وتركت حصاني يسير الهوينى، بينما أخذت أهمس بأغنية حب، حتى إذا أخذت أدور حول السياج لأواصل طريقي، أخذت اللوحة تختفي عن ناظري، فصحت: هيا فلنواصل السير، ورسمت علامة الصليب وعندئذ سمعت الباب يقرقع والقط يموء، ولا ريب أن مضيفتي قد قدرت أنني لم أعد أراها، فدخلت بسرعة إلى الدفء، وحشرت القط خلف الباب، القط الملعون الذي يحوم دائما حول الناس.
وكنت بلا ريب قد قطعت شوطا من الطريق، وكانت الرياح التي تزداد عنفا تهزني فوق السرج، وفي السماء كانت السحب تتلو السحب وكلها سوداء، وكأنها تفر من غضب السماء، وبعضها منخفض يطير نحو السهل، والبعض الآخر الأكثر ارتفاعا يتجه نحو التلال والستار الذي تنشره كثيفا حينا، وخفيفا حينا يحجب - لزمن طويل - الشعاع الضعيف الذي يرسله الهلال، وكان البرد والرطوبة يخترقاني، فأحس ببطن ساقي وذراعي وهي تتجمد، ومن كثرة إحناء رأسي لكي أقاوم الريح التي تعوق تنفسي، أخذت أحس بآلام في رقبتي وجبهتي وصدغي، بينما أخذت أذناي الملتهبتان تطنان، وظننت أنني قد أسرفت في الشراب وأسدلت قلنسوتي فوق رقبتي، ورفعت جبهتي إلى السماء، غير أن زمجرة السحب أخذت تنزل بي الدمار، وأحسست بالتهاب تحت الضلوع من الناحية اليسرى، وأخذت أنشق في عمق الهواء المثلوج ... ولكن بصيصا من ألم ملح أخذ يشق صدري، وخفضت ذقني، ولما كانت القلنسوة تشد على رأسي كجراب من حديد، فقد خلعتها ووضعتها فوق سهم السرج، وأحسست بالمرض، لقد أخطأت بالرحيل، لا بد أن بيت الحكمدار يورداكي نائم كله، ولا بد أنهم بعد طول انتظار قد قدروا أنني لست مجنونا لكي أسافر في مثل هذا الجو، وأخذت أدفع الحصان الذي كان هو الآخر يترنح وكأنه قد شرب مثلي.
وأخذت الريح تهدأ، ويخف الاكفهرار مؤذنا بالمطر، وساد صحو رمادي، ومن خلال السحب أخذ يقطر رذاذ دقيق نافذ، فأعدت لبس قلنسوتي، وفجأة أخذ الدم يحرق من جديد جدار جمجمتي، وأما الحصان فقد أخذ يلهث منهكا وقد أضنته الرياح، فأخذت أستحثه بكعبي وألسعه بالسوط، فخف إلى الأمام بضع خطوات سريعة، ثم استعصى ووقف تماما، وكأنه قد اصطدم بحاجز غير متوقع، ونظرت فلمحت فعلا على بضع خطوات أمام الحصان شبحا يقفز ويثب ... أهو حيوان؟! ولكنه أي حيوان؟ حيوان وحشي؟ ... ربما! لكن لا ... إنه بالغ الصغر ... وأمسكت بمسدسي وسمعت عندئذ - في وضوح - مأمأة معزاة صغيرة، ودفعت الحصان قدر استطاعتي، ولكنه استدار ليعود واستعصى ورفض المسير، فالمعزاة لا تزال هناك، وحملت الحصان على العودة، ولسعت جانبيه بالسوط وشددت على المقود، فتقدم بضع خطوات، ولكن المعزاة لا تزال هناك! وكانت السحب قد تبددت تماما تقريبا، فأصبحت أرى في وضوح، وإذا بها معزاة صغيرة سوداء، تغدو وتروح وتضرب الأرض بحوافرها، ثم تنتصب فوق رجليها الخلفيتين، وتقفز إلى الأمام وذقنها ملتصقا بصدرها، وجبهتها مرتفعة في هيئة الاستعداد للنطاح، وأخذت تقفز قفزات عجيبة وتثغو وتأتي بأغرب الحركات، فنزلت على الحصان الذي رفض أن يستمر في السير، وأمسكت بالمقود بالقرب من رأسه، وانحنيت قائلا: «بسي! بسي!» وبحركة من يدي دعوت المعزاة، وكأنني أقدم لها شيئا من الردة، فاقتربت المعزاة دون أن تتوقف عن الوثب، فاستعصى الحصان مفزعا وشد المقود لكي يتخلص من قبضة يدي، وسقطت على ركبتي ولكني لم أفلت المقود من يدي، واقتربت المعزاة من يدي فإذا بها جدي أسود لطيف جدا استطعت بسهولة أن أحمله؛ لأنه أليف، ووضعته في الناحية اليمنى من الخرج فوق بعض الثياب، وعندئذ أخذ الحصان يهتز وترتعش جميع أوصاله، وكأنما أخذته حمى الموت، وامتطيته فاندفع أمامه ذاهلا.
ولمدة طويلة ظل يندفع كالسهم قافزا فوق الحفر ومتخطيا الموانع وجذور الشجر دون أن أستطيع إيقافه، أو تعرف الأماكن أو تبين الجهة التي يحملني إليها، وخلال هذا الشوط السحيق الذي خاطرت أثناءه في كل لحظة بكسر رقبتي، وجسمي مثلوج ورأسي تحترق، أخذت أفكر في الفراش الوثير الذي أعرضت عنه في حمق ... لماذا؟ إن مدام مرجيولا كانت ستتخلى لي عن حجرتها، وإلا لما رجتني أن أبقى، وأخذ الجدي يتحرك في الخرج لكي يهيئ لنفسه مكانا أفضل، وأخذت أنظر إليه ورأسه الذكية تطل من الخرج، وهو الآخر ينظر إلي أيضا نظرة حكيمة، وتذكرت عندئذ عيونا أخرى، وأدركت مدى حمقي، واصطدم الحصان فأرغمته على الوقوف، وأراد أن يستأنف السير، ولكنه من شدة التعب خر على ركبتيه، وفجأة برقشت السحب وانفرجت قليلا عن الهلال الذي أنزلت بي رؤيته الدوار، فكأنني قد تلقيت على جبهتي ضربة هراوة، وقد كان أمامي وكأن بالسماء هلالين، فقد كنت متجها نحو التلال، ومن الواجب أن يكون الهلال خلفي، وأدرت رأسي بسرعة لكي أرى القمر، القمر الحقيقي ... لقد ضللت الطريق فأنا أنزل نحو السهل، أين أنا؟ ونظرت أمامي فرأيت حقلا من الذرة لم تقطع بعد عيدانه، ومن خلفي رأيت حقولا واسعة، فرسمت علامة الصليب مهتاجا، وبساقي المخدرتين غمزت جنبي الحصان؛ لكي أحمله على النهوض، وعندئذ أحسست على طول ساقي اليمنى هزة قوية ... وانطلقت صيحة، لا بد أنني قد دست الجدي، وفي سرعة تحسست الخرج فوجدته خاليا، لقد فقدت الجدي في الطريق، ونهض الحصان وهز رأسه واسترد وعيه واستعصى، ثم جمح فألقاني على الأرض وكأنما لدغته ذبابة شريرة، فانطلق يعدو في الحقول حتى اختفى في الظلام، وأفقت ونهضت مترنحا، فسمعت حفيف أعواد الذرة، وصوت رجل قريب يصيح: «بسي! بسي! يا ابن الحرام، اذهب إلى جهنم.»
فصحت: من هنا؟ - رجل طيب. - من أنت؟ - جورجي. - أي جورجي؟ - نطروز ... جورجي نطروز الذي يحرس حقل الذرة. - هل لك أن تدنو قريبا من هنا؟ - نعم ... نعم ... أنا قادم.
وأخذ شبح الرجل يظهر بين أعواد الذرة. - قل لي أيها الصديق ... أين نحن هنا ؟ لقد ضللت الطريق بسبب العاصفة. - إلى أين تريد أن تذهب؟ - إلى بوبستي العليا. - آه ... نعم ... أنا أعرف ... تريد أن تذهب إلى بيت الحكمدار يورداكي. - نعم. - في هذه الحالة لم تضل الطريق، وإن يكن أمامك بعد شوط طويل لتصل إلى بوبستي، فأنت لا تزال عند هاكولستي.
فأجبت في مرح: إذا كنت عند هاكولوستي، فأنا إذن لست بعيدا عن فندق مانيوالا. - إنه إلى جوارنا ... فنحن الآن خلف الحظيرة. - أرني الطريق لو سمحت، فلست أريد أن أكسر عنقي الآن.
كنت قد ضللت أربع ساعات تقريبا، وببضع خطوات وصلت إلى مدخل الفندق، وكانت حجرة مدام مرجيولا مضاءة، وأشباح تنعكس صورها على الستائر، لعل مسافرا أكثر فطنة مني قد اقتنص فرصة النوم على هذا الفراش البالغ النظافة، ومن الراجحة أن أضطر إلى الاكتفاء بأريكة بالقرب من الفرن، ولكن الحظ ابتسم لي؛ فلم أكد أدق الباب حتى سمع دقي، فأسرعت الخادم العجوز إلى فتح الباب، وما أن عبرت المدخل حتى أحست قدماي بشيء طري، وإذا به الجدي، نفس الجدي فهو جدي مضيفتي، وقد دخل هو الآخر إلى الغرفة وفي تعقل نام تحت الفراش.
شيء غريب! ... هل توقعت المرأة أنني سأعود! ... أم أنها نهضت مبكرة؟ فالفراش مسوى كما كان.
وكل ما استطعت قوله هو: مدام مرجيولا.
Halaman tidak diketahui