سمة أخرى تتميز بها أكثر مما تتميز بها أمة أخرى، وتلك هي الحاسة المرهفة التي تميز بها بين ما يستحق الاهتمام الجاد وما لا يستحقه، إننا أمة قطعت على طريق الزمن أكثر من ستة آلاف عام، وحملت على كتفيها أربع حضارات متعاقبة، وهي الآن تدخل الخامسة، ومحال أن يكون وراءها هذا الرصيد الضخم من خبرات متراكمة دون أن يترك على وجهة نظرها أثرا باقيا، يشبه ما تتركه الأعوام في حياة الفرد الواحد، فعلى خلاف الحديث الغر، ترى من أثقلته السنون بخبراتها بطيء الانفعال أمام الحوادث، فلا يستثيره منها إلا ما يمس صميم الحياة ... وهذه هي صورة المصري. إنني كثيرا ما أتفرس ملامح الفلاح المصري وهو ما يزال في نقاء الريف، خصوصا من تقدمت به السن، فأجد على وجهه وفي نظرات عينيه تلك الرصانة الرزينة والحكمة الهادئة - مع صمت لا يلغو ولا يثرثر - التي يراها الرائي في تماثيل الفن المصري القديم ... والمصري - بل العربي بصفة عامة - متفائل بطبعه، فهو مهما ضاقت عليه الدوائر آمن بكل كيانه أن بعد العسر يسرا. ولا يجيء تفاؤله هذا عن سطحية النظر، بل هو تفاؤل صاحب النظرة العميقة التي تعلم أن في الكون تدبيرا يكفل أن يعتدل الميزان، فلا يكون نقص هنا ولا إجحاف هناك إلا ابتغاء تكامل أسمى، لا يترك مثقال ذرة من الخير أو من الشر إلا أن يعقب عليه بما يوازنه ... (من مقالة «هذه بعض سماتنا» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
من ذا الذي لا يحس الشعور الديني العميق الذي يملأ النفوس ويعمر القلوب في أبناء مصر؟ ذلك الشعور الديني - في عمومه وبغير تخصيص عقيدة بعينها - الذي يجعل الإنسان يجاوز الشهادة إلى الغيب، ويجاوز اللحظة العابرة الحاضرة إلى حياة الخلود، ويجاوز حدود الأشياء إلى ما يمكن أن ترمز إليه تلك الأشياء. أقول: إن ذلك الشعور الديني العام مميز ثابت لنا مهما يطرأ على تياره الدائم من متغيرات الشعائر في مراحل التاريخ ومتعاقب الديانات؛ ذلك إذن أحد الأصول الثابتة في نظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، وأما ما «ينبع» من تلك الطبيعة فينا فأمور كثيرة، من أهمها في حياتنا العصرية الحاضرة: التسوية بين الناس على اختلاف أعمالهم؛ لأنه إذا خيل إلينا أن الأفراد يتفاوتون في اللحظة العابرة، فهم بالنسبة إلى الأبدية سواء، على غرار ما نقوله إذ نقول: إن جميع الأشياء على وجه الأرض يتساوى بعدها عن الشمس.
ولهذه النقطة نفسها وجه آخر «ينبع» مباشرة من نظرتنا الدينية العميقة التي ذكرناها، وهي أن القيمة العليا التي يقاس بها الناس ارتفاعا وانخفاضا ليست هي النجاح المادي في الحياة العملية؛ فهذا النجاح الذي يقاس بالمال والمنصب إنما ابتكرته شعوب أخرى حديثة العهد في تاريخها، لكننا - حتى وإن تظاهرنا بقبوله - لا نحس أنه يضرب بجذوره في أعماقنا. إن الواحد منا يعمل العمل ثم يأخذ أجره المالي وهو في حالة من الخجل لا يستطيع إخفاءها، وكثيرا ما نسمع المتحدث منا يقول في سياق حديثه: إن ما يهمني ليس هو المال، وإنما المهم هو كذا وكذا. والخلاصة هي أن الإنسان في نظرتنا إنسان بإنسانيته الطيبة الورعة المستقيمة أكثر منه إنسانا بما يملكه أو لا يملكه (راجع مقالة «طبيعتنا وما ينبع منها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
4
لبثت على ضلال فيما يختص بالعلاقة بين مصر والوطن العربي إلى سنة 1956م، فلقد كنت قبل هذا التاريخ معتقدا بأن مصر وحدة قائمة برأسها من الناحية الحضارية، ولا يجوز لنا أن ندمج أنفسنا في قومية عربية تأخذ منا ولا تعطينا. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أنني عندما زرت متحف المتروبوليتان بنيويورك، ووجدت الجناح المصري ممتدا على عشر غرف متلاصقة، ويسطع ضياؤه كأنه هو الجوهرة النفيسة على تاج الماضي كله في تاريخ الإنسان، عدت إلى غرفتي بالفندق مسرعا لأكتب يوميتي التي كنت أتابعها يوما بعد يوم (ونشرت بعد ذلك سنة 1955م في كتاب «أيام في أمريكا») فكتبت يومئذ ما عبرت به عن خوالج نفسي إزاء آبائنا القدماء، وزل قلمي وانحرف عن حدود اللياقة عندما تساءلت في دهشة الذاهل: كيف يمكن أن يكون هذا هو مجد مصر، ثم نجد فينا من يدعونا إلى «عروبة» تكاد لا تملك في يديها ما تقدمه إلى العالم، وإلا فأين معروضها في متاحف الدنيا؟ ... فلما أن نفدت الطبعة الأولى من ذلك الكتاب في عام أو بعض العام، ولم أكن أنوي إعادة طبعه؛ وجدتني قد غيرت رأيي في هذا الموضوع الحيوي، فكأنما أراد لي الله هداية بعد ضلال، فرأيت الحقيقة أنصع من ضوء النهار المشرق بشمسه الساطعة؛ وهي عروبة مصر، واشتد إيماني بأن عزة مصر لا تكتمل إلا وهي - برغم مصريتها المتميزة بماضيها وحاضرها معا - جزء من وطن عربي كبير؛ فأعدت طبع «أيام في أمريكا» لأمور كان أبرزها عندي وأهمها أن أحذف ما ورد في تلك اليومية مما اجترأت به على الحق، والحق أحق أن يتبع؛ فذلك خير ألف مرة من أن يمضي الضال في ضلاله. وكان ذلك في سيرتي العقلية فاتحة خير وبركة؛ لأنه دفعني بقوة إلى التزود من الثقافة العربية كما هي واردة في تراثها، وكان ما كان من وقفات فكرية سجلتها خلال السبعينيات في عدة كتب، بدأتها بكتاب «تجديد الفكر العربي».
وكان من الأسئلة الفرعية التي طرحتها على نفسي وبحثت لها عن جواب سؤال عن الصورة التي اقترحت بها الرؤية المصرية الخالصة والرؤية العربية العامة، فماذا حدث بعد الفتح العربي؟ وكيف حدث؟ لتخرج مصر بما خرجت به آخر الأمر من وجهة نظر اختلطت فيها - بغير شك - قيم الصحراء وحياتها بقيم الوادي الأخضر وحضارته على مدى التاريخ؟
ولقد أعانني على الجواب عن هذا السؤال تلك اللفتة البارعة التي وجدتها عند ابن خلدون، حين تناول فكرة الصراع بين «البداوة» و«الحضارة» بالمعنى الخاص الذي قصد إليه ابن خلدون بهاتين الكلمتين، فنظرة خاطفة إلى خريطة الوطن العربي الكبير تكفينا لندرك الصورة في إجمالها، وهي أن ذلك الوطن قوامه الصحراء التي هي أوسع الصحراوات اتساعا على وجه الأرض، تطرز حوافيها مراكز عريقة في الحضارة، تمتد مع شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعبر بلاد الشام إلى العراق، لتعود فتمتد على شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر، فكأنك إذ تنظر إلى خريطة الوطن العربي فإنما تنظر إلى رقعة فسيحة من النسيج الأصفر توشي أطرافها - دائرا ما تدور - زخارف الألوان.
وهنا تأتي الملاحظة البارعة النافذة التي ذكرها ابن خلدون، وهي أن الصراع ما انفك قائما بين ثقافة الوسط وثقافة الأطراف، والثقافة الأولى هي ما أسماه «بالبداوة» والثقافة الثانية هي ما أسماه «بالحضارة»؛ أي إن الأمر بينهما لم يكن أمر تخلف هناك وتقدم هنا، بمعنى أن تكون البداوة مرحلة تجيء سابقة على طريق التطور، ثم تأتي بعدها مرحلة الحضارة، بل الأمر بينهما هو أمر ثقافتين متجاورتين، لكل منهما خصائصه التي يتميز بها. ولما كانتا متجاورتين على النحو الذي ذكرناه فقد شهدتا تفاعلا هو الذي حدد مسار التاريخ في هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، ولكنه تفاعل فيه طغيان البداوة على الحضارة أحيانا، فتهجم الثقافة الأولى على ظهور جيادها وفي ظلال سيوفها؛ لتغزو الثقافة الثانية في حصونها وقلاعها.
وأبرز العناصر في المركب الثقافي الذي نعنيه بكلمة «البداوة»: العصبية للقبيلة أو للعشيرة، والركون في تأمين المستقبل ضد مفاجآت الحوادث، هي «المروءة» التي هي مزيج من الكرم والشهامة في نجدة المحتاج. ويقابل هذه الخصائص في المركب الثقافي الآخر - الذي نطلق عليه اسم «الحضارة» في سياق حديثنا هذا - الانخراط في بناء الدولة، والانصياع عن طواعية للقوانين التي تسنها تلك الدولة لتنتظم شئون الحياة، وأما تأمين المستقبل فوسيلته في هذه الثقافة الحضارية هي ادخار المال الفائض، ادخارا يبقيه كما هو، أو يستثمره في إنتاج جديد.
والآن فلننظر إلى مصر، فما الذي حدث لها في كيانها الثقافي خلال هذا الصراع بين بداوة الوسط وحضارة الأطراف؟ لقد كانت مصر على امتداد تاريخها الطويل مركزا هاما من تلك المراكز الحضارية، التي قال عنها ابن خلدون: إنها ما فتئت مهددة بهجمات البداوة تأتيها من خارج حدودها، وإذن فلا بد أن تكون قيمها الأساسية قد ارتجت آنا بعد آن، حتى تداخلت فيها عناصر البداوة مع عناصر الحضارة، في مزيج قد يتعذر فيه أن نرد كل عنصر إلى أصله إلا بعد تحليل هادئ ودقيق.
Halaman tidak diketahui