4
إذا جاز لنا أن نضع عنوانا وصفيا يلخص اتجاه الثقافة العربية في كل عصورها المنتجة، قلنا: إنها عقل في خدمة الوجدان، فلئن كان العقل والوجدان مقومان أساسيان في بنية الثقافة العربية، فلست أظنهما يقعان معا على مستوى واحد، بل إن للحياة الوجدانية - وفيها الإيمان الديني - أولوية تجعلها أسبق، ثم يأتي نشاط العقل مجسدا في الفلسفة والعلم وما يتفرع عنهما؛ ليخدم الجانب الوجداني في تحقيق نوازعه.
ولقد صورت هذه الثنائية المتآلفة في وجهة النظر العربية بصور شتى فيما كتبته، فكتبت تحت عنوان «الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة» فصلا طويلا (راجع ذلك الفصل كاملا في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») أقول فيه: «صميم الثقافة العربية - لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها - هو أنها تفرق تفرقة حاسمة بين الله وخلقه، بين الفكرة المطلقة وعالم التحول والزوال، بين الحقيقة السرمدية وحوادث التاريخ، بين سكونية الكائن الدائم ودينامية الكائن المتغير؛ فالأول جوهر لا يتبدل والثاني عرض يظهر ويختفي، على أنها تفرقة لا تجعل الوجودين على مستوى واحد، بل تتخذ من عالم الحوادث رمزا يشير إلى عالم الخلود، فمهما تكن طبيعة الواقع والأحداث مما يقع عليه البصر والسمع، فليست هي إلا علاقات تشير - لصاحب البصيرة النافذة - إلى الكائن الروحاني الكامن وراءها، إلى مبدعها ومجريها، وسواء نظرت إلى الإنسان باعتباره عالما صغيرا، أو نظرت إلى الكون كله باعتباره إنسانا كبيرا - وهي مقابلة يكثر ورودها في ثقافة العرب الأقدمين - فإن مادة الجسم في كلتا الحالتين إنما هي ستار يستر وراءه روحا يمتنع على الفناء.
تلك التفرقة الفاصلة بين ظاهر الأمر وباطنه هي المنبت العميق الذي يوضح لنا ما يقسم رجال الثقافة عندنا في فترات التحول قسمين، أطلق عليها حينا (في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته) أسماء القديم والجديد، وحينا آخر (في أيامنا هذه، والإشارة هنا إلى الستينيات) أسماء الرجعية والتقدمية، وذلك أن رجال الثقافة هؤلاء كلما عصفت بهم رياح الحوادث ونظروا حولهم، فإذا هذا الهيكل الصوري راسخ كالجبال العاتية التي لا تنال منها الرياح، ظن منهم فريق أن النجاة هي في اعتصامهم بأركانه، وظن فريق آخر ألا نجاة إلا بالخروج منه ليلوذوا بهيكل ثقافي آخر أقامته حضارة أخرى أثبت العصر نجاحها، ومهد لها سبيل السطوة والسيادة، فأنصار القديم - أو الرجعيون - هم الذين يلوذون بالمبادئ نفسها، وبالقواعد نفسها، وبالصورة نفسها، التي ميزت الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي قلنا عنها: إنها في صميمها تفرقة بين عالم الأزل وعالم الزوال، وأما أنصار الجديد - أو التقدميون - فهم الذين يودون لو بتروا الشجرة من جذورها، فلا يعود الظاهر مردودا إلى الباطن، ولا الحاضر منسوبا إلى الماضي، ولا الأحداث محكومة بمبادئ سوى المبادئ التي نقررها نحن المعاصرين لها، حتى لا تترك قيادة الأحياء للموتى ...» تلك هي السطور التي افتتحت بها الفصل المذكور، ورسمت بها الهيكل الثقافي الذي نحيا على أساسه، إما انصياعا له وإما خروجا عليه، وهو هيكل - كما رأيت - قائم على جوهر ثابت ومتغيرات، فأما الجوهر الثابت فمتروك أمره للوجدان - الوجدان الديني بصفة خاصة، وأما المتغيرات فكثيرا ما نراها موكولة إلى العقل يدبر لها مسالكها، وهكذا جاءت حياتنا - وتجيء - قسمة بين وجدان وعقل: الوجدان يملي أهدافه، والعقل يسعى إلى تحقيق تلك الأهداف.
5
إن سؤالا لينشأ - وكثيرا ما نشأ - فارضا نفسه على العقل يريد جوابا، وهو السؤال عن مدى إمكان الامتزاج في نفس واحدة بين عقل ووجدان، مع أن كلا منهما يطلب ما يتنكر له الآخر؛ فالعقل يطلب أن تقام البراهين على كل فكرة يتقدم بها صاحبها إلى الناس، وأما الوجدان فيقبل ما يقبله ويرفض ما يرفضه بلا برهان، وماذا نعني «بالبرهان» الذي يتطلبه العقل دائما شرطا لما يطلب منه قبوله؟ نعني أحد أمرين: فإذا كانت الفكرة المقدمة مزعوما لها أنها متولدة عن فكرة أخرى أعم منها، كان على صاحبها أن يبين للناس كيف جاءت الفكرة الأخص من الفكرة الأعم، شريطة أن تكون هذه الفكرة الأعم نفسها متفقا على صوابها، أو على قبولها على سبيل الافتراض، ولكن قد لا تكون الفكرة المقدمة وليدة فكرة أخرى، بل هي مستدلة من بينات محسوسة من مرئي ومسموع، فعندئذ يكون معنى البرهان هو أن تدل الناس على تلك الشواهد ليروها بأعينهم كما رأيتها بعينيك، أو ليسمعوها بآذانهم كما سمعتها أنت بأذنيك، فأما النوع الأول من البرهان فنراه في العلوم الرياضية وما يجري مجراها من ضروب الفكر، وأما النوع الثاني من البرهان فهو ما نراه في العلوم الطبيعية أو ما يشبهها من أفكار تتصل بالواقع الخارجي.
تلك خلاصة لما نعنيه «بالعقل»، وأما ما ندركه بالوجدان - أو بالشعور أو بالعاطفة أو بالغريزة - فشأنها شأن آخر، إن صاحب الإدراك في هذه الحالة ليس عليه إلا أن يقول: إنه «يشعر» بكذا وكيت، ولا يغير من إدراكه ذاك أن تقبله أنت أو أن ترفضه، إذا قال لك قائل: إني أحس بالقلق في هذا المكان، فلا جدوى في أن تؤكد له أنك من ناحيتك لا تجد قلقا، وأنك تشعر في المكان نفسه بطمأنينة كاملة.
نعود الآن إلى السؤال الذي بدأنا به: أيجوز أن يلتقي في نفس واحدة عقل ووجدان معا، كما قد زعمت أنهما يلتقيان في نفس العربي والمصري بصفة خاصة؛ إذ كان صاحب «علم» وصاحب «دين» في تاريخ واحد، والعلم «عقل» والدين «وجدان»؛ لأنه إيمان يصدق بما آمن به ولا يطلب عليه إقامة البرهان، ولقد ذكرنا فيما أسلفناه في فقرة سابقة شيئا من الجواب عن هذا السؤال، حين قلنا - أولا: إن اللقاء بين الجانبين لا يشترط له أن يتم في الفرد الواحد، ويكفي أن يتحقق في مجموعة الناس التي يتكون منها «أمة» ذات ثقافة متميزة، فيكون من أفرادها من هم أصحاب تفكير عقلي، ومنهم من هم أصحاب حالات وجدانية، وثانيا حين قلنا: إن العقل والوجدان إذا ما تلاقيا معا في ثقافة واحدة فإنما يتلاقيان على مستويين متعاقبين، فلا يكون بينهما صدام ولا تناقض؛ فقد يجيء الإدراك الوجداني المباشر أولا، ثم يعقب ذلك إعمال لمنطق العقل فيما يحقق أهداف ذلك الإدراك الوجداني، ومثل هذا التعاقب هو الذي نراه بوضوح في الثقافة العربية؛ إذ يؤمن المؤمن أولا، ثم لا عليه بعد ذلك أن يتناول بالتحليل العقلي ما آمن به.
وفي الفصل الذي قدمته بعنوان: «فلسفة العقاد من شعره» (راجع الفصل في كتاب «مع الشعراء») طرحت السؤال نفسه بصورة أخرى لأجيب عنه؛ إذ تساءلت بادئ ذي بدء إمكان أن تلتقي «فلسفة» و«شعر» في عمل واحد؟ ومعلوم أن الفلسفة عقل صرف وأن الشعر وجدان خالص، وكان جوابي عن ذلك كما يلي: «تستطيع الفلسفة والشعر أن يتباينا أشد ما يكون التباين بين شيئين كما يستطيعان أن يتقاربا، حتى ليوشك الناظر إليهما أن يختلط عليه الأمر، فيحسب الشعر فلسفة والفلسفة شعرا.
ذلك أن للفلسفة معنيين عرفت بهما، فهي إما أن تفهم بمعنى «الحكمة» التي استخلصها صاحبها من تجربته الحية كما مارسها في حياته وعاناها، فتجيء عبارته بيانا عن ذات نفسه وما اختلجت به تجاه الكون والإنسان، وإما أن تفهم بمعنى التجريدات الصورية التي يستخلصها المفكر من مفاهيم العلم وقضاياه؛ ابتغاء أن يصل إلى المبادئ الأولى التي تقع من العلوم مواقع الجذور من الشجر، دون أن يدع شيئا من أهوائه وميوله يتسلل إلى عمله، فإذا كانت الفلسفة بمعناها الأول كاشفة عن سرائر كاتبيها، فهي بالمعنى الثاني ذكية لكنها لا تفصح عن شيء من خوالج السريرة ، إنها بالمعنى الأول حياة ومضمونها، وهي بالمعنى الثاني فكر وصورته، بالمعنى الأول هي قلب ولسان وجنان ووجدان، بالمعنى الثاني هي ذهن وذكاء ومنطق وتحليل، إنها بالمعنيين معا تعميم الأحكام، لكن التعميم في الحالة الأولى يرتكز على خبرة حياة مشخصة في فرد واحد، وأما التعميم في الحالة الثانية فلا ذكر فيه للأفراد، وإن الفلسفة والشعر ليتباعدان أشد ما يكون التباعد بين شيئين، حين تدور الفلسفة في مثل هذا التجريد المفرغ العاري، وإنهما ليتقاربان حين تكون الفلسفة هي حكمة الحياة عند صاحبها، إنهما ليتباعدان حين تريد الفلسفة أن تقول الحق خالصا لا جمال فيه، ويريد الشعر أن يصوغ الجمال خالصا لا حق فيه، لكنهما يتقاربان حين يريد الفيلسوف أن يسوق الحق مكسوا بثوب الجمال، أو حين يريد الشاعر أن يصوغ الجمال منطويا على حق.»
Halaman tidak diketahui