وكم عجب الوالدان وهما في القطار أن يسمعا عجلاته تفرقع على القضبان في صوت واضح لا سبيل إلى إنكاره! «ظلم» «ظلم» «ظلم».
كانت هذه - أيضا - صورة أدبية أخرى من عشرات الصور التي كتبتها لأعري بها حقيقة القيم السائدة بالفعل في حياة الناس العملية، وليس فيما يجرونه على ألسنتهم، ولقد عرضت مقالة «ظلم» بنصها؛ لأنها مع سائر أخواتها لا سبيل إلى تخليصها، والمعول في القطعة الأدبية إنما هو الأثر الذي يخرج به القارئ، وكما هو واضح من المقالة سيجد القارئ نفسه أمام كابوس الظلم وهو يتعاظم حجما من الطباشير فصاعدا إلى الفحم فالطلاء فالحفر على الخشب بمبراة ، ثم هو الظلم داخل الأسرة وعند الجيران وفي دنيا التجارة وفي دواوين الحكومة.
وأحيل القارئ على مجموعتي المقالات! «شروق من الغرب» و«الكوميديا الأرضية»؛ ليجد حياة الناس كما كانت على حقيقتها، وكما انطبع بها الكاتب، على أني ألفت النظر بصفة خاصة إلى «خيوط العنكبوت»؛ ليرى فيها صورة مجسدة للتنافس القاسي، الذي لا يتورع فيه المنافس أن يدوس منافسه بالأقدام إذا استطاع، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن يكون على مقربة أقرب من أصحاب السلطان. كما ألفت النظر مرة أخرى إلى «عروس المولد» ليرى القارئ صورة الحرمان المقرون ببطش الطغاة، وإلى «عند سفح الجبل» ليرى كم هم بعيدون عن الشعب أولئك الساسة الذين يتوهمون بأنهم خدام الشعب.
2
كان منطقي - منذ الأربعينيات فصاعدا - في وجوب الأخذ عن ثقافة الغرب منطقا مبسطا لا تعقيد فيه ولا التواء، فما دمت قد رأيت البون شاسعا بيننا وبينهم في الحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته، وفي تقدم العلوم والفنون، وفي درجة الثراء والرخاء ونظافة العيش وغزارة الإحساس بالحياة، فلماذا لا ننقل إلى أرضنا مثل هذه الشجرة الفينانة المورقة المثمرة؛ لعلنا نفيء إلى ظلها ونأكل من ثمارها. ولم أكن في تلك الأعوام أفرق بين ما يجوز نقله عن الغرب وثقافته وما لا يجوز؛ فكل ما عندهم واجب النقل إلينا ما دمنا في حاجة إلى نتائجه، وأسرفت في هذه الدعوة حتى تمنيت - كما قلت في مقدمتي لكتاب «شروق من الغرب» - أن نأكل كما يأكلون، ونكتب من الشمال إلى اليمين كما يكتبون، وأن نرتدي من الثياب ما يرتدون.
والحق أني في تلك الدعوة إلى ثقافة الغرب يومئذ لم أكن مستندا إلى بريق سطحي وكفى، بل ضربت في حقائق الأشياء إلى جذورها. ألم يكن الإمام محمد عبده هو الذي قال، تعليقا على مشاهداته في إنجلترا، إنه رأى هناك إسلاما بغير مسلمين، وإن الذي رآه في مصر مسلمين بغير إسلام؟ نعم؛ فشيء كهذا هو ما وجدته في أخلاق الناس وهم يتعاملون هناك بعضهم مع بعض. ولما كنت دارسا للفلسفة، وأعلم أن الفلسفة - في أي بلد وفي أي عصر - هي التي تستقطب الثقافة القائمة استقطابا يستخرج منها المبادئ الأولى التي عليها ارتكز البناء الثقافي كله، فلقد عنيت يومئذ بتحليل التيارات الفلسفية المعاصرة على اختلافها الظاهر؛ لأرى إن كانت تلك التيارات تلتقي عند نقطة رئيسية واحدة، فإذا كان أمرها كذلك كانت تلك النقطة المشتركة هي المعبرة عن روح العصر.
وإذا أنت أمعنت النظر في الاتجاهات الفلسفية المعاصرة - ويمكن بلورتها في أربعة - وجدت جذرها المشترك هو اتخاذ «الإنسان» في حياته الدنيوية هو محور الاهتمام، وانظر - على هذا الضوء - إلى تلك الاتجاهات الأربعة: أحدها هو اتجاه الفلسفة التحليلية التي تعنى أكثر ما تعنى بفلسفة العلوم، والتي هي الفلسفة السائدة في بريطانيا، فما دامت تصب اهتمامها على التفكير العلمي، فهي بالتالي تقصر ذلك الاهتمام على ما هو ذو صلة بحياة الإنسان هنا على هذه الأرض. وثانيها هو اتجاه الفلسفة البراجماتية الذي له السيادة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأساسه هو أن الفكرة تعد صحيحة إذا كانت نتائجها نافعة للإنسان؛ فليس المهم هو «أصل» الفكرة من أين جاءت وكيف جاءت؟ بل المهم هو ماذا عساها أن تثمر للإنسان من نتائج تنفعه في حياته. وثالثها هو اتجاه الفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، ومدار تلك الفلسفة حرية الإنسان في القرار الذي يتخذه لنفسه ليكون بعد ذلك مسئولا عنه مسئولية خلقية. ورابعها هو اتجاه الفلسفة المادية الجدلية السائدة في شرق أوروبا: ومحورها هو أن الحياة الثقافية كلها - بما فيها القيم الأخلاقية والجمالية - إنما تولدت عن الحياة الاقتصادية من زراعة وتجارة وصناعة، فإذا غيرت من أسس الحياة الاقتصادية المادية تغيرت بالتالي دنيا الثقافة، وإذن ففي مقدورنا أن نشكل العلاقات الاقتصادية تشكيلا ينتهي بنا إلى إقامة حياة إنسانية تصون للإنسان حقوقه.
فإذا كان هذا هو اتجاه الفكر في الغرب، وهو اتجاه همه الأول هو صون الإنسان من العوامل التي كانت تطحنه طحنا وتقهره قهرا، أفيكون غريبا أن نعمل على نشر مثل ذلك الفكر في بلادنا؛ ليفرز لنا مثل الذي أفرزه في حياة الغرب من توفير وتقديس لمكانة الإنسان وكرامته؟ وإذا كنا نقبل جذور الفكر الغربي التماسا لما يثمره في نهاية الأمر من حياة إنسانية كريمة، فلا مندوحة لنا عن قبول النتائج الفرعية التي لا بد أن تنبثق بالضرورة من تلك الجذور، ومنها ما هو خاص بالنظرة العلمية الواقعية إلى الأمور ما دامت أمورا لا صلة لها بمشاعر الإنسان الخاصة، ومن هنا جاءت دعوتي منذ تلك الأعوام - وإلى يومي هذا - إلى الأخذ الصارم بالنظرة العلمية التجريبية (وتفصيل ذلك موضعه في الفصل الآتي) مفرقا في حياة الإنسان بين مجالين: مجال التفكير العلمي بكل تفريعاته، ومجال الحياة الوجدانية بشتى جوانبها؛ فما يصلح لذاك لا يصلح لهذا؛ فلكل منهما مواقف ولكل منهما معايير للرفض أو القبول.
وفي خصائص النظرة العلمية المطلوبة، أحيل القارئ على كتابي «قشور ولباب» - في القسم الثاني منه - وإني لأجتزئ هنا سطورا مما ورد في مقالة هناك عنوانها «وجهة الفكر المعاصر»:
فالطابع الجوهري الذي يطبع عصرنا الحاضر، هو - فيما أعتقد - حصر الإنسان نفسه فيما يستطيع أن يشهد ويرى، ليستخرج من ذلك ما يمكن استخراجه من قوانين، يستخدمها في حياته العملية استخداما عمليا نفعيا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فكأنما السؤال الأساسي الذي يلقيه الإنسان على نفسه ويحاول اليوم أن يجيب عنه هو: ماذا أرى من العالم وماذا أسمع؟ وهل هذا الذي أراه وأسمعه يطرد وقوعه اطرادا أستطيع أن أجعل منه قانونا أركن إليه في حياته العملية؟
Halaman tidak diketahui