وصلت إلى باريس، وفي هذه المدينة كثير من الأشياء غير أسباب اللهو، ودواعي الطرب، وميادين اللعب، ولكن بعض كتاب الشرق قد اعتادوا أن يصفوا ما ظهر لأعينهم لأول وهلة في شوارع الزينة دون ما بطن في جوف المصانع الكبيرة والصغيرة من المخترعات، وما امتلأت به معاهد العلم من التقريرات والبحوث في العلوم والفنون، فما كل باريس لهو، ولا عيب عليها فيما به يرمونها، ولكن العيب على من يكتفي من النظر إلى الأشياء بلمحة، وفي الحكم عليها بمسحة من الظاهر.
كذلك كان يصنع بعض كتابنا، وكذلك كان يطبق أغلب كتاب الغرب علينا الحكم بالظواهر، وقد يكون ذلك بغلو وببعد عن حدود المعقول، ويقرب سياحاتهم من قصص ألف ليلة وليلة؛ يتفق لأحدهم أن يرى جماعة يصلون على النبي، فينقل عن مصر أن معبودها «محمد بن عبد الله»! •••
لا يظنني القارئ أنني قد وقعت من المبالغة فيما أحذر منه، ولكن بين يدي كتاب من صديق فرنسي جاء فيه أنه قابل إنكليزيا على ظهر الباخرة، انتقل بهما الحديث من موضوع إلى موضوع حتى وصل العرب، قال الإنكليزي وأكد تأكيد ذي الرابطة بين قومه وبين العرب: «إن العرب يعبدون الشمس!»
واستدل على ذلك بأنهم يصلون لها عند الشروق وعند الغروب!
وزارتني في باريس سيدة تشتغل بتحضير محاضرة عن وصف مصر، ومن جملة ما أشكل عليها من المسائل الاجتماعية بل المسائل المتعلقة بتحديد مركز مصر السياسي، هو: كيف أن النساء المصريات محجوبات عن الرجال غير المحارم، ومع ذلك فإنهن غير محجوبات عن الخدم والأتباع الذين هم بالضرورة أجانب عنهن؟! واستنتجت فكرتها هذه من كونها رأت في أبواب البيوت المصرية وأفنيتها رجالا يروحون ويغدون، ولما لم تكن تدخل إلى باطن البيوت لتعرف أن هناك «حرملكا» خدمه نساء، و«سلاملكا» خدمه رجال؛ فقد حكمت حكمها على الظاهر.
انظر كيف كان يجني الظاهر على أمانة النقل وعلى الناس في الحكم، لا أنكر أن السائح من مشارق الأرض أو مغاربها إذا سألته عن قصده وكان من أهل اللهو أجابك أنه يقصد باريس، ولكني لا أنكر أيضا أن السائح يأتي من اليابان والصين وغيرهما ليتتلمذ على أساتذة باريس، ويعرف منهم أسرار الحكمة وقواعد الحق والواجب وسبيل الاقتصاد.
أجل إن باريس تؤخذ عنها مودة الأزياء، ولكنها تؤخذ عنها أيضا أسعار البورصة في جميع أنحاء العالم، وإذا كانت الأولمب، والمولان روج وما بينهما من محلات اللهو، فإنها مدينة السوربون والكليات، ومدينة التجارة والصناعات.
ولئن اشتهرت بجمال النساء وتبرجهن؛ فقد اشتهرت أيضا بكاتباتها الفضليات، ولا يغرنك خفة روح الباريسي وميله إلى النكات والمزاح؛ فإن في نفسه ذكاء يتأجج لتحصيل العلم والنبوغ فيه.
ولا يدلك على ذلك أكثر من أن باريس تملك شهرتها هذه من مئات من السنين، فلم يتقلص مجدها، ولم تسبقها غيرها من المدائن إلى صفتها الجامعة بين دواعي الجد ودواعي الهزل! •••
وقد زرت باريس في سنة 1896 و97 و1906 وفي غير هذه المرات، ويهمني أن أشير هنا أنني كنت في أول مرة زرت فيها هذه المدينة أختلط بطلبتنا المصريين وأناقشهم وأتحرى معلوماتهم وأتسمع على حالة أخلاقهم وسلوكهم الشخصي من مخالطيهم، وأشهد أني وجدتهم هذه المرة أكثر إقبالا على العلم وأشد اقتناعا بالمسئولية التي يحملونها أمام ضمائرهم وأهليهم وأمتهم.
Halaman tidak diketahui