ظللت أنظر إلى الجو الفضي خلال الزجاج، وقلت في نفسي: ما أبعد الفرق بين إنسان وإنسان؛ قارن بينك الآن وأنت تعبر المحيط على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبر المحيط نفسه؛ لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكر، وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك ليتبعوه، إن خيال رجل واحد وجرأته فتح للناس عالما جديدا، وشق لهم طريقا جديدا، وسرعان ما يختلط علينا الأمر، فنظن ألا فرق بين من يبدع ومن يتبع ، سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر، فلا ندرك فرقا بين مبتكر الطائرة - مثلا - وبين من يركب الطائرة على نموذج أمامه، سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر، فلا نرى المسافة الشاسعة بين عالم يبحث ويصل إلى النتائج الجديدة وينشر هذه النتائج، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ هذا المنشور ويدرسه ويفهمه، فنقول لأنفسنا: إن منهم علماء ومنا علماء، ولا فرق بين شعب وشعب، ولا بين شرق وغرب! لكن الفرق - يا صاحبي - هو نفسه الفرق الذي يقع بيني وبين كولمبس في عبور المحيط، عبره هو لأول مرة مغامرا مخاطرا متخيلا متعقلا، وعبرته بعده تابعا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.»
وفي هذا المعنى نفسه كتبت يومية الثلاثاء أول ديسمبر 1953م (وكنت في مدينة كولمبس بولاية كارولاينا الجنوبية لفترة الفصل الدراسي الأول من ذلك العام الجامعي) فقلت: «قرأت في مجلة» لايف موضوعا شائقا بالصور الجميلة عن الحيوانات البحرية كيف تعيش في جوف المحيط؟ كيف تعيش في ظلام القاع الذي لا ينفذ إليه شعاع من ضوء؟ كيف يفتك بعضها ببعض؟ كيف أعد كل نوع منها بطرائق التخفي وأساليب الهجوم والدفاع؟ كل ذلك معروض عرضا يجعله أقرب إلى القصص الممتع منه إلى الوصف الطبيعي الصادق.
ويكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا، ماذا صنعت المجلة لتجمع مادته؟ ثم أسأل نفسي: ماذا تصنع مجلة مصرية في الموضوع نفسه إذا أرادت أن تنشر عنه شيئا؟ أقول: إنه يكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا في مجلاتهم ومجلاتنا؛ لأدرك لب الفرق بين شعب وشعب، فمجلة «لايف» هي التي أرسلت المصورين، وهي التي جمعت المختصين بدراسة الحيوانات البحرية، ولبث رجالها ثلاثة أعوام في رحلات بحرية، يغوصون إلى قاع المحيط، ويلاحظون ويصورون ويصفون؛ فالمسألة كلها - من أولها إلى آخرها - من تدبير المجلة؛ فهو تفكير وابتكار ومغامرات وعلم وكتابة وتأليف وتنسيق ... أما المجلة المصرية فماذا تصنع؟ إنها تنقل عن مجلة «لايف» ما كتبته وما صورته، ثم يقول لك الناقل بعد ذلك: إنه «أديب». خلط وجهل وادعاء! ها هنا كل الفرق بيننا وبينهم، فليس الفرق المهم هو ثراؤهم وفقرنا، بل هو ابتكارهم وعجزنا، يستحيل أن نتقدم تقدما حقيقا إلا إذا كان لنا ابتكار، وإلا إذا بدأت الأفكار من عندنا أحيانا، أما أن يبتكروا هم الطيارة - مثلا - ونحن ننقلها، ونقول: إن لدينا مهندسين كمهندسيهم، وأن يبحث علماؤهم في الطب والفيزيقا والنفس وما إلى ذلك، فنحفظ ما كتبوا ثم نقول: إن منا العلماء في الطب والفيزيقا والنفس، فإغماض لأعيننا عن سر التقدم وسر المدنية كلها، بل سر الإنسان وهو الابتكار، يعوزنا إدراك هذه الحقيقة في وضوح، وهي أن الفرق بعيد بعد ما بين الأرض والسماء، بين المبدع الخلاق المبتكر وبين من يسير بعد ذلك في الطريق، وقد شق وعبد بمغامرات المغامرين وتفكير المفكرين، الفرق بين هذا وذاك هو نفسه الفرق بيني في رحلتي إلى أمريكا وبين كولمبس حين ارتحل مخاطرا مغامرا مفكرا مدبرا.
6
كثيرة هي تلك الخصائص التي رأيتها عند بناة الحضارة الجديدة في الغرب، وتمنيت لو رأيتها في بلدي، ولم أكن - بالطبع - أول من رأى وتمنى، فها هم أولاء أعلامنا على امتداد القرن العشرين، بل ماذا أقول؟ أأقول: أعلامنا منذ رفاعة الطهطاوي في الثلث الأول من القرن الماضي؟ ها هم أولاء أعلامنا جميعا قد رأوا كما رأيت وتمنوا كما تمنيت، وإنك لتقرأ لهم ما كتبوا، فتحس كأنما هم يشدون أذنيك شدا لتسمع جيدا بأي الصفات ينبغي لنا أن نتخلق في عصرنا هذا لنكون من أبنائه؟ ولعلك واجد عندهم ما وجدته أنا من بروز صفتين أساسيتين يريدون لهما الرسوخ في أنفسنا، وهما «الحرية» و«التعقيل» (أعني الاحتكام إلى العقل في أمور حياتنا الموضوعية)، وهما صفتان تلخصان أميز ما يميز شعوب الغرب المتقدمة.
طلبت مني الإدارة الثقافية في الجامعة العربية - في آخر الأربعينيات أو في أول الخمسينيات - أن أضع تصوري للفكر العربي كما كان قائما في ذلك الحين، فقدمت إليها ما يوضح رؤيتي، وكانت صفتا «الحرية» و«التعقيل» - فيما رأيت - أهم ما ألح مفكرونا وأدباؤنا على المطالبة به (راجع فصل «الفكر العربي المعاصر، اتجاهه وخصائصه» في كتابي «قشور ولباب»)، أما «الحرية» فقد كان الجانب السياسي منها أبرز ما شغل كتابنا، برغم أنهم كانوا في ذلك الميدان تابعين لزعماء الأحزاب السياسية، ولكنهم لم يقصروا أنظارهم على الحرية بمعناها السياسي وحده، بل وسعوا الأفق حتى شمل ضروبا أخرى من الحرية: «... إننا إذ نقول: إن الدعوة إلى الحرية سمة تميز فكرنا العربي المعاصر، نضع في اعتبارنا مظاهر قد تبدو تافهة إذا أخذت فرادى، لكنها هي القطرات التي يتكون منها التيار الدافق، فإذا رأيت الشعراء يجاهدون في تحطيم التقاليد الشعرية الموروثة ما استطاعوا إلى تحطيمها من سبيل، وإذا رأيت ألوانا جديدة تخلق في أدبنا خلقا من العدم أو شبهه كالقصة والمسرحية، وإذا رأيت البائع في الطريق يحاول أن يحدد حقوقه إزاء الشرطي الذي يمثل الحكومة، والشاب الناشئ يريد أن يثبت شخصيته أمام أبيه أو معلمه، والزوجة تجاهد في اكتساب حقها كاملا في محيط الأسرة، إذا رأيت هذا كله ممثلا فيما ينشره المفكرون بيننا، فاعلم أنه تيار فكري واحد، يدفعنا نحو الحرية ونحو الكرامة الإنسانية مهما تعددت ألوانه فيما أنتجه هؤلاء المفكرون.» (كتاب «قشور ولباب» صفحة 120).
وأما محاولة «التعقيل» - وهي الصفة الثانية مما كنت رأيته مميزا للفكر العربي المعاصر - فقد كان لها وجهان: الأول اغتراف من المدنية الأوروبية، والثاني مجهود جبار نحو إحياء التراث العربي القديم، مصحوبا بدفاع عقلي يحاول أن يبرر له مكانا من ثقافة العصر الحاضر وفكره.
إنني لو تعقبت ما ورد في كتابتي عن هاتين الفكرتين: حرية الإنسان وعقلانية النظر باعتبارهما أسسا لا بد منها في شخصية المصري الجديدة التي ننشدها له ليساير بها عصره؛ لأوشكت ألا أجد مرحلة من مراحل حياتي العقلية خالية منهما؛ فهما عندي وسيلتان، وهما عندي كذلك هدفان، فها هنا لا اختلاف بين الوسائل وأهدافها؛ فوسيلتي في الكتابة هي حرية التعبير وعقلانية الرؤية، وهدفي مما أكتبه هو أن أكون حرا وأن أكون عاقلا، وأن أجعل سواي معي أحرارا وعقلاء.
ولست أظن أن حرية الفرد وعقلانيته قد كانتا دائما صفتين للمصري في كل عصوره، لا لأنه مقصر أو قاصر، بل لأن العصور الماضية لم تكن تقتضيهما بنفس القوة التي تقتضيهما هذا العصر؛ فحرية الأفراد مطلب حيوي في يومنا ما دام حكم الشعب قد أصبح في أيدي الشعب نفسه، ولم يكن أمره كذلك دائما، وعقلانية النظر في يومنا منهج لا غناء عنه ما دام «العلم» قد أصبح أهم ركن من أركان الحضارة الراهنة، وأيضا لم يكن أمره كذلك دائما.
لكن إلحاحنا في السعي وراء هاتين الركيزتين في حياة الإنسان المعاصر لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقة هامة، وهي أن المصري مصري قبل هذا العصر الراهن بعصور طوال، ومعنى ذلك أنه لا بد أن تكون له صفات تدوم على مراحل التاريخ، ثم تضاف إليها صفات تلائم كل عصر مما لا ينفك التاريخ له طيا ونشرا.
Halaman tidak diketahui