وهز برنكرتز كتفيه، وكان قد وطن نفسه من مدة على حدوث هذا الحادث يوما ما، ثم أخذ يوهم نفسه بأن لعبة لعبها عليه أحد الشباب الماكرين الذين يلذ لهم إلقاء الرعب في قلبه، ولكنه كان في قلبه يحس بالحقيقة، فإن الصوت الذي سمعه لم يكن صوت إنسان، ووضح أمامه تمام الوضوح ما سيحصل في الغد، ومع أنه كان ينظر إلى الحالة باطمئنان كما هو الشأن في جندي قديم مثله، فإنه مع ذلك لم يشعر بالرغبة في النوم ثانية، فهب من فراشه ولبس أحسن ملابسه، واحتلق ورتب شعره الذي كان يلمع كأنه الفضة، فقد تذكر أنه بعد يوم سيكلف أحد الناس بتهيئة جسمه للقبر، وعلى ذلك ينبغي أن يجد هذا الجسم في حالة حسنة.
ووضع الضابط كرسيا بجانب النافذة وقعد عليه، وعلى حجره الكتاب المقدس الذي تركته له أمه وصار ينتظر انتشار الضوء لكي يتمكن القراءة، وبعد هنيهة انتشر في الشرق سحاب أحمر ثم انقشع الظلام، ولكن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد، فرفع رأسه وأخذ يتأمل ويفكر، ولم يكن ثم كاهن يساعده على إدراك موقفه هذا وعلى ذلك فهو مضطر إلى أن يتفاهم وحده مع الخالق.
وأخيرا وقف الضابط وأقفل الكتاب وهو يقول: «لست أفهمك، ولكن أسهل أن نتفاهم في محكمة عليا من أن نتفاهم هنا في هذه المحكمة الدنيا».
وثابت إليه سكينة عقله فقعد إلى منضدته يكتب ترتيب المشهد، وشرط أن يضرب جواده المسن بالرصاص، وأن من يطلق عليه النار يكافأ بكأس فضي، وجمع حساباته ودون ما له وما عليه، وأوصى بأثاثه وسائر أمتعته وأعطى معظمها لصبية صغيرة في القرية، وكانت هذه الصبية تحبه وتقضي الساعات الطوال في الجلوس في غرفته فأراد أن يكافئها، وقبل أن ينتهي من تسوية حساباته كانت الساعة ثمانية تقريبا، فأدى واجباته الاعتيادية، وبعد ساعتين وجد نفسه حرا يمكنه أن يقضي سائر يومه الأخير كما يشاء، وكان قد قرر في نفسه أن يحتفل في هذا اليوم بعمل شيء غير عادي.
وخرج يمشي حتى انتهى إلى مقعد في حديقة وقعد يفكر، ثم قال لنفسه: «من المؤكد أني لا أشعر بالميل لنسج البساط اليوم، وعلى كل حال فإن هذا البساط لن يتم، فيجب إذن أن أركب العربة وأسير بها إلى أي مكان، هذا يومي الأخير، فليس من الرأي أن أقضيه في قرية لا يعرف أحد من سكانها ماضي حياتي».
وهنا ت«.نبه ذهنه كأنما قد اشتغل بذكرياته القديمة، وقر رأيه على أن يكون هذا اليوم حافلا بالمسرات، وكان في أشد الاشتياق لأن يدخل في العالم ويشترك للمرة الأخيرة في مسراته، ولم يكن من الممكن أن يتمتع بها كلها، ولكنه قد يتمكن من التمتع ببعضها أحبها إلى نفسه وأحسنها.
وهب من مقعده مسارعا إلى جواده فقرنه إلى العربة ووضع عباءته خلفه، وكانت هذه العباءة قد خدمته طول حياته العسكرية الماضية، ولكنها لم تبل بعد، ثم ساق الجواد إلى تقاطع خمس طرق، ووقف لكي يقر قراره على نوع المتعة التي يريد أن يتمتع بها هذا اليوم، وهو آخر أيامه على الأرض، فإن هذه الطرق الخمس كانت كل منها تؤدي إلى شيء يحبه، فقد كانت الطريق الرأسية تؤدي إلى كارلستاد، ولو اتخذها لبلغها بعد ساعات قليلة، فقد كان يقيم فيها بعض أصدقائه، فلو ذهب إليها لجمعهم وقضوا يوما معا، ثم يلعبون الورق بعد ذلك، ولقد كان يفكر في الورق اللامع ويده ترتعش من الحماسة والفرح.
أما إلى اليمين فكانت الطريق تؤدي إلى تروسناس حيث معسكر الجنود المشاة الذين يدربون هناك، وكان يعرف أنه إذا ذهب هناك فإن جميع الفرقة تقف أمامه صفوفا وتحييه، وكان يخيل لنفسه الجنود الفتيان وهم في لباسهم الأزرق يبتسمون له، ويعرفون فيه الجندي القديم ذا الشهرة العظيمة، ثم تقرع الطبول ويرفرف علمهم القديم، ومرت ثانية شعر الضابط برنكرتز فيها كأنه يرغب في اتخاذ هذه الطريق، ولكن عاد فتردد، فقد قامت في نفسه شهوة غامضة أجبرته علي يتخذ طريقا أخرى.
وكان على يساره سكة قد قامت على جانبها الأشجار، وكانت تؤدي إلى قصر قديم تملكه سيدة عظيمة، كانت في شبابها من أجمل فتيات عصرها، وأجذبهن وأخفهن روحا، وقد صارت في الشيخوخة كما صار هو فيها أيضا، ولكنها كانت مع ذلك أصغر منه سنا ومهما بلغ عمرها فإن مثلها لا تفقد الجاذبية والفتنة، وكان يعرف أنه إذا زارها في ذلك اليوم على الرغم من الفراق الطويل، فإنها لن تبخل عليه بأن تجعل يومه الأخير يوم نعيم له، وخيل لنفسه كيف يجول معها في القصر من غرفة إلى أخرى كما كانا يفعلان أيام شبابهما، وكيف يحوطه البذخ والطرف فينسى أيام الوحدة والفقر التي عاشها.
وكان أمامه أيضا طريق يتجه إلى الشمال الغربي وتؤدي إلى مصانع الحديد في أكبى، وهي بلدة كان يحبها ويذكرها بأيام الهناء التي قضاها مع الخيالة في دار زوجة البكباشي، ولم يكن بالدار أحد الآن ولكنه شعر أنه إذا ذهب إليها فإن الأبواب تفتح له هو آخر رجال الخيالة الذي لم يمت بعد والذي يعد بمثابة آخر حلقة الاتصال بينه وبين ذلك العهد الذي قضوه جميعا في أكبى عهد الفرح والغناء والرقص والمجازفات...
Halaman tidak diketahui