أعود فأكرر القول بأن ما أثار ثورتي يومئذ على قومي وأهلي ليس هو أن يكون أو لا يكون فارق بين الناس في ضروب العمل وفي مقادير المال المكسوب، كلا؛ فذلك شيء لا مفر منه في أي بلد من بلاد الدنيا، بل الذي أثار ثورتي هو طريقة التعامل بين الإنسان والإنسان، حتى لقد خيل إلي يومها أننا وإن أطلقنا باللسان كلمات المساواة والحرية وما إليها، فنحن إنما ندس في طوايا نفوسنا أخلاق النظم التي تقسم الناس سادة وعبيدا، فأعط من شئت منا شيئا من السلطان، ثم انظر يومئذ كيف تكون صلاته مع من هم دونه سلطانا، إنه إذا ما تحدث إلى أحدهم جعل لذلك نبرة خاصة، ونظرة خاصة بعينيه، ووضعا خاصا يتوتر فيه جسده كله، حتى يجيء كل شيء فيه صارخا بأنه من طينة أخرى غير طينة الذي يتحدث إليه ... وقارنت ذلك كله بما رأيته هناك؛ حين رأيت بعيني مدير الجامعة وهو يتحدث إلى أحد العاملين في رعاية غرفته، وحين رأيت صفا من الرجال ساعة العصر قد اصطف ليأخذ كل دوره في قدح الشاي، فرأيت وزيرا (هو نويل بيكر) قد وقف وأمامه أحد السعاة، فلا هو أخذه ضجر من ذلك، ولا الساعي فزع إذ وجد نفسه أمام الوزير.
كان بين المقالات الملتهبة التي كتبتها انعكاسا للثورة الداخلية التي تأجج أوارها في نفسي كلما رأيت وقارنت سلوكا بسلوك وأخلاقا بأخلاق، مقالة عنوانها «تجويع النمر» أدرتها على تصور تخيلت به أننا إذا حللنا أي فرد منا وجدنا في جوفه نمرا رابضا ينتظر فرصة الظهور، فإذا ما صعد صاعد إلى مقاعد الرئاسة، لم يلبث ذلك النمر أن يظهر بكل أنيابه ومخالبه، وما طعامه الذي يتغذى به إلا ذلة الآخرين. ورأيت أن قوانين الدنيا بأسرها لا تفلح في تعديل العوج؛ وإنما العلاج السريع يكفله لنا شيء واحد؛ هو تجويع ذلك النمر، بأن يبعد الآخرون عن نطاق سلطانه، فينعدم الغذاء، فيذوى ويموت.
لكن ما حيلتنا والأمر في بلدنا كان أعجب من العجب! وهو أن من تنشب فيه مخالب النمر وأنيابه ترتسم على وجهه ابتسامة الرضا. وفي هذه الابتسامة البلهاء كتبت مقالة عنوانها «الكبش الجريح» أصور فيها المعنى نفسه في صورة أخرى، هي صورة الكبش تحز رقبته سكين الجزار فترتسم على شفتيه ما يشبه ابتسامة القبول.
هكذا وعلى هذا النحو أخذت خلال الأعوام التي أقمتها في إنجلترا في الأربعينيات أنظر إلى الأفراد كيف يتعاملون، وكيف تصان لكل فرد كرامته، دون أن يكون لاختلاف أنواع العمل أدنى الأثر في أن يتعالى أحد على أحد، ثم أقارن ذلك بما أعهده في مجتمعنا نحن، حيث المأساة الحقيقية ليست في أن «يتنمر» صاحب السلطان لمن لا سلطان له، بل المأساة هي في طمأنينة الرضا التي يتقبل بها القتيل أنياب القاتل ومخالبه، فماذا يصنع الكاتب إزاء ذلك إلا أن يستميت بقلمه حتى يتغير سلم القيم، ولو بعض التغير، فلا يظل أعلى تلك القيم في واقع حياتنا هو أعلاها (وأعلاها عندنا هو السلطة)، وأحسب أنني لو أنصفت نفسي ولو أنصفني النقد الأدبي لقلت، ويقال ذلك النقد المنصف: إن من أبرز السمات في كتابتي - اتخذت تلك الكتابة صورة أدبية أم اتخذت صورة التحليل الفلسفي - إنما هو محاولة تعديل القيم في حياتنا؛ لأنها في وضعها الراهن يستحيل ألا تؤدي إلى ما يشبه القسمة إلى سادة وعبيد.
4
ولم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في حياتنا، بحيث تسمح للمستبد أن يستبد، وتجيز لذليل النفس أن يذل، مما يذكرني ببيت من الشعر للعقاد يقول فيه:
أنصفت مظلوما فأنصف ظالما
في ذلة المظلوم عذر الظالم
أقول: إنه لم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في بلادنا، إلا ثورتي على حياتنا العلمية السائدة مضمونا ومنهجا؛ فقد كانت تلك الحياة العلمية حتى ذلك الحين - أعني أعوام الأربعينيات - منقسمة قسمين: أحدهما يحاول أن يتشبه بالحياة العلمية الحديثة، لكنه يكتفي من ذلك بالشكل الخارجي دون الجوهر الذي هو منهج النظر والفكر؛ لأنه إذا لم تتغير طريقة النظر، فقد يحدث - وهو بالفعل كثيرا جدا ما يحدث - أن يكون العالم عالما بما «يحفظه» من مادة تخصصه، وأما فيما هو خارج حدود التخصص من مواقف الحياة وشئونها، فيظل على النظرة نفسها التي ينظر بها من لم يتعلم أحرف الهجاء، والقسم الثاني من حياتنا العلمية عندئذ وقف وقفة رافضة للتحديث مضمونا ومنهجا، إنه لم يحاول حتى أن يتظاهر بالشكل العلمي الحديث في مواد البحث ومنهج البحث، بل تمسك بالقديم مظهرا ومخبرا.
وليأذن لي القارئ أن أعيد هنا مقالة كتبتها في تلك المرحلة، ساخرا مر السخرية من إصرارنا على ضروب من العبث الذي يتخذ عند أصحابه اسم «العلم» وهو من العلم الصحيح بعيد بعد الأرض عن السماء، كان ذلك العبث اللفظي ما زال قائما عندنا حين كان الغرب قد وصل إلى الذرة وتحطيمها واستخراج قواها الجبارة في قنابل وغير قنابل.
Halaman tidak diketahui