هل كان يمكن لعصر النهضة الأوروبية أن يشهد في فاتحته رحلات كولمبس وغيره تشق بحار الظلمات نحو هدف مجهول إلا في الخيال والأمل، وألا تؤدي تلك الروح المغامرة المخاطرة المنطلقة إلى الكشف إلى مغامرة كشفية أخرى شبيهة بها، تجول بين أنجم السماء ومجراتها وكواكبها لتعرف ما لم يكن معروفا من قبل، فيظهر جاليليو وكربرنيق ونيوتن؟ وهل للمغامرين في البحر وفي جو السماء بحثا وتنقيبا ألا يكون في أسرتهم أفراد يجوبون للكشف عن عالم آخر، عالم خبئ في الرءوس، ألا وهو «العقل» فكيف يعمل؟ وما حدوده في العمل؟ وإلى أي حد يوثق به؟ وتلك كانت مهمة الفلاسفة إبان تلك النهضة الشاملة، وإذا كان ذلك هو المناخ العام، فكيف يجيء الشعر إلا كما جاء على لسان شكسبير يجريه في مسرحياته التي حطم بها ثلاثة قيود كبرى كانت تقيد المسرحية الشعرية من قبله، هي قيود ما كان يسمى بوحدات المكان والزمان والحبكة، فلا قيد شكسبير نفسه بأن تنحصر المسرحية في مكان واحد، ولا قيد نفسه بأن تنحصر في يوم واحد، ولا قيد نفسه بأن تكون ذات حبكة روائية واحدة، ثم - مرة أخرى - إذا كان ذلك هو المناخ العام في اختراق الآفاق وجوب البحار والسماء وأنحاء الأرض، وفي الغوص إلى دخيلة الإنسان للكشف عن خفايا نفسه وعقله، فهل كان يمكن لفن التصوير - على أيدي عمالقته مايكل أنجلو ورفائيل وغيرهما - ألا يضيف إلى الصورة بعدا ثالثا بعد أن كانت طوال تاريخها الأسبق منذ تصوير الفراعنة على جدران معابدهم ذات بعدين؟
ثقافة العصر الواحد متماسكة الخيوط، فانظر إلى حياتنا الثقافية في مصر خلال العشرينيات - مثلا - وقد جاءت صدى للثورة السياسية سنة 1919م، فماذا ترى؟ ترى عدة ثورات أخرى، كل ثورة منها تتناول فرعا من فروع الحياة الثقافية لتخرجه من جموده أو لتنشئه من العدم؛ فكان في الشعر ثورة على يدي مدرسة الديوان، وكان في الموسيقى ثورة على يد سيد درويش، وكان في الاقتصاد القومي ثورة على يد طلعت حرب، وكان في النقد الأدبي ثورة على يد طه حسين، وكان في أدب المسرح ثورة على أيدي أحمد شوقي من جهة وتوفيق الحكيم من جهة أخرى، ثم كان في الفن التشكيلي أكثر من الثورة؛ إذ كاد أن يخلق ذلك الفن من العدم.
كانت تلك هي طريقتي في النظر إلى الحياة الثقافية عند غيرنا وعندنا، فإذا لم أجد بين الفروع وحدة تضمها في روح واحد، رجحت أن يكون ثمة نقص يعاب، نعم كانت تلك هي طريقتي في النظر منذ الأربعينيات وما بعدها، ولقد حباني الله ميولا فطرية تعددت حتى وسعت منطقية التفكير الفلسفي وقابلية التذوق للأدب وللفن معا، وهو تذوق قد يعقبه آنا بعد آن محاولات النقد القائم على التحليل والتعليل كما أسلفنا القول في العلاقة المتعاقبة بين التذوق والنقد، ومن هنا ترابطت في مخيلتي الفلسفة والأدب والفن في رقعة واحدة محبوكة الخيوط، كما قلت في مطلع هذه الفقرة من الحديث.
وهو ترابط لعله كان يبدأ معي بالفكرة الفلسفية أولا، ثم تنعكس تلك الفكرة في طريقة فهمي للأدب ورؤيتي للفنون التشكيلية، فلا غرابة أن جاء اتجاهي في الفلسفة نحو التجريبية العلمية أولا، ثم انعكس هذا الاتجاه في طريقتي في نقد الأدب والفن (راجع على سبيل المثال في كتابي «في فلسفة النقد» مقالة «الصورة في الفلسفة والفن» ومقالة «تحليل الذوق الفني»).
وإذن فهي لم تكن مصادفة، حين أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (ثم أضيفت العلوم الاجتماعية فيما بعد) أن وجدتني عضوا في لجنتين من لجانه: لجنة الفلسفة ولجنة الشعر، كما وقع علي اختيار وزارة الثقافة - في الوقت نفسه تقريبا - عضوا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعضوا في لجنة المقتنيات الفنية، ولبثت عضوا في تلك اللجان التي جمعت بين الفلسفة والأدب والفن ما يقرب من عشرة أعوام أو يزيد عليها إلى أن سافرت لأغترب عن مصر فترة من الزمن.
وإني لأشهد الله بأني قد تعلمت من الزملاء في تلك اللجان ما جعلني أرهف ذوقا وأعمق غورا، حتى تبلورت لي نظرة خاصة في الأدب وفي الفن، تكاملت على أحكم وجه مع نظرة كانت بالفعل قد تحددت لي معالمها في منهج التفكير الفلسفي، وتستطيع أن تراجع كتابي «مع الشعراء» لترى محاولة هاوية لم تحترف دراسة الشعر ولا تدريسه، لكنها تذوقت ثم نقدت، وكان الأفق من السعة بحيث شمل شاعرا تقليديا كالبارودي إلى شاعر مجدد كالعقاد، إلى شعراء من طلائع الشعر الحديث مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، كما شمل إلى جانب الشعراء العرب نابغة الشعر الإنجليزي شيكسبير، وعملاق الشعر الهندي طاغور.
الفصل السابع
عقل ووجدان معا
1
أستطيع أن أوجز العمل الفلسفي الذي أنجزت معظمه خلال الخمسينيات، والذي عرضته - أساسا وتفصيلا - في كتاب «المنطق الوضعي» بجزأيه وكتاب «خرافة الميتافيزيقا» وكتاب «نحو فلسفة علمية» في عبارة واحدة تقول: تستخدم اللغة بطريقتين أساسيتين: أولاهما تجري مع منطق العقل، وهي التي يجوز أن يقال في قضاياها إنها صادقة أو كاذبة استنادا إلى مقاييس موضوعية مشتركة بين الناس، والأخرى تجيء تعبيرا ذاتيا عما يخالج المتكلم من مشاعر على اختلاف تلك المشاعر، وها هنا لا منطق ولا قضايا تقاس بمقاييس موضوعية لتفرقة بين حق وباطل، وإنما هو المتكلم وحده الذي يؤمن بصدق تعبيره عن شعوره، ولا يغير الموقف أن يوافقه الآخرون على دعواه أو لا يوافقونه.
Halaman tidak diketahui