تقوت هذه العصابة الفارة شيئا فشيئا، وزاد في بأسها وفود النصارى إليها من أقطار الشمال، وحينما شعرت بالقوة، واطمأنت إلى الثقة بنفسها، خرج رجالها من معقلهم وأخذوا يناوشون البربر النازلين بحدود الأندلس، حتى اضطر العرب في النهاية إلى أن يزحفوا على كهف هؤلاء المغيرين البسلاء ليستأصلوهم، ولكنهم لم يظفروا بطائل؛ فقد هزمهم المسيحيون في هذه المحاولة وغنموا منهم مغانم كثيرة، وفي سنة 751م/134ه تزوج ألفونسو (الأذفونش) صاحب كانتابريه (التي لم ينفذ إليها العرب) بابنة بلاي، فوحد هذا الزواج كلمة المسيحية، وهب ألفونسو فأثار الولايات الشمالية على العرب، وشن بجنود من أهل غاليسية على المسلمين حروبا متعاقبة دفعتهم إلى التقهقر نحو الجنوب، واسترد من أيديهم مدن براجا، وبورتو (مدينة البرتقال)، واستروجة، وليون، وطلمنكة، وزمورة، وليدسمة، وسلادانة، وشقوبية، وآبلة، وأوسما، وميراندة، وامتد الحد المسيحي إلى الجبال الكبرى وأصبحت حصون الحد الإسلامي مدن: قلمرية، وقورية، وتالاڨيرة، وطليطلة، ووادي الحجارة، وتدلة (تيوديلة)، وبنبلونة.
والحقيقة أن ألفونسو استرد ولايات قشتالة، وليون، وأستورياس، وغاليسية، غير أن هذه العصابة بعد أن ملكت ما ملكت، خلت إلى أنفسها فرأت أيديها صفرا من المال، ورأت أنه لم يكن لها من العبيد والخول من يقومون ببناء القلاع واستنبات الأرض في تلك البقاع الواسعة التي استرجعتها، فخطر لها أن تتركها للعرب على أن تكون حدودا بينهما غير ثابتة، وارتدت إلى المقاطعات حول خليج غسقونية حتى يحين الوقت الذي تسوغ لها فيه كثرة العدد والمال احتلال بقاع أوسع.
وجاء القرن التاسع وأحس المسيحيون بما يحفزهم إلى استعادة البقاع التي تغلبوا عليها من قبل، فانتشروا بمقاطعة ليون وابتنوا لصد أعدائهم قلاع زمورة، وسان استيبان، وأوسما، وسيمنقاس، ثم تقدموا فضيقوا فسحة الحدود بينهم وبين العرب حتى لقد كانت تتلاصق جيوش الفريقين في بعض المواطن، وحاول العرب في بداءة القرن العاشر أشد محاولة أن يستردوا أراضيهم بما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، ولكن المسيحيين هزموهم شر هزيمة، وتواثبوا على حدودهم بعد أن استعانوا برجال من طليطلة، وبعد أن شد أزرهم سانشو (شانجة) ملك نافار (بنارة) الذي أصبح موئل المسيحية في الشمال.
وكانت حروب المسيحيين نقمة وسوط عذاب على أعدائهم؛ فقد كانوا جفاة أميين، وكانت أخلاقهم على اتساق مع أميتهم، وما كان يتوقع من هؤلاء الجفاة المتوحشين إلا التعصب والقسوة، فإنهم لم يؤمنوا مستجيرا، ولم يتركوا فارا، ولم يبقوا على جريح، وهذا يذكرنا - والحزن ملء صدورنا - بما كان للعرب من بطولة ورفق وسماحة خلق، فكثيرا ما عفوا عن أعدائهم نبلاء متكرمين، بينما نرى اليوم رجال ليون وقشتالة العتاة يذبحون جميع رجال الحاميات، ويستأصلون مدنا مليئة بالقطان، حتى إذا نجا أحد من سيفهم لم ينج من استعبادهم.
لم تمر سنتان من حكم عبد الرحمن الناصر حتى زحف أردون الثالث صاحب ليون بجيوشه على العرب، وأثار حربا شعواء بلغ بها أسوار ماردة، واشتد هلع أهل بطليوس لمقدمه، فأسرعوا إلى مصالحته بالمال لاتقاء شره، واشتد الخطر على المسلمين لقرب هاتين المدينتين من قرطبة، ولم يكن يحول بين جيوش أردون وبينها إلا شارات مورينا الشاهقة، فكان الموقف شديد الحرج على المسلمين، ولو أن الأمير كان جبانا لتلمس لنفسه الأعذار في نكوصه عن القتال؛ لأن ماردة لم تكن تعترف بعد بسلطانه، فأي شأن له إذا وثب النصارى على ولايات خارجة عليه؟! ولكن شيئا من هذا لم يكن من نحيزة عبد الرحمن ولا من خلقه، فوثب في الحال وجمع جموعه وأرسل بعثا إلى الشمال فشن غارات قاسية على مملكة المسيحيين، وأرسل في السنة التالية سنة 917م/305ه حملة أخرى لم يكن لها من التوفيق ما كان للأولى، فهزمها أردون أمام أسوار سان استيبان، واستخلص من المسلمين كثيرا من الغنائم.
وحينما رأى القائد العربي المغوار
3
طلائع الهزيمة قذف بنفسه بين الأعداء ومات وسيفه في يده، وكان من جبن ملك ليون ووحشيته أن أمر بحز رأس هذا الجندي الشجاع وتسميره بباب القلعة إلى جانب رأس خنزير، ثم أطغى الانتصار جيوش ليون ونافار، فعاثوا في السنة التالية فيما حول طليطلة، وتغلب عليهم جنود قرطبة في أثناء ذلك في موقعتين، وفي هذا الحين عزم عبد الرحمن على أن يستكمل عدته؛ لأنه رأى أن التغلب على المسيحيين يتطلب جهدا أعظم وأمضى، فقاد في سنة 920م/308ه الجيوش بنفسه، ومضى مسرعا متسلحا بمهارته وحسن رأيه، فدهم أوسما وسوى قلعتها بالأرض، ودمر سان استيبان بعد أن فرت حاميتها، ثم اتجه إلى نافار ونازل سانشو (شانجة) ففر أمامه من الميدان مرتين، ثم جاءت النجدة من ليون إلى جيوش نافار، وكان المسيحيون في موقع طبيعي يمكنهم من العرب، ولكن الأمير نازلهم في وادي القصب واستأصل جموعهم، وأثارت منعة حدود المسيحيين غضب المسلمين فوضعوا السيف والنار في حامية ميوز.
ومن الحق أن نقرر آسفين أن العرب في بعض هذه الوقائع حاكوا أعداءهم في أعمال القسوة والعنف، وبخاصة حينما كانت تضم جيوشهم عددا من الإفريقيين الذين اشتهروا بالوحشية والشراسة، ولكن عود المسيحيين كان صلبا لا يلين، فلم تستطع الهزائم أن تفل من عزمهم أو تكسر من شوكتهم، ولن يفوق شيء عزم المسيحيين المغلوبين؛ فقد كانوا على توحشهم يمتازون بشجاعة الرجال، فكم حطمت جيوشهم مرة بعد مرة وهم ينهضون في إثر كل هزيمة بقلب ثابت جديد؛ لذلك لم يمض على كارثتهم في موقعة وادي القصب إلا سنة واحدة حتى وثب أردون الذي كان يمثل روح المقاومة المسيحية، وشن بجيوشه حربا ضروسا على الحدود.
وفي سنة 923م/311ه زحف سانشو ملك نافار واستحوذ على بعض القلاع القوية، فأثار ذلك همة الأمير، فقاد جيوشه مرة أخرى نحو الشمال وقد تملكه في هذه المرة عزم عابس، وأدركه غضب الأسود ديس عرينها، فانتهب وأحرق كل ما مر به من المدن والقرى، وملأ الرعب منه النفوس فأخذ الناس يجلون عن المدن كلما شعروا باقترابه، وفتحت له قصبة بنبلونة أبوابها بعد أن فر أهلها، ومزق جيش سانشو فتراجع منهزما مدحورا، وقام المسلمون إلى كنيسة القصبة فهدموها ودمروا كثيرا من دورها، وأصبحت نافار بمن فيها وما فيها تحت قدمي الأمير.
Halaman tidak diketahui