وأعظم أعمال السيد تغلبه على بلنسية، وقصة ذلك: أن أمير سرقسطة ندبه لحماية أمير بلنسية، بعد أن اضطرب بها حبل السياسة وتفاقمت الأمور، فدخل المدينة أول ما دخلها مسالما، والسيرة تقول: «فذهب السيد إلى بلنسية، واستقبله الأمير يحيى بن ذي النون أحسن استقبال، وعقد معه ميثاقا تعهد فيه أن يمنحه كل أسبوع أربعة آلاف مرابطي
4
لقاء إخضاع أهل الحصن لطاعته حتى يؤدوا إليه الإتاوة التي كانوا يؤدونها لأسلافه من أمراء بلنسية، وعلى أن يحميه السيد من العرب والنصارى، وأن يتخذ بلنسية منزلا له ومقاما، وأن يجلب إليها ما يسطو عليه من الغنائم لبيعه بها، وأن يتخذ بها أهراءه، وقد دون هذا الميثاق حتى يكون حجة لكليهما، فأرسل السيد إلى من بالحصن يأمرهم أن يؤدوا الإتاوة إلى أمير بلنسية كما كانوا يفعلون من قبل، فقبلوا طائعين وتسابقوا إلى مرضاته.»
ومذ ظفر السيد بهذا المنصب شرع يقود جيوشه المظفرة إلى الممالك المصاقبة «فحارب دانية، وشاطبة، وقام بها في أثناء الشتاء مدمرا عاتيا فلم يدع حجرا على حجر من أريولة إلى شاطبة، وكان يبيع غنائمه وأسراه ببلنسية».
وفقد السيد سيطرته على بلنسية حينا من الدهر في أثناء هذه الحروب والغارات، ذلك أن ألفونسو سنة 1089م/482ه عاد فرضي عنه ومنحه حصونا وأقره على جميع ما استولى عليه في غزواته، وبهذا الإقرار أصبح السيد أميرا مستقلا، غير أنه لم يمض من الزمن إلا قليل حتى عاد الملك إلى الشك في أمره والأخذ فيه بالشبهة، فاقتنص فرصة غيبته بالشمال وأسرع فحاصر بلنسية، وحينما علم الكمبيدور بذلك اشتعل غضبا، ووجه انتقامه إلى مقاطعات ألفونسو، فدمر بالسيف والنار نافار، وقلهرة، وترك حصن لوكرني دكا، وجاء في بعض المدونات اللاتينية القديمة: «وعاث في الأرض جبارا نهابا ثم غادرها قفرا يبابا، بعد أن احتجن خيراتها.» فاضطر ألفونسو إلى رفع الحصار عن بلنسية، وعاد مسرعا لإنقاذ مملكته، ولكن السيد بعد أن نال مأربه من غزو ممالك ألفونسو سلك سبيلا أخرى إلى بلنسية، فوجد أبوابها مغلقة دونه.
ومن ذلك الحين ابتدأ ذلك الحصار التاريخي الذي لبث تسعة أشهر، لاقى فيها أهل بلنسية الشدائد والمحن، فاشتد بهم الجوع والظمأ، كل هذا والسيد ورجاله محيطون بأسوارهم بقلوب أشد صلابة من هذه الأسوار، لم تنفذ إليها الرحمة، ولم تعرف في الحرب لينا ولا رفقا، وآض أهل بلنسية في هذا الحصار القاتل أشباحا هزيلة خائرة القوى، أخذ منها السغب وأنهكتها المخمصة، وكان إذا وثب أحدهم من السور أو ألقاه أهل المدينة لأنه لا غناء فيه ولا معونة عنده، تلقفته سيوف أتباع السيد، أو أبقت عليه فبيع كما تباع العبيد، ويقول مؤرخو العرب: إن السيد أحرق كثيرا من هؤلاء أحياء، وتوجز سيرته في وصف هذا الحصار فتقول: «ولم يبق بالمدينة طعام يباع، وأصبح الناس بها يترنحون بين أمواج الموت، وكثير منهم من سقط في الطرق ميتا.»
وسلمت المدينة في يونيه سنة 1094م/487ه حين يئست من المقاومة، وحين لم يبق لها في قوس الصبر منزع، ووقف السيد مرة أخرى فوق حصونها وأسوارها مؤزرا منتصرا، ثم أملى على أهل بلنسية شروطا قاسية، وطرد كثيرا منهم من المدينة لتخلو أمكنتهم للقشتاليين، وفي الحق إن السيد كان جافيا في معاملة المغلوبين أشد الجفوة ناكثا بعهده،
5
ولكنه لم يدنس انتصاره بحصد الأرواح وذبح من في المدينة كما كان يفعل كثير في هذا الزمان، نعم، إن من السكان من فقدوا ما يملكون، ولكنهم جميعا نجوا بحياتهم، ولم يقتل إلا قوادهم، وأرسل السيد يستقدم زوجه وبنتيه من الدير، ودعا بنفسه ملكا على بلنسية، وحاميا للممالك حولها، وضرب إتاوات فادحة على جيرانه حتى بلغ دخله في السنة من بلنسية وحدها مائة وعشرين ألف دينار، ووصل إلى عشرة آلاف من ابن رزين صاحب السهلة، ومثلها من أمير البنت، والى ستة آلاف من أمير مربيطر، وهكذا.
وخيلت له الأحلام أن يسترد الأندلس كلها؛ فقد قال: إن لذريق خسر إسبانيا وسيعيدها لذريق آخر، وحين حاربه المرابطون شتت جموعهم، وبدد شملهم في معركة حامية.
Halaman tidak diketahui