ولقد راجت في تلك الآونة أقوال، وشاعت أقاصيص، عن تلك الزائرة التي فزعت رومية ولدانا وشيبا، فتيات وفتيانا، لاختطاف نظرة منها، قيل بأنها غانية، ترفل في الدمقس، وتخب في الديباج، وتغرق في الأحجار الكريمة والذهب الخالص، وقيل: إنها ساحرة، لن يفلت من شرها إنسان اتصل بها، أو كان له بها علاقة ما.
أما الخواص، فكانوا على أن كليوبطرا ليست إلا ملكة من ملكات الشرق، غير أنها الملكة التي لم يكن الشعب الروماني في صدره من حقد لإنسان، بقدر ما أكن لها.
وتقدم ركبها عدد من العبيد السود يلبسون أقراطا من ذهب، وبينهم الخصيان؛ فكانوا يشتملون بأردية طويلة، كتلك التي يلبسها النساء، أما الوزراء وصدور الدولة، فقد لبسوا على رءوسهم شعورا مستعارة؛ ذلك في حين أن الجند كانوا نصف عراة، وعلى رءوسهم ما يشبه الملامس
11
Antennae ، فلاحوا كأنهم حشرات كبيرة الأجسام.
ولما أن بدأ ذلك الموكب يشق قلب رومية، قوبل بعاصفة من الضحك والسخرية، أما الاستهزاء فكان من نصيب العلماء الفلكيين، بقبعاتهم الطويلة، ذوات القمم المدببة، والكهنة بجلود النمور التي ارتدوها، وبلغ الاستخفاف بأهل رومية مبلغه الأخير، لما أن وقعت أنظارهم على تلك الأعلام الكبيرة، وقد رسم عليها صور مقدسة! فما تلك الثعالب؟ وما هذه الصقور؟ وعلى أي شيء تدل تلك البقرات السمان؟ أهذه مثل من آلهة؟ لا جرم أن الذوق الروماني كان يأنف من النظر إلى مثل هذه الرموز، تتخذ لآلهة وإلهات.
غير أن أهل رومية لا يلبثون على هذا غير قليل، حتى يلوح لهم الهودج الملكي، غارقا في بحر لجي من الحراب المشرعة، والسيوف الباترة، فيسود الصمت العميق، كأن قبرا أجن أهل رومية أجمعين، عندما تقع أنظارهم على كليوبطرا، ومن فوق ذراعيها ولدها «قيصرون».
كم ذا سبب لها «قيصرون» هذا من قلق، وكم ذا بعث في نفسها من مضض، في قصر الإسكندرية؟ همها بمستقبله، وهمها بأبيه!
أما في رومية فقد ارتقبت كليوبطرا من ابتسامته الساذجة، ومن قربه في الشبه بقيصر، أن يكون مبعث عاطفة تنطلق في صدور الرومان بما يدنيها خطوة من غرضها الخطير، ولم يخب في ذلك نظر كليوبطرا، فإن قيصر في ذلك الوقت كان معبود رومية، وما عمل من عمل، أو أتى من شيء، إلا انتحل له الشعب الروماني منطلقا يؤيده، أما إذا كانت بعض الصدور تغلي بالحقد وتنفث بالغضب، أو كانت بعض الرءوس تحتشد بشتى النقود، فإنها لم تقو على أن تجهر بشيء، أو أن توجه إلى الملكة الشرقية بكلمة، يشعر معها قيصر، أن فيها امتهانا لعزته، أو افتياتا على جبروته.
ومهما يكن من أمر تلك المسحة السحرية التي مسحت بها الطبيعة ملامح كليوبطرا؛ فإنها لم ترتقب أن ترضي بجمالها شعبا تضخمت في رأسه فكرة السيادة على الدنيا، فنظر إلى بقية الشعوب نظرة أنها خول له وإماء، غير أن كليوبطرا لم تلبث أن أذكت في الرومان روح الغيرة! بشعرها الذهبي المموج؛ وعينيها الدعجاوين المكحولتين فطرة بما يعجز الفن عن محاكاته، وأهدابها الطويلة المعكوسة على جفونها، وشفتيها العنابيتين ، وقميصها الشفاف الزاهي، وقد برز نهداها من خلاله، كأنهما حق عاج، في صفحة من المرمر الصافي، أما تجاعيد شعرها العجيبة، فقد أطل من ثنياتها الصل المصري، يأخذ بعينين متقدتين، رومية والرومان.
Halaman tidak diketahui