الفصل الثالث
اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
أسلفت أني عدت من سويسرا بعد أن أبلغني مصطفى كامل أن الخديو مغضب مني لأسباب؛ منها: اتصالي بالشيخ محمد عبده في جنيف، وكان سموه لا يميل إليه، وقد قدمت لسموه تقريرا عن أبحاثي السياسية بعد عودتي إلى الإسكندرية، ثم سافرت إلى وظيفتي بالنيابة، ومكثت بها بضع سنوات حتى كانت 1905 فاستقلت منها لخلاف في الرأي القانوني بيني وبين النائب العمومي «كوربت بك»، وعلى الرغم من نزوله عن رأيه؛ فقد أصررت على الاستقالة؛ لأني ضقت باحتمال جو خانق بالنيابة؛ فقد كنا مكلفين فيها بألا نتصرف في الجنايات الكبرى إلا بعد أخذ رأي النائب العمومي خلافا لما كان العمل جاريا عليه من قبل، وعزمت بعد ذلك على أن أعيش في بلدي؛ لأني كنت وقتئذ متأثرا بما قرأته من مؤلفات تولستوي، ولكن صديقي عبد العزيز فهمي - وكان قد استقال من الأوقاف واشتغل بالمحاماة - ألح علي في الاشتغال معه، فأجبته إلى رغبته، واشتغلت بالمحاماة بضعة أشهر
1
ثم اعتزلتها؛ لأنصرف إلى العمل بالسياسة والتحرير بالجريدة. (1) أصحاب المصالح الحقيقية
وفي ذلك الحين وجدت مشكلة «العقبة» بين مصر وتركيا، وكان الأتراك يدعون أنها لهم، والإنجليز يقولون: إنها ملك لمصر، وكانت الجرائد الوطنية تنصر الأتراك على الإنجليز في هذه المشكلة، كما كانت الحال في مسألة «فاشودة»، فإن المصريين كان ضلعهم مع الفرنسيين ضد الإنجليز الذين كانوا يطالبون بفاشودة باسم مصر، وهذا المعنى لا يمكن تفسيره إلا بأن البلاد ثقل عليها الاحتلال فأصبحت تبغضه وتبغض معه ما يأتي به، ولو كان فيه الخير لمصر. (2) فكرة إنشاء «الجريدة»
وفي هذه الأثناء تحدثت في حالنا السياسية مع صديقي محمد محمود باشا - وكان وقتئذ سكرتيرا لمستشار نظارة الداخلية - وكان حديثي يتناول مسألة «العقبة» وما يجب لمصر في ظروفها السياسية من إنشاء جريدة مصرية حرة، تنطق بلسان مصر وحدها، دون أن يكون لها ميل خاص إلى تركيا أو إحدى السلطتين الشرعية والفعلية في البلاد، وقد رأينا أن تكون هذه الجريدة ملكا لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الحقيقية الذين كان يصفهم اللورد كرومر وغيره من الإنجليز بأنهم راضون عن الاحتلال، ساكتون عن حقوق مصر، وأن الحركة المعارضة للاحتلال إنما يقوم بها من ليس لهم مصالح حقيقية في البلاد كالشبان الأفندية والباشوات الأتراك!
لهذا الغرض دعوت في «الكونتننتال» أصدقاءنا: محمد محمود، وعمر سلطان وأحمد حجازي، ومحمود عبد الغفار، وتحدثنا في الأمر، وقد لاحظنا في حديثنا وأبحاثنا أن الأمل الذي كان المصريون يعقدونه على فرنسا في المساعدة على زوال الاحتلال قد تبدد وانتهى أمره بالاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا الذي عقد في أبريل سنة 1904، وكانت السياسة الفرنسية قبل هذا الاتفاق ترمي إلى مناوأة السياسة الإنجليزية في مصر بعد أن فازت إنجلترا دونها باحتلال وادي النيل، وكانت فرنسا تعاني في ذلك الحين مصاعب في مراكش، وخشيت أن يؤدي فشل إدارتها هناك إلى تدخل الدول وبخاصة إنجلترا وإسبانيا.
ولكن إسبانيا كانت مشغولة بمتاعبها في المنطقة الإسبانية، وكانت إنجلترا هي الدولة التي يخشى منها، ولهذا أرادت فرنسا أن تحصل على حيادها، وكان الثمن الطبيعي لذلك أن تحصل إنجلترا على حياد فرنسا في شئون مصر، فعقدت الدولتان هذا الاتفاق، وأهم ما نص عليه:
أن تعترف الحكومة الإنجليزية أنها لا ترغب في تغيير نظام مصر السياسي، وتعترف الحكومة الفرنسية من جانبها أنها لا تعرقل أعمال إنجلترا في مصر بسؤالها أن تحدد موعد الجلاء أو بأية طريقة أخرى.
Halaman tidak diketahui