمام الخرافة، إنها كانت أضغاث أحلام ومضت مع الريح.

لكنها أضغاث أحلام جاءت متكاثرة بعد أن فقد الأحدب رءوس أسرته، واندس في ضميره أنه هو وأقرانه من الطبقة الثانية في الأسرة قد أزيل السقف من فوق رءوسهم، وأصبحوا أمام الخلاء اللامتناهي المجهول وجها لوجه.

لكن أقدار الحياة والموت لا تجري بالضرورة مع حساب الأعمار؛ فقد ظن الأحدب أنه هو وأقرانه في السن من أفراد الأسرة قد جاء دورهم للقاء ربهم بعد أن ذهب عنهم معظم من كانوا يكبرونهم من الآباء والأمهات؛ لأنه لم يكن يدري أن مشيئة الله قد سبقت بأن يموت شباب الأسرة قبل كهولها.

وبدأ السير في هذا الاتجاه العكسي بابن عم الأحدب، الضابط الشاب الذي أوشك أن يكون بين شباب الأسرة صفوة وخلاصة. نعم، لقد كان ذلك الضابط الشاب مع الأحدب على طرفي نقيض في الاتجاه والميل، فبينما الأحدب فيه شيء من طبيعة الشاعر والفنان. كان ابنه عمه الشاب لا تربطه بدنيا الشعر والفن إلا أنها موضوع للهزء والسخرية، وكان الأحدب مكبا معظم وقته على الكتب والدفاتر، وأما الضابط الشاب فبينه وبين الكتب والدفاتر ما يكون بين الأعداء، وإن الأحدب ليذكر يوما أضحكه فيه ابن عمه ضحكات من القلب - وهو حدث نادر في حياة الأحدب - حين جاءه ابن عمه خلال السنة الدراسية التي قضاها الشاب في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، قبل التحاقه بكلية الشرطة، جاءه ليقص عليه ساخرا بعض ما كان يتلقاه في محاضرات الأدب الإنجليزي، وكان المحاضر أستاذا إنجليزيا مشهودا له بالكفاءة الممتازة؛ لأنه هو نفسه شاعر بالإضافة إلى كونه أستاذا للأدب، لكن الشاب لم يكن يفهم عنه كلمة واحدة، وكانت الأسماء والمصطلحات تتحول في سمعه لتصبح أمساخا شائهة، فلما أخذ يقص على الأحدب بعض ما حصله عن «العصر الألبسا» راح الأحدب يسترجعه محاولا أن يدرك المقصود بهذه الأسماء التي لم يسمعها من قبل، ويظل يلح عليه في السؤال حتى يتبين له أن «الألبسا» هذه هي ما بقي في سمع الشاب من «إلزابث»، وأن كنير هو الملك لير، وأن «كبيس» هو ماكبث، وهكذا كان الأمر في عشرات الأسماء كما وردت في مذكرات الضابط الشاب عندما كان طالبا للأدب الإنجليزي خلال بضعة أشهر.

لا، لم يكن ذلك الشاب مخلوقا لعلم أو أدب، وإنما أراد له خالقه أن يبرع براعة تلفت الأنظار جميعا في أدائه لواجبات الضابط الشرطي؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن أخذ يقفز في المناصب والدرجات قفزا سريعا، وهو بعد لم يبلغ الثلاثين.

وسافر الأحدب، ليغيب فترة من الزمن، وكان مقدرا لقطاره أن يغادر محطة القاهرة قبيل طلوع الشمس؛ ولذلك اكتفى ذوو قرباه وأصدقاؤه بتوديعه في الليلة السابقة، حتى لا يكلفوا أنفسهم مشقة اليقظة المبكرة يوم سفره، لكن كم كانت دهشته وفرحته عندما فوجئ بابن عمه الشاب يذهب إلى المحطة لتوديعه في تلك الساعة الباكرة، وكان هو الواحد الوحيد الذي وقف لتوديعه حتى يتحرك القطار؛ فوا عجباه للأقدار وما تدير! مضى من الزمن ما مضى، ثم ذهبت الأنباء الحزينة إلى الأحدب حيث كان، تحمل له الخبر بأن ابن عمه الضابط الشاب قد اختاره الله إلى جواره، وصعق الأحدب للمفاجأة، وأخذته نوبة حادة من البكاء، ورأته سيدة مصرية في غمرة بكائه، وسألته فقص عليها، فعجبت السيدة أن يكون هذا البكاء كله لوفاة ابن عم؟ لكن المسألة يا سيدتي ليست مرهونة بدرجة القربى كما هي الحال في توزيع التركات؛ لأن للقلوب وروابطها ترتيب آخر ودرجات أخرى. ثم أخذ الأحدب يسأل نفسه في حيرته: أكان ذلك إذن هو السر الإلهي في أن الضابط الشاب دون سواه من الأقربين والأصدقاء هو الذي ذهب إلى المحطة في تلك الساعة الباكرة لتوديعه، فهل كان يا ترى يحس بقلبه أنه وداع أخير!

وما كاد الأحدب يعود إلى مصر، حتى سأل عن قبر ابن عمه ليزوره؛ فقد كانت مقبرة الأسرة حتى ذلك التاريخ في قريتها بالريف، فلما عاجلت المنية زينة شبابها التمسوا له مثوى عند من استضاف الجثمان في مدفن أسرته، وحز في نفس الأحدب ما سمعه من تفصيلات، وكأنما الذي رحل عنا شريد مقطوع من شجرة كما يقال، فما كان من صاحبنا الأحدب إلا أن يعمل على أن تكون للأسرة مقبرتها بالقاهرة، ما دام الانتقال إلى القرية قد تعذرت أسبابه، ونقل جثمان الفقيد الشاب من مكانه ليكون أول من يرقد من أبناء الأسرة في مدفنها الخاص.

وجاءت الضربة الثانية لتكون أفدح؛ فقد أصابت المنايا بخبطها العشوائي أصغر أشقاء الأحدب، بعد أن كان هذا الأحدب يتوهم أن مقادير الحياة والموت تجري مع حساب الأعمار. كان بينه وبين شقيقه الأصغر ما يقرب من عشرين عاما، وإنه ليذكر جيدا ذلك المساء الذي كان فيه يجلس مع أبيه ترقبا لنبأ الوليد الجديد، وجاءت البشرى بأن ولد لنا ولد، وفي هدوء عجيب التفت الوالد إلى ابنه الأحدب يسأله: ماذا تسميه؟ فأجاب الأحدب: نسميه أحمد. وقد كان ؛ لم تكن حياة أحمد بالنسبة للأحدب ما تكون الحياة بين شقيقين وكفى، بل اختلط فيها عنصران واندمجا معا في موقف شعوري واحد، هما عنصر الأبوة وعنصر الأخوة ممتزجين، ولا يستطيع الأحدب أن يقص شيئا عن حياته في الفترة التي تلازما خلالها، إلا ويجد نفسه في حياة واحدة مع شقيقه الأصغر، فذلك الشقيق هو موضع جده وموضع مزاحه في وقت واحد، هو موضع جده لأنه جعل نفسه مسئولا عن تربيته على نحو يميل به إلى حب العلم والأدب، وهو موضع مزاحه لأنه عامله كما يعامل اللاعب لعبته.

كان أحمد في مرحلة الدراسة الابتدائية عندما وضع له الأحدب خطة التزود بالأدب، ورأى أن يبدأ معه بأدب المنفلوطي، ولم يترك الغلام ليقرأ وحده ما يقرؤه، بل لازمه وتابعه لفظا لفظا شارحا له المعنى مرة، موضحا له مواضع الجمال الأدبي مرة، ولعل الأحدب في ذلك كله قد أحسن النية ولكنه أساء الاختيار والتصرف؛ إذ ما هو إلا أن أخذت الغلام رجفة وانفجر معها باكيا في توتر عصبي غريب، ولم يدر الأحدب ماذا يصنع ليرد الغلام إلى هدوئه وسكينته، فلما أن هدأ الغلام وسكن وغاب في نعاس لبضع ساعات، صمم الأحدب ألا يكون له شأن بأخيه بعد ذلك فيما يقرؤه وما لا يقرؤه.

لكن الغلام كان بطبعه متفوقا ومتميزا في كل ناحية من نواحي حياته؛ فهو في دراسته ممتاز، وهو في رياضته ممتاز - كان هو بطل التنس في مدرسته الثانوية - وهو في علاقاته الاجتماعية ممتاز، ففضلا عن كونه مركز اهتمام الأسرة بجميع أفرادها. كان ذا نشاط ملحوظ في «الكشافة» وفي «الجوالة» وله زمرة طيبة من الأصدقاء يحبهم ويحبونه.

غير أن الطبيعة البشرية تستعصي على التنبؤ فيما يبدو، فآخر ما كان يتوقعه الأحدب في أخيه أن يراه - وكان في نحو السابعة عشرة من عمره - قد تغير من النقيض إلى النقيض في كثير من جوانب حياته، فبين عشية وضحاها انقلب الشاب المرح شابا غارقا فيما يشبه الحزن العميق، الذي تسكن فيه الجوارح وتهدأ الحركة ويقل الاهتمام بأي شيء، بين عشية وضحاها تبدلت الضحكات البريئة المرحة عبوسا وزما للشفتين وهموما تطفئ بريق العينين. ما الذي أصاب فتانا ومصدر بشرنا وموضع رجائنا؟ الله وحده أعلم؛ فالأحدب إلى هذه الساعة لا يعلم، لكن ذلك التحول المفاجئ العجيب كان كذلك نقطة تحول في علاقة الأحدب بأخيه؛ فلم يعد يستطيع بعدها أن يجعل منه لعبته كما كان يفعل قبل ذلك، ولم يعد يجرؤ على التعامل معه على أساس أنه ما يزال طفلا يجوز التحدث إليه بما يتحدث الراشدون مع الصغار، وبقي من العلاقة بينهما ذلك الحب الأخوي الصادق العميق، وذهب منها جانب الوصاية والوقاية.

وكرت الأعوام، وأصبح الشقيق الأصغر طبيبا، تشيع عنه حيثما حل قصص تروى عن طيبة قلبه وشدة عطفه على مرضاه. والحق أن ذلك الشقيق الأصغر قد اجتمعت في طباعه تلك الخصائص الأساسية التي تميز أفراد أسرته جميعا، لكنها اجتمعت فيه مكثفة في حسناتها مبرأة من سيئاتها؛ فهو متدين، متسامح، عطوف، هادئ، على شيء من الانطواء، لا يعتدي ولا يخدع، تعامله فتعامل إنسانا من البلور، لا يخفي شائبة ولا يستر عتامة؛ فهو - كما يقول الناس - جنيه من الذهب، تعرفه فتعرف قيمته.

كان أصغر الأشقاء بهذه الحسنات وأكثر منها، وكان لأخيه الأحدب حبة قلب وقرة عين وموضع زهو ومنبع حب، لكن هل تغفو عنه عين القدر لينعم بحياته صحيحة سليمة؟ كلا، بل أصابه بالعلة التي أخذت تستفحل وتستعصي، حتى انتقلت به إلى رحاب الله.

وهكذا خاب ظن الأحدب في تصاريف القدر، عندما توقع - بعد موت الكبار - أنه هو وأقرانه في العمر حل دورهم؛ فقد كتب له - أو كتب عليه - أن يذهب من الأسرة شبابها قبل كهولها؛ هكذا بالحرف الواحد سمعت الأحدب يقول في جمع من الناس بصوت مسموع، يوم رأيته في مأتم ابن عم له سقط - رغم شبابه - في مكان وقوفه ميتا.

كنت أعلم أن الأحدب يواصل الكتابة في المجلات الأدبية، وتابعت قراءة ما يكتبه مرة كل أسبوع، وكنت أزداد حزنا كلما ازداد تعبيرا عن طوية نفسه وما يحز فيها من ألم. لقد كنت حسبتني وقعت على سره الذي يفسر لي شذوذه وانعزاله، لكني تبينت أنني لم أعرف عنه بعد إلا القليل الذي لا يفسر لي هذه السياط التي راح يلهب بها جلده لغير سبب ظاهر، نعم إن الموت قد دب في أسرته حتى أطاح برءوسها فذهبت عنه الدرع الواقية وتعرى صدره للفحات الهواء، ولكن هل هذا وحده يفسر أن يكتب فيقول:

لقد عصفت العواصف بنفسي، وتجهم الأفق أمام عيني، ورأيت خريف عمري يتساقط أمامي على الأرض أوراقا صفراء يابسة، كنت أسمع لها خشخشة كأنها حشرجة المحتضر ... ونظرت فإذا بقيتي - بعد جهاد طويل - حطبة جافة من ساق وفروع، تعرت عن الورق والزهر والثمر، تعوي في ثناياها الريح عواء الأمعاء الجائعة، وليس على مرمى البصر فيها إلا اليباب؛ فخلخلت التراب حول الفرع والساق، وحملتها تجاه الغرب إلى طرف ناء من الصحراء، حتى إذا ما أغمضت الشمس جفنيها من غروب، أشعلت النار في بقيتي - وبقيتي حطبة يابسة - فتراءت من بعد أمام عيني العشواءين كأنما هي الشمس قد عادت إلى الشروق، لترسل من حر أنفاسها شعاعا جديدا، قبل أن تعود إلى مهدها في ظلام الغيب ...

فها هنا أيضا - كما كانت حاله عندما عرض جانب اللص من نفسه - أردف بنهاية فيها بصيص من أمل، هناك رأى صورة الثعبان المتسلل فوق الدرج، فتعزى بأن هناك صورا أبشع مما عهده في نفسه من تسلل إلى بطون الناس في الخفاء، وهنا يحرق حطام نفسه اليابسة، فيتوهم - في آخر لحظة - أن ضوء الحريق هو ضوء شمس آذنت له بشروق جديد ... وظللت أسأل نفسي: ماذا دهاه عندئذ حتى عادت إليه علته بعد اقترابه من العافية، ثم ماذا يصادفه في غضون بلواه فيراه بصيصا خافتا من أمل؟

قرأت له ذات يوم مقالا كتبه بمناسبة يوم ميلاده يقول فيه:

لقد سألت نفسي: لو أرخت لحياتك ودونت ما مر بها من حوادث، فماذا أنت ذاكر؟ إن من الرجال من يكتبون قصص حياتهم فإذا هي حافلة بأحداثها، تقرؤها فكأنما تقرأ قصة من خلق الخيال البارع، فأين من ذلك ما عشت من حياة فارغة جوفاء؟ وهنا رأيت الشبه ماثلا بيني وبين ساعي البريد؛ أرأيت كيف ينفق هذا الرجل حياته ساعيا بين الناس ببريده؟ إنه لا يمس «الظروف» إلا من ظاهرها دون أن ينفذ إلى قلوبها ولبابها، إنه لا يعلم من الرسالة إلا عنوانها أو بعض عنوانها، فأين ذلك من صاحب الخطاب؟ إنه يفض غلافه ويمس شغافه، ويقرأ السطور وما بين السطور، إنه يستروح من كلماته أنفاس الحبيب، أو هو ينظر إلى الألفاظ فإذا هي ألحاظ الصديق ناظرة إليه تباسمه وتناجيه ... لكأنني من هذه الحياة إزاء مدينة حصينة سورت بمنيع الجدر، ولكأنني منها طواف يطوف حولها ويطوف، ثم لا يجد إلى جوفها من سبيل ... صه! أذلك همس؟ إنهما حبيبان يتغازلان، أتلك ضحكات طروب؟ إنها جماعة مرحة نشوانه، أذلك أنين؟ إنه بكاء حزينة ثكلى، يا ويح نفسي! أريد أن أهمس كما يهمس الهامسون، أريد أن أضحك كما يضحك الضاحكون، بل أريد أن يكون لي في حياتي ما أبكيه وأرثيه! أين - يا صديقي - الجواز الذي يبيح لي الدخول في هذه المدينة الصخابة فأشتريه؟ ... رأيت الناس ذات صيف حرور يصطافون، فأقسمت لأكونن كسائر عباد الله مصطافا، ذهبت إلى الشاطئ مع الذاهبين، فسرعان ما برزت من إهابي شخصية ساعي البريد، أقف على الشاطئ ولا أغوص، الناس يمرحون في الماء ويلعبون، والأطفال يتقلبون مع الموج ويضحكون، والنساء كعرائس الماء غائصات طائفات صائحات ضاحكات، وليس لي من كل ذلك شيء. ونظرت حولي، فإذا أنا واقف بين أكوام الملابس نضاها أصحابها، ويشاء القدر الساخر أن يكون أقربها إلي حذاء مخلوع، فأدركت عندئذ في يقين أني بين هذه الأحياء كالقوقعة الفارغة، يرتسم على سطحها الحيوان ولا تحتويه، ولم أستطع أن أواجه هذا الحق المخيف، فقفلت إلى الدار راجعا ...

قرأت هذا فقلت: إن في الأمر شيئا.

الفصل الثامن

التوائم الثلاثة

شئناها أو لم نشأها، كنا على وعي بها أو لم نكن؛ فهي على أية حال حقيقة واقعة لم يعد ثمة من سبيل إلى إنكارها، نعم ، هي حقيقة تثير من الحيرة ما تثير، وتحتاج إلى كثير من التحليل والتعليل لينكشف سرها، لكن ذلك كله شيء، وكونها قد أصبحت من أمور الواقع التي لا بد من قبولها، شيء آخر، وإنما أعني بها تلك العلاقة الوثيقة - الخافية آنا والبادية آنا - التي تربطنا: الأحدب وأنا وإبراهيم في ثالوث متصل الأطراف، مهما تفرقت تلك الأطراف بمكانها وزمانها وأنواع نشاطها.

إن بين الشخوص الثلاثة من الفروق ما يبرر لكل منهم أن يستنكر فعل الآخر، لكن بين الأفراد الثلاثة من التعاطف ما يجعل كلا منهم يسرع إلى مؤازرة الآخر ونجدته، شأنهم في ذلك شأن الإخوة في أسرة واحدة، يختلفون ويتعاطفون على نحو متميز فريد، هو الذي يطبع الأفراد بطابع الأسرة الواحدة، وإذا كنت لأصف أطراف هذا الثالوث بما يميز كلا منهم عن زميليه، لقلت إن الأحدب سريع الانفعال مشتعل العاطفة، إذا صادفه في طريق حياته موقف مشكل، فإما حله بحرارة وجدانه، وإما استعصى عليه الحل فانسحب في عزلة يعتصم بها، وعلى النقيض من أسلوب الأحدب، نرى إبراهيم عقلا خالصا، لا يكاد يعرف من حياته إلا ما يخضع للتحليل العلمي الموضوعي الذي لا مكان فيه للذات وأهوائها وميولها، وبين هذين الضدين أقف أنا؛ إذ يميزني دونهما انخراطي في قوالب الحياة الاجتماعية كما تحددها التقاليد والأعراف والأوضاع السائدة، فلا الأمر - في القبول والرفض - مرهون عندي بما تمليه العاطفة، ولا هو مرهون بما يحدده منطق العقل، بل هو مرهون - أولا وآخرا - بما يجد عند سواد الناس قبولا ورضا.

إن الأحدب وإبراهيم كليهما مشتغل بالكتابة، ولكن شتان بين ما يكتبه هذا وما يكتبه ذاك، حتى ولو كانا يكتبان في موضوع واحد، فبينما يتناول إبراهيم موضوعه بالعرض التحليلي المتسق الأجزاء، كأنما هو أمام مسألة رياضية لا يحكمها إلا منطق الاستدلال بكل دقته وصراحته، ترى الأحدب قد لجأ - في الموضوع نفسه - إلى التصوير الأدبي الذي يجسد الأفكار في أشكال يمكن إدراكها بالحواس، ومن شأن هذه الطريقة أن تخاطب في المتلقي وجدانه لا عقله؛ فهو يطمئن لما يتلقاه أو لا يطمئن ، لكنه في كلتا الحالتين لا يحتكم إلى «برهان».

كنت على صلة بالأحدب من ناحية، وعلى صلة بإبراهيم من ناحية أخرى، ولم يطف بخاطري قط أن الأحدب وإبراهيم على صلة أحدهما بالآخر، حتى سافر إبراهيم للدراسة في إنجلترا بغية الحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة، ومضى على غيابه زمن طويل، وشاءت لي المصادفة أن ألتقي بالأحدب، فأدهشني أعظم الدهشة أنني ما كدت أورد ذكر إبراهيم في سياق حديثي، حتى فاجأني بأنه صديق له حميم، وبأنه على تراسل معه منذ سافر في بعثته الدراسية، وأضاف تعليقا على بعض رسائل إبراهيم قائلا إنها أقرب إلى مذكرات يكتبها أديب؛ ولذلك فهو حريص على الاحتفاظ بها؛ ونهض في حركة مفاجئة سريعة، وأتاني بشيء منها لأقرأها، والحق أنني أعجبت بما قرأته منها إعجابا تمنيت معه أن تطول تلك الرسائل، وأن تتماسك حلقاتها في تتابع يوحد بينها، وها هي ذي أمثلة منها:

لندن في أكتوبر 1944 ... لم أكن ألفت هذا التواضع من العلماء، وكنت أحسبه من قبيل الشائعات التي تشيع بغير سند من الواقع، حتى التقيت بهذه الأستاذة الجامعية العجيبة، وهي الدكتورة روث صو، أرأيت لو جمع حنان الأمهات جميعا، ووداعة القديسين جميعا، ورقة القلوب الرقيقة كلها، وصفاء النفوس النقية كلها؛ أرأيت لو جمع هذا بأسره في امرأة واحدة، كيف تكون؟ إنها تكون هذه الأستاذة، تحدثك عن كتاب «الأخلاق» للفيلسوف اسبينوزا في غزارة البحر الغزير، وكأنها تطلب منك الرأي ولم تجئ لتهديك بالرأي! ... كانت محاضرتها قبيل الغروب، وخرجنا معا ومعنا طالبتان تقدمتا في السن بعض الشيء، ووقفنا في الردهة، تناقشها الطالبتان المؤمنتان كيف لا يكون المسيح نموذجا كاملا للإنسان في حياته الأرضية، فتنظر إليهما بعين العاطفة الحانية وتقول في صوت كأنه يستفسر: أيعيش الإنسان في حياته الأرضية بغير زواج؟ ... وترتبك الطالبتان، وتبتسم الأستاذة، وتغير مجرى الحديث بأن تتذكر فجأة أنها لم تأكل تفاحتها، فتفتح حقيبة يدها الكبيرة، لتخرج تفاحة تأخذ في قضمها، وتقول: أحب التفاح غير مقشور ...

لندن في مارس 1945 ... للإنجليز براعة في الفكاهة، أكاد لا أجد لها نظيرا في أمة أخرى؛ فالفكاهة في أدبهم ظاهرة حتى توشك أن تكون شرطا لا يتخلف في قصة أو مسرحية أو مقالة، وهي فكاهة خفيفة أقرب ما تكون إلى الابتسامة اللطيفة إذا كانت الفكاهة عند غيرهم تقاس بالقهقهة العالية، وهم يمزجون فكاهتهم هذه في جدهم، فكثيرا ما يعمد الخطيب السياسي إلى تخفيف جد الموضوع الذي يخطب فيه بملح ونكات ينثرها في غضون حديثه هنا وهناك، بل إن ميلهم هذا إلى الفكاهة لا يبرحهم حتى في المحاضرات العلمية، التي قد تميل بغيرهم إلى الجهامة والعبوس ... كان الدكتور سيرل بريث - أستاذ علم النفس - يحاضرنا في النظرية الفرويدية، فقال: إنني لا أحب لكم أن تبالغوا في تطبيق هذه النظرية. وابتسم الأستاذ ومضى يقول: حدث لي ذات حين أن لاحظت أني أفقد أشياء كثيرة؛ فأضع المفاتيح في جيوبي ثم لا أجدها، وأضع النقود الصغيرة فيها ثم تختفي، فهممت أن ألتمس العلة في سبب من هذه الأسباب التي يقولها الفرويديون في أمثال هذه المناسبات، وجعلت أسجل أحلامي وأحللها، وأضع لنفسي الاختبارات وأنتزع النتائج؛ ثم ما هو إلا أن كشفت فجأة عن خروق في جيوبي؛ فكففت عن المضي في التحليل والتعليل ...

لندن في يناير 1946 ... لقد جئت والفكرة عندي عن الفلسفة أنها عميقة بغموضها، وأحسبني سأعود وقد تغيرت هذه الفكرة عنها، فتصبح الفلسفة عميقة بوضوحها؛ إن نظرتي إليها آخذة في التحول، وأولى مراحل هذا التحول أني قد أضحيت على رأي بأن الفلسفة تحليل للتوضيح، وليست هي بالتي تصدر الأحكام من عندها على الأشياء؛ فالفلسفة عندي الآن طريقة في البحث بغير موضوع، إنها لا تبحث في «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج» لأنه ليست هناك «مسائل فلسفية» مما تختص به هي دون أن يكون خاضعا للبحث في مجالات العلوم المختلفة من فيزياء وكيمياء وغيرهما. لم أعد أرى من حق الفيلسوف أن يعالج موضوعات هي من شأن العلماء وحدهم؛ فلو كان البحث في الطبيعة وجب أن يترك لعلمائها، أو كان البحث في الإنسان من حيث هو كائن حي يتفاعل مع غيره في جماعة، وجب كذلك أن يترك لعلماء النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد ... مهمة الفلسفة هي أن تحلل أقوال هؤلاء العلماء تحليلا يتعقبها إلى الجذور، وبهذا تضع أصابعنا على المبادئ الخافية التي تحملها تلك الأقوال في ثناياها دون أن تفصح عنها صراحة، حتى إذا ما تبدت تلك المبادئ أمام أعيننا، تجلت لنا أصول حياتنا الثقافية جلاء صريحا؛ إنني لعلى يقين من أن نظرة كهذه إلى الفلسفة لن تجد عندنا إلا الصدود، لا لشيء إلا لأنها تعفي الفلاسفة من الخوض فيما لا سبيل لديهم إلى العلم به، وهم أميل إلى دس أنوفهم فيما لا يعلمون؛ لأن إرسال الكلام أمر هين، فإذا قيل لهم: في هذا الكلام غموض. أجابوا: هكذا شأن الفلسفة. نعم، إن نظرتي آخذة في التحول الجريء، بعد أن رأيت كم أفنى الفلاسفة جهودهم في بحث عقيم عن أشياء في الغيب وقد حددتهم طبيعة كيانهم بحدود عالم الشهادة، إنهم لكالباحث الأعمى يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء ليس لها وجود ...

لندن في يونيو 1946 ... أي شيء هو أدنى إلى الصواب من قولنا بأن شهادة الميلاد لا تكون إلا لمولود جديد، وأنه إذا وجدت شهادة ميلاد بغير مولود فهي زائفة مزورة؟ وأي شيء هو أدنى إلى الصواب من القول بأن الرمز لا يتم معناه إلا بوجود المرموز إليه، وأنه إذا وجد رمز بغير مرموز إليه فهو إذن وسيلة خداع وتضليل؟ وأي شيء هو أدنى إلى الصواب من قولنا إن الاسم لا يكون اسما إلا إذا وجد المسمى؟ وإذا كان ذلك كله صوابا، فمن الصواب كذلك أن كل كلمة في اللغة لا تسمي شيئا ولا تشير إلى شيء، هي كلمة زائفة مهما طال بين الناس دورانها؛ فالفرق بين اللفظة التي ترمز إلى مسمى واللفظة التي لا ترمز هو الفرق بين اللفظة التي «تعني» شيئا واللفظة التي «لا تعني»، وهو فرق شديد الشبه بما يفرق ورقة النقد التي تستند إلى رصيد فتكون ورقة ذات قيمة حقيقية، من ورقة النقد التي لا تستند إلى مثل ذلك الرصيد فتكون ورقة باطلة؛ لا بد أن يوجد الشيء أولا ليجوز لنا بعد ذلك أن نطلق عليه اسما يسميه ويميزه مما عداه، وهذا هو بعينه الأساس الذي نقيم عليه تعليمنا اللغة لأطفالنا، فنشير إلى شيء قائم على مرأى من الطفل قائلين له: «شجرة»؛ ولولا أن هناك الشجرة التي نشير إليها لذهبت لفظتنا عند الطفل عبثا؛ لأنه في سذاجته وبفطرته ينظر إلى طرفين، المسمى المشار إليه في طرف والصوت الذي ننطق به في طرف آخر، وعندئذ يقرن الشيء المرئي بالصوت المسموع، أو يقرن المسمى باسمه، أو يقرن المرموز إليه بالرمز الذي يشير إليه؛ أقول: إنه يقرن هذا الطرف بذلك، ثم يربط بينهما، حتى إذا ما نطق له بالصوت وحده بعد ذلك، كان كافيا لاستثارة الصورة التي كان هذا الصوت قد ارتبط بها، وبهذا وحده يجوز لنا أن نقول إن كلمة «شجرة» قد أصبح لها عند الطفل «معنى» ...

ولقد تطورت نظرتي يا سيدي وتحددت، بحيث أقبل الكلمات أو أرفضها على هذا الأساس نفسه، يقول الفلاسفة: جوهر، ونفس، وخلود، وجمال، وأخلاق، ودولة، ومجتمع، فأقول: أين هي المسميات فيما هو مرئي ومسموع؟ فإن أجابوا قبلتها، وإن راوغوا - كما هم يراوغون في هذه الحالات - تركتهم وشأنهم وذهبت لشأني.

لندن في نوفمبر 1946 ... سألتني يا سيدي عما أراه بناء على معياري الفلسفي الجديد، في كلمات مثل «حب» و«كره» و«غضب» و«خوف»، قائلا إنك تخشى أن أكون قد طوحت بعالم الوجدان على أهميته في حياة الإنسان، فأقول في هذا الصدد إنه لا بد من التفرقة بين نوعين من الكلام، فكلام يراد به وصف عالم الأشياء وما يتعاوره من أحداث، وآخر ينصرف به قائله إلى داخل نفسه لا إلى خارجها، فإذا نطق ناطق بعبارة من الصنف الأول وقعت عليه تبعة الإثبات؛ وأما إذا نطق بعبارة من النوع الثاني فلا إثبات هناك ولا نفي، والعبارات العلمية التي تجوز فيها المناقشة بين الناس هي من النوع الأول؛ وأما العبارات التي ترد في التعبير الفني والشعوري فمن النوع الثاني ، وهي لا يجوز فيها اختلاف بين الناس ولا نقاش.

هبني وقفت مع زميلي إلى جوار شجرة، فقلت عنها: إنها من أشجار التوت وعمرها ستون عاما. وقال عنها زميلي: إن لونها يبعث البهجة في نفسه كلما رآها. فماذا يكون الفرق بين عبارتي وعبارته؟ الفرق هو أنني أتصدى لوصف الواقع الخارجي الذي لا دخل لمشاعري فيه؛ فلست أنا الذي جعلتها تثمر توتا، ولا أنا الذي ألزمتها أن تكون بهذه الحداثة أو هذا القدم، إنني أصف بعبارتي وقائع ليست جزءا من نفسي، فلو طالبني زميلي بإثبات ما أقوله وجب أن تكون لدي الوسائل التي يستطيع هو أن يشاركني فيها؛ وأما عبارة زميلي التي قال فيها إن الشجرة تبعث البهجة في نفسه كلما رآها، فمن نوع آخر، هي عبارة لا صواب فيها ولا خطأ، ولا إثبات ولا نفي، إنه «يعبر» عن ذات نفسه، ولا «يقرر» أمرا عن الشيء الخارجي، وإذن فليس من حقي أن أطالبه ببرهان، وكيف يكون البرهان والأمر خاص به؟ إنه إذا كانت الشجرة الواحدة نفسها تبعث البهجة في نفسه هو والكآبة في نفسي لما كان بيني وبينه تناقض؛ لأن له شعوره ولي شعوري، ولكن ما هكذا الأمر لو قلت عن الشجرة إنها تثمر التوت، وقال هو: بل إنها تثمر الجميز؛ فها هنا يكون بين قولينا تناقض، ويكون على أحدنا أن يثبت للآخر صدق دعواه ...

وتسألني يا سيدي عن العبارات العاطفية ما مصيرها؟ وأجيبك بأنها تكون من قبيل الأدب الذي يقاس بمقاييس خاصة تختلف عن مقاييس العلوم، فلنا أن نبقي عليها، شريطة أن نكون على بينة تامة بأنها لا تدخل مجال العقل والمنطق، ومن ثم فلا يحق لأحد أن يجادل أحدا في صدقها أو بطلانها؛ لأنه لا صدق فيها ولا بطلان، وكل ما فيها هو أن تكون محببة إلينا أو بغيضة، وإني يا سيدي لأعلم بعد المدى الذي ينال به مثل هذا الرأي في أقوال الناس وعقائدهم؛ لأنهم - في الأعم الأغلب - ينطقون بما يرضي عواطفهم، ثم يزعمون لأنفسهم أنهم إنما نطقوا بالحق الذي لا حق سواه.

لندن في يناير 1947 ... لست أقل منك حرصا على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا. هذه المشاعر والآمال والمثل التي زعمت لي في خطابك الأخير أنني سائر بمذهبي نحو هدمها، كل ما هنالك من أمر في هذا الصدد هو أنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور؛ فمن لا يريد أن يتحدث عما يقع في حسه - رؤية أو سمعا أو ما شئت من حواس - مما يتاح للآخرين أن يراجعوه فيه بحواسهم؛ فهو لا يريد أن يتحدث بلغة العقل، وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام، فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على وجدان؛ أما إذا كان المجال مجال أدب وفن، فليختر ما يشاء من لفظ ليثير في سمعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه؛ فلو تحدث عن السماء حديث العالم الفلكي فلا ينبغي له عندئذ أن يذكر شيئا عن السمو والعظمة والمجد، ولو تحدث عن الزهرة بلغة عالم النبات فليسكت عن أحاديث الروعة والجمال؛ فلنعط ما للعقل للعقل وما للشعر للشعور. وإني لأزعم أن جزءا كبيرا مما تركه لنا الفلاسفة على زعم منهم أنه نظرة عقلية خالصة، هو في الحقيقة تعبير عن أمزجتهم وميولهم. نعم إنهم يسيرون بخطوات عقلية من نقطة الابتداء التي يفرضونها، ولكن نقطة الابتداء نفسها تجيء من عندهم مزعوما لها أنها من إدراك البصيرة والحدس الفطري. ولو زعموا عندئذ أنهم إنما يقيمون نسقات عقلية على أساس افتراضي كما يصنع علماء الرياضة، لقلنا نعم ونعام عين؛ لأن النسقات الرياضية مغلقة على نفسها لا يدعي لها أصحابها أنها تصوير للواقع، بدليل أنها قد تتعدد والواقع واحد، ولكنهم يبنون على فرض من عندهم، ثم يفوتهم ذلك وينسونه، ليقولوا آخر الأمر إنهم يقولون ما يطابق الوجود الخارجي مطابقة الصورة لأصلها.

لندن في فبراير 1947 ... ألقى «برتراند رسل» علينا سلسلة محاضرات عن المعرفة وتحليلها وردها إلى أصولها وجذورها؛ لم أكن أتخيل هذا الرجل بمثل هذه السرعة النشيطة في حركات بدنه وفي لفتات عقله، والعجيب أنه كان يلقي محاضراته في مدرج صغير، مع أن مئات من غير الطلاب يجيئون ليستمعوا إليه؛ لهذا كنت تراني أبادر قبل البدء بمدة طويلة لأجد مكانا قريبا من المحاضر حتى لا تفوتني كلمة منه - وسمعي كما تعلم قد أخذ يضعف قبل أوان الضعف - إلا مرة واحدة تأخرت قليلا، فوجدت المدرج قد امتلأ وأخذ الناس يصطفون خارجه، فوقفت في الصف ووقف معي زميل مصري يدرس علم النفس، وكان المطر ينزل فوق رءوسنا برغم محاولتنا وقاية الرءوس بلصق أجسادنا إلى الجدار، وتسألني: وماذا كنت تسمع من كلمات المحاضر؟ وأجيب: لا شيء. وتعود فتسألني: وفيم وقوفك في المطر والبرد؟! وأجيب: لا أدري؛ فقد أحسست أن تركي للصف أصعب على نفسي من الوقوف فيه بلا رؤية ولا سمع. وقد قلت لزميلي المصري ضاحكا: اشهد على ما ألاقيه في سبيل العلم، بل في سبيل تقديس العلم، من عناء. فقال ضاحكا بدوره: وأنا أحق منك بمثل هذه الشهادة؛ لأنك تقدس فرعا في مجال تخصصك العلمي؛ وأما أنا فقد وقفت في المطر البرد تقديسا لكلمة العلم في ذاتها؛ إنه الروح هنا تغريك بهذا وأكثر منه.

وفي هذا المدرج الصغير نفسه حضرت محاضرة الأستاذ آير الذي عين منذ قريب أستاذا لكرسي الفلسفة في كلية لندن الجامعية، وقد كان شاغرا مدى حين. كانت هذه محاضرة الافتتاح كما يسمونها، يفتتح بها أستاذيته الجديدة، وقد قدمه أحد رؤساء الجامعة بكلمة قال فيها: وقد وقع اختيارنا على هذا الأستاذ الشاب بعد بحث طويل عمن يحفظ لكرسي الفلسفة هنا مستواه الرفيع، وقد قيل لنا تحذيرا منه: إنه خطر على التقليد الفلسفي وإن يكن ذا أصالة في الفكر. فقلنا: هذا هو من نبحث عنه؛ والأستاذ آير في عامه السابع والثلاثين.

لندن في مارس 1947

كان الدكتور كيلنج - صاحب الكتاب المعروف عن فلسفة ديكارت - هو أستاذنا في الفلسفة الحديثة عندما كنت في «الكلية الجامعة» قبل تحويلي إلى «كلية الملك». ولم أكن أرى فيه ما يملؤني إعجابا به، مع أنه كان أول أستاذ بريطاني ألاقيه في هذه البلد؛ نعم، إنه ذكي وملم بمادته إلمام القارئ الباحث الدارس؛ أما نفاذ البصيرة ومسايرة الحركة الفكرية مسايرة تتفق مع منصبه الجامعي، فلم أكن أرى فيه شيئا منه؛ لقد درس في السوربون بعد أن درس في إنجلترا؛ وهو متزوج من سيدة فرنسية؛ وله لحية صغيرة يصبغها بالحناء أو ما يشبه الحناء مما لست أعرفه؛ وقد دعاني منذ قريب على عشاء في منزله، فوجدته منزلا مكدسا بالكتب؛ والظاهر أنه لا ولد له؛ وقد اعتذر لي عن تواضع مسكنه قائلا: إن بيتي الحق قائم في باريس حيث أقضي أطول وقت مستطاع.

وكان من الأفكار التي تحمس لها أثناء حديثنا - وكان الحديث قد تطرق إلى الأدب المسرحي - أن شيكسبير لا يستحق هذه الضجة كلها التي يثيرونها حوله؛ فليس هو بشاعر من الطراز الأول، أين هو في ميدان البناء الشعري من راسين أو كورني؟! فقلت لنفسي عندئذ: ترى إلى أي حد تجيء آراء الناس انعكاسا لجنسية الزوجة؟! إن كيلنج رجل عليل ضعيف البنية، ولقد كان يطمع في دعوة توجه إليه من جامعة القاهرة ليقضي في دفء مصر عاما أو عامين، لعله ينعم بشيء من الصحة، وحسبني قادرا على أداء هذا الصنيع، والحق أني تمنيت يومئذ لو أن بي شيئا مما ظن، لكن العين كانت بصيرة ويدي كانت أقصر جدا مما ذهب إليه خيال الذين أجروا هذا المثال على ألسنة الناس. •••

لم يكن في وسع زميلنا إبراهيم - أثناء مقامه في بريطانيا - أن يرى ما يراه من الرعاية لكرامة الإنسان فردا فردا، بغض النظر في كل فرد عن عمله وثرائه، وأن يرى ما يراه من ولاء هؤلاء الأفراد لوطنهم، حتى ليستجيبوا لنداءات أولي الأمر منهم في ساعات الخطر دون رقيب ولا حسيب؛ أو قل إن إبراهيم عندئذ لم يكن في وسعه أن يرى ذلك الذي رآه هناك، ثم لا ترد إلى ذهنه المقارنات، فكانت تلك هي الفترة التي أخذ يرسل فيها من لندن إلى مجلة الثقافة التي كانت تصدرها في القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مجموعة من مقالات أدبية ثائرة ساخرة، هي من أنقى وأقوى وأصدق ما خطه قلمه.

كتب في أول مقالة أرسلها في هذا الصدد، ساخرا مما نتخبط فيه من خرافة، فقال فيما قال: ... أنا في جنتي العالم العلامة، والحبر الفهامة؛ أقرأ الكف وأحسب النجوم، فأنبئ بما كان وما يكون؛ أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبر عن الرؤيا فأحسن التعبير، لكل رمز معنى أعلمه، ولكل لفظ مغزى أفهمه، استفسرني ذات يوم حالم فقال: رأيت - اللهم اجعل خيرا ما رأيت - رأيتني أنظر إلى كفي فيغيظني من الأصبع الوسطى طولها فوق أخواتها، ولا أحتمل الغيظ، فآتي من مكتبتي بمبراة مرهفة ماضية، وأجذ من تلك الأصبع الطويلة ما طال، وألقي بالجزء المبتور في النار، وما هو إلا أن أرى شبحا مخيفا يخرج من بين ألسنة اللهب، كله أصابع: أصابع في كتفيه، وأصابع في جنبيه، وأصابع في قدميه، وأصابع من رأسه ومن بطنه ومن ظهره، والأصابع كلها من ذوات الأظفار، حتى لكأنها المخالب، أخذت تنقبض وتتلوى، وتنبسط وتتحوى، تريد أن تنال مني لتفتك بي، فتملكني الفزع والرعب والجزع، وكلما اقتربت مني تقهقرت حتى بلغت الجدار، ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار، ثم رأيت دمائي تسيل دفاقة من أصبعي الجريحة، فصحت وصحوت. فأطرقت قليلا ثم أجبته قائلا: لقد أضلك الشيطان الرجيم، فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكفارتك صيام عام وإطعام ألف مسكين ... فأصابع كفك هي الناس من حولك، تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب؛ والمبراة التي أتيت بها من مكتبتك رمز بضلالك بما قرأت، كأنك «فاوست» غاص في العلم فأضله العلم ضلالا بعيدا ... فحدثتك النفس الأمارة بالسوء أن تعدل فيما خلق الله وتبدل، فكان جزاؤك عذاب الدارين ... وأما الجدار الذي سد عليك طريق الفرار فمعناه أن عذابك آت لا ريب فيه، إلا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء ...

هكذا جاءت السخرية من ثقافتنا فيما أخذ يكتبه إبراهيم يومئذ؛ فهي ثقافة تأبى في صميمها أن تسوي بين الناس، ومن حاول هذه التسوية نزلت عليه النقمة، ولعل سخرية إبراهيم من مناخنا الثقافي الذي كنا نعيش فيه لم تبلغ قمتها بمثل ما بلغته في مقالة بعث بها وجعل عنوانها «بيضة الفيل»، أراد بها أن يهزأ من ضروب التفكير الغبي الافتراضي في عصر كانت القنبلة الذرية قد بدأت تتفجر وتهز العالم بدويها، تبدأ تلك المقالة هكذا:

قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة تبيض، فماذا يكون لون بيضتها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء، يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء ...

ومضى الكاتب في مقالته يدير مناقشة وهمية في مشكلة وهمية، ومع ذلك فقد أخذت آراء «العلماء» (الحظ هنا كلمة «علماء») تختلف! وراح المتناقشون يدعمون آراءهم بأسانيد يشتقونها من كتب الفقه وكتب اللغة وكتب التاريخ، وأخيرا حدثت المفاجأة في آخر المقالة:

وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: هي يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية، قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.

وأخذت المقالات تتوالى من إبراهيم وهو في لندن، على هذا النحو الثائر الساخر؛ لأنه كان ينظر أمامه فإذا الدنيا قد انتقلت إلى حضارة أخرى غير حضارته، فيها - فوق العلم - كرامة الإنسان، ثم ينظر خلفه إلى حالة وطنه فإذا هو غارق إلى قمة رأسه في خرافة، تزيدها بشاعة ضروب من الأخلاق الاجتماعية تهدر للإنسان قيمته وكرامته.

انتهت بإبراهيم دراسته بإجازة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالته في «الجبر الذاتي»، جاء يوم مناقشة الرسالة، فلم يكن هناك إلا إعلان وضع أمام المبنى المركزي لجامعة لندن (وهو نفسه المبنى الذي يضم مكتبة الجامعة، التي جعلها إبراهيم مكانه الرئيسي في ساعات العمل)؛ أقول إنه لم يكن هناك يوم الامتحان إلا إعلان وضع أمام ذلك المبنى جاء فيه أن لجنة امتحان ستعقد اليوم في غرفة رقم كذا، لمناقشة الطالب الفلاني في رسالته التي تقدم بها لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من «كلية الملك»، ولقد فوجئ إبراهيم بذلك الإعلان وهو يدخل المبنى، فعرف منه رقم الغرفة التي يتوجه إليها في الموعد المضروب، وذهب ليجد اللجنة الوقورة جالسة على منصتها، وقوامها عضوان: الدكتور هاليت الذي أشرف على البحث، والدكتور ماكمري ممتحنا خارجيا جاء من جامعة سانت أندروز بأسكتلندة، وأغلق باب الغرفة على الأستاذين وأمامهما الطالب، فتلك هي طريقة مناقشة الرسائل في بريطانيا، فلا جمهور ولا خطابة ولا مظاهرة ولا تصفيق. ودارت المناقشة في ذلك الهدوء المهيب، وخرج إبراهيم من الغرفة وهو الدكتور إبراهيم؛ واسمه الكامل هو إبراهيم الخولي.

عاد الدكتور إبراهيم بعد فوزه بما أراد أن يفوز به. كان في محطة القطار الذاهب به إلى دوفر، ليبدأ المرحلة الأولى من طريق السفر إلى مصر، حين جاءه من مكتب البعثات المصرية في لندن من ينبئه على عجل بأن برقية من القاهرة قد جاءت لتطلب من إبراهيم أن يمر على باريس في طريق عودته، ليقضي هناك شهرا ونصف شهر في منظمة اليونسكو، ووقع في حيرة لم تطل إلا بضع دقائق، قرر بعدها أن يرسل حقائبه مشحونة لتسبقه إلى الوطن، لا يبقى منها إلا ما يعيش به فترة الإقامة في باريس، وعاد إلى مسكنه بلندن ليقضي يوما أو يومين يعد فيها نفسه لهذا الموقف الجديد.

ثم جاء يوم السفر، وكانت غاية السفر هذه المرة هي باريس ليظل بها شهرا ونصف شهر يستأنف الطريق بعدها عائدا إلى القاهرة، وركب إبراهيم قطار «السهم الذهبي»؛ كثيرون هم أولئك الذين كتبوا عن الصداقة والأصدقاء، فوفقوا وأجادوا - هكذا كتب إبراهيم في خطاب أرسله إلي يومئذ من الطريق - لكني لا أحسب أحدا من هؤلاء جميعا قد كتب شيئا في نوع من الصداقة عجيب، يمر في حياة الإنسان مرور الأطياف والأحلام، فلا يستغرق إلا ساعة أو ساعتين، أو قل يوما أو يومين، ومع ذلك تراه يترك في النفس أثرا قد يبلغ من الشدة والعمق ما لا تبلغه الصداقة الثابتة الدائمة؛ فلقد قابلت في القطار فتاة، ولم نكد نبدأ الحديث حتى خيل إلينا أننا أصدقاء منذ أمد بعيد، جعلت أخبرها وجعلت تخبرني كأن حبل الحياة متصل بيننا، ثم بلغ بنا القطار غايته، ولعلي كنت أحس بهذه الخاتمة القريبة، ولعلها كانت تحس، فأخذت صداقتنا تتكثف وتغزر لحظة بعد لحظة، كأنما عز علينا أن يتبدد هذا اللقاء فتشبثنا ممسكين بقبضتين قويتين على هذا الود الوليد، لعله يدوم، لكن القطار بلغ بنا غايته، وافترقنا إلى الأبد ...

وفي باريس، خلال فترة الشهر ونصف الشهر التي قضاها ملحقا باليونسكو، أراد له الله أن يلتقي بسيدة مصرية جاءت موفدة من القاهرة لتشارك في المهمة نفسها التي طلب منه أن يضطلع بها، فوجد فيها رمزا يمثل أرفع القيم التي تتميز بها مصر، فحمد الله أن قذفت المصادفة أمام عينيه بهذا الرمز النبيل ليخفف من غلوائه فيما كان التسرع في الأحكام قد شطح به إليه؛ لأنه كان كلما رأى وجها من أوجه الكمال الحضاري وهو في إنجلترا، أسرعت المقارنة بمصر إلى ذهنه إسراعا يميل به إلى طمس الجانب المشرق الجميل ليظهر الجانب المعتم القبيح؛ فكان عزاؤه ذلك الحب القوي العميق الذي يكنه لوطنه، والرغبة المسعورة الجامحة في أن يرى ذلك الوطن الحبيب غير مسبوق على الطريق الحضاري الطويل.

ولقد قص علينا إبراهيم عن نفسه ساعة كان فوق السفينة يعبر القنال الإنجليزي في أول طريقه عائدا إلى مصر؛ فالبحر هائج مائج، والسفينة تعلو وتهبط مقذوفا بها على رءوس الموج كأنها الكرة على أقدام اللاعبين المهرة الأشداء، والراكبون يسقطون من دوار البحر صرعى، وهو واقف ممسكا بحاجز السفينة، مرتديا معطف المطر يتقي به الرذاذ العنيف الذي يغمره ويغمر عشرات الصرعى إلى جواره، واقف ينظر ناحية الشاطئ الإنجليزي، ويدس يديه في جيوبه، فإذا في جيبه الأيمن ورقة، يظل يسأل نفسه قبل أن يخرجها: ماذا يا ترى تكون هذه الورقة؟ وهو لا يذكر أنه قد وضع ورقا في جيب هذا المعطف، ثم يخرجها، فإذا هي قصاصة منزوعة كما اتفق من كراسة قديمة، ومكتوب عليها بخط رديء، خطته يد مسرعة مترددة: «أحببتك ولم أصرح»، والكاتبة هي صاحبة البيت الذي كان يستأجر غرفة فيه.

ولبث إبراهيم ينظر إلى الورقة في يده، والرذاذ العنيف يخبط وجهه وصدره، فأسرعت إلى ذهنه صورة تلك السيدة نفسها، حين كانت الحكومة أيام الأزمات قد أصدرت تعليماتها بأن تطفأ المدافئ في كل مكان من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الثالثة عصرا، توفيرا للفحم الذي قلت مقاديره، إما بفعل ثلوج الشتاء وإما تحت وطأة الحرب - لا أذكر الآن أيهما - فكنت أراها في الأيام التي أقضي فيها النهار بالمنزل لأكتب فصلا من الرسالة تجمعت مادته بين يدي، كنت أراها وهي تنظر إلى ساعتها لحظة بعد لحظة، حتى إذا ما حانت الساعة الحادية عشرة دارت على غرف المنزل تطفئ مدافئها بغير رقيب إلا من ضميرها الوطني.

طفق إبراهيم وهو يعبر القنال الإنجليزي عائدا إلى بلاده، يلف في رأسه شريط ثلاثة أعوام قضاها في بريطانيا، لفا سريعا تتداخل به الصور بعضها في بعض، لا يكاد يقف عند واحدة حتى تزول لتحل محلها واحدة، ثم ازداد الأمر خلطا ومزجا حين راح يلف في رأسه - في الوقت نفسه - شريطا آخر لفا سريعا كذلك، تتلاحق فيه الصور واحدة في إثر واحدة، تضع أمام عينيه مشاهد ومواقف مما كان قد مر به في مصر قبل أن يغترب عنها للدراسة، فكأنما كان الشريطان عندئذ يتدافعان ويتسابقان ويتشابكان؛ فصورة من هنا تستدعي صورة من هناك، كل ذلك والسفينة تتخبط فوق الموج الصاخب، وصرعى الدوار يزدادون عددا، والرذاذ الحاد يضرب وجهه وصدره كأنه قطع الزجاج.

هذه هي صورة الطالب الإنجليزي «فلتشر» يلقاه في المحاضرات ويتصادقان ويتبادلان الرأي والنظر، قد كان في نحو عمره، ويعلم عنه أنه قد أمضى وقتا ضائعا حتى تنبهت شركة كان يعمل بها عملا يدويا مما تصلح له سائر الأيدي، ويدرك صاحب الشركة أو مديرها أن الفتى موهوب في الفكر النظري، فيقرر إرساله إلى جامعة لندن على نفقته، غير مقيد إياه بشرط العودة إلى شركته بعد إكمال الدرس، فماذا ينفع دارس الفلسفة شركة تعبئ الزجاجات بما لست أذكر من ضروب السائل، ولم تكد هذه الصورة تعود إلى الذاكرة يغشاها الضباب الأصفر الداكن الذي يكتنف لندن في أوائل الشتاء حتى تندفع إلى صفحة الذاكرة صورة من ماضي الحياة في مصر؛ فحيث كان إبراهيم مدرسا ناشئا جاءه غلام في صحبة أبيه ومعهما خطاب من صديق يوصيه بالغلام خيرا لأنه موهوب، ولكن أباه لا يملك من وجه الدنيا قرشا يدفعه أجرا لتعليمه، ويسألهما عن ظروف الغلام فإذا هو في الشهادة الثانوية من أوائل خمسة، لكن المدرسة الثانوية التي يريد الالتحاق بها - كأي مدرسة ثانوية أخرى في ذلك الحين - تطلب القسط الأول قبل الدخول، برغم أنها على يقين من أن مجانية الطالب مكفولة له بحكم القانون؛ فمن أين للوالد الفقير أن يدفع وهو خادم في مسجد رزقه الله هذا الولد النابغة؟! فلا يدري إبراهيم ماذا في وسعه أن يصنع سوى أن يدخل إلى ناظر المدرسة في مكتبه ويقص عليه النبأ: «ماذا لو قبلناه بغير مصروفات، وخطاب المجانية آت من الوزارة في حينه؟» فيقول الناظر، وقد مس الموقف قلبه الطيب: «ومن ذا يدفع عني الاتهام إذا جاء من الوزارة مفتش فوجد طالبا لم يدفع أجر تعليمه قبل الدخول؟» وخرج إبراهيم ليبلغ الوالد والولد، فيبكي الوالد مرددا كلمة: «يا خسارة! يا خسارة»، ويحتضنه الولد ويربت له على كتفيه: «لا عليك يا أبي، لا عليك، لا عليك يا أبي، لا عليك»، وإبراهيم واقف على السلمة الأولى من مجموعة السلالم القليلة المؤدية إلى مكتب الناظر، ينظر إلى الوالد والولد ...

وهذه صور تتلاحق عن نعومة الصلات هناك بين كل إنسان وكل إنسان، فهل شهد في أكثر من ثلاث سنوات شخصين يعتركان؟! أبدا أبدا، لم تقع عينه هناك على عراك، كأنما هم صور تتحرك صامتة على صفحة مرآة، لا تصطدم منها صورة بصورة؛ فالزوج والزوجة، والبائع والشاري، والجار والجار، والصديق والصديق، وكل إنسان وكل إنسان، يلتقيان في همس ويفترقان في صمت؛ تأتيه هذه الصور حتى لكأنه يشهد سينما صامتة، وفجأة يقتحم الشاشة الذهنية صورة من ماضيه في مصر يسكن في شقة في منزل متواضع، يعلوها مسكن تنزل فيه زوجة وأبناء زوجها، وأما الزوج فيشتغل في الصعيد ولا يحضر إلا حينا بعد حين؛ وتحتها - في فناء البناء الأرضي عند المدخل - غرفة يسكنها صانع بليلة وزوجته، يخرج الزوج بعربته وعليها إناء ضخم مليء بالبليلة وتحته موقد النار، والدخان المخلخل يتصاعد منه؛ أقول: إن الزوج يخرج بعربته تلك ليعود مع المساء؛ وحدث ذات ليل بعد أن انتصف، وهدأت الحركة في البيت والشارع، وسكتت الأصوات إلا من دبيب المارة على فترات متباعدة، أن انفجرت معركتان في آن واحد، إحداهما في الشقة العليا والأخرى في الغرفة السفلى، فمن أعلى جاءت أصوات تشق هدأة الليل:

الشاب ابن الزوج :

لا بد أن أقول لأبي متى تخرجين ومتى تعودين.

الزوجة :

امش! اخرج من بيتي.

الشابة ابنة الزوج (مع أخيها في نفس واحد) :

هذا بيت أبي، اخرجي أنت إلى حيث كنت.

الزوجة (تنادي الخادمة) :

أخرجيهما بالقوة يا مبروكة.

الشاب ابن الزوج :

اخرسي وإلا قذفت بك من النافذة.

الزوجة :

إما أنا وإما أنتما في هذا المنزل بعد الآن.

الشاب ابن الزوج :

أين تبددين النقود التي يتركها لنا أبي؟

الزوجة :

اسم الله على أبيك ونقوده يا سعادة البك! نقود أبيك لا تكفيني لشراء الملح ...

وفي هذه اللحظة نفسها انفجرت القنبلة الثانية من أسفل، وكانت أفدح خطرا؛ فقد عاد بائع البليلة في هذه الساعة المتأخرة من الليل مخمورا لا يعي شيئا ولا يستطيع النهوض بجسده، فرافقه زميل له في الخمر يتساندان، حتى أوصله الزميل إلى منزله، وخرجت إليهما الزوجة القلقة هابة من غرفتها زاعقة في الصديق قائلة كيف كان زوجها كالملائكة يذهب إلى عمله ويعود إلى بيته، حتى عرف طائفة الأبالسة التي ترافقه هذه الأيام، ثم راحت تدعو الله:

الزوجة :

إلهي وأنت جاهي وجاه «الولايا» يا رب، تنتقم منهم لقاء ما أفسدوا من زوجي.

الصديق المخمور :

هو ذا زوجك بين يديك، دقيه واصنعي منه «كفتة»! هأ هأ هأ (وانصرف).

الزوج المخمور (بعد فترة مليئة بأصوات حركة غير مفهومة للساكن في أعلى) :

تشتمين أصحابي؟! تشتمين أصحابي؟!

فتصرخ الزوجة مستغيثة لأن زوجها السكران يهاجمها بالسكين ليبقر بطنها جزاء ما اقترفته من شتم صديقه؛ وأطلت الزوجة المعتركة مع أبناء زوجها، أطلت منا نافذة «المنور» لتقول للزوجة المنكوبة إنها آتية لنجدتها، ويمضي الزوج السكران في سؤاله الاستنكاري: تشتمين أصحابي؟! تشتمين أصحابي؟! واستيقظ السكان جميعا في عاصفة من أصوات فازعة، وحركة أقدام على السلم مسرعة في هبوطها لتنقذ الزوجة من براثن زوجها المخمور.

ويكر شريط الصور في رأس إبراهيم وهو على سفينته؛ من هناك صورة ومن هنا صورة:

هذا هو الوزير الإنجليزي «نويل بيكر» يقف في الصف وفي يده فنجانه ينتظر دوره ليملأه بالشاي، وأمام رجل يرتدي رداء سعاة الدواوين، فلا الوزير يفكر في التقدم قبل دوره، ولا الخدم من أمامه يفكرون في التنازل عن مواضعهم؛ فالساعة ساعة الراحة له ولهم بين جلسات جمعية الأمم في أول انعقاد لها في لندن - قبل رحيلها إلى نيويورك - وتذهب هذه الصورة لتحل محلها صورة الوزير المصري الذي كان ينتظر منه ألا يكون كسائر الوزراء عنتا واستبدادا؛ لأنه كان - دونهم - إماما بيننا من أئمة الأدب والفكر والحركة الحضارية بصفة عامة؛ ومع ذلك فقد رأيته وهو على كرسي الوزارة كيف يتعنت وكيف يستبد، كأنما أصحاب الحقوق الواقفون أمام بابه حفنة من الغنم، بينها وبين الراعي الأكبر صفان طويلان من الذئاب، على نحو ما كان المصريون الأقدمون يقيمون صفوف الأسد أو الكباش أمام المعابد لتحرسها من هجمات الشياطين.

ويعض إبراهيم على شفته بأسنانه عضة من اعتزم أمرا، وألقى بالورقة التي كانت في يده إلى موج البحر الصاخب، فما تزال السفينة تنقذف بين الموج الثائر من قمة إلى وهدة فإلى قمة من جديد، والرذاذ يلطم وجهه وصدره كأنه الرصاص، وصرعى الدوار من حوله صفر الوجوه كأنهم الموتى في وباء كاسح، لقد اعتزم الدكتور إبراهيم في تلك اللحظة ألا ينزل لأحد بعد اليوم قيد شعرة عن كرامته؛ لقد أحس بفرديته وقد انتفخت، وصمم على أن يقف بها عند عودته كما يقف الجبل الأشم من رءوس الناطحين. •••

عندما سافر إبراهيم الخولي إلى إنجلترا دارسا. كانت تعتمل في نفسه قوتان متصارعتان: إحداهما إرادة مصممة على بلوغ الهدف مهما كلفه ذلك من عناء، والهدف المقصود الذي أخذ يسعى إليه منذ صدر شبابه، هو أن يكون له دور ملحوظ في الحياة العلمية والثقافية؛ وأما الأخرى فهي حالة دفينة من اليأس أن يحقق هو نفسه مما أراد شيئا؛ فهو عندما سافر كان بالفعل قد بذل جهودا لم يعرف مداها إلا هو؛ وأما أقرانه وأصحابه ومن كانوا يكبرونه ومن كانوا يصغرونه، فلم يكن أي منهم على دراية بما بذله إبراهيم؛ فكل من هؤلاء قد يعلم عنه شيئا وتفوته تسعة أشياء، وحتى الذين عرفوا عن جهوده ذلك القليل، فقد ندر منهم جدا من حمل له التقدير، أو ربما حمل التقدير في نفسه سرا مكتوما ولم يفصح عنه بالقول أو الكتابة.

كان إبراهيم يعلم ذلك جيدا، وكانت تغمره موجة القنوط آنا بعد آن، لكنه بالقوة الأخرى في نفسه ينهض من قنوطه ليعمل، وليكن بعد ذلك ما يكون، وفي إحدى لحظات اليأس - وهو في لندن - خرج عصر يوم من أيام الآحاد لينشق الهواء في هايد بارك؛ وهايد بارك متنزه فسيح يقع في قلب مدينة لندن، له خصائص يتميز بها في أذهان عارفيه؛ منها هؤلاء الخطباء عند مدخله، يرتقون المنابر ليخطبوا في أي موضوع شاء الخطيب أن يتحدث فيه، وليسمع من أراد من رواد المتنزه أن يسمع، والأغلب أن يتحلق حول كل خطيب مجموعة من هؤلاء الرواد - تقل أو تكثر تبعا لموضوع الحديث - وهم إنما يتحلقون حول الخطباء تفريجا عن أنفسهم، وإزجاء لأوقات فراغهم، ولكن إبراهيم إذ قصد إلى هايد بارك عصر ذلك اليوم، فإنما أراد الهواء النقي ولم يرد أحاديث الخطباء، غير أن شيئا لم يكن في حسبانه غير وجهته؛ وأترك لإبراهيم نفسه رواية ما حدث: ... استوقفني من الخطباء منظر عجيب: خطيب من هؤلاء رأيته قائما على منبره يخطب ولا من سميع! لم يقف أمام الرجل إنسان واحد يستمع إليه، ومع ذلك مضى المسكين في خطابه، يرفع صوته ويخفضه، ويشير بيمناه تارة وبيسراه طورا، وينحني ويستقيم، ويضرب النضد الصغير الذي أمامه بيده، مقبوضة مرة مبسوطة أخرى، دنوت منه، ووقفت إزاءه، أنظر إليه، وما هو إلا أن طاف برأسي خاطر عجيب؛ إذ خيل إلي أني أنظر إلى نفسي في مرآة، وإنها لفرصة نادرة الوقوع أن تجد لنفسك مرآة تصورها لك فتهديك بعد ضلال، فما أهون أن تنظر إلى وجهك في مرآتك، لتصلح ما اختلط من شعرات رأسك، وتهذب ما هاش من شاربيك، لكن أنى لك مرآة تجلو أمام ناظريك ما خفي من شعاب نفسك، لتصلح منها ما اعوج إن كانت بذات عوج، أو لتزهي بها أن كانت قمينة بالإعجاب، ولقد رأيت في ذلك الخطيب مرآة لنفسي، وأخذت دقة الصورة تزداد في عيني جلاء ووضحا، فابتسمت ثم ضحكت في نبرة مسموعة.

قال الخطيب: ما يضحكك يا صاحبي؟

قلت: يضحكني أننا شبيهان.

قال: شبيهان؟!

قلت: نعم؛ وليس الشبه في هيئة الجسم؛ فكلانا يبعثر في الهواء طاقته؛ كلانا يبذل الجهد، فيذهب الجهد أدراج الرياح.

عجيب هذا الضوء الذي تلقيه تجارب الأيام على القول المكرور المعاد! فقد تردد العبارة الواحدة ألف مرة، وتحسب أنك قد فهمت معناها؛ لأنك عرفت معاني ألفاظها كما تشرحها القواميس، فإذا بك تنطق بها مرة أخرى فتلمس فيها حياة نابضة لم تعهدها من قبل، فكأنما أشرق عليك منها معنى جديد؛ لأنها في هذه المرة كانت قطعة من حياتك وقبسا من روحك، ولم تكن ألفاظا مرصوصة يقولها الناس فيرن صداها بين شفتيك؛ فكم رددت مع الناس قولهم: «لا في العير ولا في النفير»، ولم أكن أدري أنني إنما أرددها ترديد الببغاوات عن غير فهم حي صحيح، حتى قلتها منذ قريب فأحسست لها هزة تشيع في وجودي، وأدركت أنها لم تعد مثلا يقال، بل أصبحت جزءا من صميم الحياة؛ وحدث مثل ذلك حين قلت لصاحبي الخطيب إننا نبذل الجهد، فيذهب الجهد أدراج الرياح. ... أرأيت يا خطيب الهواء سيارة أمسكها الوحل فأخذت عجلاتها تدور، وهي في مكانها لا تتحول! لو كانت هذه السيارة تنطق لزعمت لك أنها طوت من الأرض فراسخ وأميالا؛ لأنها تحس في حر أنفاسها حرارة الجهاد، وتحس عجلاتها تدور؛ فهيهات أن يقع في ظنها أنها تدور في غير سير إلى أمام، إيمانا منها بأن ذلك ضد طبائع الأشياء، وما تدري أن هذا الوحل الذي يأذن لعجلاتها أن تدور ثم يمسك جسمها عن السير هو أيضا من طبائع الأشياء.

نحن أيها الخطيب شبيهان، كلانا أدرك الهدف وأخطأ سواء السبيل؛ أراد لنا نحس الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلمون - والمعلمون أحيانا ما يخدعون، ويبشرون بما لا يؤمنون - فأوصونا بأن نجعل من النجم غايتنا، فأبت علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكد ونكدح لنبلغ النجم، وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسر ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته، فكلاهما في أعينهم لامع لألاء، وبربك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم منا الظهور، وتشرئب الأعناق، وتشمخ الأنوف؛ أما إذا أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»؛ فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار» ...

كانت تلك الأسطر بعض ما كتب إبراهيم في إحدى لحظات يأسه؛ والحق أني حين قرأتها تبينت فيها ما يشبه نبرات الأحدب فيما يكتبه، وكثيرا ما يختلط علي الأمر فلا أدري من منهما الكاتب لما أقرؤه؛ إذ تكون النغمة نغمة أحدبية؛ وأما المضمون فيوحي بجوانب أعرفها من حياة إبراهيم. •••

إن ثلاثتنا - الأحدب وأنا وإبراهيم - لم نجتمع قط حتى الآن في مكان واحد وفي لحظة واحدة لنتفق معا أو لنختلف على شيء بعينه؛ فكل منا منصرف في دنياه إلى ما خلقه الله له: الأحدب في مجال اهتماماته الأدبية قراءة وكتابة، وإبراهيم في حياته العلمية دراسة وشهادات ومؤلفات، وأنا في سعيي إلى كسب العيش والتعامل مع الناس وفق ما تواضعوا عليه من نظم وقواعد؛ لا، لم يحدث لثلاثتنا قط حتى الآن أن تم لها لقاء يجمعها، لكن كل واحد من الثلاثة قد أصبح على وعي بوجد الزميلين الآخرين، وما يربطهما به من خيوط.

كانت تلك هي الصورة عندما عاد إبراهيم (هو الآن الدكتور إبراهيم الخولي)، عاد إلى مصر واثقا من نفسه، مؤمنا بدعوة إلى ثورة علمية في حياتنا، تتناول منهج النظر، فتحوله من قراءة الكتب لاستخراج الأحكام من بطونها، إلى قراءة المشكلات الحية على «الطبيعة» لالتماس حلولها من واقعها. كان إبراهيم عندما سافر في بعثته العلمية خلوا من هذين العنصرين معا، فلا هو على ثقة من نفسه، ولا هو ذو دعوة محددة المعالم والأهداف.

لكنه لم يكد يضع أصابع قدميه في ميدان العمل، حتى نزلت عليه اللكمات واللطمات أشكالا وألوانا من هزء وسخرية وازدراء وتصغير، وها هنا ارتد إلى طبيعته التي لازمته منذ السنوات الأولى من عمره، وها هنا كذلك جمعته المصادفة المبصرة مع صنويه الأحدب وأنا لأول مرة، ولم يطل بينهم إجراء التعرف بعضهم إلى بعض؛ لأنهم أحسوا جميعا - وفي لمحة خاطفة - أنهم إن لم يكونوا إخوة توائم فهم كالإخوة التوائم؛ يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا، لكنهم جميعا يتفقون على محاور رئيسية، هي نفسها المحاور التي أشرت إليها الآن حين قلت عن إبراهيم إنه ارتد إلى «طبيعته» الأولى التي لازمته منذ السنوات الأولى من عمره، والتي كان من أهم عناصرها أمران: أولهما اندفاع نحو المجهول بشجاعة ظاهرة، والثاني فرار إلى انطواء في جحره ليحتمي في ظلمته وبين جدرانه؛ فهذان العنصران اللذان يبدوان وكأنهما نقيضان، وهما في الحقيقة متكاملان، وهما اللذان تجتمع عليهما طبائع الأشخاص الثلاثة، ثم يختلفون بعد ذلك ما شاء لهم الاختلاف أن يتباعدوا.

عاد إبراهيم من إنجلترا واثقا من نفسه، مؤمنا بدعوته، فاندفع في دنيا العمل شجاعا، فتلقى ضربات من هوان، فلاذ مسرعا بانطوائه في عزلة أو ما يشبه العزلة، وحاول - وهو في تلك العزلة أو ما يشبهها - أن يحافظ على ثقته بنفسه وعلى نشر دعوته من وراء الجدران، فلما حدث أن اجتمع بصنويه لأول مرة، اجتمع الثلاثة جميعا على أن تكون لهم هذه الوقفة الواحدة - كل في مجاله وفي حدود كيانه - وهي الوقفة التي تحتمي في حصنها وتهاجم على الورق؛ ومن هنا جاء التكامل بين التوائم الثلاثة؛ إذ كتب الأحدب بنبرته الحادة الساخرة؛ وإذا كتب إبراهيم بتحليلاته الهادئة العلمية الموضوعية، وإذا سلكت أنا في مسالك الحياة العملية منخرطا في قوالبها وتقاليدها، فالصور الثلاث كلها تنطوي على جوهر واحد، قوامه العمل على التغيير بالثورة الصامتة، أو هو المهاجمة من أبراج القلاع التي يلفها الضباب، بما يشبه ما تصنعه القبرة التي أنشد لها الشاعر «شلي»، فقال عن تغريدها الذي يسمع وكأنه آت من وراء الحجب، إنه يسمع من مصدر مجهول لا تراه الأبصار؛ أو قل إن الجوهر الذي نلتقي عنده ثلاثتنا، هو كحقيقة البحر المحيط عندما يسكن ماؤه ولا يهتاج بموجه القوي المخيف؛ فإن ليونة الماء وسيولتها - عندئذ - تغري حتى الأطفال بالعبث بها واللعب على ظهرها وعند أطرافها، فهم لا يرون ما وراء ذلك الضعف البادي من قوة يدأب بها البحر المحيط - حتى في سكونه - على إذابة الحديد وتفتيت الجلاميد.

عاد الدكتور إبراهيم الخولي من إنجلترا واثقا بنفسه مؤمنا بالدور الذي يعتزم القيام به، لكنه وجد نفسه محاطا بجماعة من أصحاب النفوس الفقيرة، التي تعوض خواءها الداخلي بقتل من يصادفها في الطريق ممتلئا بدفعة الحياة؛ إنها نفوس عاجزة ويعزيها عن عجزها أن ترى العجز في الآخرين، إلا أن للفقر صورا شتى؛ فمنها اليباب القفر الذي تلتهب رماله برقدة الشمس، ومنها الصخر الأجرد الذي صلد صدره وتصلبت أطرافه، ومنها السماء لا تجود بالغيث، ومنها الوردة تذبل وتذوي، ومنها الجيوب تخلو من المال ... لكن لا اليباب القفر، ولا الصخر الأجرد، ولا السماء اليابسة، ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه، ولا الجيوب الخالية من المال، بمستطيعة أن تصور الفقر بأقوى مما تصوره النفوس الفقيرة؛ ولقد وجد إبراهيم نفسه محوطا بزمرة من تلك النفوس التي لا تملك الخصوبة لنماء الزرع فتفتك بكل زراع تراه ناميا، وهي نفوس جماعة من الكبار الصغار: كبار الأجسام والأعمار صغار الهمة صغار الأحلام؛ أقصى قدراتهم أن يصنعوا صنيع التلاميذ في استذكار دروسهم كما هي مكتوبة في دفاتر، فكذلك هؤلاء العاجزون: أقصى ما يطمحون إليه أن تعبث أفهامهم المحدودة بأسطر يقرءونها قراءة العاجزين ويدركون مراميها إدراك العاجزين، وهؤلاء هم الذين أحاطوا بإبراهيم وضحوا حوله وضجوا حوله بالطنين، ولما كان من طبيعة إبراهيم منذ أول نشأته تلك الحساسية الشديدة التي تدفعه أمام نذالة النذل وجهالة الجاهل وعدوان المعتدي أن يسرع فينطوي، على أن يضرب بسهامه من وراء الجدران. كان ذلك هو الذي حدث له بعد عودته بقليل، وربما استمر معه حتى يومه الراهن.

وكانت تلك السهام من إبراهيم إلى أعدائه ومنافسيه، حجاجا عقليا يدور كله نحو ترسيخ النظرة العلمية في كل ما ليس متصلا بالذات ووجدانها، والهدف النهائي من معركته مع معارضيه هو الدعوة إلى بعث جديد في الفكر العربي، لا يتاح له أن يتحقق إلا باصطناع منطق جديد ومنهج جديد. •••

أما هنا فلنوجه أنظارنا نحو الأحدب صاحب الوجدان الملتهب، لنرى ماذا كان يكتب، وكيف كان يحيا، في الوقت نفسه الذي كان صنوه إبراهيم يقاتل من يقاتله في مجال الفكر العلمي.

الهدف البعيد للتوائم الثلاثة - كل في ميدانه وبأسلوب حياته - هو الإسهام فيما يؤدي بمصر خاصة، وبالوطن العربي كله عامة، إلى بعث جديد نواكب به العصر وفكره وحضارته، فإذا كان الدكتور إبراهيم الخولي بحكم دراسته قد تصدى لنصرة العقل ومنهجه؛ فقد كان نصيب رياض عطا (الأحدب) بحكم عاطفته الحادة وحساسيته المرهفة، هو التصدي لنصرة الضعيف المحروم، وكان سلاحه في ذلك أن يعيش هو نفسه عيش الضعف والحرمان، حتى ولو توافرت له أسباب القوة والمتاع؛ لأن ذلك من شأنه تغذية القلم بمداده إذا كتب.

وكذلك مما يميز الأحدب من إبراهيم، أن إبراهيم إذا جاءه النقد أو جاءته إهانة أو استهانة من آخرين، فإن المرجح لشخصيته أن ينظر إلى الأمر بينه وبين نفسه بشيء من الإنصاف، ليرى إذا كان الآخرون على حق فيما قالوه أو فعلوه أو كانوا على باطل؛ وأما الأحدب فإذا أوذي كان الأرجح عنده أن يتوجه إلى نفسه باللوم والتقريع؛ اعتبارا منه بأن نفسه تلك لا بد أن تكون معيبة على النحو الذي أوحى للآخرين بما أوحى من ضروب الإيذاء؛ إنه نوع من الرغبة الدفينة في نفس الإنسان يريد أن ينزل على نفسه العذاب والألم، وهي رغبة تتفاوت عند الناس ضعفا وقوة، ويبدو أن للأحدب منها نصيبا موفورا. ... هذه هي نفسي أضعها أمامك عارية؛ لن أستحي مني مكنونها وخبيئها مهما يكن خبيثا، فكل الناس هذا الخبيث، لكن الرياء يستر ويخفي؛ رأيت ظهر اليوم غلاما أمام الدار يلعب «بالنحلة» فيلف طرف الخيط حول نحلته الخشبية، ثم يقذف بها، فتدور النحلة على سنها فوق بلاط الإفريز دورانا شديدا، لكن الغلام يخشى على دورانها الفتور والضعف، فيظل يضربها بعذبة سوطه ضربا متلاحقا، حتى تدور ولا تكف عن الدوران، وعدت إلى مجلسي من الدار، فما هي إلا أن تنزو بنفسي الخواطر المثيرة؛ إذ صورت لنفسي فلانا وقد قذف بي على الأرض قذف الغلام لنحلته، وراح يلهبني بعذابات سياطه حتى أدور ولا أكف عن الدوران لنفعه هو ولا عليه بعد ذلك أن أتعب وأدوخ ... إنني تلك النحلة الدائرة لمتعة اللاعبين، أضرب بالسياط لئلا أكف ... أطلقت خواطري متلاحقة سوداء قاتمة، كأنها أسراب الغربان تحوم في الهواء ... رأيت الناس معذبا بعضهم بعضا؛ كذب ونفاق هذا الذي يكتبونه في الكتب، ويعظون به في المحافل، من أن الإنسان يريد لنفسه ولغيره الراحة والخير ... وخطر لي خاطر عجيب، وهو أن أمزق كتبا عندي تمتلئ صفحاتها بمثل هذا الكذب ...

كان شعور الأحدب بالعزلة موحشا في كثير من الأحيان، حتى ليحس كأنما هو وحده مهما يكن حوله من كثافة الزحام، ومن يلحظ نفوره من الناس - ونفور الناس منه أحيانا تبعا لذلك - ثم من يتعقب كتاباته، يقع على إشارات كثيرة تشير إلى بعض الأسباب التي أدت به إلى ذلك، وهي أسباب يرجع بعضها إلى أيام الطفولة الباكرة، لكن بعضها الآخر يشير إلى أحداث وقعت له على امتداد سيرة حياته، وفيما يلي أسطر مقتبسة من مقالة كتبها، وأرسل نفسه فيها على سجيتها، وتتبع خواطره في مجرى شعوره الباطني كما وردت، لا يربطها إلا الروابط التي تصل الأجزاء المتتابعة في أحلام اليقظة، قال: ... لقد حز في نفسي أن يكلمني «ع» وهو يركب السيارة كأنما هو يخاطب حفنة من هواء ... لماذا لم أحسم الأمر حين ازورت بوجهها أول مرة؟ أقسمت لي أنها لا تضمر السوء، وصدقتها؛ كنت أخشى دائما أن أسيء إليها، فكيلت لي الإساءة لطمات بعد لطمات. كانت غاية في الرشاقة حينما رأيتها، لماذا خفق قلبي لها وما كان ينبغي له أن يفعل؟ يا بني لا تتحدث حديث القلب؛ فهذه لغة الشباب ولم تعد شابا، ألا ما أشد غرورها؛ ليتني أجد الشجاعة عندي فأسيء إلى من يسيئون إلي بمثل ما أساءوا ... كانت نغمة كلامها في التليفون أخاذة، لكنها إبليس في صورة البشر؛ إنها الشر كله في صورة إنسان؛ إني لأعجب كيف يكون هذا الشر كله في هذه الرقة كلها؛ آه لو رددت الإساءة بإساءة مثلها، إذن لما عانيت شيئا من لذع الضمير الذي يؤرقني ويعذبني؛ حسبوني أبله ساذجا، هم مخطئون، لئن أكن قد أمسكت عن الردود الصحيحة في المواقف المختلفة، فما ذاك إلا حياء، لم يكن بلاهة ولا سذاجة، إن الماضي لا يعود، وجرحك سيظل إلى موتك داميا ...

قلت لنفسي وأنا أقرأ للأحدب هذه المقالات: هذان - إذن - عاملان أثارا في المسكين كوامن نفسه، فألحقا به من الإحساس بالصغر ما كانت نشأته قد هيأت له الجو والتربة، فما على الظروف بعدئذ إلى أن تلقي ببذرة فتنمو في نفسه وتورق بين يوم وليلة، وهذه هي الظروف قد ألقت بذرتين لا بذرة واحدة، فلا أرباب القلم الذين قبلوه كاتبا قد أكرموه إنسانا، ولا هذه الفتاة التي يشير إليها والتي قد قبلته إنسانا قد قبلته رجلا ...

لقد راجعت بنفسي كثيرا جدا مما كتبه الأحدب، لعلي أقع على بينات تكشف عما يتعلق به اهتمامه ويحفزه ويثيره، وأحسب أن فكرة «العدل» ربما جاءت عنده في المقام الأول، أو قل إنه لا يسبقها في رأيه إلا «الحرية»؛ فهذا الرجل المنزوي في ركن معتم، والمنطوي على نفسه انطواء يوشك أن يغلق كل نافذة قد تصله بالضوء والهواء، يثور ثورة عارمة إذا ما مسه - أو مس أحدا يقع في دائرة اهتمامه - شيء من الغبن، كأنما هو يتوقع من البشر أن ينصبوا موازين لا يفلت من دقتها مثقال ذرة، ولما كان الإجحاف في حياتنا الجارية أمرا مألوفا وشائبا، حتى لتستطيع أن تعده جزءا من كياننا الاجتماعي؛ فالظالم لا يكاد يحس أنه ظالم، والمظلوم يعلم مقدما أنه سيصبح مظلوما بين كل عشية وضحاها؛ أقول: إنه لما كان هذا يشبه أن يكون جزءا من نسيج حياتنا، رأيت الأحدب يتعرض لانفعالاته الحادة كل يوم، ولا يعرف قلمه كيف يكتب إلا أن يكشف عن هذه الثقوب والعيوب التي لا تغمض العين لحظة إلا لتنفتح على ثقب هنا وعيب هناك.

على أن جانبا معينا من جوانب الظلم الذي يكتنف حياتنا، يشغل باله أكثر من سواه بدرجة ملحوظة، ألا وهو قسمة الحظوظ في دنيا المثقفين عندنا؛ فالمشهد كما يراه الأحدب هو أن الريادة الثقافية تتناسب تناسبا عكسيا مع الإنتاج الثقافي، فإذا كان الإنتاج صفرا عند زيد كان مرجحا أن يكون هو الكاهن الأعلى، وإذا كان الإنتاج متلاحقا وغزيرا عند عمرو، فالأغلب أن يوضع عمرو بين «الأنفار» و«الفعلة» يؤمر ولا يأمر؛ وبين تلك القمة الصفرية العليا، وهذه القاعدة السفلى من الفاعلين العاملين، يتدرج المثقفون درجات على الأساس السابق نفسه. وإني لأبيح لنفسي أن أضع بين يدي القارئ قطعة أدبية كتبها الأحدب في هذا المعنى، وعنوانها «قرصنة في بحر الثقافة» لأني أراها رائعة من روائعه:

لم أكد أصدق سمعي، حين أخذ صديقي عالم الآثار المصرية يقرأ لي نصا قديما من لفائفه البردية، كتبه كاتبه فيما يقرب من القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ليصف به حياة الثقافة والمثقفين في عصره، وصفا لو أزلت منه أسماء الأعلام ومعالم الأحداث، لتضع مكانها أسماء المعاصرين وأحداثهم، لظننته قد كتب عن عصرنا الراهن هذا بعلمائه وأدبائه، نعم، لم أكد أصدق سمعي؛ لأنني وقد كنت أعلم أن خصائص الشعوب تخترق حجاب الزمن، فتصل حاضر الشعب بماضيه، لم أكن أعلم، مع ذلك، أن هذه الخصائص العنيدة المكافحة في سبيل بقائها تمتد رقعتها وتتسع لتشمل صفات كنت أحسبها من التوافه التي تظهر وتختفي مرهونة بظروفها؛ فليس عجيبا أن يجيء الأحفاد أشباها لأجدادهم في احتفالات الميلاد وفي شعائر الموت؛ لأن هذه أمور موصولة بشرايين الحياة نفسها؛ أما أن يتشابه أولئك بهؤلاء في الطرق التي يتخاطف بها العلماء والأدباء ثمرات جهودهم، بحيث يكون الحاصدون أناسا غير الزارعين، فذلك حقا هو موضع العجب؛ لأنه من التوافه التي لم يكن ليجدر بالزمن الوقور الجليل أن يخطفها ويصونها لتنتقل على ظهور الأجيال من الجد إلى الحفيد.

وكاتب البردية التي أخذ صديقي عالم الآثار يفك لي رموزها، هو كاهن من معبد آمون في مدينة طيبة، والظاهر أنه كان ذا مكانة مرموقة بين كهنة المعبد؛ لأنه يتحدث حديث الواثق بنفسه، تسري في كلماته رنة العظماء حيث يتحدثون إلى من يصغرونهم منزلة وقدرا، اسمه - فيما أذكر - حريحور أو ما يجري مجرى هذا الاسم في الوزن والنغمة، وقد بدأ رسالته هذه بذكر المكان الذي خطها فيه، فإذا هو قد كتبها في مركب أقلع به من طيبة إلى مصر السفلى، إذ هو في طريقه إلى البحر الكبير، قاصدا إلى بيبلوس على الشاطئ اللبناني، في مهمة لم يفصح عنها.

أخذ الكاتب يدون تفصيلات من حياته اليومية: ماذا كان يأكل، وأين ترسو به السفينة، وكيف يعترك النوتية آنا ويسمرون في صفاء آنا، ثم انتقل إلى تسجيل ما أراد تسجيله ليروي لنا عن معركة كلامية دارت بينه وبين كاتب قليل الشأن. كان لا يزال من السلم الكهنوتي في أدنى درجاته، ومع ذلك اجترأ هذا الصغير على مجادلة حريحور الذي كان يعلوه في مراتب الكهنة بدرجات كثيرة.

ففي أمسية مقمرة من أماسي طيبة الجميلة في شهر يقع في مستهل الصيف. كان حريحور - وهو كاتب البردية يروي فيها عن نفسه - جالسا في بهو مكشوف من أبهاء المعبد، وإذا بشبح إنساني يقترب منه في سكون خاشع، حتى إذا ما واجهه استأذن في الجلوس لأن عنده أمرا يريد أن ينفضه عن نفسه ليستريح، وما هو إلا أن أشار له الكاهن الشيخ ليأذن بجلوسه، وينحني تجاهه انحناءة خفيفة ليسمع، فطفق الكاهن الشاب - ولم يذكر اسمه من أول البردية إلى آخرها، مكتفيا بالإشارة إليه إشارات لا تخلو من معاني التصغير والتحقير - طفق الكاهن الشاب، في لعثمة أول الأمر وفي طلاقة بعد ذلك؛ طفق يشكو من أن حريحور قد نسب إلى نفسه قصيدة من الشعر، وتلاها على ملأ من الناس وكأنها من صنعه، فلم يشأ الشاب - وهو ناظم القصيدة الأصيل - لم يشأ أن يعترضه أمام الناس، وها هو ذا قد جاء إليه ليطلب منه أن يصحح للناس هذا الخطأ، وهو خطأ لا بد أن يكون قد وقع سهوا من الكاهن العظيم.

ويروي لنا حريحور كيف صعق لهذه الجرأة النادرة من صغير مغمور يواجه بها عظيما مشهورا، وحاول أن يفهمه بأن الملكية في ثمار الفكر هي للجماعة لا للفرد، على أن يظفر بفوائدها أطول الناس ذراعا وأجهرهم صوتا وأرفعهم منبرا؛ فأقل شيء في مجال الفكر هو أن تخلق الفكرة وتبدعها، أما الأهمية كلها فإنما تكون لمن استطاع أن ينشرها ويذيعها، هب أنك يا بني قد تركت لقصيدتك، لا تجد اللسان البليغ الذي ينشدها، فما قيمتك عندئذ، وما قيمة قصيدتك هذه؟! وهنا أراد الكاهن الشاب أن يقول شيئا، لكن الكاهن العظيم قد ضاق به صدرا فنهره وطرده من المعبد.

ولقد بدأ حريحور في برديته بذكر هذه الحادثة، لا لأن لها عنده خطرا في ذاتها، بل ليستهل بها حديثا يريد أن يثبته، لعله يرسي به للأجيال القادمة أصولا ومبادئ تكون هي العماد كلما أشكل عليهم أمر في أخلاقية العلم والأدب.

ففي شريعتنا - هكذا كتب حريحور - لا تقتصر البلاغة على الكلام المنطوق، بل هي صفة تصف الصمت قبل أن تصف الكلام؛ فالصمت عندنا أبلغ وأفصح؛ لكن الصامت البليغ ليس هو كل صامت، وإلا لجاز أن نصف بالبلاغة جلاميد الصخر وصم الجبال، وإنما تكون البلاغة للصمت عند وجهاء القوم وعظمائهم دون السفلة منهم والسوقة والرعاع، فاظفر لنفسك أولا بمقعد كبير وثير، تحيط به الحاشية الخادمة المطيعة، قبل أن يحل لك أن تسلك في زمرة أصحاب الصمت البليغ، وينتج عن هذا المبدأ الأول مبدأ ثان، وهو أن الأديب لا يشترط فيه أن يقول أدبا أو أن يكتب أدبا؛ لأن شريعتنا تعطي الصدارة في دنيا الأدب لمن كسب لنفسه البلاغة الصامتة، فلا يسأل أديب عن أدبه إلا إذا كان أديبا ناشئا صغيرا؛ أما ذو الجاه العظيم؛ فهو أديب بسحنته وملامحه وطريقة قيامه وقعوده، وهاكم تاريخنا الأدبي كله شاهدا على صدق ما أزعم، فكلما علا الأديب وصعد قل إنتاجه، حتى إذا بلغ قمة المجد كان إنتاجه صفرا، وسر في هذا المنطق إلى نهايته، تجد أن العلو والصعود كعروش الأباطرة والملوك؛ قد تجيء أصحابها بالوراثة لا ببذل الجهود، فحين يكون الأديب - في ملتنا - أديبا أصيلا عريقا، نعفيه من قول الأدب وكتابته، فلغيره من الصغار العاملين أن يكتب وأن يقول، وله هو الريادة والقيادة؛ فأنى له بطول الزمن الذي يسع أن ينتج الأدب وأن يرود ويقود في آن معا؟ إنه إما هذه وإما تلك، ولا جمع بين الضدين في أمثال هذه الأمور.

إن هذا الكاهن الصغير حين اجترأ علي ببذاءته في سكون المعبد وجلاله، وقد فاته ما قد خطته الأقدار للناس من حظوظ؛ فللمرضي عليهم أن يعيشوا في رفعة ونعيم؛ وأما المغضوب عليهم فلزام أن يعملوا كادحين، وهذا مبدأ حكيم مهما اختلف مجال التطبيق، فإذا كان فلاح الأرض يزرعها وصاحب السيادة يأكل الزرع، فكذلك على صغار الناس في دنيا الفكر والأدب أن يكتبوا وينظموا، ليكون الحصاد من نصيب الكبار، تلك هي عدالة السماء التي لا تنحرف عن الجادة ولا تجور.

وهنا ينتقل حريحور ليضرب المثل بالتجارة والقرصنة، قائلا في يقين من لا تخالجه خلجة شك واحدة: إن التجار هم الذين يجوبون البحار بتجارتهم التي اشتروها بالمال، وأرادوا من ورائها الربح بالكد والكدح والعرق، لكن فوق هذه الطبقة طبقة أعلى وأرفع - إذا قيست الأوضاع بمقاييس السماء العادلة - وأعني فئة القراصنة، الذين لا يطلب منهم إلا شيء من مهارة وبراعة، فيعلمون كيف يباغتون وأين؛ لتكون ثروات التجار من نصيبهم هم حقا مشروعا حلالا، ويتعجب حريحور ممن يأنفون من تطبيق أصل القرصنة ومبادئها على دنيا الفكر والثقافة؛ فماذا يمنع أن تفكر أنت وأسعد أنا؟! ماذا يمنع أن تشقى أنت وأنعم أنا؟! ماذا يمنع أن تهيئ أنت الطعام لآكل آنا؟! تلك هي سنة الله في خلقه، لا فرق عندها بين زراعة وتجارة وثقافة؛ أليست الأرض مليئة بمن يعملون ولا يأكلون، وإلى جوارهم من يأكلون ولا يعملون؟! إذن فهذه قسمة واجبة معقولة، كائنا من كان العاملون والآكلون.

إلا أنها لبدعة وضلالة من هؤلاء الصغار أن يستنوا للأشياء طبائع غير ما أراد لها الله من طبائع، هي بدعة وضلالة ينبغي وأدها في مهدها قبل أن يستفحل أمرها، وتلك هي أن يظن الكاتب أو العالم أو الفنان أن ثمرة جهده عائدة عليه بجاه وسلطان! من هو الفنان الذي نحت في الجبل هيكلا وشاد فوق الأرض معبدا؟ من هو النحات الذي نحت التماثيل وأقام المسلات؟ من هو الكاتب الذي أنشأ كتاب الموتى؟ من هو العالم الذي حسب الحساب بأرقامه عندما شيد الهرم؟ هل سمع بأسمائهم أحد؟ لكن الأسماء المسموعة هي أسماء الملوك والأمراء الذين من أجلهم أقيمت الهياكل والمعابد، ونصبت المسلات، ونحتت التماثيل، فمن ذا الذي خدع ذلك الكاهن الشاعر، فأوهمه بأنه ما دام هو الذي نظم الشعر فمن حقه أن ينعم هو بالثمرة والعائد؟ إن قسمته في اللوح المحفوظ هي أن ينظم الشعر، وقسمتنا نحن القادة الرواد هي أن نوجهه كيف شئنا، وأن نضعه أين شئنا، وأن تكون القطوف نصيبنا؛ لقد خرجت الفراشة الجميلة المزهوة بألوانها وزخارفها من دودة حقيرة، فهل يحق لهذه الدودة أن تقاسم الفراشة زينتها وزخرفها؟!

إن هؤلاء العاملين الصغار عليهم تحميل السفن بأثقالها، ولنا نحن الكبار حق القرصنة لنأخذ الأحمال معبأة مجهزة، وبالقرصنة - لا بالتجارة - بنيت دول وأقيمت عروش، نحن الغزاة الفاتحون وهم الأسلاب؛ فهل سمعتم بغزاة يقاولون ويفاوضون ويقاسمون بالقسطاس؟ ألا ترون الغزاة ينقضون على الفرائس انقضاضا، فتكون لهم الغنيمة، وللفرائس الذل والهزيمة؟ إن ثمرات التين الناضجة لها الحلاوة كلها، صنعت لها ولم تصنعها لنفسها، صنعتها لها الجذور والجذوع والأوراق والفروع، فهل نقول في نهاية الأمر إنها حلاوة التين، أو ترانا ننسب الحلاوة إلى صانعيها؟ ألا فليعلم هؤلاء الصغار أن الكتاب يكتبون والملوك يوقعون، وتلك هي الحياة كما أراد الله أن تكون على الكوكب الأرضي، فعلى الناقمين الثائرين أن يرحلوا - إذا استطاعوا - إلى كوكب غير هذا الكوكب، ليلتمسوا لأنفسهم أوضاعا جديدة ترتب على أساس الجهد المبذول، لا على أساس الأبهة ذات الطنين.

لقد أكثرت من كلمة «الصغار»، وأخشى أن ينصرف اللفظ إلى صغار العمر، بحيث يظن أن القسمة في شريعتنا هي قسمة بين صغار الأعمار وكبارها؛ فقد أردت بالصغار صغار الوزن والحيز؛ إذ قد تكون صغير السن لكنك ذو حيز ضخم ووزن ثقيل، كما قد تكون كبير السن لكنك خفيف تافه ضئيل.

فلما بلغ صديقي عالم الآثار من برديته هذا المدى، وجدها مهرأة محترقة مطموسة المعالم بفعل الزمن، فأخذ يلفها بسبابتيه في رفق، إلى أن ظهر منها جزء آخر تسهل قراءته، فاستأنف القراءة، فإذا الكاتب قد دخل في روايات يرويها عن أشخاص عرفهم أو سمع عنهم، ليؤيد بأخبارهم صدق مبادئه؛ فكم من عامل مرهق ذهبت جهوده عرقا على جبينه وتيجانا على جباه الآخرين، وكم من رجل جاءه المجد منحة سماوية لم يبذل في سبيله ساعة من عمل.

أخذ حريحور في برديته يروي عن مجلس الكهنوت في مدينته طيبة، ويستعرض تواريخ أعضائه، ليطمئن إلى سلامة حكمه وسداد حكمته؛ فهذا عضو من أبرز أعضائه منزلة وأعلاهم مكانة، ماذا عنده إلا مقدرته الفائقة في اختيار أماكن الجلوس كلما أقيم للناس حفل في هيكل أو معبد؟! إنه يجيء إلى المكان مبكرا، ويقف عند الباب لحظة، يتلفت فيها يمنة ويسرة وإلى أمام ، وبحدسه الصادق يعرف أين مكان الكاهن الأعظم ليختار هو أقرب المقاعد إلى حضرته ونظرته، بحيث يصبح على يقين من أن نظرة واحدة من نظرات الكاهن الأعظم لن تضيع عليه سدى، وأن الكاهن الأعظم ليعجبه من رعيته مثل هذه البصيرة النافذة والاختيار المتروي، فهل يسعه عند تعيين الحاشية إلا أن يجعل صاحبنا هذا في مقدمة التابعين، فما إن يجلس على كرسي الحاشية حتى تخلع عليه أردية العلم والفقه؛ علم الدنيا وفقه الدين. وإن حريحور ليروي عن صاحبه هذا ليبين للناس صدق الحكمة القائلة: إن المرء حيث يضع نفسه؛ فضع نفسك على مقاعد الرئاسة تكن رئيسا، وعلى مقاعد العلماء تكن عليما، وعلى مقاعد الأدباء تكن أديبا، فهل شهدتم حقيقة أوضح من هذه الحقيقة وأجلى؟!

ولست أدري لماذا لم يذكر لنا حريحور اسم صاحبه ذاك، أو لعله قد ذكره في الجزء الذي أصابه الزمن بالطمس والمحو؛ وأقول ذلك لأنه انتقل في حديثه إلى الرواية عن عضو آخر في مجلس الكهنوت، قال إن اسمه أميناتون، سلك طريقه إلى المجلس عن طريق المريدين والأتباع؛ فالطريقة هنا هي عكس الطريقة الأولى. كانت الطريقة الأولى هي أن تختار لنفسك أن تكون تابعا، وكل ما في الأمر أن تحسن اختيار الرائد المتبوع؛ أما هذه الطريقة الثانية فهي أن تختار لنفسك أن تكون رائدا متبوعا، ثم تعرف كيف تجمع حولك الأتباع؛ لأنه إذا كثر الأتباع وازدحموا وملئوا الهواء بضجيجهم. كانت الحصيلة المؤكدة المحتومة، هي أن يقول الكاهن الأعظم لنفسه: إن لهذا الرجل لقدرا عظيما في دنيا الفكر والأدب والعلم والفن، فهاتوه في مجلسنا عضوا ليشرف المجلس بوجوده.

وينتقل الراوية إلى عضو ثالث، يقول: إن اسمه حبحوت، قد سلك إلى المجلس طريقا ثالثا؛ فلا هو اتبع أحدا ولا استتبع أحدا، إنما طريقته أشبه ما تكون بعالم السيمياء الذي يحيل الناس ذهبا؛ فلا تدري كيف يغري صغار الكتاب بأن يقدموا إليه أعمالهم ليهديهم في أمرها سبيل الصواب، فتقع عيناه الماهرتان المدربتان على ما يصلح من هذه الأعمال للصهر في معمله، فتراه يخفيها عن أصحابها في جب معتم، ويماطل أصحابها ويماطل، ثم يفعل النسيان فعله، فإذا هو يخرجها من محابسها لينشرها في الناس ملكا له حلالا، ولست أرى في ذلك شيئا من الظلم على أحد؛ لأن العبرة بمن استطاع أن يطالع الناس في نور الشمس، لا بمن أخفى عمله في ستر الظلام.

وعلى ذكر الظلام وستره نقول: إن القراصنة لم يكونوا دائما ممن يباغتون السفن في وضح النهار، بل منهم - ولعل هؤلاء أعتاهم - من يفضلون التسلل إلى مدن الشواطئ في عتمة الليل، ينهبون ويأسرون، ويخرجون بالغنائم والسبايا، وما يزال الليل «منشور الذوائب»، وعندنا في مدينة طيبة، ومن أعضاء مجلس الكهنوت أنفسهم، قراصنة الليل وقراصنة النهار، كل في مجال تخصصه يجول ويصول.

ويمضي حريحور في برديته مصورا لنماذج القراصنة في بحر الثقافة على عهده، فيلفت أنظارنا إلى قرصان يأبى عليه ضميره الحي أن يبقي السلعة المنهوبة على شكلها؛ لأنه يرى في ذلك خروجا على مبادئ الأخلاق، فتراه يعمد إلى تشويهها لتختفي ملامحها، كلها أو بعضها، لعل ذلك أن يكون له شفيعا. وأعسر مشكلة تصادف هذه الطائفة المهذبة من القراصنة، أن السلعة المنهوبة المراد تغييرها، كثيرا ما تكون مفرطة في حيويتها، حتى لتراها كلما مسها إزميل التشويه، اختلجت يد القرصان العامل فيها بإزميله، وطفقت تنتفض هنا وتتلوى هناك، حتى يتركها قرصانها وعلى جسدها ملامحها الأولى، يعرفها بها أصدقاؤها القدامى إذا ما صادفتهم في بعض الطريق.

على أن أبرع القراصنة جميعا في دنيا الفكر والأدب، جماعة شأنها عجب من عجب؛ لأن الواحد منها لا يجاهد ولا يسعى، إن له طريقة عجيبة في اصطناع السحنة التي تشع هيبة ووقارا؛ إنه لا يمالئ أحدا ولا يدع أحدا يمالئه؛ إنه لا ينهب شيئا من بر أو من بحر؛ إنه في جلسته الوقورة الهادئة، أو في مشيته البطيئة الثابتة، أو في نبرات حديثه الواضحة المتأنية، يجذب الأضواء ويعكسها رائعة وضاحة، كما يتلقى القمر ضوء الشمس فيعكسه، فيروع الناس بجماله، هل يجوز لأحد أن ينكر على القمر روعة ضيائه لكون هذا الضياء منعكسا على سطحه الظاهر، وليس منبثقا من فطرته وطويته! كذلك قل في هذا النوع الجليل من قراصنة الفكر والأدب؛ لا يجرؤ مجترئ أن يسأل عنهم ماذا قدمت للناس رءوسهم وبأي شيء جرت أقلامهم، وإذا سأل سائل مثل هذا السؤال عن أحدهم. كان هو الحقيق عند القوم باللعنة، وإن هذه الطائفة من القراصنة غالبا ما تكون لهم الريادة والقيادة، مؤهلهم الوقار الجاد، وشهادتهم الرصانة الرزينة؛ ولا عجب - إذن - أن يكون معظم أعضاء المجلس الكهنوتي في طيبة من هذا الصنف النفيس.

ومرة أخرى بلغ صديقي عالم الآثار من برديته موضعا نال منه الزمن بالبلى، فهتكت فيه الأسطر ومحيت الكلمات، فنظر إلي صديقي ونظرت إليه، وتوقع كل منا أن يسمع من زميله شيئا، ودام هذا الصمت المتعجب لحظة، لفظت أنا بعدها زفرة المبهوت لما سمع، فسألني صديقي: ماذا ترى؟ فقلت: ما أراك إلا رامزا أوضح الرمز بماض غابر إلى حاضر مشهود.

لم يكن الثلاثة - الأحدب وإبراهيم وأنا - إخوة ولا أولاد عم وخال؛ فليس بين أي منهم والصنوين الآخرين من التشابه بقدر ما بينه وبينهما من الاختلاف، ولكنهم برغم ذلك - كما أسلفت القول عنهم مرارا - متواصلون مترابطون على نحو حيوي عجيب، فقل إن شئت إنه نوع من التكامل، بحيث تتألف من ثلاثتهم وحدة واحدة كان يمكن أن تتوافر للفرد الواحد لو أنه جاء فردا متزن الفطرة والسلوك؛ فالأحدب هو «الطبيعة» أو هو «الحيوان» من الكيان البشري، هو الجهاز الفطري من الإنسان، الذي لولاه لما وجد الأساس الذي يقام عليه الإنسان بعد تحضر وتهذيب؛ ومن هنا جاءت قوته وكان ضعفه في آن معا؛ فيه قوة الطبيعة وفيه ضعف البدائية، إنه كائن منفعل أكثر منه كائنا مفكرا؛ وأما إبراهيم فهو العقل الدارس الذي لا يكاد يتميز بخاصة تجعل منه إنسانا بغير شبيه؛ لأن كل عقل دارس هو ككل عقل دارس، ما دام موضوع الدراسة معينا محددا، حتى لو كان لإبراهيم رأيه الخاص في مجال دراسته؛ فهي خصوصية كان يمكن أن يتميز بها رجل من الهند أو رجل من البرازيل؛ لأنها ليست هي الخصوصية التي تنبع من الروح وهو مرسل على سجيته؛ ولذلك فلا يحدث قط أن يكون إبراهيم هذا أو من يماثلونه من سائر البشر الدارسين دراسة علمية موضوعية، موضعا لحب الآخرين أو موضعا لسخطهم؛ فقد يوافق الآخرون على موقفه العلمي وقد لا يوافقون، لكن الأمر على كلتا الحالتين لا يقتضي حبا أو كراهية، ولا كذلك الأحدب ومن يماثلونه ممن يحبون حياة العاطفة، فها هنا تكون الخصوصية المميزة حقا، وها هنا يقف الآخرون من صاحب تلك العاطفة وميولها، مواقف الحب والكراهية، والرضا والسخط، والطمأنينة والغضب.

وأما أنا - فوزي الراوي - فأتميز دون الآخرين بسهولة الانخراط في قوالب المجتمع بكل ما فيه من عرف وتقليد ومجاملة وصداقة زواج ومواطنة وانتماء؛ فقد يكون لدي شيء من عاطفة الأحدب، دون أن تفصل تلك العاطفة بيني وبين سائر الناس، كما قد يكون لدي شيء من عقلانية إبراهيم، ولكنها عقلانية لا ينشأ عنها اعتزال وانفراد.

لم تكن هذه الفواصل بين ثلاثتنا واضحة عندما كنا صغارا، وهذا القول هو من قبيل الافتراض المحض؛ لأننا لم نستطع أن نعود بذاكرتنا إلى قيام علاقة بيننا ونحن في سن الطفولة، بل إنها علاقة لم نستطع تبينها في مرحلة المراهقة وأول الشباب، ويبدو أنها فواصل أخذت في النشأة والظهور منذ بدأنا التعرف بعضنا على بعض، وهي الفترة التي بدأنا فيها حياتنا العملية، وبلغت أوضح حالاتها منذ ظهر الأحدب كاتبا، وسافر إبراهيم في بعثته الدراسية.

كان يسيرا علي أن أكون الصداقة مع من يتجانسون معي في ناحية أو أخرى من نواحي الحياة؛ ولقد مررت خلال حياتي الناضجة بمجموعتين من الأصدقاء. كانت الأولى مكونة من زملاء الدراسة، وجاءت الثانية بعد ذلك بنحو عشرين عاما، ويربط بين أفرادها نوع من التقارب الفكري، كنت بين المجموعة الأولى أسعد نفسا مني بين المجموعة الثانية. كانت الأولى من ذلك النوع الذي يقال عنه حقا إن الصديق الحق يوسع من رحابة النفس؛ لأن الصديق فيها كأنما يضيف إلى نفسه نفوس سائر الأصدقاء ؛ إذ لا تكون بينهم الحواجز التي تحول دون أن ينفض كل منهم دخيلة نفسه بغير حذر أو حرج؛ وأما المجموعة الثانية فكانت بين الأفراد حواجز وسدود. كان بين أفراد المجموعة الأولى تنافس الأنداد؛ وأما بين أفراد المجموعة الثانية فكان فيها التعالي والتفاخر والحذر والكتمان.

وربما وضح الفرق بين المجموعتين إذا قلت عن الأولى إن رجلا في حرارة الأحدب كان يمكن أن ينخرط فيها؛ أما إبراهيم فلا أتخيله مقيما على رابطة تربطه بها زمنا طويلا، على حين أن إبراهيم هذا ببرودة عقلانية كان يمكن أن ينخرط في المجموعة الثانية في غير عسر؛ لأن الانفصال عنها يتم كذلك في غير عسر؛ لأن الروابط ليست قلبية بين أعضائها؛ وأما الأحدب فما كان يطيق مع المجموعة الثانية جلسة أو جلستين؛ لكنني كنت بحكم تكويني الذي أشرت إليه أن أكون عضوا في الجماعتين على حد سواء.

ولقد ظهر الفارق بيني وبين الصنوين الآخرين بصورة أجلى في الزواج؛ أما الأحدب فقد جمد عند حبه لسميرة التي أشعلت في قلبه الجذوة عندما كان في مرحلة المراهقة، وكان كلاهما - سميرة والأحدب - في تلك المرحلة من العمر على سذاجة ريفية أو ما يشبهها؛ أما هي فقد عاشت بقية عمرها على تلك البساطة الأولى، لم تدعها ظروف حياتها إلى أن تغير منها شيئا؛ وأما هو فقد ارتفع درجات في السلم الثقافي، ولكنه بالنسبة إلى الجنس الآخر ظل على بساطة الفطرة التي كان عليها عندما أشعلت له سميرة النار.

وأما إبراهيم فليس له قلب يسيره، ولست أدري من أمر زواجه شيئا، ولكنني على يقين من الطريقة التي يواجه بها شئون الحياة كافة - جنسا وغير جنس - فهو إذا ما أراد امرأة تشاركه الطريق، لجأ إلى عقله ليصور له تركيبة ذهنية لامرأة قد لا يكون لها وجود، وعاش مع ذلك الوهم الذهني؛ إنه رجل بضاعته أفكار وتصورات يراعي في تكوينها ما يظن أنه الكمال، ثم يقنع من دنياه بهذا القدر.

وأما أنا فقد أنعم الله علي بكثير جدا من نعم الدنيا ، وكان أجلها زوجة ربط بيني وبينها كل الروابط التي تربط رجلا وامرأة على حب ورحمة ومودة؛ فقد وجدت معها نفسي بكل حروفها، من الألف إلى الياء؛ إذا كنت في إحدى لحظات العقل وجدت معي عقلا يشارك؛ وإذا كنت في نشوة من شعر قرأته أو قطعة فنية شهدتها، وجدت ذوقا فنيا يستجيب؛ وإذا غمرتني موجة من شئون الحياة العملية، وجدت من يحمل معي العبء، أو يحمل عني معظم العبء؛ وإذا أخذني غرور بموقف وقفته أو بشيء كتبته، وجدت من يشبع في نفسي الضعيفة أوهام الغرور؛ إنها تستطيع أن تكون لي مجتمعا بأسره.

وبهذا التكامل النادر بين شخوصنا الثلاثة، اكتملت «نفس» فروى الراوي «قصتها» مجتزئا من بحر الأحداث في حياتها بما يقدم للرائي صورة أو ما يشبه الصورة.

الفصل التاسع

شفق الغروب

كنا نحن الثلاثة الرفقاء؛ أنا (فوزي الراوي) والأحدب (رياض عطا) وإبراهيم الخولي، متقاربين في العمر، فلم يكن الذي يفرق بيننا هو التفاوت في عدد السنين، بل كان اختلافنا في الطبائع؛ أما أنا فقد كنت دونهما معا، أسلك نفسي في قوالب المجتمع بمعظم تقاليده وأعرافه؛ ولذلك كنت أكثر منهما هدوء نفس وراحة بال؛ وأما رياض عطا (الأحدب) باشتعال عواطفه، وإبراهيم الخولي ببرودة عقلانيته، فقد كانا على طرفي نقيض أحدهما من الآخر، ولكنهما كانا معا ينبوان عما يرضى عنه جمهور الناس.

لم نكد نحن الثلاثة نعبر الستين من أعمارنا، حتى حدث اختلاف ظاهر في الصورة التي كانت تجمعنا معا قبل ذلك في ثالوث واحد؛ وبيان ذلك أني جمدت على الطريق أسلك في حياتي العملية على نحو ما تسلك الكثرة الغالبة من الناس، داخل البيت وخارج البيت، وفي حدود أسرتي وخارج تلك الحدود؛ وأما زميلاي الآخران، فالأمر معهما مختلف عن ذلك اختلافا بعيدا، وكأني بهما - وا عجباه - يقتربان أحدهما من الآخر، اقترابا أشك أن يكون دمجا لهما معا في هوية واحدة، بعد أن كانا مختلفين اختلاف العاطفة الساخنة والعقل المثلوج؛ وكيف كان ذلك؟ لقد عهدت كلا منهما كاتبا؛ فأما الأحدب فقد عهدته يكتب وكأنه ينفث اللهيب من قلمه؛ وأما إبراهيم فعرفته باسطا لأفكار العقل بمنطق خالص، فلما أدفأته حرارة الوجدان؛ وأما بعد أن بلغا من العمر ما بلغا، فقد صار الأحدب أقل عاطفة وأكثر منطقا، كما صار إبراهيم أقل منطقا وأكثر عاطفة، فتشابه الكاتبان حتى كدت لا أميز بينهما؛ فأقرأ المقالة أو الكتاب لأحدهما فأظنه للآخر، إلا أن أرجع ببصري إلى اسم الكاتب فأعرف لأيهما أقرأ، ولهذا فإني في روايتي هذه عنهما في هذا الفصل الأخير، سأتجاهل أنهما اثنان، وسأتحدث عنهما وكأنهما رجل واحد امتزجت على قلمه العاطفة والفكرة في كيان واحد.

ولكل سيرة نقطة ابتداء، ونقطة البدء في سيرة صاحبنا الجديد - ولنطلق عليه اسم إبراهيم الأحدب إذا شئنا - كانت هي اللحظة التي روى لي عنها إبراهيم عندما كان يلقي على طلابه محاضرة. كان يعلم - وطلابه لا يعلمون - أنها هي المحاضرة الأخيرة في حياته العاملة بالجامعة. كان ذلك في الأيام الأولى من شهر مايو، الذي لم يعد بعده إلا شهر واحد، ثم يحذف اسمه من قائمة هيئة التدريس لبلوغه سن التقاعد، كما جرى العرف أن يسموه. كان إبراهيم في تلك المحاضرة الأخيرة أشبه بالروائي جيمس جويس وهو يكتب رواية يوليسيز، فينظر إلى ما يدور حوله مرة، ويغوص إلى باطن نفسه مرة، حتى اختلط الأمر بين ظاهر وباطن، فهكذا كان إبراهيم عندئذ، يحصر ذهنه في الفكرة التي يعرضها على الطلاب حتى لا يلتاث معه القول وتضطرب العبارة، لكنه لم يستطع برغم ذلك إلا أن يغوص داخل نفسه ليحس الرجفة الخفية التي كانت تسري بين أوصاله، لعلمه بأنه قد أشرف بحياته النشيطة العاملة على نهايتها، وكأنه كان لا يصدق أن ستين عاما من عمره قد انقضت.

نعم إن الجامعة قد سارعت - مشكورة - فأرسلت إليه مع الخطاب الذي تعلنه فيه بانقضاء عهدها معه أستاذا في قائمة الأساتذة، خطابا آخر تنبه فيه بأنها تحرص على بقائه في ساحتها؛ ولذلك فقد عينته أستاذا غير متفرع، لكن هذه الرابطة بكل ما فيها من خير لم تعد هي الرابطة التي كانت؛ فلقد أراد إبراهيم ذات يوم أن يسترد من الجامعة شهادة الدكتوراه لأنها كانت مطلوبة في ظرف ما، فأحالوه إلى مخزن بإدارة الجامعة خزنت فيه ملفات العاملين، وهناك طلب من الموظف المسئول استرداد تلك الوثيقة مؤقتا، فما كان من الموظف إلا أن جاء له بملف أوراقه، وفتحه أمامه وقال: خذ من أوراقك ما شئت، خذها كلها إذا أردت، فلم يعد بين الجامعة وبينك من صلة؛ لم تعد أوراقك هذه مطلوبة لنا، اللهم إلا ورقة واحدة، هي شهادة الميلاد، وقد أخذناها بالفعل وأرسلناها إلى حيث ينبغي لها أن ترسل.

لم يقل الموظف فيما قال كلمة باطل؛ كل ما قاله حق، لكنه حق وقع على قلب إبراهيم وقع الحناجر، لماذا؟ ألم يكن إبراهيم هذا مفتونا بمنطق العقل، لا يبتغي لنفسه وللناس إلا كلمة حق يقرها عقل لم تضعفه عاطفة؟ فما الذي هزه وقلب كيانه من قولة حق؟! إنه إذن لم يعد هو إبراهيم الذي عهدته قبل ذلك وعهده الناس، وفلا بد أن يكون قد تقمص شخصية الأحدب، فامتزجت في إهابه عاطفة بعقل، وعقل بعاطفة. •••

كان ذلك هو غروب العمر قد حانت ساعته ولاحت بوادره، لكن صاحبنا إبراهيم قد أخطا الحساب؛ فلئن كان ذلك غروبا؛ فهو إذن غروب قد طالت ساعته وكأنه الغروب لمن يسكن منطقة القطب في فصل الصيف، وإلا فهل علم إبراهيم عندما حذف اسمه من قائمة الأساتذة العاملين، أن ما يقرب من عشرين عاما سيحياها بعد ذلك أنشط ذهنا وأخصب إنتاجا، وأكثر إبداعا للفكر الأصيل المبتكر مما كان في أي مرحلة من مراحل عمره؟ لكن ذلك هو الواقع الذي كان، فكأنما سنة التقاعد - كما يسمونه - هي بذاتها سنة مولد جديد، أو قل إن الشجرة التي دفنت بذرتها في الأرض ولبثت تنمو بجذعها وفروعها عقودا متوالية من السنين، قد حان لها أن تخرج ثمارها وأزهارها.

فمن لحظة الموت - أو ما ظنه إبراهيم يومئذ إيذانا بموت وشيك - جاء بعث جديد؛ وذلك أن عرضت عليه وزارة الثقافة بمصر أن ينشئ لها مجلة للفكر ، وأن يتولى رئاسة تحريرها، فاختار للمجلة أن تختص بأفكار عصرنا الذي يقلنا على أرضه بكل ما تنفجر به من قنابل، ويظلنا تحت سمائه بكل ما تنزله علينا تلك السماء من سهام الدمار؛ لكنه عصرنا، ويستحق منا أن نحيا به وفيه، ليحيا هو بدوره بنا وفينا. وعلى بركة الله وبمشيئته صدرت المجلة تحمل في كل عدد من أعدادها صوتا مسموعا لصاحبنا إبراهيم في إهابه الجديد، ينادي في الناس بألا يكون الفيصل في الفكر إلا النضج والعمق والصدق، ولنترك سوانا من عباد الساسة ليمرحوا في العراك بين يمين ويسار.

وأمسك إبراهيم بزمام سفينته الفكرية تلك يسير بها لترسو هنا أو هناك حيث الكنوز، وفجأة وقعت على سفينته صاعقة من الصواعق التي نألفها في حياتنا المصرية؛ وذلك أن جاء في وزارة الثقافة مسئول، أبى إلا أن يحول شئون الفكر إلى إدارات ومديرين، فقال: لنجعل لمجلات الوزارة «إدارة» ولنجعل لكل مجلة «لجنة» تشرف عليها. فها هنا هاج «الأحدب» الذي كمن في صدر إبراهيم، وسأل: إذا كان الأمر كذلك ففيم اختياري رئيسا للتحرير؟! ولماذا لا أترك مقعدي لأصغر طالب من طلابي؟! لقد كانت المسألة عنده قبل ذلك «رسالة» يريد أداءها، فهل يرضى أن تصبح على يديه أوامر تهبط عليه من مديرين، وتشرف لجنة على حسن التنفيذ؟! اللهم لا. وأرسل إبراهيم برقية في صباح اليوم التالي، وكأنما الأحدب هو الذي أملى عليه عبارتها، يتنحى بها عن المضي في الطريق التي رسمت له، لكن المسئول الكبير نفسه الذي خطط الطريق، هو الذي اتصل بإبراهيم ليؤكد له أنها «شكليات» لا تعنيه، فاستأنف إبراهيم سيره على دربه، ولكن في كثير من وساوس القلق.

ففي ذلك الوقت نفسه الذي وجد شخصيته فيه مشدودة بين قطبين متناقضين، قطب فيهما هو شعور إبراهيم باحترامه لنفسه ووثوقه بأنه إنما يضطلع نحو أمته برسالة ثقافية، مؤداها أن يترك للعقل - وللعلم بالتالي - أن يحتل مكانه ومكانته في حياتنا العامية، وأن ينحصر الوجدان في دائرته الخاصة به، والتي يسترشد فيها الإنسان بقلبه المؤمن العاطف الشاعر؛ أقول : إن صاحبنا إبراهيم، الذي امتص في كيانه عندئذ بعدا انفعاليا من رفيقه الأحدب حتى كاد الرجلان أن يندمجا في هوية واحدة؛ إن إبراهيم هذا قد ارتج بنيانه ارتجاجا عنيفا، عندما ظن واهما أنه صاحب رسالة ثقافية، فإذا الكلمات تأتيه من أولي الأمر في وزارة الثقافة لتشعره بأنه بمثابة «موظف» كلفته الوزارة بمهمة يؤديها؛ ولذلك فقد عينت «مديرا» «لإدارة» المجلات (!) ليكون له التوجيه، كما عينت «لجنة» ليكون لها الإشراف، ويشاء الله في اللحظة نفسها أن يحدث حادث آخر من شأنه أيضا أن يرد صاحبنا إبراهيم الأحدب (وهو الاسم الذي أطلقته على شخصية إبراهيم الجديدة) إلى صوابه إن كانت أوهامه قد طارت بصوابه في عالم الضباب والسحاب، وهو أن صاحبنا كان عضوا في لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (كما كان يسمى في ذلك الحين)، لكنه كان دون سائر الأعضاء كثيرا جدا ما يطلب منه في شيء من الرجاء، أن يكتب - نيابة عن المجلس - موضوعات تقدم في مناسبات مختلفة كالمؤتمرات الثقافية وما إليها؛ مما أوحى إلى صاحبنا أنه موضع تقدير خاص، وإذا به يباغت بموقف أو موقفين عرف منهما كم هو قليل الشأن عندهم في اللحظات الحاسمة، فانفعل انفعالة أحدبية وأرسل إلى الأمين العام للمجلس استقالته من اللجان التي كان عضوا فيها؛ فما أسرع - وا دهشتاه - أن أجابه الأمين العام بقبول استقالته، فلو كان إبراهيم الخولي هو نفسه إبراهيم الخولي الذي عهدته طوال السنين ملتزما أحكام العقل وحده، لما حزن واضطرب؛ لأنه قدم استقالته فقبلت الاستقالة، فأي غرابة في ذلك؟! لكنه كان قد أصبح شخصا جديدا باندماجه في الأحدب أو اندماج الأحدب فيه، وبات العقل عنده مبطنا بعاطفة، نعم؛ فلقد حزن إبراهيم واضطرب، قائلا لنفسه: إنه لو كان في منزل الأمين العام طاه طها له الطعام لعشر سنوات كالسنوات العشر التي كنت قضيتها عضوا في لجان المجلس، ثم قدم له الطاهي استقالة مفاجئة، لسأله: ما الذي أغضبك يا عم إبراهيم؟ محاولا بذلك أن يرأب الصدع إذا كان ثمة من صدع في العلاقة بينهما؛ أما إبراهيم الأستاذ الجامعي والكاتب وعضو اللجان الثقافية، فلا بأس في أن يستقيل في أي لحظة شاء.

فلا غرابة - إذن - أن تمتلئ نفس إبراهيم الأحدب بوساوس القلق، وكان مما ذكره لي إبراهيم بعد ذلك بنحو شهر، أن وزير الثقافة يومئذ دعاه لمقابلته، فلما تم اللقاء، بدأ الوزير بعتابه لأن إبراهيم لم يزره بمناسبة توليه منصب الوزارة، فأجابه إبراهيم معتذرا بأنه يعتقد أن الصواب هو أن ينصرف كل إلى عمله، فقال الوزير ما معناه: دعنا من ذلك، لقد بلغني أنك استقلت من لجان المجلس الأعلى، فلماذا؟ قال إبراهيم: اسمح لي يا سيادة الوزير بعشر دقائق أنفض فيها شيئا مما بنفسي من عوامل القلق، ولن أزيد عليها دقيقة واحدة؛ إنني أستاذ جامعي بلغ سن التقاعد، وأصبحت العلاقة بينه وبين الجامعة هي علاقة الأستاذ غير المتفرغ، وأريد بذلك أن أقول إنه لم يعد لي مستقبل أرجوه؛ لأن مستقبلي هو هذا الذي أعيشه الآن؛ ومعنى هذا هو أنني بما سوف أقوله من ملاحظات لا أبتغي لنفسي نفعا ولا أدفع عن نفسي ضرا، إنني أنظر في كل عام إلى الفئة القليلة من طلابي الذين ألمح فيهم الرغبة والقدرة على خوض الحياة الفكرية والثقافية العامة، لكنني أتساءل: ماذا يا ترى هم فاعلون برغباتهم تلك وقدراتهم؟ إنه من الطبيعي لهم أن يديروا أبصارهم ليروا من الذين يحبسون في مقاعد الإمارة والإدارة والصدارة في تلك الحياة العامة؟ لعلهم يترسمون خطوهم فيصعدون كما صعد أولئك الأفذاذ؛ وإذا هم يرون عددا ليس بالقليل من أمراء الحياة الفكرية والثقافية قد بلغوا عروش الإمارة بغير كتاب - ولا حتى ورقة واحدة - بيمينهم أو بيسارهم، فكيف - إذن - أجيز لهم الصعود بغير جواز للمرور؟ يسأل شبابنا الواعد سؤالا كهذا، وسرعان ما ينكشف لهم الغطاء عن حقيقة رهيبة، وهي أن بلوغ القمم في دنيا الفكر والثقافة عندنا، ليس شرطه الصعود على سلم الفكر والثقافة درجة درجة، بل وسيلته الأولى هي الطيران على رءوس تلك الدرجات بمعونة من صاحب السلطان، وما دام الأمر كذلك - هكذا أتصور شبابنا الواعد يهمس لنفسه كل عام - فهيا إلى البحث عن أصحاب السلطان، وإلى الجحيم بالدفاتر والمحابر ...

كان إبراهيم الأحدب في مثل هذه الحالة القلقة المتوترة، فسافر إلى الإسكندرية لعل هموم نفسه أن تنزاح بسحر البحر وهدير موجه، وكان الوقت هو الأيام الأخيرة من العام، وكانت المصادفة اللافتة للأنظار هي أن رأس السنة الهجرية الجديدة ورأس السنة الميلادية سيلتقيان معا في يوم واحد، ثم كانت إرادة الله سبحانه وتعالى هي أن ترد إلي رسالة من إحدى الجامعات العربية تدعوني إلى التعاقد معها على العمل أستاذا للفلسفة، فلم أتردد لحظة واحدة، وأسرعت على جناح البرق لأجيب بالقبول؛ وبهذا أجد الفرصة التي أنجو بنفسي فيها من الأزمة النفسية التي أوقعني فيها الأمين العام للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ومن التوتر العصبي الذي أصابني عندما أراد المسئولون في وزارة الثقافة بأن يوحوا إلي بأنني لا صاحب رسالة ثقافية ولا يحزنون، وإنما أنا عامل بالأجر القليل، يدار له أمره ويشرف الرؤساء على شئونه.

وما إن أرسلت برقيتي تلك وعدت إلى الفندق الذي أقيم فيه - هكذا روى لي إبراهيم عن تلك الفترة من حياته - حتى خطرت في رأسي خاطرة كانت كأنها لمعة من لمعات الإلهام، وهي أن التقاء السنة الهجرية الجديدة والسنة الميلادية الجديدة في رأس واحد إنما هو رمز أقرأ فيه توجيها لما ينبغي أن أنصرف إلى عمله عندما يستقر لي المقام في ذلك البلد العربي الذي دعاني، وما ذلك العمل إلا أن أبدأ لنفسي في موقف ثقافي جديد، أحاول فيه أن أجمع عنصرين معا في نسيج واحد، موروث الثقافة العربية وحصيلتي من ثقافة الغرب، فأكون بهذا الجمع عربيا ومعاصرا في آن معا. •••

كان إبراهيم الخولي أول ما عرفته - وقد كان ذلك وهو في أخريات شبابه؛ أعني حين كان في نحو الأربعين من عمره - أميل إلى التجريد في فكره؛ بمعنى ألا يصب فكره المنطقي الصارم على مشكلات حقيقية مما يعترض الناس في حياتهم؛ ولذلك فكثيرا ما وصفه الواصفون بالصورية التي لا تنفع الناس ولا تشفع له. ولعل تلك الصورية البادية في نهجه الفكري عندئذ قد جاءت من حرصه على منطقية الفكر حتى يصبح وكأنه معادلات رياضية؛ ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى فلعل تلك الصورية قد أحدثتها عنده بعده عن الناس وهم في معمعان العيش ومشكلاته، وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة إلى إبراهيم وهو في الأربعين أو نحوها؛ فليس هو كذلك حين رأيته وصاحبته على مقربة بعد أن اقترب من الستين أو جاوزها؛ فها هنا لا بد أن تكون وجدانية الأحدب قد نضجت على النزعة العقلية عند إبراهيم، حتى لقد كاد يصبح رجلا آخر، لا من حيث منطقية الفكر كلما اقتضى الأمر المطروح منطقا، بل من حيث اختيار الموضوعات التي يجعلها محور تفكيره؛ فموضوعاته عندئذ تدور في معظمها حول إنسانية الإنسان، والإنسان العربي بصفة خاصة، والمصري منه بصفة أخص. وإذا كان موضوع النظر هو قيم الحياة كما يعيشها الناس فعلا - فيما مضى والآن - فصعب جدا أن يجيء التفكير صوريا خاويا - أو كالخاوي - من المضمون الحيوي بخصائصه المتينة المتجسدة في مواقف الواقع.

نعم، لا بد أن يكون للأحدب على إبراهيم فضل غير قليل، في أن جعل عصارة الحياة تسري في أعواد الحطب فتينع وتحضر وتورق وتثمر.

كان إبراهيم الخولي في مرحلته الإنتاجية الأولى، بل إلى أن بلغ من العمر خمسين عاما، لا ينزل قيد أنملة عن التمسك بالفكرة القائلة بضرورة محاكاتنا للغرب في كل شيء، لا فرق في ذلك بين صغيرة من الأمور وكبيرة، وحبذا لو أكلنا كما يأكلون، وارتدينا الثياب كما يرتدون، وكتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، ودع عنك أن نجعل وجهة نظرنا علمية المنهج ملتزمة لحقائق الواقع الصلب كما يجعلون، ولم يكن إبراهيم الخولي حتى ذلك العهد من حياته يطيق الإشارة إلى العرب وتراثهم، وكان منطقه في ذلك بسيطا واضحا؛ فالغرب قوي ثري واع بصير، فلماذا لا أسلك كما يسلك لأحقق ما حققه؟

ولكن أين تذهب الجوانب الوجدانية من هويتي؟ وبأي معنى يحق لي عندئذ أن أحب وطني وأهلي ولغتي ، وأن أتغنى بمجدي وتاريخي؟ ربما لو سئل إبراهيم الخولي يومئذ هذه الأسئلة، لأجاب - وأظنه قد سئل أكثر من مرة، وكان في كل مرة يجيب - قائلا: ليست حضارة الغرب مقتصرة على أمة واحدة، بل إن فيها الإنجليزي والفرنسي والإيطالي؛ وكل من هؤلاء يعرف كيف يعيش حضارة العصر مضافا إليها تلك النبرات الوجدانية بأرضه هو وأهله وتاريخه، فلماذا لا ينطبق ذلك نفسه على المصري (وكان إبراهيم حتى ذلك الحين لا يتحدث عن «العربي») فيحيا في مناخ عصره، ويتغنى كما شاء بمصر وأهلها وتاريخها.

لكن جاءت في حياته اللحظة التي شاء له الله عندها أن تزال الغشاوة عن عينيه، فتشرق عليه الحقيقة كما تشرق الشمس فتبدد الظلام، والحقيقة بسيطة بساطة أعداد الحساب؛ فشعوب الغرب جميعا لا يملكون بين أيديهم إلا حضارة واحدة وثقافة موحدة الأصول، وهما الحضارة والثقافة اللتان تطورتا مع الأيام عن جذور اليونان والرومان، بالإضافة إلى ما استعاروه من سائر الحضارات استكمالا للنقص؛ وأما نحن فموقفنا مختلف؛ إذ إن بين أيدينا حضارتين لا حضارة واحدة، وثقافتين لا ثقافة واحدة، فنشأت لنا مشكلة تريد الحل الذي لا يتحقق بمجرد الهروب من المشكلة وإغماض العين عنها؛ «فأنا مصري، ولكنني أتكلم العربية، وليست اللغة مجموعة من رموز الرياضة تستخدم للرمز المجرد الذي لا يثير في القلب عاطفة أو انفعالا، بل اللغة - في مفرداتها وفي طرائق بناء تلك المفردات في جمل - إنما تنطوي في الوقت نفسه على أغوار ثقافية لبثت تزداد عمقا كلما ازدادت الشعوب المتكلمة بها خبرة بالحياة وممارسة لها، فكل لغة فيها إلى جانب كونها رموزا تشير إلى مسميات، جانب آخر هو العمق الشعوري، أو إن شئت فقل إنه جانب «الشعر» منها. فإذا كنت مصريا يتحدث اللغة العربية، إذن فأنا عربي الأغوار والأعماق، يستحيل علي النظر إلى الدنيا إلا خلال تلك العدسات»؛ لم يعد إبراهيم يشك في أنه إلى جانب مصريته؛ فهو عربي الوجدان وليس في ذلك خيار.

ومن هنا انفتحت أمام إبراهيم آفاق جديدة؛ إذ نظر فرأى أمامه مشكلة ثقافية نابضة بالحياة ، وتفرض نفسها عليه وعلى كل ذي فكر من مواطنيه العرب - أيا كان موطنهم من الوطن العربي الكبير - وتلك المشكلة هي: كيف السبيل إلى حياة نوفق فيها بين الحضارتين وبين الثقافتين، فنعيش الموروث العربي في مناخ العصر وعلومه وفنونه؟

وشاء حسن الطالع أن تضع هذه المشكلة نفسها أمام إبراهيم في روحه الجديد، عندما ذهب إلى إحدى الجامعات العربية تلبية لدعوتها إياه، فوجد الفراغ ووجد المكتبة ووجد العزيمة، فكان أن أخذ يعب من ينابيع الأسلاف عبا، وأمامه هدف، هو الإجابة - على ضوء ما يطالعه - عن السؤال المطروح بين يديه، حتى إذا ما توافرت لديه المادة المناسبة، عرضها على الناس في سلسلة من الكتب أخذت تتوالى في الصدور مملوءة الصفحات بفكر جديد.

لقد كان إبراهيم قد ظن عند بلوغه الستين من عمره أن غروبه قد بدأ ليسلم نفسه إلى حندس الليل، لكن غروبه قد تمطى بأصلابه حتى الآن ما يقرب من عشرين عاما بعد تلك السن، وكان لذلك الغروب الطويل شفق وردي جميل، قد يبدو لإبراهيم نفسه أحيانا أنه أجمل حتى من شمس الضحى في حياته ومن شمس الظهيرة فالأصيل، ومن يدري؟ فلعل الناس إذا ذكروه بعدئذ، فسيذكرونه بما أنتجه في ضوء الشفق؛ شفق الغروب. •••

لكن ذلك الشفق الوردي الجميل، أخذت تجتاحه بقع سوداء تتكاثر في أرجائه يوما بعد يوم، حتى لتوشك الآن أن تحيله إلى ليل حالك، لولا بقية من إرادة يحاول بها إبراهيم الأحدب (هكذا أحب أن أسميه في مرحلته الأخيرة التي امتزج فيها عقل بعاطفة) أن ينتشل نفسه حينا بعد حين من هوة العدم، ومن تلك البقع السوداء ما أصاب البدن من علل عشيت بها العين، وعرجت الساق، ودارت الأذن بدوار، ولكن ما كان أفدح من تلك العلل البدنية في البقع السوداء، غدر الأصدقاء غدرا يمكن اتخاذه علامة على روح هذه الفترة التي تجتازها بلادنا، بما أحدثته في النفوس من ضيق وكرب وتوتر، يغري الصديق بأن يأكل لحم صديقه ميتا.

فأما العلل البدنية فقد بدأت مع إبراهيم بدوار الأذن، وكان إبراهيم قد جاوز الستين ببضع سنوات، وأسرع إلى استشارة الأطباء، حتى لقد سافر إلى إنجلترا ليعرض حالته على خبير، وأراد الطبيب الخبير أن يبدأ بسؤال مريضه عن معالم حياته السابقة:

الطبيب :

ما هي أهم الأمراض التي أصابتك فيما مضى من حياتك؟

إبراهيم :

لم أمرض قط في حياتي إلا مرة واحدة في سن التاسعة، وكانت ضربة شمس.

الطبيب :

متى ولماذا دخلت المستشفيات، فيما تذكر من تاريخك كله؟

إبراهيم :

هذه هي أول مرة ألجأ فيها إلى مستشفى.

الطبيب :

هل تدخن؟

إبراهيم :

لا.

الطبيب :

هل تشرب الخمر؟

إبراهيم :

لا.

الطبيب :

اذكر لي صنوف الدواء التي أخذتها أو تأخذها.

إبراهيم :

باستثناء أقراص الأسبيرين، لا أذكر أن جسمي قد دخله دواء قط.

هنا ألقى الطبيب بقلمه على مكتبه بحركة عصبية، قائلا: فليسمع أبناء الغرب ليقارنوا حياة بحياة. بدأ الطبيب فحوصه وتحليلاته لينتهي إلى نتيجة هي أن ليس هنالك ما يدعو إلى القلق؛ فظاهرة الدوار مصيرها إلى زوال سريع.

وسارت سفينة الحياة بإبراهيم على خير ما يرجوه إنسان في مثل عمره، ونشط في إنتاجه الفكري على صورة لفتت إليه الأنظار؛ وفجأة ارتطمت السفينة بحجر ضخم فتحطمت مقدمتها وبعض جوانبها، وذلك أنه أمسك بورقة ساعة العصر، ذات يوم من فصل الصيف، فإذا حاجز أسود يسد عليه الطريق، وأسرع إلى منظاره ليمسح عنه العتمة التي ظنها هناك، فوجد زجاج المنظار صافيا، ففرك عينيه، لكن ذلك لم يزحزح شيئا من العائق الذي جاء ليحول بينه وبين الورقة التي بين يديه؛ وعبثا بعد ذلك كانت محاولات الأطباء في مصر وإنجلترا وإسبانيا، ولن يستطيع أحد أن يتصور كم استحال إبراهيم رجلا غير الرجل، إلا من عرفه كما عرفته، فعرف مقدار المساحة التي تحتلها القراءة والكتابة من حياته، فإذا ذهبت عنه القدرة على متابعتها في حياته، فكأنما هو فقد الحياة حتى ولو ظلت الرئتان تتنفسان وظل القلب ينبض.

ومع ذلك فلم تقتصر العين على العشى الذي أصابها حتى اقترب بها من كف البصر، بل تجاوزت بكارثتها حدود نفسها، فكانت سببا في أن يسقط إبراهيم فتنكسر له ساق، فجاءت مصيبته الجديدة ضغثا على إبالة.

لكن الأذن ودوارها، والعين وعشاها، والساق وعرجها، لم ينل منه عشر معشار ما ناله من غدر الأصدقاء؛ أصدقاء؟! يا لها من كلمة يسهل جريانها على اللسان، ثم ندير الأبصار بحثا عما تعنيه الكلمة بين الناس، فإذا هي إذا إشارات إلى شيء، فإنما تشير إلى دخان قاتم يسد الأنوف والحلوق فلا تتنفس الهواء الطلق في نقائه، أحسب أن الصداقة قد سميت باسمها هذا لما فيها من الصدق، فماذا لو تكشف لك صديقك المزعوم عن كذب سبقه كذب ولحق به كذب! ... وحسبي هذا، فلن أطيل في إعادة ما قصه علينا إبراهيم عما لقيه على أيدي «الأصدقاء».

وكان ذلك كله مدعاة لإبراهيم أن يعيد النظر الفاحص في نفسه وفيمن حوله - أصدقاء وغير أصدقاء - ليرى كيف يكون بالقياس إليهم وكيف يكونون بالقياس إليه، والذي عرف إبراهيم عن كثب كما عرفته، لا بد أن يكون قد عرف فيه ذلك التواضع الفطري الذي يكاد ألا يكون له نظير فيمن حوله جميعا، ومع ذلك فلم يستطع عند مقارنته الفاحصة تلك إلا أن يشهد أمام ضميره وأمام الله أنه بالنسبة إلى معظم أولئك إنما هو ما يكون عملاق بين أقزام، ولعلي أحسن صنعا لو أني تركت الحديث لإبراهيم ليصف رؤيته كما أجراها في مقالة قرأتها له، جعل عنوانها «حارة الأقزام»، وهذه هي:

كثيرا ما لجأ الكاتبون إلى تشبيه الناس بالعمالقة حينا وبالأقزام حينا؛ فالناس في أعين الكتاب عمالقة إذا رأوا فيهم ما ظنوه فخامة وضخامة، وهم في أعين الكتاب أقزام إن رأوا فيهم ما يدعو إلى التصغير والتحقير.

ومن أقوى الأمثلة التي شهدتها آداب العالم لهذا التصوير بالعمالقة أو بالأقزام تلك القصة التي لبثت منذ ظهورها (في سنة 1726) مصدر متعة أدبية للكبار والصغار على حد سواء؛ وأعني قصة «رحلات جلفر» التي كتبها جوناثان سويفت، وهو إنما كتبها ليسخر بها من أوضاع الحياة في وطنه - بريطانيا - إبان عصره، فلما رآها قد انقلبت وسيلة يتسلى بها القراء ، خشي أن يكون قد ضاع عليه الهدف المقصود، فكتب لأحد خلصائه يقول ما معناه: لقد استهدفت بالقصة أن أبث القلق في صدور الناس لا أن أسري عنهم الهموم.

وموضوع القصة - كما هو معروف - وصف لرحلات «جلفر» في أرض الأقزام ثم في أرض العمالقة، أما وهو مع الأقزام فقد وجد نفسه كالمارد يستخف بهم ويضحك من سخافاتهم، حتى إذا ما انتقل إلى بلد العمالقة انعكس الأمر، وأدرك كم هو تافه وضئيل.

وواضح أن الكاتب قد أراد بالأقزام، بني وطنه في عصره، ليسخر من قلة شأنهم وخفة أوزانهم، وأنه أراد بالعمالقة تصويرا للنفوس حين تكون كبارا وللآمال الناضجة حين تبعد آفاقها وتعلو.

خذ مثلا هذه الصورة الآتية التي صور بها الكاتب نموذجا لما يهتم به الأقزام في أرضهم، لترى معهم كم كانوا صغار الشأن في حياتهم، وهي صورة يقول فيها: كانت الطريقة التقليدية لكسر البيض عند أكله، هي أن تكسر البيضة من طرفها العريض، لكن حدث ذات يوم لجد جلالة الملك، عندما شرع يأكل بيضة - وكان عندئذ لم يزل بعد صبيا - أن جرحت أصبعه وهو يكسر البيضة على الطريقة التقليدية المألوفة، فلم يلبث أبوه الإمبراطور أن أصدر مرسوما يأمر به أبناء الشعب جميعا أن يغيروا التقليد القائم، فيكسروا البيض من طرفه الدقيق لا من طرفه العريض، وإلا تعرضوا للعقاب الأليم، فغضب الشعب، ووقف من الإمبراطور الظالم موقف المعارضة. وينبئنا التاريخ أن ست ثورات شعبية أشعلها الناس لهذا السبب، وفي تلك الثورات المتتالية، قتل أحد الأباطرة، وضاع التاج عن آخر. ولقد كتبت مئات الكتب في موضوع الخلاف؛ غير أن أنصار كسر البيض من طرفه العريض قد صودرت مؤلفاتهم كما حرموا بحكم القانون أن يتولوا شيئا من مناصب الدولة العليا.

فماذا يصنع الزائر الرحالة - إزاء هذه التفاهة - إلا أن يضحك ساخرا؟ لكنه لا يكاد يزهي بنفسه بالنسبة إلى أولئك الأقزام، حتى يريد له الله أن يحد من زهوة؛ وذلك حين انتقل إلى بلد العمالقة، وهناك عرف كم هو صغير ضئيل، إذا قيس إلى هؤلاء الكبار - لا في ضخامة أجسامهم فقط - بل الكبار كذلك في نفوسهم وعقولهم وطرائق عيشهم.

أعود فأقول: إن تشبيه الناس بالعمالقة حينا وبالأقزام حينا أمر مألوف في التصوير الأدبي، ولكني - علم الله - حين أردت أن أكتب هنا عن حارة الأقزام لم أرد ما أراده أصحاب التصوير الأدبي كلما أرادوا التصغير والتحقير، وإنما هي واقعة حقيقية حدثت، وأردت أن أرويها كما حدثت، لا أزيد عليها حرفا من عندي ولا أحذف حرفا.

والواقعة كما حدثت هي أن صديقا أهدى إلي منظارا يضخم الأشياء إذا ما نظرت من إحدى جهتيه، ثم هو يصغر الأشياء إذا ما نظرت من إحدى جهتيه الأخرى، وهو إذ يضخم الأشياء يبديها قريبة كذلك، وإذ يصغر الأشياء يبديها وكأنها ازدادت منك بعدا.

وكان صديقي ذاك، قد سمع مني مرارا، رغبتي الشديدة في أن يكون عندي مثل هذا المنظار الذي يضخم الأشياء ويقربها (ولم أكن أعلم وقتئذ أن المنظار نفسه إذا ما انعكس اتجاهه فهو يصغر الأشياء ويبعدها عن الرائي)؛ أقول: إن صديقي ذاك كان قد عرف عني هذه الرغبة الشديدة، حتى لقد سألني يوما: لماذا لا تشتري لنفسك ما ترغب فيه؟ وأذكر أني أجبته بقولي إن هنالك أشياء كثيرة مرغوبا فيها، لا تجيء إلى الراغبين إلا عن طريق الإهداء، وأبدا هي لا تأتي عن طريق الشراء. ومرت سنوات بعد ذلك الحديث العابر، وإذا به يفجؤني بهديته.

كانت فرحتي بالمنظار كفرحة الطفل بلعبته، وحملته على كتفي كما يفعل السائحون، وأخذت أسير به في الطرقات أنتقي منها مواقف معينة فأقف لأنظر إلى الشارع بما فيه ومن فيه، أنظر إليها وإليهم في اتجاه التكبير مرة وفي اتجاه التصغير مرة، ولكم كانت نشوتي كلما أبصرت واحدا من خلق الله السائرين في زحمة الطريق، مرة وهو في ضخامة رمسيس الثاني في تماثيله الضخام، ومرة ثانية وهو يحبو وكأنه الطفل الصغير.

لم يكن في الأمر - إذن - شيء من الخيال، إنما هو المنظار أنظر خلاله إلى شارع حقيقي وإلى ناس من لحم وشحم يسيرون فيه؛ فالشارع الطويل العريض مرة يزداد طولا وعرضا، ومرة أخرى يصغر ويقصر ويضيق حتى كأنه حارة أو زقاق، والناس السائرون فيه يظهرون حينا وهم عمالقة، ويظهرون حينا آخر وهم أقزام، ولم يكن في أي شيء من هذا التباين الحاد غرابة أدهش لها، فهكذا كان المنظار وهكذا كان فعله بتركيب عدساته.

لكن ذلك المنظار اللعين - ليت صديقي ما أهداه، فأساء من حيث أراد الإحسان - قد أفسد علي حياتي إفسادا لم أعد أرى كيف السبيل إلى النجاة منه؛ وذلك لأنه قد عودني هذه العادة السيئة، وهي أن أنظر إلى الناس بالنظرتين، النظرة التي تبديهم عمالقة، والأخرى التي تردهم أقزاما، فيهولني الفرق البعيد بين الرجل الواحد وهو في نظرة التعظيم وبينه هو نفسه منظورا إليه من وجهه الآخر، ولطالما جزعت لتلك الفروق البعيدة بين النظرتين إلى الرجل الواحد في حالتيه من عظمة هنا وصغار هناك، لكني كثيرا ما طمأنت نفسي من جزعها؛ إذ ليس الذنب في ذلك كله ذنبي ولا ذنب منظاري، فهكذا حقائق الناس والأشياء، لا حيلة لي فيها.

وفيم الجزع إذا رأيت الرجل كبيرا هنا صغيرا هناك؟! كنت أنت الواهم - هكذا حدثت نفسي - حين ظننت الكبير كبيرا في كل حالاته، والصغير صغيرا في كل حالاته؛ ثم جاءك هذا المنظار بوجهيه، فتعلمت منه الدرس المفيد، وليس هو بالشيء الجديد، أن ترى الرجل أسدا عليك، وأن تراه هو نفسه في الحروب نعامة؛ لأن ذلك الازدواج لم يفت حتى الشاعر العربي القديم أن يراه، ولكن الذي ثقل على ضميري ليس هو المنظار في ذاته وأفاعيله بالأشياء والناس، بل هو الشيطنة التي لمحتها في طبيعتي، حين حملت منظاري وذهبت به إلى شارع العلماء؛ فهو من أضخم شوارع المدينة، أشك أن يكون مقصورا على أصحاب التخصص العلمي؛ فلقد حلا لي أن أرى كم يكون الفرق عند هؤلاء بين حالتي التعظيم والتصغير، فإذا هو فرق بعيد بعيد، أبعد منه في أي وقت آخر - أو هكذا خيل لي. نظرت إلى أحدهم في حالة عظمته، فكأنني نظرت إلى مصارع من الوزن الثقيل برزت فيه العضلات بروزا مخيفا، فقلبت له المنظار فإذا هو القليل الضئيل، وطاف برأسي سؤال أضحكني سخافته؛ إذ سألت نفسي قائلا: أي هذين الحجمين يا ترى سيبقى للرجل في تاريخ العلوم؟ إنه لو بقي له حجمه الضخم لملأ من التاريخ مجلدات؛ وأما إذا غدرت به الأيام وأبقت له حجمه الضئيل، فالأغلب ألا يجد لنفسه في السجل صفحة واحدة، بل ربما لم يجد فيه سطرا واحدا.

هكذا أخذت أنقل منظاري إلى عالم بعد عالم، ولا بد أن أثبت هنا واقعة أذلتني وظننتها من خوارق الأجهزة الآلية التي لا تؤتمن في كل الظروف؛ وتلك هي أنني وقعت في شارع العلماء على أفراد بدت ضخامتهم من أي الوجهين نظرت إليهم، كما وقعت أيضا على أفراد بدت ضآلتهم من أي الوجهين نظرت إليهم، فبدأت طريق عودتي وأنا أقول بخواطري الصامتة إنه لا بأس في هذه الدنيا في أن يكون العظيم عظيما لأنه عظيم دائما، وكذلك لا بأس في أن يكون الصغير صغيرا لأنه صغير دائما، لكن البأس المخيف هو في أن يصغر العظيم، أو أن يعظم الصغير، لا لسبب سوى طريقتنا في النظر، والذي قد يزيد من هول الفاجعة هو أننا ربما رفعنا أسماء أو محونا أسماء، لا بناء على نظرة مجردة منزهة من انحراف عدسات المنظار، بل بناء على عادات خلقتها فينا عدسات المناظير ولا تلبث أن تصبح تلك العادات آلية، تتحكم في عضلات اللسان وأحبال الصوت بحيث «نكر» القوائم بأسماء العظماء وكأننا نسمع (بتشديد الميم) قصيدة حفظناها عن ظهر قلب، بلا وعي بمعاني ألفاظها.

إننا لنقول - مثلا - شوقي وحافظ ومطران، نقولها ونحن فيما يشبه الغيبوبة؛ لأن اقتران هذه الأسماء هو اقتران محفوظ، لا اقتران أقمناه بعد دراسة. نعم، قد يكون في ذكر هذه الأسماء إنصاف كل الإنصاف، لكن الذي أريد أن أقوله هو أننا غالبا ما نصدر فيه عن عادة آلية، لا عن وعي بمضمونه، وكأننا في هذا التلاحق الآلي في حركات الصوت أشبه بفئران التجارب العلمية حين تنطلق داخل المتاهات المعدة لها، انطلاقا تنعرج به هنا وتستقيم هناك بغير أخطاء على الطريق، لا لأنها «علمت» بعد جهل، بل لأنها «اعتادت» كيف تسير؛ ومن هنا كان الحرص الشديد ممن يحرصون على بلوغ الشهرة العلمية أو الأدبية، على أن يسلكوا أسماءهم في «مسبحة» الأسماء التي يذكرها الحافظون بدفعة آلية صرف، فإذا وفق أحدهم في أن يضع اسمه على حبات المسبحة، ضمن عندنا ما يشبه الخلود.

ويبدو أن العادات الحركية التي تتقاطر بها حبات المسابح في دنيا الأدب والعلم، لا تقتصر علينا وحدنا، فكما نقول نحن بحكم العادة الآلية: جرير والفرزدق، البحتري وأبو تمام، الأفغاني ومحمد عبده، العقاد وطه حسين، فكذلك يقولون في بلاد الغرب: راسين وكوروني، كيتس وشلي، جيته وشلر، شو وولز.

وهكذا، وأعيد القول بأن هذه الاقترانات بين الأسماء، لو أقيمت على حسن فهم، لأفادت، لأنها قد تنفع في تحديد المعالم داخل حركة أدبية أو فكرية، لكنها في حارة الأقزام - كما رأيتها بمنظاري - اقترانات ببغاوية محفوظة، تضر وقلما تفيد. •••

لم أكن قد التقيت بإبراهيم لعدة سنين، ولكنني سمعت عنه وقرأت له، مما جعلني أتابعه خطوة خطوة وكأني أسايره يوما بعد يوم؛ ومن هنا كان علمي بما طرأ على شخصيته من تحول، وهو تحول لم يكن مقصورا على إضافة بعد وجداني إلى اتجاهه العقلاني الخالص، مما دعاني إلى الظن بأن للأحدب أثرا لكثرة ما تصاحبا وتجاورا، فاختلفا مرة واتفقا مرة؛ ولذلك طاب لي أن أسميه لنفسي - كما أسلفت - إبراهيم الأحدب، على أني حين أقول عنه في تحوله الجديد إنه قد أضاف بعدا وجدانيا إلى نظرته العقلانية الأساسية، فلست أعني أنه كان فيما قبل ذلك كافرا بحياة الوجدان، كلا؛ فمنذ عرفته من عشرات السنين قد عرفت فيه وقفة راسخة ثابتة تقسم له حياة الإنسان بين مجالين: مجال الوجدان للعقائد والمشاعر والذوق والمزاج، ومجال العقل لكل ما هو قائم على منهج التفكير العلمي، وإذن فلم يكن الجديد فيه إضافة وجدان إلى حياته بعد أن لم يكن، بل الجديد هو - أولا - اختياره للموضوعات التي يخضعها للبحث العلمي؛ إذ أخذ اختياره يقع على موضوعات تتصل بطبيعة الذات المصرية والذات العربية مما يجعل النظر العقلي مبطنا بفرشة عاطفية، و- ثانيا - سرعة انفعاله حتى وهو في مواقف الفكر العقلي الخالص، وكأن ذلك يحدث له كلما لقي من الآخرين عنتا وإجحافا.

وقرأت عن إبراهيم في الصحف ذات يوم أنه قد تلقى دعوة من جريدة الأهرام بأن يكون أحد كتابها، تلقاها وهو لم يزل في جامعة بإحدى الأقطار العربية، لكنه إذ تلقى تلك الدعوة كان يوشك أن يعود إلى مصر بعد غيابه عنها خمس سنوات، ولقد قبل دعوة الأهرام فرحا بها لأنه مليء بأفكار يريد عرضها عرضا واسعا على جمهور المثقفين، فلما أن التقى برئيس التحرير لأول مرة دار بينهما حديث ذو دلالة تكشف عن هدفه من الكتابة؛ فلقد قال لرئيس التحرير صراحة أنه يؤمن بأن كتابة الكاتب لا تكون إلا نقدا لما هو قائم؛ إذ لو كان الكاتب راضيا بما هو قائم ففيم حمله للقلم؟! إن ما هو قائم قائم قبل أن يكتب، فلماذا يكتب؟ قد يكون من الأهداف المقبولة أن يكتب الكاتب ليلقي الأضواء الكاشفة عن حسنات الأمور القائمة ودفاعا عنها، خشية أن تكون حقائقها خافية عن جمهور الناس. لكن إبراهيم أراد أن يقول لرئيس التحرير إن أغلب هدفه من الكتابة التي يعتزمها نقد لا دفاع، فأجابه رئيس التحرير بأنه من أجل ذلك وجهت الأهرام إليه الدعوة ليكون أحد كتابها، والحق أن إبراهيم قد سعد بتلك الدعوة منذ تلقاها وهو بعيد؛ لأنه - فضلا عن رغبته في الكتابة - كان يعلم أن جريدة الأهرام قد استضافت قبله مجموعة من ألمع رجال الفكر والأدب والفن؛ مما يسعده أن يكون معهم في أسرة واحدة.

وبدأت مقالات تظهر تباعا، ومنها رأيت في أوضح صورة كيف امتزج إبراهيم والأحدب في هوية واحدة؛ فالفكر ذو أعماق وأبعاد والانفعال الوجداني ذو حرارة ونبض.

وما إن علمت من الصحف بأنه قد ظفر بجائزة الدولة التقديرية في الأدب، حتى اندفعت إلى التليفون أطلبه لأول مرة في حياتي؛ فهنأته من عمق قلبي ، وشكرني بصوت مختنق، ودعاني في إلحاح بأن أزره في داره لنتبادل الحديث، وهناك أخذ يقص علي كيف فوجئ بصديق - وهو في حياتنا الأدبية إمامها - يتصل به خلال الهاتف في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، ليقول له بصوت فرح: مبروك. فأجابه إبراهيم: شكرا، ولكن مبروك على ماذا؟ قال له: على جائزة الدولة التقديرية في الأدب؛ إذ كان الاقتراع عليها هذا الصباح (وكان إبراهيم قبل ذلك بخمسة عشر عاما قد ظفر بجائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة). وسكت إبراهيم قليلا، ثم قال: أتعرف يا فوزي كيف كان رد الفعل عندي حين وضعت سماعة الهاتف؟ بكيت، نعم بكيت بكاء لم أملك له دفعا، ولما أن هدأت إلا من دمع أحسسته يبلل أطراف عيني، سألت نفسي - ربما خجلا من نفسي - فيم هذا البكاء، إنه يقينا لم يكن بكاء الفرحة لما سمعته؛ إذ كانت جوانحي عندئذ ملتاعة بما تضطرب به، إذن فلماذا؟! ووجدت الجواب: إنه التنكر الطويل الذي انطبع به موقف الزملاء وما يزال ينطبع، الذي أبكاني هو أن التقدير قد جاءني في المرتين (في جائزة الدولة للفلسفة وفي جائزة الدولة للأدب)، ممن لم تكن بيني وبينهم صلة الزمالة ولا صلة الصداقة، جاءني التقدير في الحالتين ممن لم يعرفوا عني إلا ما يقرءونه عني كتبا ومقالات؛ وأما من ربطتني بهم أواصر الزمالة والصداقة ولقاءات المودة، فالله وحده عليم بما كانوا يضمرونه نحوي من رغبة في الإطفاء والإخفاء وطمس المعالم وضيق الصوت، وكانت وسيلتهم إلى ذلك هي الصمت الأليم عن كل ما يتصل بعمل أنجزته في علم أو أدب؛ ومرة أخرى اختنق صوت إبراهيم بالبكاء، وغالب نفسه بكلتا يديه يضغط بهما على وجهه حتى غلبها، وهنا نهض وغاب عني دقيقة ثم عاد يحمل بين يديه علبة مكسوة بالقطيفة الحمراء، وفتحها وأشار إلى الوسام الموضوع في داخلها، وقال: إنه وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، منحتني إياه الدولة عن غير طريق الزملاء والأصدقاء، فوزني عند هؤلاء أخف من الهباءة العالقة في هواء ساكن، أتعرف يا فوزي ماذا كتب لي أحدهم في خطاب؟ قال ما معناه: اعلم يا فلان بأنك رجل لا قيمة له، وإذا ظننت غير ذلك كنت غارقا في أوهامك التي سببتها لك عزلتك عن الناس! ثم أضاف صاحب الخطاب إلى تلك القذيفة أن عيرني ببصري المفقود، وجاء ذلك كله تتويجا منه «لصداقة» دامت بيننا أكثر من ثلاثين عاما؛ إلى هذا الحد يتميز من غيظ مكتوم بعضنا تجاه بعض إذا ما ربطتنا أواصر «الصداقة»! أرأيت ماذا أبكاني عندما جاءني تقدير الدولة عن غير طريق الزملاء و«الأصدقاء»!

هنا أسرعت إلى تغيير الموضوع لأخرج إبراهيم من لوعة الأسى التي أخذت تتزايد كلما مضى فيما كان يتحدث فيه، لم يكن عهدي بإبراهيم أن تصدر عنه تلك النبرة الحزينة ردا على إساءة من آخرين؛ إنه الأحدب هو الذي عهدته في أمثال تلك المواقف، وذلك هو ما يحملني على القول بأن إبراهيم الخولي المتزن الرصين، لا بد أن يكون قد أصابه تغير في صميم كيانه، متأثرا في ذلك بصحبته في أعوامه الأخيرة للأحدب، ولا عجب في أن يتقاربا؛ لأن كليهما كاتب، ولأن كليهما كذلك متمرد على الشائع المألوف. كان إبراهيم أول الأمر يتمرد بمنطق عقله، وكان الأحدب يتمرد بدفقة عواطفه، وها هما آخر الأمر قد تقاربا فتشابها.

كان واضحا لي عندما زرت إبراهيم في منزله أنه يقيم وحده؛ فلا زوجة ولا أطفال، وكنت لأعوام طويلة قبل ذلك لا أدري من أمر زواجه أو عدم زواجه شيئا؛ أما الأحدب فقد كنت أعلم عنه يقينا أن قلبه قد جمد عند حبيبة صباه، فلا هو قد ظفر بها ولا قلبه طاوعه بعد ذلك أن يظفر بسواها.

كنت أجلس مع إبراهيم في غرفة مكتبه، وقد استوقف نظري في بيته كله، وفي غرفة مكتبه بصفة خاصة، نظافة ونظام لم نألفهما عند غير المتزوجين، ولعل ذلك هو ما أوحى إلي بسؤال أوجهه إليه لأشق به طريقا لأحاديثنا غير ما كنا نتحدث فيه، عسى أن أخرج صاحبي من سحابة الحزن التي أخذت تغمره عندما دهمته الذكريات بغدر «الأصدقاء»، ففاجأته سائلا (وكأنني على يقين بأنه يعيش وحده): لماذا لم تتزوج يا دكتور إبراهيم؟ أكانت هي حياة العلم شغلتك عن نفسك؟ فارتسمت على فمه ابتسامة مصطنعة وقال: لا، لم تكن حياة العلم لتحول دون الزواج لو أردته؛ فلقد لبثت خلال الشطر الأكبر من حياتي الرشيدة لا أحتكم فيما أفعله وما لا أفعله إلى حكم عقلي وحده. كان ذلك قبل أن تدب الشيخوخة في عظامي، وكان «العقل» يتلفت حوله فيمن يعرفهم من الأزواج، فلا يلحظ بين الزوج والزوجة إلا تضادا، كأنما خلقت بيوت الزوجية لتجمع أضدادا بين جدرانها. كان أبو العلاء المعري يقصر هذا التضاد المضحك على رفات الموتى في قبورهم، إذ قال:

رب لحد قد صار لحدا مرارا

ضاحك من تزاحم الأضداد

لكنني وسعت من الدائرة لأضيف البيوت إلى اللحود في تزاحم الأضداد بين جدرانها ...

فقاطعته قائلا: إن في حديثك هذا رنة من تشاؤم الأحدب؛ فلقد سمعته مرة يقول: إن رباط الحب قلما يتحقق في زواج؛ فالزواج دائما يكون حيث لا حب، والحب دائما يكون حيث لا زواج؛ فالحبيبان لا يلتقيان إلا قبل أن تهيأ ظروفهما أو ظروف أحدهما للزواج، أو بعد أن يكون قد تم الزواج من غير الحبيبة أو الحبيب وفات الأوان؛ من هنا رأيت لكل زوج حبيبة كان يود لو كانت له، ولكل زوجة حبيب كانت تود لو كان لها، إنها أضداد تلتقي وتتزاحم، وتلك هي الحياة؛ ذلك ما سمعته من الأحدب المتشائم ذات يوم، وكأني بك تردد صداه.

فصمت إبراهيم قليلا ثم طفق يقول: اسمع يا أستاذ فوزي، إن الداء لا يشفيه كتمانه، ومن الأدواء المفجعة في بنائنا الاجتماعي - وأخشى أن يصدق هذا على أمم الأرض جميعا بدرجات متفاوتة - أن يكون الزواج عقدا يبرمه عقلان ينشدان تنظيم علاقة اجتماعية اقتصادية بينهما، لا رباطا يربط قلبين يتحابان فيلتئمان في قلب واحد لا ينشد شيئا إلا أن ينبض نبضا سليما، وطالما لبثت الحال على هذا الوجه فلا بد للقلوب المكلومة أن تلتمس لها سبلا من وراء ستار . نظام الزواج هو في صميمه اغتصاب يحميه القانون؛ فإما رجل اغتصب امرأة يحبها ولا تحبه، أو امرأة اغتصبت رجلا تحبه ولا يحبها، أو رجل وامرأة يتعايشان ابتغاء مصلحة مشتركة بغير حب من أي من الطرفين.

إن الناس ليكفيهم من الأمر كله سلامة الشكل دون مضمونه ومغزاه، ولي في ذلك خبرات كسبتها منذ الطفولة ولا بد أن يكون لك؛ فها هو ذا رجل يطلق زوجته ثلاثا، وإنهما لفي غربة بعيدة عن الوطن، فتغضب الزوجة عند غير أهل لها؛ إذ لم تكن لها حيلة غير هؤلاء يئوونها، يوما ويوما ويوما، ثم يتفق الوسطاء مع الزوج على رد زوجته، فيجيئون بالمأذون، ومع المأذون ابن له صغير، في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، ويتفق على أن يكون هذا الطفل هو الزوج المحلل لرجعة المطلقة، وتدخل الست أم حامد - فهكذا أذكر اسمها برغم تقادم العهد - تدخل مع زوجها الجديد في غرفة معزولة عند آخر الفناء الفسيح، ويظل الوسطاء من رجال وسيدات ينتظرون، وتخرج الست أم حامد لا تقوى على أن تواجه أحدا بنظرة، ويتضاحك السيدات ويسألنها، فتقص عليهم كيف أخذت هي تلهو بالطفل وهو يبكي في غير فهم لمهمته. المسكينة قصتها بما يشبه الابتسام، ثم ختمتها بمر البكاء؛ لكنها عادت إلى زوجها حلالا بلالا، وذلك هو عندهم زواج!

ولعل امرأة سودانية أخرى كانت على سذاجة الفطرة البريئة، لعلها أن تكون أسلم من هؤلاء نفسا وأصفى؛ لأن لها ولدا يشتغل بقيادة السيارات، أحب امرأة عامل، وعلم الزوج بما بنيهما فطلق الزوجة، لتذهب فتعيش في كنف العاشق بغير زواج، لكن العاشق لم يكفه هذا، بل راح يحمل المعشوقة المطلقة على دراجة بخارية، فتجلس وراء ظهره مطوقة وسطه بذراعيها، وينطلق الفاجر بدراجته وعشيقته أمام دكان العامل جيئة وذهوبا، فتأخذ النخوة من العامل مأخذها، ويهاجم العاشقين في سواد الليل ليقتل غريمه بخنجره؛ فماذا تعمل الأم الثكلى وقد علمت أن معشوقة ابنه تحمل في جوفها حملا؟ إنها تصمم على أن تأخذ المأذون إلى قبر ابنها، ويضحك منها الناس فتقول والدموع تملأ عينيها: مم تهزءون؟ أريد أن أعقد قرانه على قبره، ليجيء ابنه «جني حلال» وهو تصور لا يبعد كثيرا عن تصور سائر الناس لحقيقة الزواج.

قلت: ربما أصبت في أن الزواج غالبا ما يكون شكلا بغير مضمون، لكن للشكل أهميته.

قال: نعم له أهميته في ساحات القضاء، لكن ليس له أدنى الأهمية بحساب المشاعر؛ من لي بهزة عنيفة لأرج الناس رجا فأباعد بين كل ضدين اجتمعا على مصلحة، وأقرب بين كل حبيبين افترقا بحكم الظروف.

وأراد لي الله أن تتأيد عندي فكرة الأحدب، من أن الزواج لا يكاد يجمع إلا الأضداد؛ فقد دعاني فريد على عشاء في منزله بحلوان، ولم تكن قد مضت على زيارتي له إلا أيام قلائل؛ لأنه أراد - كما قال - أن يجدد عهدي بجماعة الإخوان.

كنا تسعة أشخاص، أربعة أزواج وأربع زوجات، وأنا؛ فقد حضر صبري وزوجته فوقية، وتوفيق وزوجته سعاد، وصالح وزوجته سعاد أيضا، وبالطبع كان هناك المضيفان فريد وعفاف، وقد كنت أعرفهم جميعا ظاهرا لباطن وباطنا لظاهر، لكني مع ذلك أخذت تلك الليلة أمعن النظر فيهم زوجا زوجا، وكان حديث الأحدب لي عن تضاد الأزواج ما يزال يرن في مسمعي، ولم أجد عناء كبيرا في أن أصنفهم لنفسي على أساس الميل الغريزي الذي يبدونه في أحاديثهم تصنيفا بعيدا كل البعد عما هو قائم.

فصديقنا فريد، بجنوحه نحو طرائق «أولاد البلد» في عاداته الفردية والاجتماعية، والذي كان بسبب هذه العادات ثقيلا على قلب زوجته عفاف، كان هو الفارس الذي يخطف بلب فوقية؛ لأنها كانت تريد رجلا يهجم على المرأة بغزله الذي لا يراعي فيه الاحتشام المائع، ويكون من ضخامة الجسم طولا وعرضا بمثل ما كان لفريد من ذلك، إنها لا تكف عن الضحك لكل نكتة يقولها، وتتبعه بنظراتها أينما سار وحيثما جلس، ولعلها كانت تقارنه عندئذ بزوجها الوديع المسكين الصامت، بجسمه الطري المرتخي فتقول لنفسها في سرها: ما أبعد المسافة بين رجل ورجل، نعم إن زوجها صبري مهندس لامع، تختاره الحكومة في كثير من لجانها الفنية ، وتملأ صورته الصحف، وإذا تكلم فإنما يتكلم هندسة في هندسة ومشروعات في مشروعات، لكن ما لها هي ولكل هذه البراعة الفنية إذا لم يغزها رجل؟! لا، إن هواها كله مع فريد، ولا أدري إن كانت عفاف قد أدركت ما بينهما، لكني أشعر أن لو أدركت لكان لسان حالها يقول: تفضلي هنيئة به! وأما صبري في وداعته واستكانته وصمته والتزامه جانب الحذر فما كان أنسبه لإحدى السعادين، فسعاد وسعاد في هذه المجموعة بينهما ما بين السماء والأرض من تباين؛ إحداهما انطفأت في عينيها جذوة الحياة، وخمدت في وجنتيها شعلة الجنس، وأصبحت في حركتها المقيدة المكبلة كأنها التمثال الشمعي؛ لا تنطق لفظة إلا وقد حسبت حسابها، فلماذا لا ينظر إليها صبري المهندس بعين الإعجاب، أين كانت هذه الوداعة القانعة العاقلة المتزنة يوم أراد الزواج! ... ولكن من ذا يكون زوج سعاد هذه؟ إنه صالح الغارق في مجونه إلى أذنيه، الذي لم يكن يريد في دنياه إلا امرأة تقدر لذة الحياة الماجنة وتفهمها دون أن تدخل في الأمر قواعد الأخلاق ومستويات الحضارة والتهذيب، يعلم عنه أصدقاؤه المعاصرون له والمسايرون له في أطوار الحياة، أنه أيام شبابه لم يتورع عن فعل يشتهيه بغريزته، مهما تكن العوائق في سبيل أدائه؛ لم يتورع أن يتعلق بمؤخرة عربة نقل في الطريق إذا كانت عليها امرأة يريد مضاحكتها، لم يتورع أن يلبس ثياب أبيه العربية، جبة وقفطان وعمامة ليسير بها في زحمة المولد والمسبحة في يده، ليفاجئ أسر الفلاحين بزعمه أنه مواطن لهم من بلد قريب من قريتهم، وأنه يعرفهم فكيف لا يعرفونه؟ فتقع الأسرة الريفية: زوجا وزوجة، في حيرة وربكة، وعندئذ يوجه سهامه إلى الزوجة إذا لمح فيها مسحة من جمال الريف؛ لا، إنه لم يتورع عن فعل مهما يكن فيه من جرأة مرضاة لشهوته، فإذا نجح كان بها، وإلا فهو «فصل» طريف يروى للأصدقاء في جلسات السمر؛ أيكون هذا الفاجر هو زوج سعاد التي لا تحرك يدا ولا قدما إلا بحساب؟ نعم إنها بهذا السكون المميت قد قتلت حيوية جسدها قتلا، وكان يمكن أن تعد من الجميلات، لكن فكرة الأنوثة بكل خصائصها من جمال أو قبح لم تعد ترد على خاطر الناظر إليها؛ فهي تمثال شمعي كالتماثيل المعروضة في متاحف الشمع، تقف أمامه لا لتسري الحيوية منه إليك ومنك إليه، بل لترى إلى أي حد يشبه التمثال صاحبه، وكذلك تنظر إلى هذه المرأة الساكنة الميتة لتنظر إلى أي حد هي تشبه الإنسانة الحية؛ فأين هذه الزوجة من زوجها الجامح؟! إنها ربما صلحت زوجة لصبري المهندس، فيلتقي هدوءه بهدوئها، وصمته بصمتها، وهموده بهمودها، فيكون شن قد وافق طبقه كما يقول المثل العربي القديم؛ أما أن يقع صبري النعسان على فوقية اليقظانة الصاحية، وأن يقع صالح الداعر على سعاد الراهبة، فذلك كوقوع الضد على ضده؛ فلا بد لأحد الضدين أن يفر التماسا لأشباهه.

ولم يكن صالح بحاجة إلى شطح بعيد ليجد بغيته على بعد قدم واحدة منه أثناء تلك «السهرة» الصاخبة؛ ففي الجماعة سعاد أخرى قد لا يدل ظاهرها على حقيقتها إلا لمن كان ذا عين بصيرة بالنساء كعين أخينا صالح؛ فسعاد الثانية هذه قد تبدي لك سحنة مستعلية على الرجال؛ تجلس واضعة ساقا على ساق، معتدلة بظهرها، مجيبة من يحدثها إجابة المالكة لزمام نفسها، لكن وراء هذه الصلابة الظاهرة أمنية ترقد في أعماق طبيعتها، وهي أن تجد الرجل الذي يعرف كيف يدوسها بقدميه من جانب الغريزة فيها، شريطة أن يبقي لها مكانتها فيما بقي بعد ذلك من جوانب؛ وهي تظن - كما يبدو من لمحات عينها ومن فلتات لسانها - أن الداعر صالح ربما استطاع أن يكون هو الرجل الذي يقيم الميزان الصحيح بين قتلها في ناحية وإحيائها في ناحية؛ لأنه كان وهو يتحدث إليها بكلمات مسموعة أحيانا وبوشوشة مهموسة أحيانا، يلعب على الحبلين، فتوقير في اللفظ والمعاملة كأنه إمام المهذبين وبريق في عينه المتأرجحة في محجرها يبعث إليها الإشارات التي تكاد تنطق لها بما كان يستطيع فعله لو ظفر بها.

هكذا أراد الزواج تقسيما لأفراد تلك الجماعة ، وكانت الفطرة تريد لهم تقسيما آخر.

خاتمة

قل ما شئت عما بيننا نحن الثلاثة من تباين؛ فإنه محال على المتعقب ألا يربط بيننا رباطا وثيقا، يبرر له أن يجعل نفوسنا جوانب ثلاثة من نفس واحدة، ومن ذا يزعم أن في نفوس الناس جميعا نفسا كانت خالصة في تجانسها مع ذاتها وفي نقائها من عوامل الخلاف بين أجزائها خلافا قد يصل بها إلى حد الصراع بين جزء وجزء؟ وإذا كانت تلك هي طبيعة الإنسان، فمن حقنا - توضيحا للرؤية وتيسيرا للفهم - أن نفرض بأنني أنا فوزي الراوي، مع صاحبي الآخرين: رياض عطا وإبراهيم الخولي، بمثابة نفس واحدة لإنسان واحد، انقسمت على ذاتها ثلاثة جوانب، وكان حظي أنا من هذه القسمة أن أقف موقف الشاهد على العضوين الآخرين، فأرقبهما وهما يتباعدان ويتقاربان، وفي الوقت نفسه أحدد موضعي منهما معا.

وقصة النفس التي رويتها فيما أسلفته من صفحات، هي قصة ذلك الثالوث مأخوذا فرادى ومجتمعا، ولست أزعم بأنني ذكرت في قصتي كل ما قد عاشه الثالوث وانطبع به وتأثر بحيث اعوج هنا واستقام هناك، فذلك التقصي فوق مستطاع البشر، وإلا وقعنا فيما وقع فيه «ترسترام شاندي» من تناقض؛ وذلك حين أراد أن يكتب عن حياته كتابة مفصلة يخصص لكل يوم منها عاما كاملا؛ فحياة الثالوث الذي يعنينا هنا تيار دافق الموج، وليس في مستطاعنا إلا أن نلقف منه في جريانه قطرات من هنا وقطرات من هناك. والآن - وقد بلغنا الخاتمة - نسأل: ماذا - يا ترى - كانت أهم معالم تلك «النفس» التي روينا عن حياتها ما روينا؟ ثم إلى أي حد يمكن اتخاذها شاهدا على عصرها وظروفه؟ إذ مهما يكن من أمرها، فهي ربيبة والدين، كان للوالد فيها مزاج وللوالدة مزاج، ثم هي صنيعة خط معين من الدراسة ومن القراءة، وهي آخر الأمر محصلة مؤثرات أحاطت بها، تفاعلت مع فطرة خلفت عليها فأنتج التفاعل ما أنتج.

إن أول ما يلفت نظري من تلك النفس أنها في خصومة دائمة مع نفسها، وقلما وجدت من حياتها لحظة تصالحت فيها مع ذاتها، وحسبنا في هذا الصدد أن نتذكر أنها نفس مثلثة الأركان، لكل ركن منها طبيعة تتنافر مع طبيعة الركنين الآخرين، فهنالك من أعضاء مجتمعها «الأحدب» الذي جاءت حياته انفعالا مجسدا لا يعرف كيف يستجيب للعوامل المحيطة به في روية هادئة، ولقد فقد بسبب اندفاعه الأهوج كثيرا جدا من احترام الناس وتقديرهم؛ وهنالك إلى جانبه في ذلك المجتمع الصغير عضو آخر يقع معه على طرفي نقيض، وذلك هو إبراهيم الخولي الذي غلب عليه العقل ببرودته وهدوئه وموضوعيه، والذي كان من أجل ذلك يفضل العيش مع «الأفكار» عن العيش مع «الناس»؛ وأما العضو الثالث - الذي تجسد في شخصي أنا - فهو الذي يساير الناس فيما تواضعوا عليه، وهو الذي ينتمي إلى أسرة وإلى أصدقاء وإلى وطن.

إنه إذا جاز لي أن أضع تلك الأنفس الثلاثة التي منها يتألف الثالوث تحت الرءوس الثلاثة التي ورد ذكرها في الكتاب الكريم، لقلت إن النفس «الأمارة» هي رياض عطا (الأحدب) لأنه يندفع مع وجدانه ولا يبالي؛ وإن النفس «اللوامة» هي إبراهيم الخولي؛ لأنه ممسك في يده بميزان العقل - ومثله الأعلى هو سقراط - وميزان العقل بطبيعته لا يميل مع الهوى؛ وأما النفس «المطمئنة» التي أسلمت ذاتها لله تعالى وللمجتمع فيما نزل من شريعة يجب لها أن تراعى، ومن تقاليد وقوانين يجب لها أن تطاع عن قبول ورضا؛ أقول: إن هذه النفس المطمئنة قد تمثلت في شخصي أنا دون الزميلين الآخرين، وهو نعيم أحمد الله عليه حمدا كثيرا.

ثم لو جاز لي أن أتحدث عن هذه الأنفس الثلاثة باللغة الفرويدية، لقلت إن صاحبنا رياض عطا هو الفطرة في بكارتها، أو ما يسمى في مصطلح فرويد «الهو»؛ وأما إبراهيم الخولي فهو النقيض الذي يعارضه ويلجمه، والذي يسمى في ذلك المصطلح «الأنا»، ويأتي فوقهما «الأنا الأعلى» الذي يهدأ فيه الصراع ويسكن القلق.

لكنني وقد وقع على كاهلي عبء الشهادة، لأكون شهيدا على نفسي وعلى الرفيقين الآخرين، اللذين ارتبطت بهما بتلك الخيوط السحرية الغامضة، التي تراها البصائر وإن خفيت على الأبصار. أشهد بأنه - رغم هذا التقييم لنفوسنا - فقد كانت الغلبة الطاغية لزميلنا الأحدب؛ فهو الذي انعكست حرارته على المجموعة كلها، فأكسبتها الصفة العامة كما يتلقاها الناس؛ ومن هنا كانت مجموعتنا في أعين المشاهدين أدخل في باب السخط والقلق والنزوة التي تنقل صاحبها من فلك إلى فلك بغير موجب ظاهر.

وكان من أبرز الصفات التي تميز بها الأحدب، فانخلعت على الثالوث كله في أعين المشاهدين، ذلك الانطواء الشديد الذي هو أقرب إلى الفرار من دنيا الناس العامة إلى حيث تحيط به جدران بيته، وحتى هذه الجدران كثيرا ما تبدو له وكأنها العراء، فيأوي منها إلى ركن في غرفة مقفلة النوافذ، وعندئذ تهدأ أنفاسه وتطمئن نفسه، ولقد سألت الأحدب مرة: متى بدأت عندك هذه الرغبة في الانطواء على هذه الدرجة التي لا يألفها الناس؟ فأجابني بأنه لا يدري على وجه الدقة متى كانت ولماذا، لكنه كلما دفع ذاكرته إلى الوراء وقع على مواقف من حياته فيها هذا التخفي عن الناس، فضلا عن أحلامه التي يراها في نومه أو في يقظته على السواء؛ فما أكثر ما يغفو لتسرح خواطره كيفما شاءت، فإذا تلك الخواطر تظل تتقاطر خاطرا في إثر خاطر حتى ترسو به في مكان منعزل هناك بعيدا في الفلاة أو على جبل غير مأهول، أو في جزيرة لم تطأها أقدام البشر، وروى لي الأحدب في هذا السياق، أنه ما سافر مرة في قطار، ووقع بصره على كوخ قائم وحده، إلا وتمنى أن تكون حياته في ذلك الكوخ وحيدا، لا يريد من الدنيا إلا مقدار طعامه وشرابه وما يرتديه من الثياب.

ولئن كنا نحن - أنا وإبراهيم - لا نشارك صاحبنا الأحدب في هذا الفرار العجيب، بالفعل أو بالتمني، فنحن بغير شك نشاركه في نتيجة ترتبت عليه، ألا وهي الزهد في بهرج الدنيا وبذخها؛ فكلانا - إبراهيم وأنا - يسعد غاية السعادة أمام مائدة عليها أبسط الطعام وأقله، ما دام كافيا لإطعامه من جوع، وكثيرا جدا ما سمعنا الناس ونحن ننسب إلى أنفسنا الغنى، مستدركين بأنه غنى قوامه قلة الرغبات لا كثرة المال.

ولا أترك جانب الانطواء والفرار والتخفي دون أن أكملها بما يلحق بها عند الأحدب وإبراهيم معا، وعند الأحدب بصفة خاصة؛ وذلك أنهما معا قد يوصفان بالجبن في الحياة العامة وفي زحمة الناس، لكن انظر إليهما فيما يكتبانه وينشرانه تجد الجرأة والشجاعة والعلانية الصريحة، كل منهما في ميدانه! فكأنهما وهما يلوذان بمأمن البيت، فما ذلك إلا ليزداد شجاعة على الورق.

وملمح رئيسي ثالث في النفس - بأضلاعها الثلاثة - التي نروي قصتها، هو سرعة الانتقال من البشر والبشاشة إلى الجهامة والعبوس؛ فما هي إلا لحظة خاطفة، حتى ترى الأحدب - بصفة خاصة - قد وثب من عالم الضحك والفكاهة إلى دنيا الصرامة والجد؛ أيكون ذلك طابع المصري من حيث هو مصري، دون أن يكون الأمر مقصورا على الأحدب وحده، أو حتى على الثالوث كله؟ يجوز، والبيئة تعمل على ذلك؛ فلا يفصل الصحراء الجدباء عن الوادي الأخضر إلا خطوة واحدة تخطوها، فإذا بك في جدب بعد إثمار أو في إثمار بعد جدب، وإن ذلك الخط الرفيع نفسه لهو الفاصل عند المصري بين الحياة والموت، ثم بين الموت والبعث؛ فليس غريبا - إذن - أن ينعكس ذلك في سرعة الانتقال إبان الحياة من البشر إلى العبوس، وعلى أية حال فتلك هي حالة الأحدب الذي - كما قلت عنه - أبرز أشخاصنا الثلاثة تلوينا وتأثيرا.

إن من لا يعرف من الناس ثالوثنا في تباينه تباينا تتكامل فيه الأجزاء، يدهشه أن يرى تلك النفس جادة غاية الجد بعد أن رآها عابثة كل العبث، أو أن يراها عابثة بعد أن رآها جادة، يدهشه أن يراها وكأنها قلب كلها لا تعرف إلا حرارة العاطفة وقوة نبضها بعد أن كان رآها فخيل إليه أنها عقل ولا شيء فيها إلا العقل الذي لا يلين مع الحب ولا يضعف مع الميل.

اللهم إذا كانت «المراهقة» بمثل هذا الوثوب السريع من فلك إلى فلك، فتلك النفس التي نروي قصتها قد امتدت بها المراهقة منذ مرحلتها العمرية حتى شاخ صاحبها وابيض شعره ووهن عظمه وعرجت ساقه وعميت له عين وعشيت الأخرى.

وسمعة رابعة نتميز بها نحن الثلاثة جميعا، لا فرق فيها بين رياض عطا وإبراهيم الخولي وبيني، وهي شدة التواضع الذي كثيرا ما يسرف في حق نفسه فيبدو للآخرين ضعة لا تواضعا، ومن ثم تسرع المخالب إلى نهشه والأنياب إلى تضريسه؛ هو تواضع ورثته «النفس» عن الوالدة لا عن الوالد؛ فقد كانت هي التي أورثتها معظم أخلاقها؛ وأما الوالد فلم يكن متواضعا، وجاءت هذه «النفس» لا لتأخذ عنه بل لتميل إلى اجتناب ما كان يتميز به.

لكن تواضع «النفس» التي نتابع سيرتها، لم يكن تواضعا غير مشروط، بل كان مقيدا بظروفه؛ فهو تواضع بلا حدود أمام الضعفاء غير الأدعياء؛ وأما إن صادفتها شخصية معتدية، لجأت إلى الانسحاب حتى لا تضعف أمامها فتؤكل، وقلما لجأت إلى مواجهة اعتداء باعتداء، وقد لا يكون ذلك عن عفة بقدر ما يكون عن شعور بالنقص والعجز.

إنه لو ترك لشهرزاد حبل الكلام لما سكتت مهما صاحت الديكة في أذنيها لتذكرها بإصباح الصباح، ولماذا تسكت و«النفس» التي تتحدث عنها تغري بالمضي في الحديث الذي ينشر عنها ما انطوى ويفصح عما استتر، ففيها قوة وضعف، وفيها عقل وقلب، وفيها علم وأدب وفن، وفيها الخير والشر والفجور والتقوى؛

ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها «صدق الله العظيم».

Halaman tidak diketahui