كنت في معالجتي للمشكلة - التماسا لحلها - كمن يتحسس طريقه في مدينة مجهولة؛ فيحاول السير من هذا الشارع مرة ومن ذلك مرة، لعله آخر الأمر يقع على سبيل تؤدي به إلى الغاية المنشودة، التي هي أن نعثر على صيغة ثقافية نعيش بمقتضاها فلا تعقد هويتنا ولا يفلت منا زماننا.
فكانت بين المحاولات محاولة بدأتها بوضع أصابعي على سمة بارزة تفصل بين وجهتي النظر: وجهة النظر المستخلصة من تراثنا، والأخرى المستخلصة من ثقافة الغرب في مرحلته الراهنة. وتلك السمة هي موقف الإنسان من «الواقع»، فهنالك من الناس من يغلب عليهم الوقوف من الواقع عند ظواهره المدركة بالحواس، وهي نظرة تؤدي بصاحبها إذا ما وصل فيها إلى ذروتها تؤدي به إلى الموقف «العلمي» بما يميز المنهج العلمي من التزام الدقة في المشاهدة والتجارب التي تجري على الظاهرة المبحوثة. وهنالك من الناس من يقلقه أن يقف من الواقع عند ظواهره وكفى، بل يريد أن يجاوز تلك الظواهر إلى جوهر خبيء كامن وراءها، فكأنما تلك الظواهر لا تزيد في حقيقتها إلا أن تكون «رموزا» تشير إلى أن وراءها سرا، وعلى الراغب في بلوغ الحق أن يجاوزها ليكشف عن السر غطاءه. وصاحب هذه النظرة إذا هو سار بها إلى ذروتها كان «المتصوف» في مجاهدته لرؤية الحق رؤية مباشرة بعد أن يزيح عنه القناع. لكن هاتين النظرتين: العلمية والصوفية، قد تلتقيان في فرد واحد إذا استطاع أن يقسم حياته قسمين؛ أحدهما ينصرف به إلى دنياه، والآخر يلتمس به الآخرة. ولقد أسهبت القول في فصل سابق خصصته للحديث عن اجتماع العقل والوجدان معا في الثقافة العربية، فبينت كيف أن تاريخ الثقافات يدلنا بما تركه لنا الأقدمون، كيف غلبت النظرة العلمية على اليونان - والغرب كله بعدهم - وغلبت النزعة الصوفية على الشرق الأقصى، وأما الثقافة العربية فقد كان لها القدرة على أن تضم أولئك وهؤلاء في بناء متكامل، ففيها النظر العلمي إلى أعلى ذراه، وفيها الوجدان الصوفي إلى أعمق أغواره، فكانت هذه الثقافة العربية بجناحيها وقفة ثالثة جمعت في بنيانها بين الحسنيين.
لكن ذلك الجمع لم يتحقق لها إلا في عصور قوتها، وأما إذا دب في أوصالها ضعف؛ جنحت إلى جانب الوجدان على حساب الموقف العلمي.
ففي الفصل الذي عنوانه «الواقع وما وراء الواقع» (راجع كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») جاء ما يأتي: «... إن أغلب الظن عندي هو أن أوضح سمة تميز العربي في ثقافته - وذلك حين يكون هذا العربي في عصور قوته - هو أنه يوازن في دقة وبراعة بين وجهي الحياة: فللواقع المحدود المحسوس مجال، ولما وراءه مجال آخر، بحيث لا يطغى أحد المجالين على الآخر، بل يتكامل المجالان في حياة سوية متزنة، وربما كان المعنى المقصود من الحديث الشريف بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدا ولآخرته كأنه يموت غدا، هو وجوب مراعاته لهذا التوازن بين النظر إلى الواقع حين ينبغي أن يحصر رؤيته فيه، ثم النظر إلى ما وراءه، باعتبار الواقع في هذه الحالة رمزا يشير إلى ما هو أرفع وأسمى ؛ فالواقع مهما كانت قيمته إنما هو جزئية عابرة تجيء وتمضي، وأما ما يمكن أن يشير إليه، فمطلق أزلي لا يتعاوره الحدوث والفناء.»
لكن هذا التوازن في الثقافة العربية الأصيلة، بين الوقوف عند حقائق الواقع حينا، ومجاوزته إلى ما وراءه حينا آخر، بحسب طبيعة اللحظة التي يحياها العربي وما يكتنفها من ظروف لا تتحقق على وجهها الأكمل إلا حين تكون تلك الثقافة في مرحلة من القوة والعافية، أما في مراحل الضعف - وأحسب أننا اليوم نجتاز إحداها أو قل على أحسن الفروض: إننا نجتاز منها مرحلة مزيجا من قوة وضعف - فعندئذ ترى العربي أميل إلى التركيز على الجانب الوجداني من ثقافته.
الرأي الشائع فينا اليوم هو أن العقل بعلومه (وهو لب العصر الذي نعيش فيه) عدو للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة للوجدان، فسحقا للعقل ومناهجه: «... إنه كانت المفاضلة بين رأس وقلب، فلا تردد في اختيار القلب، وهل هي مصادفة أن تجد منا ألف شاعر كلما وجدت عالما واحدا؟ إنه لما كثرت علوم الغرب، وامتلأت الدنيا بأجهزته ومكناته قلنا عنه: إنه «مادي» لعين، وأما نحن - بما نسبح فيه من ملكوت الوجدان - «مروحانيون» أنقياء وأصفياء، كأنما العلم هو من وحي الشياطين، وكأنما أجهزته ومكناته قد ركبها الأبالسة، وحذار أن تذكر أمامهم أن العلم الذي يتجلى في هذه الآلات هو «عقل» تجسد، أو هو «روح» ظهرت فيما أبدعته، ليصبح ذلك العقل - أو الروح - مشهودا بعد أن كان كامنا وخافيا شأن كل خالق وخلقه، حذار أن تقول شيئا كهذا؛ لأن الروحانية في حياتهم يستحيل أن تتدلى إلى دنس الصفائح المعدنية تنشرها المصانع وتطويها طيارة أو سيارة أو ما شاءت ... إن أغلب الناس حولنا هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء قبل أن ينطق بها العلماء.» (راجع «أزمة العقل في حياتنا» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).
ذكاء العقل إذا توقد، خشي الناس لعنته؛ لأنه نافذ إلى الأعماق، وهم يريدون أخذ الأمور «بالبركة» من أسطحها لا من أعماقها، ولأن ذكاء العقل يتشكك قبل أن يستقر على عقيدة، وهم يريدونها عقيدة خلصت من شوائب الشك والبحث، وكثيرا ما تسمعهم ينعتون مثل هذا الشك المتسائل المتقصي «خوضا» فيما ينبغي ألا يخاض فيه. إن إعمال العقل - عند معظم الناس في بلادنا اليوم - مجلبة للشقاء؛ لأن الحياة - عندهم - تسلم زمامها إلى الذين يقبلونها كما ترد إليهم، عن عمى وصمم ... (الموضع المذكور من كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).
في مثل هذه الحالة الرافضة للعقل وعلومه ومنطقه وحسابه، يدهمنا عصرنا بثقافة تدور رحاها حول محور العلوم ودقة الحساب، فلا خيار لنا إلا واحدا من بديلين: فإما عناد وإصرار على رفض العقل وعلومه فنذبل ونفنى ونصبح نهبا مباحا لكل من أراد أن يغزو ويستعمر، وإما يقظة نسترد بها ما هو في مقومات العربي إبان قوته، وأعني توازنا بين عقل ووجدان في بنيانه الثقافي؛ وبذلك يسهل عليه أن يساير العصر بكل علومه وصناعته وتقنياته، ثم يضيف بعدا وجدانيا قد يتميز به دون أن يلحق به ضرر التخلف الحضاري. «... فتستطيع أن تقول عن عصرنا هذا أي شيء تريد، لكنك لا بد ناعته بأنه عصر علمي من الرأس إلى أخمص القدم، ولا ينبغي عن العصر علميته هذه أن تراه يلجأ في دنيا الأدب والفن إلى ضروب يتحلل فيها من روابط المنطق، مستهدفا بذلك أن يزيح عن ظهره صرامة العلم ومنطقه ولو لبضع ساعات ليستريح. وإذا قلنا عن العصر: إنه ذو طابع علمي ظاهر في أدواته وآلاته وتقنياته؛ فقد قلنا بالتالي إنه عصر يرتكز على «الواقع» وحده وإلا فهل يترك عالم الضوء - مثلا - ظاهرة الضوء لننظر إلى ما وراءها؟ هل نريد لعالم الطبيعة الذرية أن يغض النظر عن الذرة التي هي موضوع بحثه ليبحث عن خفاء كامن خلفها؟ لا؛ فالعلم مربوط بالواقع بأوثق الروابط، والعالم مشدود العنق إلى موضوع بحثه، يصب عليه المشاهدة ويجري عليه التجارب؛ ليستخرج خصائصه وتفاعلاته مع غيره، ثم ليصوغ له القوانين آخر الأمر في صورة رياضية؛ ليتمكن الإنسان بعد ذلك من إلجام الظواهر الطبيعية بكل ما استطاع من شكائم، فيركبها ويوجهها كما يفعل مهرة الفرسان في جيادهم.
فإذا شاء العربي أن يعاصر زمانه، فلا مندوحة له عن العلم ثم العلم، ثم لا ثم بعد العلم. وإنما عنيت العلم بمعناه الطبيعي، لا بالمعنى الذي يتصوره بعضنا «حفاظا» لما ورد في صحائف الأقدمين، فلن تزداد عصرية لو رويت عن ظهر قلب ألف ألف بيت من الشعر، لكنك تزداد عصرية لو شاركت في العلم بالإلكترون وفي تسييره لخدمة الإنسان، وكما أن الحياة يقظة للنشاط المنتج ونعاس للراحة والأحلام، فكذلك حياة الإنسان الثقافية؛ يقظتها في دراسة العلم الطبيعي وتطبيقاته، ونعاسها الحالم في رحاب الأدب والفن» (راجع فصل «الواقع وما وراء الواقع» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»). «... ولو أمعنت النظر حولك في أحاديث الناس ومسالكهم؛ لرأيت هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيك، لا، بل إنك لتراها ملقاة أمامك على قارعة الطريق، لا تطلب منك إمعانا للنظر، وهي أننا لا نكاد نغفل عما وراء الواقع في حياتنا لحظة، فذلك هو طابعنا الثقافي الأصيل المميز، ولا عجب أن كنا نحن الأمة التي عن طريقها عرفت الدنيا رسالات السماء. ومعنى ذلك أننا - بحكم الوراثة الثقافية نفسها - معدون أتم إعداد لإضافة الباطن الخفي إلى الظاهر البادي، فإذا استطعنا - بالمشاركة في الحركة العلمية - أن نشارك عصرنا في هذا الظاهر البادي للبصر والسمع، فما أيسر علينا بعدئذ أن نميز أنفسنا بنظرتنا الخاصة إلى ذلك الخفي الباطن» (الفصل المذكور).
4
Halaman tidak diketahui