فقلت له: إنك تنتفع بالدين انتفاعا عظيما، وتستعمله كآلة حادة للوصول إلى أغراضك.
فقال: لا ريب في ذلك؛ لأني أقدر الدين حق قدره، وواثق كل الوثوق بأنه ضروري للفقراء وبدونه لا تسير أعمالهم على محور النشاط والثبات، والدين يعجبني جدا، وأعيد لك القول مؤكدا أن الدين لا بد منه، ويتحتم علينا - معاشر الأغنياء - أن نبذل النفس والنفيس في سبيل توطيد دعائمه في قلوبهم، ورسوخ عقائده في نفوسهم حتى يعتقدوا اعتقادا لا يتزعزع بأن كل شيء في هذه الحياة الدنيا من صنع الشيطان، وفي جنوحهم وتطلعهم إليه يحرمون الغبطة في الحياة الأخرى الأبدية، ألا تعلم أن الدين يقول: «أيها الإنسان إذا أردت خلاص نفسك لا تشته شيئا من متاع الدنيا الفانية، ولا تتطلع إلى شأن من شئونها الزائلة وزخارفها الباطلة؛ لأنك ستكافأ في الحياة الأخرى حيث ترتع في جنان الخلد في بحبوحة العيش ورياض السعادة وكل شيء في السماء هو لك»، فإذا رسخت هذه المعتقدات في نفوس الناس سهل علينا العمل معهم وسهل انقيادهم إلينا، أجل إن الدين هو بمثابة الزيت الذي كلما زدنا في صبه ودهنا أداة الحياة به كلما لانت بقية أدواتها وسهل إدارتها واستعمالها كيفا نشاء.
فحكمت في نفسي أنه ملك، ثم وجهت إلى هذا الرجل الذي حكمت بأنه متسلسل من فصيلة رعاة الخنازير السؤال الآتي: وهل تعد نفسك مسيحيا بجميع معنى الكلمة؟ - لا ريب في ذلك، ثم رفع يده وقال: ولكنني في الوقت نفسه أميركي، وكل أميركي له مبدأ خاص يتمسك به ولا يحيد عنه يمينا أو شمالا. ثم تغيرت سحنته ومد شفتيه وحرك أذنيه حتى كادتا تبلغان أنفه وافتكر مليا، ثم قال بصوت خافت يكاد لا يسمع: أعترف لك فيما بيننا بشيء أرجو أن تبالغ في كتمانه، وهو أنه يستحيل على كل أميركي أن يعتقد بالمسيح كما يعتقد به جميع المسيحيين. فاضطربت لدى سماعي ذلك منه وقلت له: أرجوك أن تزيدني إيضاحا.
فقال مكررا: يستحيل على الأميركي الاعتراف بالمسيح بل واحترامه؛ لأنه لا والد له معروف، أو بعبارة أخرى: إنه ابن غير شرعي، ومثل هذا لا يمكن أن يكون في أميركا إلها حتى ولا موظفا، ولا يقبله أحد في المحافل والمجتمعات، ولا ترضى أدنى الفتيات بالتزوج به، ونحن الأميركيين بهذا المعنى لا يماثلنا في الدنيا أحد، وإذا اعتقدنا بالمسيح فإننا مضطرون بالاعتراف لجميع الأولاد غير الشرعيين بأنهم أشخاص من أصل ثابت ونسب معروف حتى ولو كانوا من أبناء الزنوج الذين يتزوجون النساء البيض ويولدونهن أولادا شرعيين؛ ولذلك فإننا معشر الأميركيين معذورون في اعتقادنا هذا وتصريحنا به. ثم اخضر سواد عينيه فظهرتا لي مستديرتين كعيني البوم، ثم جذب شفته السفلى إلى فوق وضغط بها على أسنانه زاعما أنه بمسخ وجهه على هذا الشكل يصبح مخيفا مرهبا للناظر.
فقلت له سائلا: وبناء على ما صرحت به فإنكم معاشر الأميركيين لا تعدون الزنوج من البشر بل ولا تعتبرونهم؟
فأجاب: لله ما أقل خبرتك وأضعف حكمك! وهل ترتاب في أننا نحتقر الزنوج ونعتبرهم أدنى الناس وأحطهم مقاما؛ فهم سود الألوان، وتخرج من أجسامهم رائحة كريهة؛ ولذلك ترانا نراقب الزنوج أشد مراقبة حتى إذا علمنا بأن أحدهم تزوج امرأة بيضاء نقبض عليه ونربط عنقه بحبل ونعلقه في الحال على شجرة حيث يموت مشنوقا.
ولما قال ذلك شعرت أنه طعن فؤادي طعنة نجلاء، ودبت في الحال في قلبي عوامل البغض حتى أصبحت بقربه كأني جالس بالقرب من جيفة منتنة تعافها النفوس، ولكنني تحملت بصبر وحكمت على نفسي بالمكوث عنده؛ ذلك لأني قصدته لعمل وينبغي علي أن أتممه مهما تحملت في سبيل ذلك من المكاره والمشاق؛ توصلا إلى إظهار كيفية نظر هؤلاء الناس أصحاب الملايين إلى الحقوق المتبادلة والصدق والحرية والمساواة المتعارفة عند أفاضل الناس وعقلائهم؛ ولذلك سألته قائلا: ما رأيكم في الاشتراكية؟ وكيف تنظرون إلى الاشتراكيين؟
فأجاب من ساعته: إنهم أبناء الشيطان، والاشتراكيون رمل في الآلة التي تدير حركة الحياة، بل هم رمل يدخل بدون استئذان بين جميع الهيئة الاجتماعية فيعطل حركتها ويفسد سيرها؛ ولذلك يتحتم على كل حكومة طيبة منصفة أن تستأصل الاشتراكيين من بلادها، وهذه الطغمة الفاسدة تولد في أميركا مما يدل على أن رجال الحكومة في واشنطون مقصرون في أعمالهم كل التقصير، ولا يدركون المسائل الاجتماعية المطلوبة منهم، ولو كانوا كذلك لما تأخروا ساعة واحدة عن حرمان الاشتراكيين من جميع الحقوق المدنية، وبعرفي أنه يجب على الحكومة أن تكون أقرب مما هي عليه الآن من مرافق الحياة، ولا يتأتي لها ذلك إلا إذا كان الرجال الذين تتألف منهم مأخوذين من أصحاب الملايين.
فقلت له: أظن أنك أنت رجل نافع للبلاد؟
فأجاب من فوره: أجل إني نافع جدا، وذهبت عن وجهه العلامات الصبيانية ولاحت عليه الأسارير، وقال: واعلم أن رأس الاشتراكيين مملوء بالكفر والإلحاد كما أن معدهم مملوءة بالفوضوية، وأما نفوسهم فإنها مظللة بأجنحة الشياطين فأصبحت تنفث الجنون والشر، ولا تفوز الحكومة على الاشتراكيين وتستأصلهم من البلاد إلا بقوة الدين والجنود، فإن قوة الدين تحارب الكفر، والجنود يحاربون الفوضوية، ففي بدء الأمر نصب في رأس الاشتراكي مقادير عظيمة من رصاص التعليم الكنائسي، فإن اتعظ وعاد إلى الصواب وشفي من جنونه، وإلا فإننا نعهد إلى الجنود صب الرصاص في بطونهم حتى يمزقها إربا إربا، ثم قال بعد ذلك: ما أعظم قوة الشيطان! وعند ذلك علمت تمام العلم شدة تأثير السلطان الأصفر - الذهب - على هذا الإنسان الغريب الأطوار، فإنه لدى حديثه هذا رأيت أن عظام هذا الشيخ التي نخرها سوس الأمراض العصبية، وجسمه الذي أنهكته الشيخوخة فأصبح كأنه موضوع في كيس من جلد قد هزته نغمة الطرب والانشراح وأعاد إليه قوة الشباب ذكر السلطان الأصفر الذي ذكره بحياته الماضية حياة الكذب والنفاق والدعارة والرجس والفجور، ثم أبصرت عينيه تبرقان كدينارين جديدين، ولكنه كان أقرب الشبه إلى الخادم منه إلى الملك، ولكني كنت عالما من هو سيده، ثم بعد تفكير ليس بطويل سألته قائلا: ما هو رأيكم في الفنون الجميلة؟ وكيف تنظرون إليها؟
Halaman tidak diketahui