ولا أريد في الحديث عن زيارتي للمدينة المنورة أن أتصدى لوصف معاهدها؛ قديمها وحديثها، ولا أخوض في وصف الحرم المدني والحجرة الشريفة، ولا أنقل طرفا من العادات؛ لأني إذا فعلت لا أكون إلا مكررا لما ذكره الأستاذ الفاضل لبيب البتانوني في رحلته المعروفة، غير أني أنقل هنا بعض ما شعرت به نفسي في مقام الرسول محمد عيه الصلاة والسلام، فأقول:
متى خرج المسافر من «تبوك» مستقبلا الحجاز، موجها وجهه نحو المدينة موطن الهجرة، ومهبط الوحي، ومقام الرسول
صلى الله عليه وسلم ، تنفعل نفسه انفعالات شتى، مرجعها إلى طبيعة الأرض التي يمر فيها من «تبوك» إلى مدائن صالح إلى المدينة المنورة، سهول قليلة مجدبة، وجبال كثيرة جرد مختلف ألوانها، لا ترى عليها شجرا قائما، ولا نابتا، ولا طائرا، ولا شيء إلا الفضاء والسكون، منها جبال حمر وسود وزرق ضاربة إلى الخضرة كلها موحشة لا يؤنسها إلا محطة السكة الحديد المسافة بعد المسافة، إن تجردت عن جمال الطبيعة المعروف لدينا، والمصطلح عليه بيننا، كجنات دمشق، أو مزارع سهل البقاع، أو مختلف مناظر لبنان؛ فقد بقي لها من الطبيعة جلالها، ولا شك في أن الجلال قد يكون له في النفس ما يفضل أثر الجمال، تعطيك هذه الطبيعة الجرداء المهيبة إكبار الصعوبات التي لاقاها النبي العربي محمد بن عبد الله في سبيل القيام بتبليغ رسالته في هذه المناطق المترامية الأطراف العديمة الماء، النادرة العشب، الكثيرة الأوعار والأجبال، فإذا وصلت إلى مدخل المدينة تكتنفها الجبال، ولحظت على الشمال دار عثمان بن عفان، ثم رأيت مقام سيدنا حمزة تحت جبل أحد، على قرب من مصرعه، ثم شرفت على المدينة ورأيت القبة الخضراء المضروبة فوق مقام المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ثار في نفسك ثائر ذكرى ذلك المجد العربي القديم، وأشرق على روحك نور تلك المبادئ الشريفة التي كان هذا الحرم مهدها، ومصدر تشععها على أطراف العالم من أقصاه إلى أقصاه، هنالك تعذر الذين يقولون: رأينا النور من المدينة فوق القبة الخضراء يشق طبقات الهواء إلى السماء. لم نر ذلك النور الحسي بالعين الباصرة، ولكن هناك نورا لا يحتاج في انبعاثه إلى هواء يحرك ذراته وينقلها، ولا إلى أجسام ينعكس عليها نور العلم والفضل، نوري الهدى، إنهم لا يرون نورا حسيا كما يقال وكأنهم يرون نور الهدى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
دخلنا الحرم المدني لأول مرة من باب السلام في زحام الزائرين مختلفي اللغات والألوان والأزياء والأجناس، دخلنا ذلك الفناء الرحب، فناء الرجل العظيم، والنبي الكريم، والرسول الأمين، فما هي إلا نظرة إلى ما نحن فيه، وتذكرة لما مضى من الأثر حتى يمتلئ القلب هيبة من الحضرة العالية، ويأخذ النفس الخضوع حتى يبتل الجبين عرقا من الوقوف أمام مقام من لا يطاوله في مجده مطاول، ولا يضارعه في مقامه واحد من بني حواء، فكلهم لديه سواء، مغترف من بحر علمه، ومستنير بهديه، أو معترف له بسؤدده ورفعة مقامه، فالذين آمنوا بمحمد وما أنزل عليه، يرونه بحق سيد الخلق على الإطلاق، والذين لم يؤمنوا، لا يجادلون في أنه الرجل كل الرجل فضلا وكرما، والشارع الحكيم أحاط بالعظائم والدقائق من أحوال الناس، والشجاع عديم المثال، هاجر إلى المدينة وهو لا يملك من الدنيا إلا نفسه وصحبة صديقه وهو على هذه الحال، وفي تلك البلاد المجدبة وبين الأعراب لد الخصام، على هذه الحال قد أخاف الأكاسرة والجبابرة أصحاب الأموال والعروش والجنود أولي القوة بكل أسبابها ومظاهرها، ولم يكن له مما في أيديهم شيء، ولكن الله آتاه العلم والحكمة والنبوة والرسالة، فكان له النصر، وما النصر إلا من عند الله.
فمن ذا الذي يعرف تقدير النسب بين الأشخاص والأشياء، ثم يزور قبر محمد، ولا تخضع نفسه لهيبته، أو لا يقصيه الأدب عن مس المقصورة أو إطالة المكث على مقربة منها، إلا على نحو ما يصنع فقيه المسلمين عبد الله بن عمر؛ إذ كان يعقل بعيره في خارج الحرم، ثم يدخل فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي حفصة، ثم يقفل راجعا من حيث أتى! على أني مع ذلك أجد عذرا لهؤلاء العوام الذين يقتربون من الحجرة، ويخرون على الأعتاب للأذقان سجدا، ثم يتمسحون بقوائمها، ويدخلون شفاههم من الشباك يسرون كلاما طويلا أو قصيرا؛ فإن المحبة قد تجب كل ما عداها من الملكات في تلك العقول، التي نمت في أحضان القلوب لا في أحضان العلوم ، فيذهلون عن تقدير النسب، ويجاوزون حدود اللياقة، ومع ذلك فإن من الأعراب من لاحظت من هيئتهم الوقوف عند حدود التأدب، سواء كان ذلك في زيارة قبر الرسول، أو في زيارة الشهداء.
من ذلك أننا زرنا نحن وأصحابنا مقام سيدنا حمزة صبح يوم زيارته، فلما فرغنا من زيارتنا وقطعنا ميدانا فسيحا من الرمل، حيث كانت عرباتنا تنتظرنا في الجهة المقابلة، إذا بنا نرى الأعراب زمرا راكبين جمالهم حاملين أسلحتهم، كلهم يعلق في كتفه بندقية، ويشد في وسطه خراطيش رصاص، وقد يكون إلى جانبه غدارة أو خنجر، وسيفه إلى جانبه، مع ذلك كله وقفنا ننظر ماذا يفعلون، فإذا هم يفدون من المدينة جماعة جماعة، ينتظر بعضهم بعضا في ذلك الميدان الفسيح تحت مسجد سيدي حمزة حتى كملوا أربعمائة هجان وقفوا وأمامهم علم أخضر يظل رجلا منهم هو خليفة السنوسي في مكة والحادي يحدو لهم شعرا بصوت جميل، وهم يرددون عليه هذين البيتين:
سيدي حمزة ويا عم الرسول
قد أتينا في حماك
نرتجي منك الشفاعة والقبول
لا تخيب من أتاك
Halaman tidak diketahui