ودعت الجامعة سنة 1941
وبعد ذلك بقليل زارني الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف في ذلك الحين، وطلب إلي الرجوع إلى الجامعة، فاعتذرت، ثم جاءني مرة ثانية من قبل محمد محمود باشا، وألح علي ورجاني أن أضع شروطي، فقلت: لا شروط لي إلا أن يبتعد رجال الحكومة عن الاتصال بالطلبة؛ لأن اتصالهم بهم كان يفضي دائما - كما ذكرت - إلى فقدان الإخاء الجامعي بينهم، وذلك من أضر الأشياء على التربية الجامعية.
فأجابوني لطلبي، وقبلت الرجوع إلى الجامعة، ولكن لم يمض قليل حتى أخبرني أحد الوزراء أن الطلبة متصلون بوزراء الأحرار الدستوريين فقدمت استقالتي لمحمد محمود باشا، فاعتذر، وأكد لي أنه لا يعلم ذلك وأنه سيصدر أمرا مشددا بعدم اتصال الطلبة بالوزراء لأغراض سياسية، فبقيت في الجامعة إلى سنة 1941؛ إذ عرض علي رئيس الحكومة وقتئذ حسين سري باشا أن أكون عضوا في مجلس الشيوخ، فقبلت ذلك؛ لأني أحسست بأني محتاج إلى الراحة بعض الشيء من أعمال الجامعة بعد أن خدمتها في عهدها القديم وعهدها الجديد زمنا طويلا، ثم توليت بعد ذلك رياسة «مجمع اللغة العربية» ومكثت فيه مع رجال أحبهم، وهم رجال اللغة والعلم والأدب.
الفصل الخامس عشر
الأخلاق وكيف ينبغي أن تكون لتحقيق سلام عالمي
(1) التعاون في سبيل السلام
1
التعاون العام بين أمم العالم موجود على وجه متقطع وكيفما اتفق أن يكون، ليس خاضعا لنظام معين، غير أن هذا ليس هو التعاون الذي يقصد إليه ميثاق الأطلنطي بل التعاون المقصود بهذا الميثاق هو التعاون المستمر الذي يمنع الاعتداء ويؤدي إلى السلام الدائم.
بادئ بدء لا ينبغي أن نخدع أنفسنا فيما يعترض هذا التعاون من صعوبات أعسرها تذليلا هو الإيمان به. فإذا نحن تشبثنا بسنن الماضي وما ألفناه من أخلاق الناس على العموم وأخلاق قادة الشعوب على الخصوص، وما سجل التاريخ من ألاعيب السياسة وغدرها وقدرنا قوة أنصار الحرب والعاملين عليها والمنتفعين من ورائها ويئسنا من أن نقطع الصلة بين ماضي الإنسانية وبين مستقبلها في هذا الصدد، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه التعاون الذي ندعو إليه بنظام جمعية الأمم الماضية! ولا يرى أنصار الاعتداء على كل هذه الجلية إلا أنها صلف تحت الراعدة.
أما إذا رجونا الخير وقدرنا ما نحن فيه اليوم من الضرورات الاجتماعية والحرج السياسي وقدرنا أن العالم أصبح لا يطيق بعد الآن حروبا على غرار الحرب الحاضرة، وقدرنا حق قدره الارتقاء الاجتماعي في العالم، ثم قدرنا أن هذا التعاون المرجو لم يأت طفرة بل هو فكرة اختمرت في ضمير العالم وتداولتها بالبحث وبالتجربة عدة أجيال، وقدرنا أن التجربة القاسية للأخطاء الماضية ستنفع العالم في تسديد خطاه إلى الخير؛ متى قدرنا كل ذلك وجب أن نتقبل مشروع التعاون المانع من الاعتداء والمفضي إلى السلام الدائم بغاية الارتياح وآمنا به وعملنا على تحقيق وسائله، فلقد آن لضمير العالم أن ينتبه ويجعل الإخاء الإنساني حقيقة واقعة بعد أن لم يكن إلى الآن إلا لفظا ليس له ما يدل عليه.
Halaman tidak diketahui