ممثل المتعلمين الأحرار
كان «سعد» قد دخل الوزارة ليمثل فيها طبقة المتعلمين الأحرار الذين ليس على عقولهم سلطان إلا للحق، ولا على قلوبهم إلا حب الوطن ونفعه، فحقق في المعارف سلطة المصري، وملأ كرسي الوزير، وتمكن بقدرته وعلو نفسه من وضع مستشار وزارته عند حد القانون، وسوى بين الموظفين الأجانب والوطنيين، وحقق آمال الأمة في أكثر ما طلبت، فجعل التعليم باللغة العربية، وجعل لغة التعليم هي لغة الامتحان، وأعاد عهد البعثات، وجعل للنظامات المدرسية قوانين لا بد من عرضها على مجلس شورى القوانين، إلى غير ذلك من المشروعات التي أعادت إلى المعارف عهد وزيرها المرحوم علي مبارك باشا.
وكان من أعمال سعد إنشاء مدرسة المعلمين، ومدرسة القضاء الشرعي التي وجد في إنشائها صعوبات جمة كانت محكا لشجاعته الأدبية، وقدرتة الوزارية ودهائه السياسي، فلما تولى وزارة الحقانية لم يفرط في حقه بصفته وزيرا، ولم يكن فيها بأقل غيرة على إقامة العدل منه في نظارة المعارف على نشر التعليم حتى كان دفاعه عن اعتقاده مجلبة لمخالفة السلطة وتبرم الخديو والإنجليز به.
وقد اتهم سعد في استقالته بأنه قد نقصه الدهاء اللازم للوزير لإرضاء السلطة، وهي تهمة عجيبة، على أنه نجح كثيرا في حمل السلطة على الرضا برأيه وتحقيق مشروعاته.
ومهما قيل في ذلك الزمان من أن الوكالة البريطانية كانت تعاضده، فمن المحقق أن الرجل كان في كل أعماله لا يخالف اعتقاده، ولم يداج فيها، بل كان يدافع عن رأيه أمام السلطة الشرعية والسلطة الفعلية حتى إنه لما اتفقا معا عليه لم يتحول عن موقفه، وفضل الاستقالة المشرفة التي قال عنها بعضهم: إن استقالته تعتبر استقالة للوزارة.
وحدة مصر وسورية
في نحو سنة 1911 ظهرت لأول مرة بوادر ما يسمونه «البنارابيزم» أو الجامعة العربية، وفي هذا الحين وفد على مصر رجلان من أعيان الشام ولبنان، هما السيد شكري العسلي من دمشق، والسيد ثابت من أعيان بيروت، وكانا نائبين في مجلس المبعوثان باستامبول، وكان الغرض الذي جاءا من أجله السعي لضم سورية إلى مصر، وقد لقياني مرارا فيمن لقيا من المشتغلين بالسياسة وأهل الرأي، ولم أكن متفقا معهما في هذا الرأي؛ لا لتعذر هذا الطلب فحسب، بل لأني لم أره في مصلحة مصر، وأذكر أن السيد شكري العسلي كان متحمسا لفكرته إلى حد أنه كان يدافع عنها بصراحة غلبته على كل اعتبار حتى قال لنا أنا وعبد العزيز فهمي باشا ومحمود بك أبو النصر في مأدبة بمنزلي: مصر فيها مال وسورية فيها رجال!
وذلك في مقام التدليل على فائدة وحدة سورية ومصر، وقد انتهى الأمر بأنهما لم ينجحا في هذا المسعى. •••
وكنت منذ زمن طويل أنادي بأن مصر للمصريين، وأن المصري هو الذي لا يعرف له وطنا آخر غير مصر، وأما الذي له وطنان يقيم في مصر، ويتخذ له وطنا آخر على سبيل الاحتياط، فبعيد أن يكون مصريا بمعنى الكلمة، وقد دعوت السوريين في مصر إلى أن يسجلوا أسماءهم في المحافظة؛ ليكونوا مصريين، وبعث إلي شكور باشا مدير بلدية الإسكندرية، وعبد الله صفير باشا مدير المطبوعات بالداخلية يعززان هذا الرأي، ولم أقصد السوريين فقط، ولكني كنت أريد أن يتحمل كل قاطن في مصر من الواجبات ما يتحمله المصريون لتحقيق القومية المصرية؛ فقد كان من السلف من يقول بأن أرض الإسلام وطن لكل المسلمين، وتلك قاعدة استعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع في توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد، تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوي الذي يفتح البلاد باسم الدين، ويحب أن يكون أفراده كاسبين جميع الحقوق الوطنية في أي قطر من الأقطار المفتوحة؛ ليصل بذلك إلى توحيد العناصر المختلفة في البلاد المختلفة حتى لا تنقض أمة من الأمم المفتوحة عهدها، ولا تتبرم بالسلطة العليا، ولا تتطلع إلى الاستقلال بسيادتها على نفسها، أما الآن وقد أصبحت أقطار الشرق غرضا لنفوذ الغرب، وانقطع أمل هذه الأمم الشرقية في الاستعمار ووقفت أطماعهم عند حد المدافعة لا المهاجمة، والاحتفاظ بسلامة كل أمة في بلادها من أن تنمحي جنسيتها، ويفنى وجودها، فإن أكبر مطمع لكل أمة شرقية هو الاستقلال.
ولهذا أصبحت هذه القاعدة لا حق لها من البقاء؛ لأنها لا تتمشى مع الحال الراهنة للأمم الإسلامية وأطماعها، فلم يبق إلا أن يحل محلها المذهب الوحيد المتفق مع أطماع كل أمة شرقية لها وطن محدود، وهو مذهب الوطنية!
Halaman tidak diketahui