تعريف
1 - أحمد بن طولون
2 - خمارويه ابن طولون
3 - عروس من القاهرة
خلفاء الدولة العباسية
أعلام تاريخية
تعريف
1 - أحمد بن طولون
2 - خمارويه ابن طولون
3 - عروس من القاهرة
خلفاء الدولة العباسية
أعلام تاريخية
قطر الندى
قطر الندى
تأليف
محمد سعيد العريان
تعريف
قطر الندى ...
فتاة من مصر، نشأت على أرض هذا البلد منذ أحد عشر قرنا، وكان لها في هذا البلد تاريخ، وكان لهذا البلد من تاريخها تاريخ ...
كان جدها وأبوها وأخوها ملوكا في مصر، وليس لهم نسب في مصر، ككل الملوك الذين توارثوا منذ ذلك التاريخ عرش مصر، وكانت هي ملكة على عرش بغداد، وليس لها نسب ولا عزوة في بغداد، كأكثر ملكات بغداد في ذلك التاريخ! ...
ولم تكن مصر وبغداد يومذاك دولتين تفصل بينهما الحدود السياسية، كما نرى في هذا الزمان، بل كانا بلدين كبيرين في دولة كبيرة تنتظمهما وتنتظم معهما بلادا أخرى، وتمتد حدودها بهما وبغيرهما امتدادا كبيرا من شاطئ الأطلسي إلى حدود الصين، وكانت بغداد عاصمة الحكم في هذه الدولة الكبيرة، وكانت مصر درة عقدها ...
هذه الدولة الكبيرة، التي كانت تنتظم مصر وبغداد وغيرهما في ذلك الزمان البعيد، هي الدولة الإسلامية الكبرى التي يسميها المؤرخون القدماء: «الدولة العباسية»؛ لأنهم يسمون الدول منسوبة إلى ملوكها، أو خلفائها، وكان خلفاء هذه الدولة من بني العباس بن عبد المطلب بن هاشم ...
على أن مصر - وهي جزء من تلك الدولة الكبيرة - كانت متميزة بطابعها الخاص عن سائر بلاد الدولة، فلم تنمح شخصيتها، ولم تزل عنها صفاتها الأصلية، وظل لها كيانها، واستقلالها، وتأثيرها البعيد المدى فيما حولها، وما بعد عنها من بلاد الدولة ...
وكان يحكم مصر - منذ صارت جزءا من الدولة الإسلامية - أمير من قبل الخليفة يسمى الوالي، يعزله الخليفة متى شاء ويولي غيره، أو يبقيه حتى يموت، وكان بجانب كل أمير يوليه الخليفة جاب للخراج، وموظف للمخابرات يسمى «صاحب البريد»، وكلاهما يتبع الخليفة في العاصمة، فليس للأمير عليهما سلطان ...
وقد ظل الأمراء يتعاقبون على حكم مصر قرنين ونصف قرن منذ فتحها «عمرو بن العاص» إلى أن وليها «أحمد بن طولون» ...
وفي عهد أحمد بن طولون بدأت مصر تاريخا جديدا، وبدأت حوادث هذه القصة ...
أما هذا التاريخ الجديد، فهو استقلال مصر عن الدولة الإسلامية ...
وأما هذه القصة فهي قصة «قطر الندى» بنت خمارويه بن أحمد بن طولون ...
في ذلك التاريخ صارت مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وذات جيش وراية، وذات مال وجاه وسلطة ...
وفي تلك القصة كانت العوامل السياسية، والعوامل الاقتصادية، والعوامل الإنسانية التي مهدت لذلك الاستقلال وأعانت عليه ثم تطورت به فقضت عليه ...
حقبة من التاريخ تصور أول كفاح مصر الإسلامية في سبيل الاستقلال.
وقصة من الحياة تصف أثر المال وأثر المرأة في بعض أحداث التاريخ ...
وصورة من حياة الدولة الإسلامية الكبرى في مداها الواسع منذ ألف ومائة سنة، تنتظم صورا من آفاق شتى وبيئات شتى في المجتمع الإسلامي الكبير الذي كان يضم في يوم ما مئات الملايين من شعوب الهند والسند والصين والتركستان والعجم والشركس والبلغار والروم والزنج والبربر والقوط، في الرقعة الفسيحة من الأرض الممتدة من جبال البرانس في أوروبا إلى ما وراء سور الصين العظيم في الشرق الأقصى ...
حقبة من التاريخ ...
وقصة من الحياة ...
وصورة من المجتمع الإسلامي في الماضي البعيد ...
ولون من ألوان الكفاح في سبيل الاستقلال ...
وألوان من المقاومة لهذا الكفاح ...
تصورها كلها قصة قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون.
فهي قصة فتاة، وقصة أمة.
إن مصر والعرب والمسلمين جميعا، إذ يذكرون اليوم ذلك الماضي، ليدركون حقائق كثيرة غابت عن أسلافهم، فيعرفون، وقد آن أوان المعرفة، كيف تحيا بعض الدول، وكيف تنحل عروتها فتموت؟!
درس من الماضي نتعلمه اليوم؛ لنحيا ونعيش أبدا.
فنحن شعب خليق بأن يحيا ويعيش أبدا ... لخيره ولخير الإنسانية.
محمد سعيد العريان
الفصل الأول
أحمد بن طولون
1
لم يكن عربي الدم، وإن حسبه كذلك كل من رآه أو استمع إليه، فقد كان له لسان وبيان، وكان فيه أريحية ونخوة، وحفاظ على العهد، وتحرج في الدين، وعصبية للعرب.
وكان أبوه «طولون» من عمال السلطان لعهد الخليفة المتوكل، فلما مات أبوه فوض إليه الخليفة ما كان بيد أبيه من أعمال السلطان، وقد كان أمر الدولة كله يومئذ إلى الموالي
1
من الترك والعجم، ولم يكونوا جميعا من الترك أو من العجم، وإنما كذلك كان يصفهم أهل «سامرا»
2
لذلك العهد، وبرغم أن «أحمد بن طولون» كان واحدا من هؤلاء الموالي، فقد كان شديد الازدراء عليهم
3
يستصغر عقولهم وآدابهم، ويذكر أنهم قد تسنموا من المراتب ما لا يستحقون.
على أن أحمد بن طولون إن لم يكن عربيا فقد كانت البداوة طبعا تحدر إليه من أسلافه الأولين، أهل «طغزغز»، وهم قوم يسكنون أرضا واسعة على حدود الصين، يعيشون بها في خيام من الشعر أو من الأدم
4
كما يعيش أعراب البادية، فإذا لم يكن أحمد بن طولون عربي النسب، فقد كان عربي الفطرة والدين.
وقتل المتوكل على سريره بأيدي مواليه من الترك والعجم، وتولى بعده ولده المنتصر، فلم يستتم على سريره بضعة أشهر ثم هلك، وبويع بالخلافة من بعده ابن عمه المستعين ...
وبلغ الموالي مبلغهم من الطغيان والعسف، واجتمعت لهم أسباب السلطة، حتى لا يكاد الخليفة يملك معهم مخرجا ولا مدخلا، ولزم قصره في بغداد يتربص بنفسه كيد الموالي، ويتربصون به!
وضاقت نفس أحمد مما يشهد من غدر الترك وسوء أثرهم في الدولة، فآثر الاعتكاف والوحدة، وإنه يومئذ لشاب في الثلاثين، تبسم لمثله الآمال، وتتفتح لعينيه زهرة الدنيا.
وقال لصاحبه: «إلى كم نقيم يا أخي على هذا الإثم مع هؤلاء الموالي، لا يطئون موطئا إلا كتب علينا الخطأ والإثم؟ ... والصواب أن نتركهم وما اجتمعوا عليه من الضلال والغواية، ونسأل الوزير أن يكتب بأرزاقنا إلى الثغر
5
نقيم به في ثواب دائم وجهاد متصل!»
قال صاحبه، وعلى شفتيه ابتسامة العتب والدهشة: «كأنك يا أحمد قد أيست من التصرف في شيء من أعمال السلطان، وإن كنت لأرجو لك، وإنك لأهل للولاية!»
قال ابن طولون: «خل عنك يا أخي حديث السلطان والولاية، إن أمر الدولة يكاد يبلغ آخره من سوء ما يصنع هؤلاء الترك والعجم، وإن أمر الخليفة ليوشك معهم أن ينتهي إلى مثل ما انتهى إليه أمر عمه المتوكل
6
وماذا بعد ذلك إلا انهيار الدولة، فإن رأيت فإننا نخرج إلى طرسوس
7
غازيين مجاهدين في سبيل الله، حتى تنجلي هذه الغمرة، أو يكون أمر من الأمر!» •••
وأنست نفس أحمد بن طولون في طرسوس وزال استيحاشه، واشتهرت له وقائع في جهاد العدو تناقلها الركبان في الفلوات، حتى بلغت سامرا حاضرة الخلافة، فذاع صيته وأكبر الناس همته وعزمه.
وعاد من طرسوس وله ذكر ومكانة، ودارت الأيام دورتها، وإذا الخليفة المستعين مخلوع قد خلعه الموالي وأقاموا على العرش ابن عمه المعتز، ونفي المستعين إلى واسط
8
ودعي أحمد بن طولون إلى صحبته؛ ليكون عينا
9
عليه وحارسا له، وعرف ابن طولون للخليفة المخلوع قدره فأحسن عشرته وآنس وحدته، ووفاه حقه من التجلة والكرامة، وترك له أن يغدو ويروح حيث شاء!
وأراد الموالي أن يخلص لهم الأمر فأجمعوا على قتل المستعين حتى لا تنازعه نفسه إلى العرش.
وكتبت أم المعتز إلى أحمد بن طولون بواسط: «إذا قرأت كتابي فجئني برأس المستعين، وقد قلدتك
10
واسط.»
وقال ابن طولون لنفسه وقد جاءه الكتاب: «بئست الإمارة تقلدنيها امرأة ثمنا لمقتل خليفة له في عنقي بيعة.»
وتمرد على الأمر وتأبى على الإمارة.
وتسامع الناس في سامرا وبغداد بما كان من أمره ذاك في واسط، وبما كان من أمره قبل ذلك في طرسوس، فأكبروا خلقه ودينه، وبلغ محلا من نفس الترك والعرب جميعا ...
2
وكانت مصر يومئذ أثمن درة في تاج الخليفة، يباهي منها بما يملك لا بما يحكم، فليس يعنيه من أمرها إلا مقدار ما يؤدى إليه من خراجها،
11
وما يهدى إليه من طرائفها، وكذلك كان اعتبارها في أعين من يتقلدها من الولاة، فهي عندهم ضيعة للاستغلال، لا شعب يقتضي حسن الرعية، فليس همهم منها إلا ما يجمعون من مال الخراج، يؤدون منه ما يؤدون إلى الخليفة، ويتبقى لهم بعد ذلك من فضل الغلة ما يحقق لهم الغنى والجاه والسيادة، ومنهم من لا يعنيه من ولاية مصر إلا لقب الإمارة ... فكان الوالي إذا قلده الخليفة مصر يلتمس نائبا أمينا يكفيه أمرها ويحمل إليه من ثمرتها، ويظل حيث هو في الحضرة
12 (سامرا)، يباهي بإمارته ويدل بجاهه، وأمر مصر كله إلى نائبه هناك ...
على أن المصريين يومئذ لم يكونوا من ضعف الهمة، بحيث يرضون لأنفسهم هذه المكانة، فلم يكن الأمر ليستقيم طويلا لواحد من أولئك الولاة في مصر، وكانت ثورات المصريين على ولاتهم لا تكاد تهدأ، على أن هذه الثورات المتتابعة لم تكن من القوة بحيث تستطيع إحداث تاريخ جديد، ولكنها مع ذلك كانت إرهاصا
13
لأمر قد أظل أوانه
14 ...
في هذه الفترة من تاريخ مصر كان باكباك التركي هو السيد الآمر في قصر الخليفة المعتز، وكان إليه الأمر كله، ولكنه يطمع في مزيد من الجاه، فسأل الخليفة أن يشرفه بولاية مصر، فولاه فراح يلتمس النائب الأمين الذي يخلفه على تلك الضيعة.
وكان ابن طولون قد بلغ تلك المنزلة فأنابه باكباك ... •••
صاح المؤذن، وقد اختفى حاجب الشمس وراء الأفق الغربي: «الله أكبر ...» فابتدر الأمير وجلساؤه إلى قصعة فيها تمر رطب، ثم دارت عليهم أقداح الحليب فشربوا ورووا، ومسح الأمير فمه وتلا في صوت خشعت له الجماعة: «الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله!» ثم دعا: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت ... اللهم فاجعلني في المقبولين من عبادك، ووفقني في أمر هذا البلد لرضاك، وأحسن رعيتي في خلقك، فإنه لا إحسان إلا ما أحسنت، ولا هداية إلا ما وفقت، يا أحكم الحاكمين!»
وأمن جلساء الأمير على دعائه.
15
ثم انتدب من بينهم فقيه أهل مصر ومحدثهم أبو عبد الله محمد بن عبد الحكم المصري،
16
فقال: «بلغك الله سؤلك أيها الأمير وأنعم بك، إن هذه أمانة من أمانة الله في عنقك، وقد وليها قبلك أمراء، منهم البر والفاجر، والأمين والغادر، أما البر والأمين منهم، فكان للخليفة بره وأمانته، ليس للأمة من ذلك نصيب، وأما فجور الفاجر وغدر الغادر، فكان للأمة من كليهما نصيبها، وللسلطان نصيبه، فعلى الأمة المغرم في الحالين، وإنما نحن وفد هذه الأمة إليك، وقد سبقتك إليها أنباؤك، فاستبشر عامتها وخاصتها بمقدمك، وإنها لترجو على يديك الخلاص من فساد الحكم، وجور الملتزم
17
وطماعية عمال السلطان، فإن فعلت فقد قرت الأمة بك عينا، وإلا فالله وليها
18
فيما تأمل، وحسب المؤمن ربه.»
قال الأمير: «نفعل إن شاء الله يا أبا عبد الله، وإن لي عليك شرطا ليتهيأ لي تحقيق ما التزمته: أن تكون أنت ومن معك عينا علي وعونا لي، فأيما عمل رأيت أو رأى أصحابك فيه حيادا عن الجادة
19
فاكشف لي عنه، فإن ذلك حقيق بأن يبصرني موضع خطاي إذا ضللت سواء السبيل.»
وبايعه الجلساء على ذلك، ثم نهضوا جماعة لصلاة المغرب قبل أن يجلسوا إلى مائدة الأمير يستتمون فطور الصائم.
ومدت الموائد للعامة في قصر الأمير وعلى جنباته، ونادى منادي الأمير في الطاعمين: «كل من أفطر على مائدة الأمير الليلة، فله على الأمير حق أن يحضر مائدته في كل ليلة، وله حق عياله وشمله
20
فيما بقي من الطعام، يحمل منه إلى داره ما يشاء.»
وأقبل الناس على طعامهم راضين هانئين، ثم صدروا عن دار الأمير في يد كل منهم سفرة لعياله، وبينه وبين الأمير ميعاد على مائدته.
وصار ذلك شأن الأمير كل يوم في رمضان، ثم كل يوم بعد رمضان.
ومثل بين يديه صاحب صدقاته، فقال: «يا مولاي، لقد بلغت نفقات مطبخ الأمير في اليوم ألف دينار، وبلغ ما دفعناه إلى المعوزين من مال الصدقة ألفين في ساعات من النهار!»
قال الأمير: «لا عليك من ذلك، إنما هو مال الله، استودعنا إياه لأهل عارفته،
21
فلا تقبض يدك عن البر بأحد.»
قال: «أيد الله الأمير، فإنا نقف حيث جرت العادة بتوزيع الصدقة، فربما امتدت إلينا الكف المخضوبة، والمعصم فيه السوار والكم الناعم، أفنمنعها أم نعطيها؟»
قال الأمير: «ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن ترد يدا امتدت إليك.»
وذاعت في العامة أخبار الأمير أحمد بن طولون، وتحدث الناس بألطافه وبره وعفته وتقواه، وروى راويهم ما عرفه عنه في طرسوس، وأخبر مخبرهم بما سمع عنه في سامرا، وقال قائلهم: نعم الأمير أبو العباس! وقال السامع: يا ليتها دولة تدوم.
وعاد الصدى إلى أحمد بن طولون بما يتحدث به الناس عنه، فاعتقده بيعة له بالإمارة على مصر لا ينقضها السلطان، وأجمع أمره على أمر ...
3
وسارت الحوادث متتابعة في سامرا، فقتل الخليفة المعتز وبويع المهتدي بالخلافة، ثم قتل باكباك، وآلت إمرة مصر من بعده إلى يارجوخ التركي صهر ابن طولون، فأقره على ما في يده وبسط له الرقعة،
22
فامتدت ولايته إلى الإسكندرية والصعيد وبرقة
23 ...
واستمرت الحوادث تتتابع في الدولة، فقتل المهتدي، كما قتل المعتز من قبله؛ وتعاقب الخلفاء على عرش الدولة العباسية يقتل بعضهم بعضا، أو يقتل الأتراك بعضهم بأيدي بعض، وابن طولون في مصر يدبر ما يدبر لأمره، فلم تمض إلا سنوات حتى كان له في مصر عرش وسلطان ...
وكان على الخراج في مصر عامل
24
من قبل الخليفة «المعتمد» لا يؤتى من قريب،
25
قد اجتمع له من موارد مصر ما لم يجتمع لأمير قط، وإنه ليفتن كل يوم فنونا في تحصيل المال، حتى لقد فرض ضرائب على الكلأ المباح،
26
ومصايد البحر، وصخور البرية!
وكان على البريد كذلك عامل
27
من عمال الخليفة لا سلطان عليه لابن طولون، فلعله يرفع من أخبار مصر إلى الخليفة في بغداد ما لا يعلمه الأمير في مصر ...
فماذا بقي لابن طولون من موارد مصر، وعلى الخراج عامل الخليفة؟ وكيف يأمن الغرة
28
وعامل البريد مطوي على سره؟
وراح ابن طولون يدبر لأمره ثانية ما يدبر ...
ومثل بين يديه وفد من أهل مصر، يشكون إليه سوء ما يلقون من عامل الخراج، ورآها الأمير فرصة سانحة لما يرجوه من أمر، وتدانى إليه الأمل فقال وفي صوته رقة: «وددت لو كان الأمر إلي، إذن لأبطلت عنكم كثيرا مما تحملون من المغارم.»
قال محمد بن هلال المصري، وكان رجلا له فيهم خطر ومكانة: «فإن الأمر إليك يا مولاي، لو شئت لكان، وإنما أنت الراعي ونحن الرعية، فأين منا من نفزع إليه
29
غيرك؟»
ولمعت عينا أحمد بن طولون، واسترعاه حديث ابن هلال،
30
فبسط له وجهه وأدناه، وقال في صوت خافت كأنما يتحدث به إلى نفسه، وإن حديثه ليبلغ آذان الوفد جميعا: «نعم، كيف يلي رجل من سامرا خراج مصر؟
31
هلا كان ذلك إلى مصري يعرف من حال قومه وحاجتهم، ما لا يطلع عليه الغريب.»
وانبسطت نفس ابن هلال، وبدت أمارات الرضا في وجوه الوفد، فغمغم القوم شاكرين، وقد جاش في نفوسهم أمل، وانصرفوا وهم يدبرون أمرا، والأمير يدبر أمرا ... وأجنت
32
الأرض الخصبة بذرة إلى حصاد ...
وخلا مجلس الأمير إلا من كاتبيه: أبي عبد الله الواسطي، وأبي يوسف يعقوب بن إسحاق، وكان على شفتي الأمير كلام حين ابتدره الواسطى قائلا وما يزال في أذنيه صدى من حديث الوفد: «لله أنت يا مولاي! مكن الله لك وبسط ظلك.»
قال ابن طولون: «الحمد لله كثيرا، تركنا لله عز وجل شيئا
33
فعوضنا منه أشياء أعظم وأجود وأحمد عاقبة: كانت نهاية ما وعدنا به على قتل المستعين بالله تقليد واسط، فخفنا الله عز وجل في قتله فلم نقتله، فعوضنا الله عز وجل اسمه مصر وغيرها.»
قال أبو يوسف: «وإني لأرجو يا مولاي أن يمكن الله لك، فيمتد ملكك من حدود المغرب إلى أكناف العراق.»
قال الأمير: «صه، لقد أسرفت يا يعقوب فيما تأمل، إن في أعناقنا لأمير المؤمنين بيعة لا ينقضها إلا الموت.»
4
وعلا نجم ابن طولون وذاع صيته، فإن حديثه ليدور على كل لسان في مصر وفي سامرا، أما المصريون فقد رضوا مذهبه وحمدوا سيرته، وقد اتخذ ابن طولون من أعيانهم بطانة
34
يتألف بها من يليهم
35
من الأتباع، فيهم وجيه قومه محمد بن هلال، وفقيه الجماعة محمد بن عبد الحكم، وكبير التجار معمر الجوهري، وراهب القبط أندونه، فكانوا سببا بينه وبين الشعب،
36
فراحت وفودهم تسعى إلى الخليفة المعتمد في سامرا، يشكرون عدله وحسن رعيته، ويطلبون تثبيته على عرش مصر.
كذلك كان أمر الشعب معه، أما أبناء الحكام وعمال الخليفة في المرافق الدنيا،
37
والطارئون على مصر من الشام وبغداد، وما يليها من بلاد الشرق، فقد رأوا في سيرته ما حملهم على اليقين بأنه قد يبيت النية
38
على الاستقلال بمصر، فمنهم من غار ونفس عليه ما بلغ،
39
ومنهم من خاف مغبة ذلك
40
على مستقبل دولة الخلافة، فراحوا يسعون به إلى الخليفة، يزعمون أنه بسبيل التغلب على مصر والعصيان بها.
وعرف ابن طولون ما يدبر له فأعد عدته للدفاع، واتخذ جيشا فيه مائة ألف فارس وما لا يحصى من الرجالة، وعديد من سفن الغزو، وعتاد الحرب في البر والبحر، وأرضى طموح المصريين بما أنشأ من المصانع والدور والقصور، وزين حاضرته زينة يباهي بها حواضر الملوك، ووثق آصرته
41
بالشعب بما زاد من حبائه
42
وبره، وجلس للعامة يستمع إلى مظالمهم، وراح يتفقد الأسواق، ويطوف على حماره بالليل وحيدا في الأزقة يستطلع طلع الناس، وما يكون من خبرهم إذا خلوا إلى أنفسهم وذوي خاصتهم ... واتخذ العيون
43
يرصدون على أعدائه حركاتهم في مصر وفي بغداد وسامرا، واصطنع له في دار الخلافة سفيرا يكتب إليه بكل ما يبلغه من أخبار السعاة،
44
ورصد الأموال العظيمة لاصطناع الأولياء من حاشية الخليفة ومن يلوذ به، وأحدث صهرا بينه وبين الخليفة المعتمد، واستخدم لأمره جماعة من الجوهرية وسراة التجار
45
في بغداد يبذلون عن أمره الأموال والهدايا لرجال الدولة، ليقيدوهم على طاعته والولاء له، تارة بالدين يوثقونهم به على الولاء، وتارات بالعوارف
46
والألطاف يبذلونها باسم الأمير لكل من يتوسمون فيه النفع، أو يدفعون به المضرة والمنافسة ... فخرست الألسنة، وتقاصرت الهمم، ولم تبق إلا قالة الخير على كل لسان.
وأخذ سلطان الدولة الطولونية يتسحب على ما يجاورها من بلاد الخلافة شيئا بعد شيء، فلم تمض إلا سنوات، حتى امتد ملك ابن طولون من حدود المغرب إلى أكناف العراق، كما رجاها أبو يوسف يعقوب بن إسحاق،
47
واجتمع له الخراج والبريد والقضاء، وصار له شعار وراية واستقل، فما ثمة رباط يربطه بالدولة إلا ما يؤدي إليها من الخراج في كل عام .
5
استفحل الخطر على الدولة العباسية في بغداد، وأوشكت وحدتها أن تتفرق، وضغطتها الحوادث من الشرق ومن الغرب، أما في الشرق فقد بلغ علوي البصرة «صاحب الزنج»
48
من القوة ما بلغ حتى أوشك أن يصير إليه أمر المشرق كله، وأما في الغرب فكان أحمد بن طولون.
والخليفة المعتمد على الله في قصره من بغداد مشغول بالقصف
49
والغناء والشراب، لا يكاد يعنيه من أمر الدولة شيء، قد كفاه أخوه طلحة «الموفق» أمر صاحب الزنج بالبصرة، وبذل لحربه كل ما يملك من حول وحيلة، وجرد له كل ما تقدر عليه الدولة من جند وعتاد ... وكفاه أحمد بن طولون نفسه بما وثق من أمره عند الخليفة بالمال والصهر وتمويه الحديث.
50
وبدا للناظر من بعيد أن الدولة الإسلامية العظمى قد أوشكت أن تنهار وتتناثر قطعا لا يمسكها سبب، ولم يكن يحمل هم الدولة كلها يومئذ إلا رجل واحد، هو الموفق أخو الخليفة، ولكن الموفق يومئذ مشغول بأمر صاحب الزنج، فمن ذا يكفيه أمر أحمد بن طولون؟ ...
ولم تكن ولاية العهد يومئذ خالصة لرجل واحد، فقد جعلها المعتمد من بعده لرجلين، ولده جعفر المفوض، ثم أخيه طلحة الموفق.
ولم تكن شئون الدولة كذلك في يد واحدة تديرها كيف تشاء، فقد قسمها المعتمد بين وليي عهده، فولى ولده مصر والمغرب، وخص أخاه الموفق بالمشرق، وقد كان الموفق بما في طبيعته من الصرامة والحزم أهلا لما ولي ليرد عن الدولة عادية الخوارج في المشرق، ويجتث جذور الأحقاد، ولكن المفوض بطبيعته الرخوة لم يكن أهلا لما ولي ... وهل كان ممكنا أن يبلغ ابن طولون ما بلغ لو أن مصر والمغرب كانا إلى رجل فيه مثل صرامة الموفق وحزمه؟ ...
على أن الموفق لم يكن يومئذ في غفلة من أمره، وهو يرى الدولة الطولونية تمد مدها حتى تبلغ أكناف العراق وتكاد تصل إلى حاضرة الخلافة، فكيف يقف هذا السيل المكتسح قبل أن يجرف في طريقه دولة بني العباس؟ كيف، وما له يد على ابن طولون، وليس إليه الأمر في شأن من شئون الغرب؟ ...
لقد قضى زمانا يدس الدسائس لأحمد بن طولون، ويؤلب عليه
51
جيرانه فما أجدى ذلك عليه شيئا، فما بقي إلا أن يسفر عن وجهه ويباديه العداوة صريحة، ولكن من أي سبيل؟ ...
بلى، إن ثمة حيلة لعله أن يبلغ بها: إن مصر خزانة السلطان وفيها أمواله - كذلك يراها الموفق - وقد كانت حرب الزنج غرما اقتضى الخليفة أن يستدين للإضاقة
52
كي ينفق على الجيوش التي يقودها لحرب صاحب الزنج، أفلا يبذل ابن طولون شيئا من خزانة السلطان عونا لجيش الخليفة إن كان على الولاء للدولة؟ ...
وبعث الموفق إلى ابن طولون يطلب معونته بالمال على قتال صاحب الزنج، يريد بذلك أن يجعله بين أمرين: الطاعة الصريحة، أو العصيان السافر.
وفهم ابن طولون ما عناه الموفق، وعلم أن وراء ذلك أمرا يكاد يلمح بواكيره، فأراد أن يبلي عذرا مما اعتزم،
53
كي لا تكون عليه حجة من بعد، فبعث إلى الموفق بمال ...
وأحصى الموفق ما بعث به إليه ابن طولون، فإذا شيء لا يكاد يغني، فكتب إليه كتابا يستصغر ما أرسله، ونفث في كتابه ذات صدره وسخيمة نفسه.
54
وأجابه ابن طولون: «وأي حساب بيني وبينك، أو حال توجب مكاتبتي بمثل هذا أو غيره؟ ... أؤكلف على الطاعة جعلا،
55
وألزم للمناصحة ثمنا؟ ... أعني على ما أوثره من لزوم العهد وتوكيد العقد بحسن العشرة والإنصاف ...»
وبلغ الموفق كتاب ابن طولون، فأقلقه وبلغ منه مبلغا عظيما ...
هذا عامل من عمال الخليفة يرى الولاء للدولة منة، وكان عليه فريضة، واستعلن بنيته وكان حقيقا بأن يستخفي.
أكان الموفق بما طلب منه يحاول إيقاعه، أم يستعجله بالعصيان؟
واستحكمت العداوة بين الرجلين منذ اليوم، وأيقن كل منهما أنه من صاحبه بإزاء خصم قوي إن لم يأكله أكله، فإما دولة بني العباس وإما أحمد بن طولون. •••
هز الموفق رأسه أسفا، وأغرق في صمت، وأظلته سحابة عابرة فرفع إليها رأسه، وغمغم بكلام لا يبين، وحضرته كلمة جده الرشيد للسحابة الممطرة: «أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك.»
56
فابتسم الموفق ابتسامة كاسفة، وهو يقول في تحسر: «أوشكت والله كلمة الرشيد أن تتمصر، فتصير دولة الخلافة طولونية.»
57
قال جليسه: «هون عليك أيها الأمير، فسيكفيكه الله بغير جهد عليك، وماذا يكون شأن ابن طولون، وأنت أنت؟»
قال الموفق: «شأنه شأن الجالس على عرش مصر: في يده ثروة الدنيا، وتحت قدميه كنوز الفراعين، وأنا فيما ترى من الجهد والبلاء بحرب صاحب الزنج.» •••
وألقت ضرورات السياسة قناعا على ما بين الرجلين من عداوة إلى حين، ولكن كليهما كان يعلم أين مكانه من صاحبه على التحديد ...
أما ابن طولون فكان يعلم أن الخلافة صائرة يوما إلى الموفق، وسيبلغ بهذا الحق من قوة الأثر في نفوس المسلمين من رعايا دولة الخلافة ما يفل
58
به سيف ابن طولون، ويحطم كبرياءه ...
وأما الموفق فلم يكن يحمل من هم ابن طولون إلا أمرا واحدا، لو كفيه لانهارت الدولة الطولونية كلها، فلم تقم لها قائمة بعد، ذلك هو غنى أحمد بن طولون بالمال، هذا المال الذي يشتري به الجند للحرب، ويصطنع به الصنائع للسياسة، فيغلب به ويتمكن.
وراح كلا الرجلين يدبر أمره ليحطم صاحبه من حيث يظن به القوة!
6
عاد الأمير أحمد بن طولون من جولة في بعض أسواق المدينة ذات مساء، فأوى إلى فراشه مطمئنا هادئ النفس، ثم أصبح كئيبا قلقا كأنما حط على صدره كل هم الدنيا ... فدعا عدة من أصحاب الرسائل
59
فتقدم إليهم أن يتفرقوا في المدينة يبحثون عن غلامه «لؤلؤ»، فيأتون به من حيث كان ...
وكان لؤلؤ من أصحاب الحظوة والجاه عند ابن طولون، قد صحبه الأمير طويلا ووثق به وائتمنه على سره، حتى ليكل إليه من مهام الدولة ما لا يكل إلى ولده.
واتخذ الأمير مجلسه في «قبة الهواء»
60
يسرح النظر بين النيل والجبل، وفي قلبه من الهم والقلق ما به، انتظارا لمقدم لؤلؤ ...
وتفرق رسل الأمير في المدينة، يلتمسون لؤلؤا حتى وجدوه فوافوا به الأمير في مجلسه، ومثل لؤلؤ بين يدي مولاه، وإن نفسه لتكاد تخرج مما به من الذعر والفزع ...
وسأله الأمير قلقا: «حدثني يا لؤلؤ: أفي غلمانك فتى أزرق أشقر من وافدة بغداد،
61
يشرف في الإصطبل على دوابك، اسمه محمد بن سليمان؟» قال لؤلؤ ولم يزل ما به من الذعر والفزع: «أنظر يا مولاي، فإني لا أكاد أحقق وجوه غلماني.»
قال الأمير: «فإذا لقيته فاصرفه، أو فاقتله، فقد رأيته في المنام باسمه وصفته منذ بضعة أشهر، وفي يده مكنسة يكنس بها قصري وسائر دوري وحجري، وعاودني هذا الحلم البارحة بصورته التي رأيت من قبل، كأنه إنذار من وراء الغيب بأن هذا الفتى يدبر للدولة شرا.»
قال لؤلؤ وقد سري عنه:
62 «كفاك الله يا مولاي ما تخاف.»
ثم انصرف عن مجلس سيده، وهو لا يكاد يصدق بالنجاة، وذهب إلى إصطبل الدواب، فإذا شاب أزرق أشقر في ثياب خلق وزي رث،
63
فوقف إليه وسأله عن اسمه وعمله، فأجابه ... قال لؤلؤ دهشا: «ويحك! أنت محمد بن سليمان؟ فمن أين يعرفك الأمير؟»
قال الفتى: «يا مولاي، والله ما رآني قط ولا وقعت عينه علي إلا في الطريق، ولا محلي محل من يتصدى للقائه.»
قال لؤلؤ: «لقد أمرني مولاي أن أحتز رأسك لرؤيا رآها ...»
قال الفتى فزعا: «وأي ذنب لي يا سيدي في الأحلام؟»
فهدأت نفس لؤلؤ، وقال: «صدقت، فتوق - ويحك - ولا تتعرف إلى أحد من حاشيته.»
وكان محمد بن سليمان في رثاثته وخلقانه عينا من عيون الموفق على الطولونية، وكان له دهاء وتدبير، فلم يزل يحتال لأمره من كل وجه حتى صار أدنى إلى لؤلؤ من سائر غلمانه، فصارت عينه على أسرار الدولة، ويده على أموالها؛ لمكانته من مولاه، ومكانة مولاه من أحمد بن طولون.
ومضى زمان، وإذا لؤلؤ خادم الطولونية الأول يتنكر لها ويخرج على سيده، ويحتال حيلته حتى يجتمع إليه من مال الخراج مال، فيخرج إلى الشام ثم يتخذ طريقه إلى بغداد منحازا إلى الموفق بما اجتمع له من مال الدولة، لا يصحبه من غلمانه إلا خادمه محمد بن سليمان الأزرق.
وعرف ابن طولون كيف يدبر له الموفق وأعوانه في مصر، فأجمع أمره على خطة تحطم كبريائه، وتفل غربه.
7
كان الخليفة المعتمد في مجلس الشراب من قصره بسامرا، قد تكنفه ندمانه على النمارق،
64
وصفت بين يديه أقداح البلور على صينية من جزع،
65
وأرخيت على النوافذ ستائر الديباج، تتلعب بها النسمات، فتتموج في سكون، وتنعكس عليها الأضواء فتشع بمثل ألوان الطيف، يتضرب لون منها في لون، ولكن الخليفة وندمانه كانوا مطرقين في صمت، لا تمتد يد إلى قدح، ولا تنبس شفة بصوت، ولا حس ولا حركة، فلولا ما ينفح في مجامر المسك من عطر البخور ودفء النار لحسبه من يرى مجلسا مرسوما على أديم قد أبدع تصويره رسام بارع فأتقنه تمثيلا وصورة، لم يفته من مظاهر الحياة إلا الصوت والحركة.
وكان الخليفة حقيقا بما هو فيه من العبوس والكآبة، فقد بلغ أخوه الموفق من التضييق عليه مبلغا بعيدا، استئثارا بالسلطة واستقلالا بالأمر، فاحتجزه في هذا القصر من سامرا، وأخذ عليه المذاهب، ووكل به العيون وأصحاب الأخبار، وكف يده عن التصرف في شيء من مال الدولة، حتى لكأن الخليفة هو طلحة الموفق نفسه، فليس للمعتمد من أمر الخلافة إلا لقب أمير المؤمنين، وقد بلغ الأمر غايته اليوم، فها هو ذا خازن القصر يأبى على الخليفة أن يحبو نديما
66
من ندمانه ثلاثمائة دينار، فيرد توقيعه بلا جواب.
ومضت فترة صمت، ثم رفع المعتمد رأسه وفي عينيه انكسار، وأنشد:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قل ممتنعا عليه؟
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه!
إليه تحمل الأموال طرا
ويمنع بعض ما يجبى إليه!
وقطع عليه دخول غلامه «نحرير» يؤذنه بحضور «طيفور التركي»، صاحب خبر ابن طولون وسفيره في الحضرة
67 ...
ومثل طيفور بين يدي الخليفة فحيا وبالغ في التحية ودفع إليه صكا من مولاه بمائة ألف دينار، وكتابا مختوما بخاتمه، ثم جلس طيفور حيث انتهى به المجلس.
وفض الخليفة كتاب صاحب مصر، فما مضى في قراءته أسطرا حتى انبسط من عبوس وتهلل من كآبة، ثم دفع الكتاب إلى أدنى جلسائه إليه، فمضى يقرأ منه: ... وقد منعني الطعام والشراب والنوم خوفي على أمير المؤمنين من مكروه يلحقه، مع ما له في عنقي من الأيمان الموكدة، وقد اجتمع عندي مائة ألف عنان
68
أنجاد، وأنا أرى لسيدي أمير المؤمنين الانجذاب
69
إلى مصر، يقيم بها كرسي الخلافة، ويجعلها حاضرة سلطانه، فإن أمره - إن شاء الله - يرجع بعد الامتهان إلى نهاية العز، ولا يتهيأ لأخيه فيه شيء مما يخاف عليه منه في كل لحظة، فإن رأى أمير المؤمنين - أيده الله - ذلك صوابا فعل ...
وانتهى أمير المؤمنين من قراءة الكتاب فلم يتلبث، وأزمع منذ الساعة أن ينقل حاضرة الخلافة إلى مصر، وتهيأ للرحلة منذ الغد ...
وأوشكت دولة الخلافة أن تصير طولونية.
8
جدت الخيل جدها من نصيبين إلى الموصل،
70
عليها أربعة آلاف غلام من الفرسان الأنجاد، يقدمهم إسحاق بن كنداج الخزري قائد جند الموفق، ليرد الخليفة على وجهه ...
وكان الخليفة قد أبعد في طريقه إلى مصر، وحط رحاله فيما بين الموصل والحديثة مريحا،
71
ينتظر متاعه وحشمه ومن وراءه من أهله وخاصته، وقد ضرب ابن طولون فساطيطه
72
وخيم بدمشق في انتظار مقدم الخليفة، وقد أوشك أن يتم له من تدبيره ما يؤمل ...
وأدركت خيل الموفق الخليفة، حيث حط رحاله فردته وأصحابه إلى سامرا، ووكل به قائد في خمسمائة رجل، يمنعون أن يدخل إليه أحد حيث أنزل من دار ابن الخصيب، فلا ينفذ إلى قصر من قصوره، ولا ينفذ إليه أحد من مواليه ...
وخلع الموفق على إسحاق بن كنداج ومن معه من القواد ولقبه وأحسن إليه، وعقد له على مصر
73
مكان أحمد بن طولون، وترك له أمر تأديبه وتقويض عرشه!
وتمزق القناع عما بين الرجلين من عداوة، ولكن الموفق لم يكن قد فرغ من حرب صاحب الزنج، فليس له طاقة بأن يحارب أحمد بن طولون حربا سافرة، وفي يد ابن طولون خزائن مصر، وتحت قدميه كنوز الفراعين ...
وسعى الوسطاء بالهدنة بين الرجلين، فاستقر الأمر بينهما هونا ما، واستسرت
74
العداوة بعد إعلان، وإن لم يزل أتباع ابن طولون وجند إسحاق يتجاذبون الحبل على حدود الدولتين!
وفرغ الموفق من أمر صاحب الزنج في جمادى الأولى سنة 270 بعد حرب استمرت بضع عشرة سنة، كلها جراح ومغارم وتضحيات، فما انتهت حتى كانت خزائن الدولة صفرا
75
من المال، وحتى كان كل جندي من جند الدولة في حاجة إلى نومة عميقة في فراش دافئ لا يوقظه نفير الحرب.
ومات أحمد بن طولون في ذي القعدة من السنة نفسها، وقد خلف لولده دولة ثبتت أركانها على ثلاث دعائم: من حب الرعية، وقوة الجيش، والغنى بالمال.
وتقدم أبو الجيش «خمارويه» بن أحمد بن طولون إلى خازنه أن يحصي له ما خلف أبوه من المال؛ فقدم إليه الخازن حسابه:
عشرة آلاف ألف دينار (عشرة ملايين)، وسبعة آلاف مملوك، وبضعة عشر ألفا من الأفراس والجمال والبغال ودواب الحمل، وبضع مئات من المراكب الخاصة والعامة، وأربعة وعشرون ألف غلام، بينهم أربعة آلاف من السودان ذوي الأيد والنجدة، وعشرة آلاف بدرة مختومة،
76
و...
قال خمارويه: «حسبك! فرق في الجند للبيعة رزق سنة - تسعمائة ألف دينار - باسم أبي الجيش خمارويه ملك مصر وبرقة والشام والثغور.»
وجلس خمارويه على العرش، واتخذ التاج والصولجان.
الفصل الثاني
خمارويه ابن طولون
1
قال أبو العباس أحمد بن الموفق لأبيه: «يا أبه! لقد جاءك النبأ بمهلك أحمد بن طولون صاحب مصر، أفلست ترى خلاصك منه حين فراغك من أمر صاحب الزنج أذانا من الله بحرب تلك الدولة الناشئة في العصيان؟ ... لقد بلغت دولة بني طولون ما بلغت حتى لتوشك أن تغزونا في ديارنا، فإن يكن ثم قصاص
1
فهذا أوانه.»
قال الموفق: «لبث قليلا يا بني،
2
إنك لست تدري على أي هول تقبل من حرب هذه الدولة، وقد مات أحمد بن طولون، وددت لو كان اليوم حيا، إذن لنلت منه منالا، فذلك رجل ربي في خدمتنا، وشاهد قوة أمرنا وأحوالنا، فامتلأ من ذلك قلبه، وكبرت سطوتنا في عينه، وقد خلف لولده دولة واسعة، وجيشا وعدة، ومالا لا يبلغه الإحصاء، وقد اجتمع لولده إلى ذلك قلة التهيب لنا؛ إذ لم يشاهد من أحوالنا ما شاهده أبوه، وليس بينه وبيننا ذمة
3
تعطفه ، ولا له في دولتنا عهد يرده، وإنما يرى كل ما في يده تراثا خلفه له أبوه، فإنه ليدافع عنه دفاع صاحب الحق عن حقه، وما أجدره بذلك أن يكيدنا ويبلغ منا! ونحن اليوم يا بني قافلون
4
من حرب استنفدت منا مالا وجهدا، وعدة وعددا، وإنه على ما وصفت لك من البأس والغنى، فلعل التريث في أمره أن يفتق لنا حيلة، ويبلغنا منه ما نأمل إن شاء الله.»
وبدا الامتعاض في وجه أبي العباس، وغلبه شماسه،
5
فقال وفي صوته رنة لم يسمع أبوه مثلها قبل اليوم من ولده: «فكأنك يا أبت تريد أن تمد لخمارويه حتى يبسط ظله، فما ننهض لقتاله إلا وقد وطئتنا خيله واجتازت الدولة من أطرافها.»
قال أبوه: «مه!
6 ... لكأنك أغير
7
مني على الدولة وأبصر بسياسة الملك!»
قال أبو العباس: «لست أقولها، وإنما أرى بك رقة على بني طولون، وكأني بك قد ذكرت الساعة ما كان من عطف أحمد بن طولون على ابن عمك المستعين حين خلع وأريد ابن طولون على قتله، فأنت بهذه الذكرى تريد أن تحفظه في ولده، ولقد رأيتك يوم جاءك منعاه وإن عينك لتدمع، فكأن قد ندمت على ما كان منك له في حياته، ونسيت ما قدمت يداه، أم تراك قد خشيت أن تعجز عن الظفر بولده مما نالك من الجهد في حرب الزنج، فأنا لك بهذا الأمر،
8
وقد شهدت بلائي، وعرفت من خبري في حرب البصرة.»
وتململ الموفق في مجلسه، وهم أن يجيب، ولكن عبرة سبقته منحدرة على خده حتى توارت في لحيته، فصمت برهة، ثم قال: «يا ليت يا أبا العباس ... وأنت تعلم أن ليس شيء أحب إلى نفسي من عز دولة الخلافة، وليس أحد من بعد أعز علي منك، ولكن بني طولون لن يؤتوا من قريب،
9
ما دامت في يدهم خزائن مصر، وتحت أرجلهم كنوز الفراعنة، فإن استطعت فانفذ إليهم من هذا الباب، فإنك إن أنفدت المال من خزائنهم فقد انتهيت من الأمر وبلغت الغاية، أفتراك تقدر؟»
قال أبو العباس: «فسأنفذ إليهم من هذا الباب ومن كل باب حتى تنقض على رءوسهم دولتهم، وسألحق منذ اليوم بجيش إسحاق لحرب خمارويه، فهل أذنت يا أبت؟»
قال الموفق: «اذهب يا بني مكلوءا،
10
ولعل الله أن يبصرك ويردك إلي راشدا موفورا.»
وخلف أبو العباس أباه في مجلسه يدبر من أمره وأمر الدولة ما يدبر، ومضى فلبس شكته
11
واتخذ أهبته لسفر طويل، وذهب لوجهه وهو يدندن صوتا في شعر الهمداني:
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها
مراغمة،
12
ما دام للسيف قائم
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
ومن يطلب المال الممنع بالقنا
13
يعش مثريا أو تخترمه المخارم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يالهمدان ظالم
2
مضى الفارس الشاب يغذ السير
14
نهاره وليله في غير كلال،
15
لا يقعد به حر الظهيرة، ولا برد السحر، ووراءه بضع مئات من غلمانه وجنده قد امتطوا صهواتهم عليهم السلاح والزرد يتبعونه فارغين من الفكر في أمر اليوم والغد، بما عودهم مولاهم من الطاعة، فإنهم ليمضون لما أمرهم، لا يسألون فيم خرجوا ولا أين يقصد بهم؟
وذهبت الخيل تدقدق على صخور البادية، وإن سنابكها لتقدح الشرر، واختلطت صلصلة اللجم ودقدقة الخيل بصليل السلاح وخشخشة الزرد، فتألف من ذلك موسيقا لها في سكون البادية ترجيع وصدى، والركب منطلق في طريقه إلى «الرقة»،
16
حيث عسكر إسحاق على الشاطئ الشرقي من نهر الفرات في انتظار مقدم أبي العباس بن الموفق وغلمانه ...
في ذلك الوقت كان فارس آخر عليه شعار الطولونية قد جاوز حدود مصر إلى الشام يؤيده أسطول بحري قد جاوز مضيق دمياط ومضى موازيا له في البحر؛ لتحصين الشواطئ الشامية، هذا الفارس هو أبو عبد الله الواسطي وزير الدولة الطولونية ورفيق نشأتها، وقد عقد له خمارويه بن طولون ملك مصر وبرقة والشام والثغور على جيش كبير، وأخرجه للقاء إسحاق.
ولكن أبا عبد الله الواسطي لم يكد يفصل عن أرض مصر حتى عرض له أمر من أمره فتوقف برهة، وبلغه حين وقف رسول من قبل الموفق في بغداد عليه سواده،
17
وفي يده كتاب من الموفق، ونظر أبو عبد الله في الكتاب، ثم أطرق ساعة يفكر في أمره وأمر هذه الدولة الناشئة التي وزر
18
بضعة عشر عاما لأميرها الأول، وحمل لواء الجيش للدفاع عن حدودها في عهد أميرها الثاني، ثم عاد ينظر في كتاب الموفق وهو يفكر في أمر دولة الخلافة العظمى حيث كانت نشأته الأولى، وذكر الماضي والمستقبل، ووازن بين حال وحال، فما هي إلا خطرة فكر حتى خلع الشعار وحطم اللواء، واتخذ طريقه مع رسول الموفق إلى بغداد. •••
وكان جيش المصريين بلا أمير حين زحف إسحاق بجيشه يصحبه محمد بن أبي الساج وأبو العباس بن الموفق، فاجتاز الفرات إلى أرض الشام، ولم يلق الجيش الفاتح في طريقه كيدا، فتسلم قنسرين،
19
والثغور، وأوغل في مملكة بني طولون.
وبلغ النبأ خمارويه بن أحمد بن طولون فعبأ جيشه وخرج للقائهم في سبعين ألفا من المصريين، عليهم السلاح والزرد، ولكن جيش إسحاق لم يتلبث ومضى في طريقة، فما هي إلا جولة وجولة حتى غلب إسحاق على دمشق ففتحها، وانحدر إلى فلسطين يطلب عرش مصر أو رأس خمارويه، وأبو العباس بن الموفق على المقدمة يغني لنفسه في شعر كليب بن وائل:
سأمضي له قدما ولو شاب في الذي
أهم به فيما صنعت المقادم
20
مخافة قول أن يخالف فعله
وأن يهدم العز المشيد هادم
ومضت أسابيع ثم التقى الجيشان، ورأى أبو العباس وجه خمارويه، ورأى خمارويه وجه أبي العباس، واقتتل الشابان اللذان ترتبط بهما مصاير الدولتين ... ثم كانت الوقعة التي شابت لها مقادم أبي العباس، فخلف وراءه جنده وأتباعه وما احتاز من مغانم، وفر على أدباره وحيدا يلتمس السلامة، فما وقف به فرسه حتى بلغ أبواب دمشق، ولكن دمشق يومئذ كانت قد بلغها النبأ، فأغلقت أبوابها دونه، وتركته على الطريق يلتمس الدفء والمأوى فلا يكاد يجد، واستأنف الفرس عدوه بفارسه المنهزم، حتى بلغ ثغر طرسوس، ولكن المقام لم يطب للأمير في طرسوس، كما لم يطب له المقام من قبل، فقد خاصمه «يا زمان» البحري صاحب الثغر، وثار به أهل المدينة، فأجلوه عن ديارهم، فخرج وحيدا طريدا قد ضاقت عليه الأرض، فاعتلى ظهر جواده وأطلق له العنان، حتى بلغ قصر أبيه الموفق في بغداد بعد غياب عام ونصف عام في حرب لم يظفر فيها بغير الإياب ...
وأوى الشاب الثائر إلى بيته صامتا مكروبا، لا يكاد يجد مساغا للطعام والشراب، ولا سبيلا إلى المنام.
3
قال الموفق لولده: «الحمد لله يا بني إذ ردك إلي راشدا موفورا، فلا تأس
21
على ما كان، فإن للدول كما للناس آجالا، إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون.»
وهم أبو العباس أن يجيب فذابت الكلمات على طرف لسانه، ومضى أبوه في حديثه: «... وإنما يأتي أجل بني طولون يوم تصفر أيديهم من المال، فلا يجد الجند يومئذ لهم رزقا في دولتهم، ولا يجدون هم في أيديهم من المال ما يرشون به الوزراء ويصطنعون القواد ... وقد تولى اليوم أمرهم إسحاق ومحمد بن أبي الساج، كل منهما يطمع في عرش الطولونية، فلا يزالان يطلبان لها الغرة ويضعفانها بما يثيران في بلادها من أسباب الفتنة، فدعهما يا بني وما تولياه من أمر حتى يأذن الأجل.»
قال أبو العباس: «يا أبه ...»
قال أبوه: «اصمت لا أب لك! إنما هي سياسة الدولة، وقد جربت ما جربت حتى رأيت عاقبة أمرك.»
وغلى الدم في رأس أبي العباس، وهم بالكلمة التي لم يقلها
22
ثم أقصر واتخذ سبيله إلى الباب صامتا، وأبوه ينظر إليه أسوان.
23 •••
وكر إسحاق ومحمد بن أبي الساج راجعين بمن معهما من فلول الجيش إلى الحدود يتربصون أن تحين لهم فرصة، وسيق الأسرى منهم إلى مصر.
وقال خمارويه لصاحب خزانته، وقد اطمأن به مجلسه في قصر الميدان بحاضرة ملكه: «انظر كم عدد هؤلاء الأسرى، فادفع إلى كل منهم ثلاثمائة درهم، فإنما هم إخواننا في الدين، وعدتنا في حرب أهل الشرك، وقد نزلوا ديارنا، فلهم علينا حق الضيف على مضيفه.»
ثم أشرف خمارويه عليهم فخاطبهم: «إنما أنتم ضيوفنا، فمن أراد منكم أن يقيم بيننا فله علينا حق المواطن في وطنه، ومن أراد الرحيل فقد أذنا له.»
فعج الأسرى بالدعاء لمصر وأميرها، واستأسروا له طائعين فكانوا جندا من جنده.
وذاع في الناس ما فعله خمارويه بأسراه، وما أغدق عليهم من بره، وراح الخبر يتنقل على الأفواه وينحدر مع الركبان حتى بلغ شاطئ الفرات، حيث كان يقيم عسكر إسحاق في انتظار الموقعة التي زعم أن سيقوض بها عرش بني طولون.
وقال جندي من جند إسحاق لصاحبه: «أسمعت يا أخا ناجية ما فعل ملك مصر؟»
فابتسم صاحبه وقال: «نعم، والله لئن كانت الموقعة لأستأسرن له، فيكون لي على ضفاف النيل دار وجار.»
قال محدثه ضاحكا: «... وثلاثمائة دينار.»
كان الجند في مضاربهم يتحدثون هذا الحديث وأشباهه جادين أو هازلين، وإن في خيمة القيادة لحديثا له طعم آخر، يدور بين القائدين اللذين يليان أمر الجيش: إسحاق بن كنداج، ومحمد بن أبي الساج.
قال إسحاق: «... فإن الموفق قد عقد لي اللواء وولاني مصر، فهي لي حتى يخلعني عنها السلطان.»
قال ابن أبي الساج: «وأنا، أين يكون موضعي، ولك الجند والإمارة؟ أتراك أدنى مني منزلة إلى الموفق، أو أبصر بشئون الحكم، أو أعرف بفنون الحرب؟»
قال إسحاق: «وي!
24
شئون الحكم وفنون الحرب معا؟ لا ترضى حتى يجتمع لك الأمران كلاهما؟ على رسلك!
25
أو فاطلب إلى ذلك القضاء والخراج والبريد! ...»
وغضب ابن أبي الساج غضبة أعجمية ... فقال، وقد وضع يده على قائم سيفه: «أدعوى وسخرية!»
ثم رد يده إلى موضعها وقال في صوت يحاول أن يكون أكثر هدوءا مما يدل عليه انفعاله: «ولكن لا، سأدعك وما اخترت لنفسك، لتختبر قوتك، وتعرف قدرتك في الميدان وحيدا لا يسندك ابن أبي الساج.»
ودار على عقبيه فخلف إسحاق وراءه، وخرج من ساعته إلى النهر فاستقل زورقا عبر به الفرات إلى الشام، حيث يلحق بخمارويه مستأمنا يعرض عليه طاعته.
4
لم يطل مقام خمارويه بمصر بعد الوقعة التي كانت، فما هو إلا أن دبر شئون الحاضرة، وجدد آلة الحكم، وجمع شتات السلطان، ثم أخذ يعبئ جيشه لأمر قد خط خطته، وأحكم تدبيره، وكأنما كانت تلك المعركة التي خاض غمرتها منذ بضعة عشر شهرا أذانا له بفتح جديد، فخرج إلى الشام في جيش قوي، قد استكمل أهبته واستتم عدته وعدده، وبلغ دمشق فأقام بها حينا ثم أصعد في البادية موليا وجهه شطر العراق ...
ولقيه في الطريق محمد بن أبي الساج، فانضم إليه بمن وراءه من غلمانه وجنده، ثم قصد إسحاق في الرقة، فعبر إليه الفرات مع ابن أبي الساج فأزاحه عن موضعه واشتد وراءه عدوا، وهو يدك الحصون ويحوز البلاد، حتى غلب على الجزيرة والموصل وبلغ سامرا، حيث كانت حاضرة الخلافة، وخطب له محمد بن أبي الساج على منابر الجزيرة والموصل ودعا له.
وخفق قلب الدولة هيبة ورهبة لخمارويه، ورددت الآفاق صدى فتوحه المظفرة، وخبا
26
كل نجم إلا نجمه، فلم يعد أحد يذكر إلا اسم خمارويه، وبلغ من المكانة ما يبلغ فاتح بسيفه.
وسعى الوسطاء بالصلح بينه وبين الموفق فكان، وكتب الخليفة المعتضد بيده عهد الصلح، ووقعه الموفق وولده، واعترفت له الدولة بالولاية على مصر والشام والثغور.
وعاد خمارويه من حيث أتى، وسأله محمد بن أبي الساج أن يوليه الجزيرة والموصل، يحكمهما باسمه ويدعو له، ودفع إليه ولده «ديوداد» يصحبه إلى مصر، رهينة على الولاء. •••
كتب الخليفة عهد الصلح لخمارويه، ثم أوى إلى قصره راضي النفس، موفور الهناءة، كأن لم يكن به ولا بالدولة شيء، فما خلا بنفسه حتى دعا بالشراب والندمان، وجلس غير بعيد منه مغنيه «أبو حشيشة» وقد اقترح عليه صوتا يغنيه:
قلبي يحبك يا منى
قلبي ويبغض من يحبك
لأكون فردا في هوا
ك فليت شعري كيف قلبك؟
فما انتهى المغني من صوته حتى خلع الخليفة وقاره، وقد نال منه الشراب واستخفه الطرب، فرمى قلنسوته ودار في الغرفة يرقص، ولم يزل يدور ويدور حتى سقط من الإعياء بين أيدي غلمانه، فحملوه إلى قصر الحرم، لا يحس ولا يعي.
ذلك كان شأن الخليفة في قصره ذلك اليوم، وقد كان ذلك شأنه في كل يوم، وفي الساعة نفسها كان في قصر آخر غير بعيد من قصر الخليفة اثنان يعنيهما من أمر الخليفة وأمر الدولة ما لا يعنيه جالسين وجها لوجه، قد خلا لهما المكان وازدحمت في رأسيهما الخواطر، ولكنهما مما جثم على صدريهما من الهم قد آثرا الصمت، فلا حس ولا حركة ولا بنت شفة، ولا شيء غير النظرات يتبادلانها في وجوم وأسى، ذانك هما الأميران أبو أحمد الموفق ولي عهد الخلافة، وولده أبو العباس ...
ومضت فترة قبل أن يقول الأمير الشاب لأبيه: «يا أبه ... افسح لي صدرك! ... لست أنكر عليك ما تفعل، ولكني أريد أن أعرف وجهه ... وقد صنعت اليوم شيئا ... أفرأيتك وقد أعطيت خمارويه عهد الصلح، قد أعطيته شيئا تملكه به أو يملكك؟ ... وهل هو إلا ثائر قد خرج على مولاه، فليس له إلا السيف أو يثوب
27
إلى الطاعة والولاء؟»
قال أبوه: «نعم، وما أراني أعطيته شيئا أملكه أو يملكني، بل أملك به نفسي وتملك به نفسك، وسيصير إليك أمر هذه الدولة يوما، فإذا حزبك
28
يومئذ أمر من أمرك ولم تجد الوسيلة فاعتصم بالأناة وحسن التأني، حتى تمكن الفرصة ويحين الأجل، ولا بد أن يحين ...»
قال الشاب في ثورة حانقة: «... لا بد أن يحين يوم تصفر يده من المال ... هكذا تقول ...» وما أرى هذه ستكون يوما، وأنت تقطعه كل يوم ملكا جديدا، وتمكن له فيغنى ويشره.
29
قال الشيخ في هدوء: «فما تصنع أنت؟»
فبدا الانكسار في وجه الأمير الشاب، وتذكر الماضي القريب فأطرق وعاد إلى الصمت ...
ودخل غلام الأمير يؤذنه بحضور بعض من كان ينتظر من أصحاب سره ...
وخلا الأمير بأصحاب سره، وهم بضعة نفر من أهل العزم والقوة، ليس فيهم إلا من يتمنى جاهدا أن يكون على يديه مصرع خمارويه وتقويض دولته، منهم من نشأ في نعمة بني طولون، ومنهم من سلبه بنو طولون نعمته ...
وتقدم الأمير إلى حاجبه أن يستوثق من الباب، فلا يأذن لقادم ولا يؤذنه بقادم، ثم أقبل على جلسائه فقال: «ماذا وراءكم من النبأ؟»
قال إسحاق: «إن مولاي لعليم بكل ما هنالك، فما تخفى عليه خافية في أطراف البلاد، ولكن هذا العهد الجديد يا مولاي! ...»
قال الموفق: «خل عنك ذلك العهد وحدثني بما عندك.»
قال إسحاق: «فإني لم أزل على ما عهدني مولاي، فليرم بي حيث شاء، فلن أعصي له أمرا.»
قال الأمير: «بورك فيك يا إسحاق، وأرجو ألا ينال من عزمك ما تلقى من المكاره في سبيل حفظ الدولة من أطماع الخوارج، ولعلك أن تكون في خرجتك المقبلة إلى الشام أكثر توفيقا وغنما ... وسيجتمع لك الجيش قبل أن يستدير هلال العام الجديد ... أما أنت يا أبا محمد!»
قال أبو محمد لؤلؤ الطولوني: «أما أنا فما نسيت بعد ... وقد أعددت العدة لتحقيق ما أشار به مولاي ... وقد أجمع أربعة آلاف أسود من غلمان خمارويه أمرهم على ما يعلم مولاي ...»
قال الموفق: «وترى السودان أهلا لتحقيق الخطة؟»
أجاب أبو عبد الله الواسطي: «نعم، وقد أنفذت إليهم رسولي منذ قريب بما دفع إليهم لؤلؤ من المال، وأحسب ذلك الرسول بينهم الساعة يدبر من أمرهم ما يدبر، وسيكون أول قصدهم إلى صاحب شرط خمارويه،
30
فإذا ظفروا به نفذوا إلى خزائن السلاح، ثم يمضي الأمر إلى غايته.»
وتحالف أصحاب السر على الكتمان ثم افترقوا.
5
كان خمارويه في ساعة صافية من أكدار الملك، قد طابت نفسه وهدأت خواطره، فليس يشغله شيء غير أمر نفسه، وما أقل ساعات الأنس والمسرة في حياة ذوي الهمة من الملوك وأصحاب السلطان ... إنهم مما يشغلهم من هم أنفسهم وهموم الناس لا يكادون يظفرون بمثل هذه الساعة إلا عابرة في العام بعد العام، كأنهم يدفعون ضريبة الجاه والسلطان من سعادتهم ومسراتهم على مقدار ما يكون سلطانهم عاليا أو نازلا ...
وكان كل شيء في تلك الساعة ساكنا، كأنما استقال الأمير من تكاليف الإمارة ساعة فأقاله الزمن، وقد جلس بين يديه بنوه وبناته، وقام الوصفاء والغلمان من حوله، ينظرون ما يأمر به وعلى مقربة منه جلست «أم آسية» قابلة أولاده
31
وحاضنتهم تقص عليه نوادر طفلته اللعوب الفاتنة «قطر الندى».
وكانت «قطر الندى» أحب أطفال الأمير إليه وأدناهم منه منزلة، وكان لها جمال وظرف وقوة أسر،
32
وعلى أنها لم تكن قد بلغت السابعة، فقد كان لها من قوة الإدراك أن تحسن الحديث، وتحسن الاستماع، وتفصل في بعض ما يعرض لها من الأمر ...
وأغفلت أم آسية فيما تقص على الأمير من خبر ابنته ما يلزمها من الاحتشام في حضرة الأمير، ورعاية الرسوم الملوكية، وقد كان لأم آسية من الحرمة عند خمارويه ما يسمح لها أن تتبسط في حضرته وتنسى الاحتشام، أليست قابلة أولاده جميعا وحاضنتهم، ولها عليهم مثل حق العمة ودلال الخالة، فإنها لتقيس مكانتها عند الأمير بمكانتها من ولده.
وقالت: «وددت لو أذن مولاي الأمير فقصصت عليه رؤياي ليكون لي بذلك حق منذ اليوم أن أكون ماشطة الأميرة يوم زفافها إلى أمير المؤمنين في بغداد، كما كنت حاضنتها في قصر الأمير، وقابلتها يوم استهلت.»
33
قال خمارويه: «هيه يا أم آسية!»
قالت: «كان ذلك منذ بضعة أشهر، وكان مولاي الأمير في سفرته إلى الشام، وخطب إلي ابنتي «آسية» شاب من أهل الستر والصيانة، ولم أكن أملك يومئذ ما أتجمل به، وامتنع «أبو صالح الطويل» خازن مولاي أن يدفع إلي ما طلبت ... وإنه لبخيل ...»
وضحك خمارويه وقال: «جزاك الله يا أم آسية! ما يزال هذا دأبك منذ كنت تقدمين المسألة في صدر كل حديث، قولي، وسأدفع إليك ما منعه أبو صالح.»
قالت وأطرقت: «لا زالت نعمتك ممدودة الظلال يا مولاي ... ثم إنني قضيت شطرا من الليل أتحدث إلى مولاتي «قطر الندى» - وكان بها وحشة لغيبتك - وأقص عليها من طريف الأخبار ومليح النوادر ما يؤنسها ويسليها حتى غلبها النوم، فأويت إلى مضجعي، وبعد لأي ما
34
تخلصت مما كان بي من فكر في أمر ابنتي آسية، وما يلزمها من جهاز العروس، وتسرحت بي الأحلام من واد إلى واد ...»
واستمرت تقول: «ورأيتني في قصر لم ير الراءون مثله، قد أخذ زخرفه وازين كأنه من قصور الجنة، وسألت: لمن هذا القصر؟ قالوا: هذا قصر ملك المشرق! ... قلت: وما هذه الزينة؟ قالوا: اليوم تزف له عروسه بنت ملك المغرب، قلت: وهذه الزينات كلها من أجل ذلك؟ فكيف يكون مبلغه في الاحتفال والزينة لو جاءه النبأ بالفتح والنصر؟ ... وكأنما لم يقع سؤالي هذا موقعا حسنا ممن سمع، فضحك ساخرا كل من حولي، حتى استحييت وهممت أن أفلت من الزحام، وسمعت من يقول: ما تقول هذه الشيخة؟ أليست تعرف من يكون ملك المشرق ومن عروسه؟ فاليوم يجتمع على عرش واحد ملكان قد دانت لسلطانهما الدنيا ... وحدق في وجهي محدق ثم هتف: افسحوا لأم العروس! فانفرج الناس صفين كأنما مستهم عصا موسى،
35
ورأيتني أمشي في طريق قد فرش حصرا من ذهب، ونثرت عليه حبات الجوهر، وبين يدي وصائف كأنهن من حور الجنة يقدمنني ويتكنفنني
36
في طريق القصر الباذخ، وأنا أتهادى بينهن تهادي العروس، وذكرت ابنتي آسية، وتوقعت أن أراها ثمة إلى جانب زوجها «أبي الحسنات» ووطئت عتبة القصر، واجتازت بي الوصائف إلى دار الحرم، وكانت قطر الندى هي العروس جالسة على سريرها في غرفة شارعة تطل من اليمين على نهر مثل النيل، ومن الشمال على نهر تحسبه دجلة ... ولم أدر أين أنا من أرض الله؟ فلو قلت: رأيت عرش مصر لما أسرفت في التأويل، ولو قلت: إنه عرش أمير المؤمنين في بغداد لكان حقيقا بأن يكون ...»
قالت: «وكان البخور يفوح من مجامر المسك عطرا مسكرا، فكأنما حملني الأريج
37
على جناحين من لهب فطار بي في السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح ...» •••
كان الأمير يستمع إلى حديث القابلة مأخوذا به، كأنما يتنقل معها حيث سارت منزلة بعد منزلة، فما بلغت من حديثها هذا الحد حتى انتبه من سكرته على صيحة أخرى غير الصيحة التي وصفت أم آسية ... ثم تتابعت الصيحات كأن الناس قد دهمهم الفزع الأكبر، فنهض من مجلسه عجلان يستطلع الخبر ...
وجاء حاجبه مهرولا يقص عليه: «السودان يا مولاي!»
قال الأمير وفي وجهه علائم الجد: «ما شأن السودان؟»
قال الغلام: «لقد اجتمعت جموعهم، فوثبوا بصاحب الشرطة على غرة
38
فألجئوه إلى داره، وما أراه إلا قد هلك في أيديهم.»
ولبس خمارويه شكته، وقصد إلى دار صاحب الشرطة، وفي يده سيف مسلول، فما رآه السودان حتى أخذتهم هيبته، وأعجلهم سيف الأمير فمن ناله منهم هلك، وتفرق جمعهم أباديد ذات اليمين وذات الشمال، وتتبعهم غلمان الأمير يقتلون كل من لقوه منهم، فهلك منهم من هلك، واستخفى من استخفى، حتى يبيض وجهه، وسكنت الفتنة وأمن الناس، وعادت الحياة في مصر كما كانت: تجري مجراها آمنة مطمئنة.
وجيء إلى الأمير بهارب من السودان كان مستخفيا في بعض أزقة المدينة، فلما استنطقه الأمير نطق ...
وظهر لخمارويه بعض ما كان خافيا من أسباب فتنة السودان، فكتب إلى الموفق في بغداد كتابا يذكره فيه بما بينهما من عهد، ويسأله القبض على لؤلؤ الطولوني والقصاص منه، جزاء سعيه بالفتنة بين جند مصر.
وقبض على لؤلؤ واستصفي ماله، وحبس في المطبق.
39
6
كان محمد بن أبي الساج في كرسي الإمارة من بلاد الموصل، قد اجتمعت في يده كل أسباب السلطان، فلولا أنه قد دفع ولده «ديوداد» إلى خمارويه رهينة على الولاء لاستبد بالأمر وخلع طاعته ...
على أن خواطر أخرى كانت تصطرع في نفسه، وتسلبه الطمأنينة وراحة الضمير، فإنه ليعلم من نفسه علم اليقين أنه يوم خرج لجهاد الطولونية منذ سنوات ثلاث، لم يكن يقصد إلى الإمارة والتملك والاستبداد بالحكم في بلد من بلاد الخليفة بغير رسمه، ولم يكن يقدر أن تسخر منه الحوادث هذه السخرية الأليمة، فتحمله قسرا على أن يغير وجهه، فيكون عاملا من عمال خمارويه وكان حربا عليه، ولكن إسحاق بن كنداج - ذلك الخزري
40
المغرور - هو الذي طوع له أن يسلك هذا المسلك بكبريائه وغطرسته وسعة أطماعه، فحمله بذلك أن يتخذ هذا الوجه.
وتأذى ابن أبي الساج مما وصلت إليه حاله، وإنه لفي الذروة من الغنى والجاه والسيادة، وراح يقلب جوانب الرأي ...
وجاءته الأنباء بأن إسحاق قد اجتمع له في «الرقة» جيش، فما لبث أن نسي كل شيء مما كان يفكر فيه إلا ما بينه وبين إسحاق من عداوة، فجمع جموعه وخرج لقتاله.
والتقيا مرة ومرة ، ودارت الدائرة على إسحاق دورة بعد دورة.
ولكن إسحاق لم ييئس، وإن وراءه ظهرا يستند إليه، وإن أمامه أملا يتنوره.
41
واجتمع له جيشه بعد شتات، وانضم إليه من انضم، من حيث يعلم وحيث لا يعلم، فعبر الفرات إلى الشام في جيش قوي لم يجتمع له مثله ...
وجاء البريد خمارويه في مصر بما كان من أمر إسحاق فعبأ جيشه واستكمل آلته ومضى ...
ورد إسحاق على وجهه كسيرا مهزوما لا يقفه شيء حتى عبر إلى الرقة ... واتخذ خمارويه جسرا على الفرات فعبر إليه ...
ونظر إسحاق حوله، فإذا جيشه أباديد قد تبعثر كل مبعثر، ففر بمن بقي له من الجند إلى حصن قد اتخذه هنالك يحتمي به.
ورأى الهول الهائل من جيش خمارويه يزحف إليه من أمام، وذكر الكمين الذي يتربص به من جيش ابن أبي الساج من وراء، فلم ير لنفسه مذهبا إلا أن يرسل إلى خمارويه مستأمنا يسأله الصفح ويعاهده على الولاء.
وأمنه خمارويه وولاه الجزيرة وما والاها.
واجتمع في قبضة خمارويه القائدان اللذان انعقد بهما أمل الموفق في القضاء على دولة بني طولون: إسحاق بن كنداج، ومحمد بن أبي الساج، فإذا هما قد تجاورا صديقين على إمارتين من بلاد الخليفة: الجزيرة والموصل، يليان أمرهما
42
باسم ملك مصر والشام والثغور: خمارويه بن أحمد بن طولون.
وضحك القدر ساخرا ضحكة رن صداها في الدولة بين أقطارها الأربعة، وبلغ النبأ بغداد حيث كان الموفق وولده أبو العباس في انتظار أخبار المعركة، وحيث كان الخليفة المعتمد بين الندمان والقيان لا يكاد يفيق من نشوته.
وأوى أبو العباس إلى قصره مكروبا قد جثم الهم على صدره ثقيلا لا يكاد يجد معه روح النسيم أو نور الضحا، ودخل معلمه ورائده أبو بكر القرشي بن أبي الدنيا
43
فنهض الأمير لاستقباله متثاقلا، ثم جلس وجلس الشيخ صامتين لا تنفرج منها شفة عن صوت ...
ومضت برهة قبل أن يقول أبو بكر عاتبا: «لغير هذا اللقاء قصدت إليك يا أبا العباس ... وما حسبتك بهذا الوجه تلقى شيخا مثلي علمك في سالف الأيام حرفا ... أفكنت تلقى نديمك عبد الله بن حمدون هذا اللقاء، ولو كان على صدرك من هم الدنيا مثل أحد؟»
44
وفاء أبو العباس إلى نفسه، فقال لمؤدبه الشيخ: «معذرة إليك يا أبا بكر، إنك لتعرف مكانك مني وحقك علي، ولكن أمرا ذا بال ...»
45
قال الشيخ وقد تهيأ للقيام: «فسأدعك لذي بالك يسارك وتساره
46
دون جلسائك.»
قال أبو العباس: «لا سر عليك يا عم، وإنما يعنيني ما لعلك قد علمت من أمر صاحب مصر، وما يكيد به للدولة، وإن الموفق مع ذلك ليصانعه ويتعبد له.»
47
قال الشيخ: «الموفق! إنه أبوك يا أبا العباس وصاحب أمرك، وإن إليه سياسة هذه الدولة، فدعه وما يملك من أسباب هذه السياسة، ولا عليك من أمر صاحب مصر، ولا من أمر غيره حتى يظهر لك وجه التدبير ...»
قال: «أفنتركها بتدبير الموفق مأكلة
48
لبني طولون؟»
قال الشيخ وقد نهض مغضبا: «أوه! والله لا رأيتني بعدها في مجلسك، قد والله عذرت أباك الموفق مما يجد منك، وهو لا يريد إلا صلاحك، فلست متحدثا معه منذ اليوم في شأن من شأنك.»
ثم مضى الشيخ نحو الباب فلم يستجب للنداء، ولم ينعطف يمنة ولا يسرة حتى جاوز قصر الأمير ...
وتضاعف هم الأمير فلزم بيته أياما لا يلقى أحدا غير غلمانه ولا يلقاه أحد، فلما كان بعد أيام لبس سواده وأخذ زينته وقصد إلى قصر الخليفة المعتمد.
وكان المعتمد فيما يشغله كل يوم من أمره، بين القيان
49
والندمان، حين دخل الحاجب يؤذنه بقدوم أبي العباس بن الموفق ...
وهش الخليفة للقاء ابن أخيه وبسط له وجهه ومجلسه، ودخل الأمير الشاب فجلس غير بعيد من عمه، وتسلل ندمان الخليفة وجواريه، وخلا لهما المكان ...
ثم خرج أبو العباس من حضرة الخليفة بعد ساعة، ومعه عهد منه بولايته على الشام فراح يسعى سعيه منذ اليوم لتأليف جيش يقوده نحو الشام لينتزعها من يد خمارويه، ويحطم عرشه، فيوحد الدولة تحت الراية العباسية، بعد ما أوشكت أن تتفرق، ويثأر من خمارويه لبعض ما ناله في المعركة التي كانت، ويري أباه أين رأي من رأي؟ وأين عزيمة من عزيمة؟ وزين له شبابه.
7
قلق ابن أبي الساج وشغلته الوساوس منذ جاوره إسحاق أميرا على الجزيرة، واشتدت حفيظته
50
على خمارويه، الذي أمنه وولاه، واشتجرت في نفسه خواطر متباينة لا يعرف ما يأخذ منها وما يدع، فلا هو بقي على ولائه للدولة، ولا هو استقل بما كان في يده من الأمر، وقد نسي خمارويه عارفته
51
حين أحله في مثل منزلة إسحاق، وفرض عليه أن يجاوره جوار الأمير للأمير.
وإنه لفي خلوته يوما يفكر في مثل هذه الخواطر المتباينة، إذ طرق طارق من بعيد، فأجد له من ماضيه ذكريات ...
وقال له صديقه أبو سعيد المدائني، وقد اطمأن بهما المجلس: «إنني رسول أبي أحمد الموفق إليك؛ لأمر من أمر الدولة، وإنه ليستبطن ما تسر
52
من الطاعة والولاء لدولة الخلافة، وقد أبعد خمارويه في طريقه إلى مصر، وزعم أن البلاد قد دانت له، فقد حانت الفرصة لتأتيه من مأمنه فتكبه على وجه، فتظهر من ذلك بحظك من الإمارة، وتنال ثأرك من عدوك، وتحقق للدولة ما تأمل على يديك من المنعة والسلطان.»
قال ابن أبي الساج: «ويراني الموفق أهلا لكل ذلك؟»
قال أبو سعيد: «ولأكثر من ذلك، فلم يخف على مولاي أنك لم تعط خمارويه الطاعة إلا مصانعة، حتى تستمكن منه فتثب وثبتك، ثم ليجتمع لك من مال الولاية ما اجتمع لتنفقه في حربه حتى تظفر به.»
قال وصوته يختلج من التأثر: «وعند مولاي علم ذلك كله؟»
قال أبو سعيد: «وإنه ليعلم ما وراء ذلك مما لا آذن لنفسي أن أحدثك به.»
وصمت ابن أبي الساج برهة، وقد غشى عينيه الدمع، ثم نظر في وجه محدثه، وهو يقول في لهجة فيها صرامة وحزم: «فسيطيب لمولاي الموفق منذ اليوم ما أبلي
53
في الدفاع عن وحدة الدولة.»
ثم لم يكد يودع صاحبه حتى أخذ في شأنه يدبر أمر الجيش. •••
وكأنما كان جيش ابن أبي الساج مما نفخ فيه قائده من روحه وعزمه يطير طير السحاب، فما مضى شهر حتى أوغل في الشام وحاز البلاد والأموال وصفد الأسرى
54 ... وبدا كأنه من مصر على بعد شهر، ثم يتقوض عرش بني طولون وتنهار الدولة.
واستدار خمارويه على عقبيه قبل أن يبلغ مصر ووجه وجهه شطر محمد بن أبي الساج، والتقى الجيشان على مقربة من دمشق، فما هو إلا أن حمل المصريون على العدو حتى أزاحوه عن مواضعه، وفرقوه شراذم، ومضى ابن أبي الساج منهزما قد خلف متاعه وثقله وعتاد جيشه، واتخذ وجهه إلى حمص
55
ليستنقذ وديعة أودعها هنالك ولكن جيش خمارويه أعجله، فمضى من حمص لم يستنقذ وديعة، وتولى نحو حلب
56 ... ثم عبر الفرات إلى الرقة ...
وأوى خمارويه إلى خيمته ليستريح، ودعا بديوداد بن محمد بن أبي الساج، وكان رهينة عند خمارويه منذ تولى أبوه الموصل، ومثل الفتى بين يدي الأمير مبهورا تكاد أنفاسه تسابق أجله مما به من الذعر والفزع، ونظر خمارويه إليه مشفقا ثم ابتسم وقال: «اذهب يا بني موفورا إلى أبيك، فحدثه أن خمارويه لا يأخذ الأبناء بغدر الآباء.»
ثم دعا صاحب خزانته فأمره أن يدفع إلى الفتى ألف دينار ويهيئ له كسوة وزادا ليلحق بأبيه.
وورد على الفتى مما رأى وسمع ما لم يخطر له على بال، فاضطربت أنفاسه في صدره وأكب على بساط خمارويه باكيا يقول: «مولاي! قد برئت من أبي فكن لي ...»
قال خمارويه: «بل اذهب إلى أبيك، فذاك أحب إلينا، وإن غدر.»
وعبر جيش خمارويه الفرات إلى الرقة فالموصل، واستطاب خمارويه المقام ثمة، فقال لغلمانه: «إن بي حاجة إلى أن أتروح من نسيم دجلة، فهيئوا لي هنا مقاما.»
فصنعوا له سريرا طويل القوائم أثبتوها في قاع النهر، وجعلوا له عرشا على الماء ...
ثم دعا خمارويه إسحاق بن كنداج فوكل إليه أمر تأديب ابن أبي الساج، وضم إليه من ضم من جنده وقواد جيشه، وكر راجعا إلى الشام.
وخلف وراءه القائدين العظيمين اللذين اجتمعا يوما على حربه وعداوته يتحاربان وجها لوجه، ونجا، كأنما أرادها سخرية يتناقل أنباءها رواة النوادر والملح
57
من ظرفاء بغداد ؛ ليضحك منها من يضحك ويعتبر من يعتبر.
ودارت الحرب سجالا بين إسحاق وابن أبي الساج صاعدة هابطة، ومقبلة مدبرة، حتى لم يبق إلا فلول تحارب فلولا، وخمارويه في مأمنه ينظر حتى يتفانى أعداؤه.
وكانت العاقبة على إسحاق فمضى مهزوما إلى الرقة ثم عبر الفرات إلى خمارويه وتبعه ابن أبي الساج حتى صار بينهما النهر.
وتمثل لابن أبي الساج خيال المنتصر، ووقع في وهمه أنه مستطيع أن يمضي قدما، فيخترق الشام ويحوز ملك بني طولون، أليس قد غلب إسحاق صاحب ولاية خمارويه؟
وكتب إلى الموفق يعلمه بالفتح والنصر، ويطلب منه المدد.
ورد عليه الموفق يشكره ويطلب إليه أن يتوقف حتى يبعث إليه بما طلب ...
8
كان اليوم عيد الفطر، وقد خرج الناس بعد صلاة العيد من الجامع مثنى مثنى وثلاث ثلاث، وجماعات مؤتلفة، يحيي بعضهم بعضا، ويسأل بعضهم عن بعض، قد تخففوا من أعباء الحياة فما يذكرونها، وإن وجوههم لتطفح بشرا ومسرة ...
وكان في الميدان فارس على سرجه قد غدا على طائفة من الجند يعرضهم صفوفا على الأهبة مستكملين عدتهم، ما فيهم إلا فتى قد باع نفسه وأقسم ليبلغن في طاعة مولاه إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
وترجل الفارس عن فرسه وأقبل على اثنين من قواده يسر إليهما حديثا، ثم راح يتخلل صفوف الجند راجلا، فدار بينها دورة وقصد إلى فرسه يهم أن يعتليها، حين أقبل نحوه رجل من عرض الطريق، فوقف الفارس وأسند يده إلى معرفة فرسه وعلى شفتيه ابتسامة، ودنا منه الرجل فحيا وسلم ثم قال: «كأنك يا أبا العباس قد نسيت أن اليوم عيد، فهلا ذكرت - حين نسيت نفسك - أن عليك لهؤلاء الجند حقا أن تسرحهم يوما يستطعمون طعم الحياة كما يحياها الناس؟»
قال أبو العباس: «لا تزال تهزل يا يحيى والدنيا تجد ... أرأيت العدو الرابض على حدود الدولة يغفل لو غفلنا عنه يوما، ولو كان يوم عيد؟»
قال يحيى: «نعم، رأيت في النجوم ...»
58
قال أبو العباس عابسا: «خسئت، دع عنك حديث النجوم وما تكذب به من ذلك على الناس لتخدعهم عن ذات أنفسهم، فوالله لئن صار الأمر إلي يوما لأقطعن ألسنة المنجمين، فلا يكونون فتنة للعامة، ومعجزة للخاصة.»
قال ضاحكا: «وتقطع لساني، فيقول الناس كان أول ما فعل أبو العباس حين ولي الأمر أن قطع لسان نديمه وصاحبه يحيى بن علي!»
قال أبو العباس، وقد غلبته ابتسامته: «وأقطع لسانك.»
فانفلت يحيى من بين يديه عجلان، وهو يقول: «رأيت في النجوم أنك لا تفعلها.»
وشيعه أبو العباس ضاحكا، ثم وثب إلى ظهر حصانه.
وبلغ يحيى بن علي المنجم دار الموفق فدخل، وكان الأمير في مجلسه قد جاءه البريد من خراسان والجبل
59
فهو ينظر فيه، غير ملتفت إلى شيء مما حوله حين دخل يحيى فقال: «السلام على مولاي الأمير ورحمة الله.»
ثم اتخذ مجلسه من الأمير على مقربة.
ورفع الموفق رأسه عن كتابه ثم أقبل على نديمه يحييه ويلطف له ...
قال يحيى: «لقد مررت الساعة بالأمير أبي العباس ابن مولاي، وهو يعرض الجند في الميدان، وها أنا ذا أرى مولاي حبيسا بين هذه الكتب، أفليس اليوم يا مولاي عيدكما وعيد الناس؟»
قال الموفق: «ماذا قلت؟ ولدي أبو العباس يعرض جنده؟ فلقد كنت على أن أبعث إليه
60
الساعة لأمر من أمر الدولة.»
قال يحيى: «فسترسل إليه يا مولاي بعد أن أفرغ من الحديث إن أذنت لي.»
قال الموفق: «ما وراءك يا أبا أحمد؟»
قال: «يا مولاي! إني لأعلم مقدار ما يشغل بالك وبال مولاي أبي العباس من أمر هذه الطولونية التي تجاذب أطراف الدولة منذ سنين، وقد استخبرت النجوم فأخبرتني ...»
قال الموفق: «وترى هذه البضاعة تنفق عندنا
61
يا أبا أحمد؟»
قال المنجم: «صبرك يا مولاي، إنما هي أخبار تصدق وتكذب، ولعل فيها على الحالين ما يدل دلالة، ومولاي أعلى عينا، وأبصر بسياسة الملك.»
قال الموفق: «هيه!»
قال: «وقد أخبرتني النجوم أن هذه الدولة لم يحن أجلها بعد.»
فضحك الموفق ساخرا، وقال: «نعم.»
قال: «وستمضي سنوات ... وتكون الطولونية أدنى إلى بغداد مما هي اليوم.»
قال الموفق غاضبا: «ماذا؟ ...»
وكأنما هم أن يبطش به ثم أمسك.
قال يحيى: «صبرك يامولاي، إن في حديث النجوم رمزا يشبه رؤيا الحالم، أنا إنما أتحدث بما تراءى لي، وليس علي تعبيره ... وقد رأيت الطولونية تكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، وسيكون بتدبير ولدك أبي العباس يا مولاي أقصى ما تبلغ من الدنو، حتى يقع ظلها على عرش الخليفة.»
قال الموفق ساخرا: «بس! أمسك عليك يا يحيى، لقد كذبتك نجومك، أو لا فأنت منذ اليوم لا تحسن ما تقول، لو زعمت غير أبي العباس لكان خبرا، فليس شيء أبغض إلى أبي العباس في دنياه من طولون، وددت لو سمع منك ما تقول ليدق عنقك.»
قال يحيى: «فيأذن لي مولاي أن أفرغ من حديثي قبل أن يقدم أبو العباس فيدق عنقي، ولم أرو خبرا؟»
قال الموفق ضاحكا: «قل.»
قال: «وستدنو الطولونية حتى تكون في القصر الحسني، وتدخل دار صاعد بن مخلد،
62
وتسير بها الشذوات في دجلة،
63
وتضاء لها في قصر الخلافة أنوار ... ثم تخبو كما ينطفئ المصباح فلا يبقى غير الرماد ... فإن رأى مولاي أن يعرف متى يكون أجلها، فإنه بعد بضعة عشر عاما بين العشرة والعشرين، ولست أعرف على التحديد، ولكن إذا أمرني مولاي فإني أستنبئ له.»
قال الموفق: «وتستنبئ أيضا يا فاسق! اغرب عني
64
فليس بي حاجة إلى نبوءتك.»
قال المنجم: «آمنت بالله! فهل غضب علي مولاي، وما قلت إلا ما أذن لي فيه!»
وأرهف الموفق سمعه، ثم قال: «صه، إني أسمع خفق نعل
65
أبي العباس قادما، وما أريد أن يسمع شيئا من حديث الطولونية، فإنه يهيجه هياجا لا يهدأ من قريب.»
ودخل أبو العباس فحيا، وجلس بين يدي أبيه وخلى بينهما يحيى بن علي فحيا وانصرف.
قال الموفق لولده أبي العباس: «ما وراءك يا أحمد؟ لقد كنت على أن أرسل إليك الساعة لتتهيأ للرحلة في جيشك إلى خراسان وبلاد الجبل؛ فإن أمرا ذا بال ينتظرك هناك.»
قال أبو العباس: «خراسان وبلاد الجبل؟»
قال الموفق: «نعم، أفتراك قد استبعدت الشقة؟
66
لقد أنبئت أن جيشك على الأهبة ، وإنك يا أبا العباس لأهل لما تنتدب له.»
قال أبو العباس: «يا أبت!»
قال أبوه وفي نظرته جد صارم: «ماذا؟»
قال: «فإن ابن أبي الساج على الفرات ينتظر المدد؛ ليبلغ من خمارويه بن طولون شفاء نفسه وشفاء نفس الدولة، ولم يبق بينه وبين النصر إلا غلوة سهم.»
67
قال الموفق: «قد علمت، ولكن أمر الطولونية يا بني لم يحن بعد، وقد دبرت الأمر على ما دعوتك إليه، وما أحسبك تخالف عن أمري.»
وازدحمت في رأس أبي العباس خواطره، فصمت برهة ثم قال: «ولكن غلماني يا أبت قد تهيئوا لغير خراسان.»
وضاق صدر الموفق لعناد ولده فهم بأمر، ثم ذكر أنه يوم الفطر والناس جميعا غادون على مسراتهم فأمسك عما اعتزم وقال في لين ووداعة: «لست أعني أن تبدأ رحلتك اليوم يا بني، وإنما دعوتك لتتهيأ لها، فإذا كان بعد أيام فاغد علي، وقد اجتمع لك رأيك.»
ثم انصرف بوجهه عن أبي العباس؛ ليعبث بما بين يديه من رسائل أصحاب البريد ... وبقي أبو العباس صامتا برهة، ثم تسلل إلى الباب، وعين أبيه تتبعه من حيث لا يريد أن يشعره.
ومضت أيام ثم دعاه أبوه إليه، فلما مثل بين يديه قربه وأدناه وأقبل عليه بوجهه وهو يقول: «أراك اليوم وقد اجتمع لك رأيك، وستكون وجيشك غدا على طريق خراسان.»
قال أبو العباس: «لا يا مولاي، سأكون في جيشي قبل مشرق الصبح على الطريق إلى الشام.»
قال الموفق غاضبا: «وي: أعصيانا ومشاقة!
68
فوالله لا يكون إلا ما أمرتك.»
قال أبو العباس: «إنما صلاح الدولة أردت، وقد ولاني عمي أمير المؤمنين المعتمد الشام، فلست أخرج إلا إليها، طاعة لأمير المؤمنين، وصلاحا لأمر الدولة التي أوشك أن يتوزعها أبناء الأعاجم.»
ثم هب أبو العباس من مجلسه فاتخذ طريقه إلى الباب.
وثارت ثائرة الموفق فصاح بغلمانه وأمرهم أن يأخذوا عليه الطريق أو يردوه على وجهه وصدع غلمانه بما أمر، فلم تمض إلا دقائق حتى كان أبو العباس المعتضد بن الموفق سجينا في غرفة من دار، ليس معه إلا غلام من غلمانه، وقد وكل به طائفة من الجند، وأغلقت دونه أبواب وراءها أبواب.
وكان الجيش في الميدان ينتظر مقدم أميره، وطال انتظاره ثم بلغه النبأ بما كان من الأمر فاضطرب الجند وركب القواد وقد أزمعوا أمرا من أمرهم ليردوا مولاهم إلى حريته، وثارت بغداد كلها لأميرها الشاب ثورة حاطمة.
وبرز الموفق على سرجه في الميدان، فما كاد يراه الجند والعامة حتى سكنت أصواتهم، واشرأبوا
69
ينظرون إليه، وانتهى إليهم صوته جهيرا يجلجل في صرامة وقوة وهو يقول: «ما شأنكم؟ أترون أنكم أشفق على ولدي مني وقد احتجت إلى تقويمه؟»
ونظر بعضهم إلى بعض ثم تفرقوا كأن لم يسأل سائل، ولم يجب مجيب.
9
وقف محمد بن أبي الساج بالرقة ينتظر ما وعده الموفق من المدد والمعونة؛ ليعبر الفرات إلى الشام فيحطم ما بقي من جيش إسحاق ويدك عرش الطولونية، ولكن إسحاق لم يصبر عليه، فما هو إلا أن جاءه المدد من خمارويه حتى عبر النهر وكبس جيش ابن أبي الساج كبسة تركته أشلاء في البادية، واشتد ابن أبي الساج عدوا فلم يتوقف حتى بلغ الموصل، وقد انقطع ظهره،
70
وفني زاده، وتفرق جنده، فما له راحلة يركبها، وكان يطلب عرش دولة ومد يده إلى من يعرف من أهل الموصل يسألهم عونا من أموالهم، وكان فيهم صاحب العرش والخزانة.
وأقام شهرا بالموصل على ضيق العيش وذل المسألة وسقوط المروءة، ثم انحدر إلى بغداد يطلب جوار أبي أحمد الموفق.
وأقام إسحاق أميرا على الموصل والجزيرة جميعا. •••
قال أبو بكر القرشي ابن أبي ليلى مؤدب الأمراء وصاحب الفقه والحديث والخبر: والله لقد ورد علي من ذلك يا أبا أحمد ما لا صبر عليه، فما يهون علي أن يصير إلى ذلك أمر ولدك أبي العباس، فتحبسه وتوكل به وتفرده من أهله وصحابته لا يلقى أحدا منهم ولا يلقاه أحد، وما أراه قد ركب في أمرك وأمر الدولة ما يستوجب ذلك كله أو بعضه، فإنما هو شاب اجتهد لصلاح الدولة فأخطأه الرأي، وإنك يا أبا أحمد لأرحب ذرعا.
71
قال أبو أحمد الموفق وقد غلبه حنان الأبوة: «حسبك يا أبا بكر، أفتراه هينا علي؟ إنما هي سياسة الدولة، وقد يظن هذا الغلام أنه مستطيع ببضعة آلاف من غلمانه أن يفرغ من أمر الطولونية، وما أراه إلا ناسيا ما كان من أمره وأمر خمارويه منذ قريب، أو لا، ولكنه في سبيل طلب الثأر قد غفل عن التدبير، إن خمارويه ليملك من أمر نفسه ما لا نملك من أمر أنفسنا، وإنه ليستطيع ببعض ما في يديه أن يشتري جيش العباسية كله، فماذا تغني القوة والعدد الجم؟ وإن خمارويه لشاب في يده المال والجاه، وفي دمه إرث من طباع الأعاجم، فلعله لو كان فارغا من مشاغل الجهاد أن تهلكه البطالة والشباب والغنى، أو يهلكه السرف وانتهاب اللذات، فنأتيه يومئذ بلا جهد، أما بالحرب فهيهات!»
قال ابن أبي ليلى: «وي! وترى الأمر خافيا علي كما خفي على ولدك أبي العباس، فما هذه الجيوش التي تسير عن أمرك لقتاله حينا بعد حين، فلا تزال معه في إقبال وإدبار، من الرقة إلى الموصل، ومن الموصل إلى الرقة؟»
قال الموفق: «تعني جند ابن أبي الساج وصاحبه؟ لقد أبعدت يا أبا بكر، فوالله ما ظننت يوما أنني بالغ من الطولونية شيئا بواحد من الرجلين، وإنني لأعلم علم اليقين ماذا يريدان من هذه الحرب، إنما بلاؤهما يا أبا بكر من أجل ما يطمعان فيه من الإمارة والسلطان لا من أجل الدولة، وقد رأيت عاقبة أمرهما.»
قال ابن أبي ليلى: ولكنك لا تزال توليهما من برك وتأييدك، حتى لقد أيقن الناس أنك صاحب أمرهما وبعينك ما يصنعان.
72
قال: «فهل حسبتني أتخلى عن إسداء المعونة إليهما، وقد خرجا لقتال عدوي وعدو الدولة؟ إنني إلا أربح بذلك فما خسرت شيئا، فقد تركتهما وما يطيقان من أسباب الكيد له حتى يكون ما هو كائن.»
قال ابن أبي ليلى: «فقد أيست من أمر الطولونية يا أبا أحمد؟»
قال الموفق: «أما هذه فلا ... ولكن ...»
وقطع عليه دخول غلامه يؤذنه بمقدم محمد بن أبي الساج، وعليه غبار السفر من الموصل، فاعتدل الموفق في مجلسه، وألقى إلى جليسه نظرة ذات معان، ثم تهيأ لاستقبال القادم ...
وحيا ابن أبي الساج، وجلس مطأطئا كأن على ظهره حملا لا ينهض به، وقال الموفق وهو يبتسم له: «لله ما أبليت
73
من أجل الدولة يا ابن أبي الساج وما بذلت!»
قال، وكأنما يأتي صوته من مكان بعيد: «في طاعتك يا مولاي.»
وأخذته حبسة فتنحنح ثم سعل.
قال الموفق: «إنك لمجهود
74
من بلاء الحرب وطول السفار، وأرى لك أن تستريح بعد طول ما جاهدت.»
ثم خلع عليه ووصله،
75
وتقدم إلى غلامه أن يهيئ له سرجا يركبه
76
إلى حيث نزل ...
وكان ابن أبي ليلى لاصقا بمكانه صامتا لا يتحرك كأنما أصابه مسخ، فالتفت إليه الموفق سائلا: «كيف رأيت يا أبا بكر؟»
وعاد الشيخ إلى الحياة، فقال وهو يثب عجلان كأنه ملدوغ: «رأيت الدنيا قد ازينت لأهلها.»
77
ثم قصد إلى الباب، وخلف الموفق في مجلسه وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه انكسار. •••
كان أبو العباس على أديم منقوش في الغرفة التي جعلها أبوه سجنا له، وقد أسند رأسه إلى راحته، وأسبل جفنيه يفكر في أمره، وجلس غير بعيد منه غلامه «طريف»، قد جمع يديه في حجره، وعيناه شاخصتان إلى مولاه لا يكاد يطرف، وقد شمل الغرفة صمت كصمت القبور، إلا أنفاسا تتردد، تعلو حينا حتى تبلغ أن تكون زفرة شاك، وتخفت أحيانا فتشبه أنفاس محتضر.
وكان قد مضى أيام على الأمير في سجنه لا يطعم شيئا من زاد، فإن غلمان أبيه ليحضرون له المائدة الحافلة في موعد كل طعام، فيردها لم يتبلع منها بشيء، فيعودون من حيث أتوا، لا يعترض منهم معترض، ولا ينبس ببنت شفة، وفى وجوههم الكآبة وفي عيونهم الانكسار وفى صدورهم هم لا يبرح، شفقة على أميرهم وحبا له، فلولا ما يخشون من بأس الموفق لتمردوا على الولاء له ...
وقال طريف لمولاه، وقد نال منه ما رأى من ذبوله وإطراقه وصمته: «إلى متى يا مولاي؟»
قال أبو العباس: «إلى أن يحين الأجل ... فإن كنت قد مللت الصحبة فقد أذنت لك.»
قال طريف: «يامولاي!»
قال أبو العباس: «اسكت، لا مولى لك ... أرأيت الموفق مخرجي من هذا الجب، وقد ألقى بي إليه إلا أن يحين الأجل ... تلك كلمته دائما كلما سأله سائل عن موعد أمر لم يقطع فيه برأي ... ستنهار الطولونية يوم يحين أجلها ... وسيخرج أبو العباس من سجنه يوم يحين أجله! ... ولكن لا، سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي ...»
وصرت أسنان أبي العباس وحملق كأنما يرى أمامه عدوا قد آده
78
الصبر عليه، وصاح: «سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي ... وسيرى الموفق ما لم ير، وسيعلم ما لم يكن يعلم.»
وارتاع الغلام فوثب إلى مولاه يمسح بيده على كتفه، وهو يهتف به في حنان وتوسل: «مولاي، لا أراك تفعلها.»
79
فنظر إليه أبو العباس كالمغضب وقال: «ماذا تعني؟»
قال طريف ولسانه يلجلج في فمه: «لن تستعجل أجلك بيدك يا مولاي، وأنت من أنت، إن وراء كل ضيق فرجا!»
قال أبو العباس ساخرا: «ماذا فهمت يا غبي؟ حسبتني أعني ذلك؟ والله لا كان، ولن أموت حتى أبلغ الثأر بيدي من تلك الدولة الباغية، لا أنتظر حتى يحين أجلها كالذي يزعمه الموفق، وإنما بيدي سيحين ذاك الأجل.»
وهدأت نفس الغلام هونا ما، وعاد إلى مجلسه بين يدي مولاه، وقال كأنما يريد أن يصرفه عن الفكر في أمر يحاوله: «لقد أذكرني مولاي ذكرى، فإن رأى أن أقصها عليه ...»
وتشوف أبو العباس إلى جديد يتفرج به مما هو فيه من ضيق النفس، فقال: «هيه يا طريف.»
قال الغلام: «فسأقص على مولاي ما كان من أمر يحيى بن علي المنجم ومولاي الموفق في يوم الفطر، وكنت بالباب أسمع - من حيث لا أريد - ما يدور بينهما من الحديث.»
فابتسم الأمير وقال: «ماذا سمعت من حيث تريد، أو من حيث لا تريد؟ ...»
قال طريف: «زعم يحيى أنه استنبأ النجوم، فأنبأته بأمر الطولونية، وأنها ستكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، حتى تصير في القصر الحسني، وتدخل دار صاعد، وتسير بها الشذوات في دجلة، وتضاء لها الأنوار في قصر الخلافة، ويقع ظلها على عرش أمير المؤمنين! ...»
قال أبو العباس مغيظا: «فمن أجل حديث المنجمين يصانعها الموفق؟ فليهنأ بما بلغ من تدبير أمر الدولة.»
80
قال طريف: «فإن للحديث تتمة، فقد زعم المنجم أن الطولونية ستبلغ ذلك كله على يدي مولاي أبي العباس!»
قال الأمير غاضبا: «أنا؟ فلأجل ذلك كان هذا السجن، وكان هؤلاء الموكلون بي، تكذيبا لما زعم المنجمون أو تحقيقا لما زعموا
81 ... فوالله إن كان شيء من ذلك ليكونن سببه هذا السجن الذي يشملني حتى تطأ خيل الطولونية أرض بغداد، فلا تجد من يدافعها عن عرش الخليفة، ولكن ذلك لن يكون ... وسيكون مصرعها على يدي.»
وسمعت لقلقة المفاتيح في الأقفال، فصمت أبو العباس، وصمت طريف، ودخل الندل
82
يحملون مائدة الأمير، فبسطها بينه وبين غلامه وجلس يأكل ...
لقد عقد النية منذ اليوم على أن يعيش لينتقم.
10
عاد خمارويه إلى حاضرة ملكه بعد غيبة بلغت ثلاث سنين إلا أشهرا، فطم فيها الرضيع، وشب الوليد، ونهدت الصبية، وكانت مصر من الشوق إلى أميرها الشاب في لهفة وحنين، فإنها لتقتص آثاره
83
حيث سار وحيث نزل، ففى كل دار بالقطائع
84
حديث عما أفاء الله عليه
85
وما يسر له من أسباب التوفيق، فما كاد النبأ بمقدمه يذيع في الحاضرة حتى تهيأت المدينة كلها لاستقباله وتحيته، وخف شبابها وشيبها لاجتلاء طلعته، فلم يبق في دار من دور المدينة على ما بلغت من السعة إلا النساء قد علون الأسطح، والفتيات قد انتقبن في الشرفات
86 ...
وبدا موكب الأمير يتقدمه الحجاب والغلمان، عليهم أقبية الحرير وجواشن الديباج،
87
قد انتطقوا
88
وتقلدوا السيوف المحلاة، يتبعهم جند الأمير على ترتيبهم وطوائفهم، ومن ورائهم السودان: ألف أسود، لهم درق محكمة الصنعة
89
وسيوف ذات حلى، وقد لبسوا الأقبية السود والعمائم السود، فلولا الدرق وحلى السيوف والخوذ التي تلمع على رءوسهم من تحت العمائم لحسبهم من يراهم - لسواد ألوانهم وسواد أقبيتهم وعمائمهم - بحرا أسود، أو قطعة من ليل أسحم!
ثم أهل الأمير على فرسه مديدا مستوي القامة ، كأنه قطعة من جبل، يحف به خاصته والمختارة من جنده، وقد حبس الناس أنفاسهم إجلالا وهيبة، فليس فيهم متحدث ولا مشير ولا متحرك من موضعه، وبلغ الموكب باب الميدان، فانفرج الغلمان صفين ودخل الأمير ...
ومدت الموائد للعامة في القصر والميدان تنتظم الآلاف من أبناء الشعب قد أقبلوا على طعام الأمير فرحين داعين له، وهو يشرف عليهم من قصره سعيدا بما بلغ من محبة الشعب ومن توفيق الله.
واستقر الأمر في مصر والشام لخمارويه بن أحمد بن طولون ... •••
كانت الشمس ضاحية، وقد جلس خمارويه على دكته من قبة الهواء في أعلى القصر، يشرف على الميدان والبستان، وعلى المدينة والجبل، وعلى النيل والصحراء؛ فما شيء في المدينة وأرباضها إلا نالته عيناه، كأنما اختصرت له الحاضرة وما يحيط بها في رسم مصور يطالعه في إطاره من هذه الشرفة الشارعة في أعلى القصر.
وكان كل شيء في القبة من الفرش والطنافس والستور المسدلة يشير ما بلغ خمارويه من أسباب الترف والرفاهية حين استتب له الأمر، وكان وحيدا في مجلسه ذاك، فما ثمة حي ذو نفس إلا سبعه «زريق»، قد غاص رأسه في لبده وربض بالوصيد
90
يلحظ مولاه ويحفظ طريقه، قد استغنى به عن الغلمان والحفظة.
91
وسمع حفيف ثوب ناعم يتسحب على آثار خطا راتبة كأنها توقيع عازف بارع، واستدار «زريق» نحو الطريق، وقد برزت مخالبه وقف لبده، ثم خطا إلى الوراء خطوة يفسح الطريق، والتفت خمارويه ينظر من القادم، وأهلت صبية قد كعب ثدياها وتحير في وجنتيها ماء الشباب، وعلى شفتيها ابتسامة الرضا والأمان، وقالت في صوت ناعم: «السلام على مولاي ورحمة الله.»
وتهلل خمارويه وأجاب باسما: «وعليك السلام، ترى من علمك يا بنية أن تناديني كذلك، إنما أنا مولى الناس ولكنني أبوك، فهلا ناديتني بأحب أسمائي إلي؟»
قالت: «يامولاي ...»
قال: «بل قولي: يا أبه!»
واتخذت «قطر الندى» مجلسها إلى جانب أبيها من الشرفة باسمة، وأطلت تنظر ...
وأخذ عينيها منظر السباع في الميدان تنساب من مرابضها إلى الرحبة تتشمس ويهارش بعضها بعضا، وقد أخذ السواس يلحظونها من وراء القضبان، وراحت طائفة منهم تنظف المرابض وتهيئ لكل سبع وأنثاه غذاءه وشرابه في مربضه ...
وأخذ سبع ضخم من سباع الرحبة يتحبب إلى لبؤة من اللبات قد انفردت عن صاحبها، فما دنا منها حتى اعترضه سبع، وسمعت زأرة قد تفرق صداها في أنحاء الميدان، واجتمعت الآساد ثم افترقت، راحت اللبؤة تمشي إلى جانب أسدها مزهوة ...
وقهقه خمارويه ضاحكا، والتفت إلى ابنته يقول: «كيف رأيت يا بنية؟»
قالت الفتاة مبتسمة: «تشبه السباع يا أبت أن تكون آدمية.»
92
ثم تحولت تنظر إلى الجانب الآخر من البستان حيث قامت النخيل باسقة قد كسيت أجسامها رقائق النحاس المذهب، فبدت كأنها أساطين من الذهب قائمة قد غرست فنمت وأثمرت، وتدلى قطافها ياقوتا أحمر، وكان الماء المدبر ينبثق من أنابيب قد غابت في الجذوع الذهبية، فما يرى منها إلا قطر متتابع يتدحرج على أساطين الذهب كأنه تحت ضوء الشمس حبات من لولو منتثر، ثم لا يزال يقطر متتابعا حتى يتجمع في أصول النخل، إلى فساقي معمولة يفيض الماء منها إلى قنوات تتفرع بين شعاب البستان متلوية، ولها تحت الشمس بريق وشعاع.
وكان البستاني يعمل بمقراضه في الرياحين الملونة على أرض البستان، فلا يزال يدور حواليها عن يمين وشمال ومقراضه في يده يقص من أطرافها ما يقص ويعفي ما يعفي، ثم انتصب ووقف ينظر إلى الرياحين وقد سواها بمقراضه كتابة ناطقة ذات معان، وبرزت لعين الأمير في شرفته كأنه يقرأ منها في صحيفة ...
وطابت نفس الأمير وافترت شفتاه عن ابتسامة راضية، ثم نزل عن دكته واتخذ طريقه إلى دار الحرم يقدمه «زريق» حارسه، وتصحبه ابنته قطر الندى، وغلقت أبواب القبة وأسدلت الستور على الشرفات ... •••
ودخل على الأمير غلامه برمش فقال: «يا مولاي قد أحضرنا الجوهري.»
قال الأمير: «يدخل.»
فدخل شاب عليه زي أهل العراق، في وجهه طول، وفى عينيه سعة، وقد امتدت منابت الشعر من رأسه حتى كادت تبلغ حاجبيه، وتدلت على فمه شعرات من شاربه، وكان في يده صرة قد جمع عليها أصابعه يحذر أن تفلت ...
ونظر إليه الأمير فاحصا ثم قال في جفوة: «ما اسمك؟»
قال الجوهري: «عبدك الحسين بن الجصاص.»
قال الأمير: «فمن أهل العراق أنت؟»
قال: «في العراق أهلي، وإنما أنا جار الأمير، وغذي نعمته وربيب داره.»
قال الأمير ونظر إلى غلامه برمش: «جاري وربيب داري؟»
قال برمش: «إنه يا مولاي يقيم في الدهليز من دار الحرم، ليبيع جواري الأمير ما يطلبن، وهو حريص على التشرف عند الناس بجوار الأمير لمكانته من ذلك الدهليز.»
ثم دنا الغلام من مولاه يسر إليه: «وإن به يا مولاي شيئا من الغفلة!»
قال الأمير باسما: «فما معك الساعة من جواهرك؟ لقد أنبئت أن عندك عقدا تزعم أنه من ميراث بني ساسان؟»
93
فابتسم الجوهري وخطا نحو الأمير حتى بلغ أدنى مكان منه، وقال: «نعم، وما أراه أهلا لأن يملكه أحد من ملوك الأرض غير مولاي الأمير.»
ثم فك عقد الصرة، فما كاد يفتحها حتى قفز إلى الباب عجلان وهو يصيح: «جواهري.»
وتبعه الحاجب مسرعا في دهشة لا يكاد يدركه، وقام الأمير عن كرسيه غضبان ...
ذلك أن صرة الجوهري حين فتحها لم يكن فيها إلا نعله ... وكان أراد أن يخلعها عند الباب، فنسي ووضع الجوهر مكانها وصر النعل في المنديل!
وضحك الأمير حين علم بما كان حتى لم يكد يسكت، ثم دعا بالجوهري ثانية فمثل بين يديه ...
وكان العقد على ما وصف الجوهري، فاشتراه الأمير وأجزل الثمن، وأمر الغلام أن يفرد له حجرة في دهليز دار الحرم، وأن يجعله جوهري القصر يبيع جواري الأمير ما يطلبن ويبتاع لهن.
94 •••
دفع الأمير العقد الكسروي
95
إلى جاريته بوران، وكانت أدنى جواريه إليه وأحظاهن عنده، فما له صبر عنها ساعة من نهار، ولكن بوران لم تقنع بما لبست من نعمة الأمير ولم يزل في نظرتها سؤال عاتب، وقال الأمير: «فما تطلبين بعد يا بوران، وأين لي أن أنال رضاك؟»
فابتسمت بوران ابتسامة فاتنة وقالت: «رضاي يا مولاي أن ترضى.»
وأسرت في نفسها أمنية أغلى وأعلى ...
وانحدر الأمير إلى بستان القصر يتبعه جواريه ووصائفه وحظيته بوران، حتى انتهى إلى برج الساج، حيث تسرح القماري والدباسي وصوادح الطير شادية مغردة في عشاشها في ترجيع عجيب وموسيقى ساحرة، وقد انتشرت إلى يمين البرج وشماله طائفة شتى من الطواويس ودجاج الحبش سارحة في مسارحها، وقد نثرت الشمس من فروج الشجر على أجنحتها دنانير ذهبية، فاختلط منها لون بلون يبهج النفس ويفتن الناظر، وقال الأمير: «هنا فليكن مجلسنا للصبوح
96
في هذه الغداة.»
قالت بوران: «لله ما أبدع يا مولاي! فهلا أمرت أن يعمل في هذا الجانب من البستان دار يكون إليها مغدانا للصبوح ومراحنا للغبوق
97
كل صباح ومساء؟»
وحقق لها الأمير ما تمنت، فما هي إلا أيام حتى تم بناء المجلس الذي اشتهته، وسماه الأمير «دار الذهب»، وكانت دارا عجيبة لم تشهد لها الدنيا مثيلا في قصر من قصور الملوك، قد طليت حيطانها كلها بالذهب واللازورد، في أحسن نقش وأبدع زينة، وجعل في حيطانها مقدار قامة ونصف صور بارزة من خشب محفور على صورة الأمير وصور حظاياه والمغنيات اللاتي يغنينه، في أحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعلت على رءوسهن الأكاليل المرصعة من الذهب والجوهر، وفي آذانها الأقراط الثقال، ولونت أجسامها بأصناف تشبه الثياب من الأصباغ العجيبة.
وكان إلى هذا المجلس مغدى الأمير ومراحه كل يوم للصبوح والغبوق بين جواريه وحظاياه، وكأنما كشف له الستر عما وراء الغيب من صور الجنة ونعيمها فاستعجل به في دنياه ... فلا يكاد يخطر له خاطر مما لا يبلغه حلم الحالم أو خيال المتمني حتى يمثله حقيقة ملموسة تراها العين وتنالها اليد
98 ... •••
واشتكى الأمير إلى طبيبه كثرة السهر وطول الأرق، فأشار عليه الطبيب بالتكبيس، ولكن ابن طولون لم يكن يطيق أن يضع عليه أحد يدا ... فأمر بعمل فسقية من زئبق، تبلغ خمسين ذراعا طولا في خمسين ذراعا عرضا، وملأها من الزئبق جاء به وكلاؤه من المغرب وخراسان، لم يبخل عليه بثمن ولم تثقل عليه مئونة، وجعل في أركان بركة الزئبق سككا
99
من فضة خالصة، وجعل في السكك زنانير
100
من حرير محكمة الصنعة ، ثم عمل فرشا من أدم ينفخ بالمنفاخ حتى يمتلئ هواء ويصير حشية من أدم وريح، فإذا انتفخ أحكم شده، وألقي في الفسقية على سطح الزئبق، وشدته زنانير الحديد إلى حلق الفضة، وينزل الأمير على ذلك الفرش في بركة الزئبق، فلا يزال الفرش يرتج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه ... فإذا كانت الليالي القمرية كان ثمة منظر عجيب، حين يتألف نور القمر بنور الزئبق، وتنسرح الروح بين السماوين مصعدة في أودية الأحلام، ولا يزال الزئبق تحت الأمير يرتج ويتحرك. •••
ذلك كان شأن خمارويه في مصر منذ عاد من غزاته مظفرا، قد ثبت له الأمر في مصر والشام والثغور، ودعي له على منابر الموصل والجزيرة، أما أمر الدولة يومئذ في بغداد فكان مختلفا جدا، فلم يكن ثمة دار الذهب، ولا بركة الزئبق، ولا قبة الهواء، ولا ملاعب السباع، ولا برج الساج، ولاخرجات الصيد والطرد ... لا شيء إلا الأمير السجين في عداوة بني طولون يكاد يخرج من جلده غيظا، وإلا أبوه الكهل قد أنضاه طول السفار لمجاهدة أعداء الدولة على أطراف البادية، وإلا الخليفة المعتمد بين الندمان والقيان يترشف ثمالة الكأس، وإلا ولده وولي عهده من بعده «جعفر المفوض» لا يكاد من خموله وضعف همته يجري له ذكر على لسان أو يطيف بخاطر إنسان، وقد خلت خزائن الدولة فليس فيها أبيض ولا أصفر إلا مخلفات للذكرى قد بقيت في الخزانة من أيام منشئ الدولة أبي جعفر المنصور.
وبدا لكل ذي عينين أن دولة الخلافة قد أشرفت على الآخرة، على حين كان اسم بني طولون يتردد صداه قويا بين أربعة أقطار الدولة الإسلامية.
ولكن أبا أحمد الموفق على ما به من جراح وما في قوته من وهن، لم يكن قد يئس بعد، بل لعله كان في ذلك اليوم أعظم أملا في تجديد شباب الدولة، وكذلك كان ولده أبو العباس، وإنه لحبيس بين أربعة جدران.
11
أهل هلال شعبان من سنة 277، فلم يلبث في الأفق إلا لحظات ثم غاب، وأخذ الظلام يتسحب على بغداد وما حولها ، فما ثمة نور يلمح إلا خلجات من شعاع النجم البعيد يتراءى على ماء دجلة كأنه خط من صحيفة، وإلا أضواء متناثرة تلوح وتخفى من خلل نوافذ الدور وراء أستارها، وفى جنح الليل كان قائد من قواد الطولونية على رأس جيش من الفرسان والرجالة في طريقه إلى بغداد، ولكن أحدا من حماة المدينة لم يعترض طريقه؛ إذ كان في يد قائده جواز من الموفق يأذن له في المرور.
وبلغ الجيش ميدان العرض من حاضرة الخلافة، فترجل القائد وترجل فرسانه وضرب الجند فساطيطهم، وكان أبو أحمد الموفق غائبا لم يزل في بلاد الجبل،
101
والتقى قائد الجيش بالوزير أبي الصقر إسماعيل بن بلبل،
102
وكشف له الأمر ... وعرف الخاصة والعامة في بغداد لماذا كان مقدم هذا الجيش ...
ذلك قائد له ماض في خدمة الطولونية قد أبلى في خدمتها البلاء الأكبر وكابد في سبيلها الشدائد، ولكنه اليوم غاضب قد بانت لبته
103
واستعلنت حفيظة صدره على خمارويه، منذ استوسق له الأمر
104
فانصرف إلى النعيم والترف وأغفل الجيش والقادة ... وكتب وكلاء الموفق في مصر إلى مولاهم بما عرفوا من حال هذا القائد، فكانت بينه وبين الموفق رسل ورسائل ...
ولم يطل مقام ذلك القائد في بغداد، فما هو إلا أن بلغته حيث يقيم رسالة من الموفق حتى انحدر إليه في خراسان، ثم اتخذ طريقه من ثمة إلى الموصل فالجزيرة لأمر من أمر الموفق ...
ولم يلبث الموفق طويلا حيث كان، فقد اشتد به وجع النقرس، فعاد إلى بغداد محمولا على سرير يتعاور أكتاف أربعين من غلمانه ... فبلغ بغداد في أوائل سنة 278.
وأظله الموت، ولكنه ظل يكافح ليعيش ويبلغ من أمر الدولة ما قدر ودبر، فإنه لتأخذه الغشية بعد الغشية ثم لا يلبث أن يفيق ... ورأى المحيطون به ما ينتظره من أمر الله، فأجمع كل منهم نيته على أمر، وبدا للخليفة في قصره أن قد آن له أن يملك حريته ويصير إليه أمر الدولة كله بعد أن صبر زمانا والسلطان كله في يدي أخيه الموفق، وازدحمت الأماني على ذوي السلطان فتحفز كل منهم لوثبة يكون له بها أمر.
وكان أبو العباس في سجن أبيه، قد أقام به بضع سنين يحدس ما يحدس،
105
ويدبر خطته، وإن له على ضيق السجن أملا فسيحا لا يزال يتحدث به كل يوم إلى غلامه ...
وسمع أبو العباس من وراء أبواب السجن هديدا وقعقعة سلاح وضجة تدنو منه في محبسه، وأهوت الأثقال على الأقفال تحطمها في عنف، وظن أبو العباس ما ظن فجرد سيفه وتحفز للدفاع،
106
وقال لغلامه: «أحسبهم قد جاءوا يريدون قتلي، ولا يزال بنو العباس تتربص بهم آجالهم من أجل العرش، فوالله لا يصلون إلي وفي شيء من الروح.»
وأهوت دقة حاطمة على القفل الأخير، فلم يلبث أن انفتح الباب وهم أبو العباس بأمر ثم تراجع ورد السيف إلى غمده، فقد رأى على رأس القادمين غلامه «وصيفا»، فاطمأن وسري عنه، وعلم أنهم لم يقصدوا إلا خلاصه من أسره.
وقال «وصيف» والكلمات تتواثب على شفتيه: «أدرك أباك يا مولاي فإنه يحتضر، وقد أوشك أمر الدولة أن يتفرق.» •••
فتح المحتضر عينيه بعد غشية، فأبصر إلى جانب فراشه ولده أبا العباس قد غشى عينيه الدمع، والمكان خال إلا منه، فلا شيء بينهما إلا نجوى صامتة تسر بها عينان إلى عينين، ومضت فترة قبل أن يقول المحتضر وقد اجتمع في رنة صوته ورنوة عينيه كل حنان الأبوة: «كيف تجدك يا بني؟»
قال أبو العباس وقد خنقته عبرته: «إنني بخير ماعشت يا أبت!»
قال الموفق باسما: «أرجو أن تظل بخير أبدا، فلا تجد في نفسك مما كان، فذلك أمر قد انكشفت لك أوائله، ولعلك أن تعرف آخرته عن قريب ... لقد أبلى أبوك يا بني في هذه الدولة بلاء عظيما، حتى أطاع العاصي، وهدأ الثأر، واطمأن النافر، ولم يبق إلا هذه الطولونية في المغرب قد زين لها الغنى والحداثة ما زين من الأماني، ولم تخف على أبيك من خبرها خافية منذ كانت، ولكني آثرت أن أصطنع السياسة فيما بيننا من ظاهر المودة، حتى لا تجاهر بالعصيان، وهي على خزانة السلطان وفي يدها نصف خراج الدولة ... وقد حمل أبوك العبء كله راضيا على ما به من جهد، وعمك الخليفة المعتمد على ما تعرف من أمره، لا يكاد يفيق من نشوته، وقد جعل العهد من بعده لولده جعفر المفوض، ثم لأبيك، فلعله حين ينفذ أمر الله أن يلهم الخير فيجعل إليك ما كان بيدي من الأمر ويبايع لك ... فإذا آل إليك هذا الأمر يا بني فلا تعجل على عدوك حتى تستمكن منه، وإذا حزبك يوما أمر من الأمر ولم تجد الوسيلة، فاحبس نفسك على ما تكره حتى ينقاد لك العصي، فقد حبسك أبوك يوما وأنت أحب إليه.»
وجاشت عواطف المحتضر بالذكرى فصمت برهة، ثم تخفف من أشجانه وأقبل على ولده ليتم حديثه إليه، قال: «وقد قامت سياسة بني طولون على محاولة اصطناع ذوي السلطان في الحضرة بالمال والصهر فلا يخدعنك ما يحاولون معك ...»
ثم ابتسم وقال: «وأنت يا أبا العباس شاب من همك النساء والطعام، فلا تدع لخمارويه بن طولون أن يقودك من هذا الزمام يوم يصير إليك الأمر، فإن لجواري مصر فتنة.»
قال أبو العباس منكرا: «يا أبه! ...»
قال الموفق: «إنه المزاح يا بني مما فاض على قلبي من السرور برؤيتك راشدا ...»
وسمع خفق نعال تدنو من الباب، فقال الموفق: «أحسبهم بعض أصحاب الخليفة قد استبطئوا ساعتي فجاءوا في مظهر العواد،
107
فابتسم لهم يا بني واحذرهم، وإذا قلدتهم أمرا من أمرك غدا فاجعل بعضهم عينا على بعض؛ لتملكهم وتملك بهم.»
ودخل الوزير أبو الصقر إسماعيل بن بلبل، وكان قد حاول من أمسه أمرا يتقرب به إلى الخليفة في شأن من شئون الموفق، فلما رآه الموفق ساعتئذ هش له وأدناه، ولم يحدثه في شيء مما كان، وخلع عليه وعلى ولده أبي العباس جميعا، ثم خرج الرجلان من حضرة الموفق فمضى كل منهما لوجهه ...
وعاش الموفق بعدها أياما، ثم أسلم زمامه إلى بارئه، وبويع لأبي العباس «المعتضد» من غده بولاية العهد مكان أبيه - بعد جعفر المفوض - ولكن أبا العباس لم يقنع بما قنع به أبوه من قبل، فلم يهدأ حتى رضي الخليفة بخلع جعفر، واستقل أبو العباس المعتضد بولاية العهد، واجتمع له من السلطان ما لم يجتمع يوما لأبيه.
وكان الخليفة المعتمد قد ظن أنه ملك الأمر كله يوم مات الموفق، فإذا المعتضد قد سلبه الأمر كله حتى لم يبق له شيء مما كان له في حياة الموفق.
وكأنما كان المعتضد في سجن أبيه بضع سنين يدخر قوته لهذه الساعة، فما هو إلا أن ملك الأمر حتى لم يبق لأحد إلى جانبه أمر، وهتفت باسمه الدولة جميعا وعنت لسلطانه.
108
وسار البريد إلى خمارويه بما كان في حضرة الخلافة، فذكر ما كان من أمره وأمر المعتضد منذ سنين، يوم التقيا سيفا لسيف، فأراد أن يعجم عوده؛
109
ليأمن منه ما يأمن ويتقي ما يتقي ... فبعث إليه بهدية مليحة من طرائف مصر، وطلب إليه أن يقره على الموصل إلى ما تحت يده من مصر وبرقة والشام والثغور ...
وحضرت المعتضد الذكرى منذ كان وكان وكان، وذكر كلمات أبيه، فبعث إلى خمارويه: «قد قبلنا هديتك وشكرنا لك، أما الموصل فنحن أدنى إليها يدا.»
110
وبدأ بين الشابين اللذين يليان أمر المشرق والمغرب أمر ترك كلا منهما، وليس له فكر إلا في صاحبه.
وخلا خمارويه بوزرائه وأصحاب مشورته يبادلهم الرأي في أمره وأمر المعتضد بن الموفق، وقال له مشيره: «لا عليك يا مولاي من أمره، إن هو إلا ولي العهد، وإنك لوثيق الصلة بالخليفة، وهو ولي الأمر وصاحب السلطان.»
واطمأن خمارويه هونا ما، ولكن البريد لم يلبث أن جاءه من بغداد بوفاة الخليفة المعتمد على الله، والبيعة لولي عهده أبي العباس المعتضد بالخلافة، وقد صار إليه كل شيء في الدولة! •••
وطال حديث خمارويه إلى نفسه، وطال حديثه إلى وزرائه وأصحاب مشورته، وأرق ليالي لا يغمض له جفن، وراح يلتمس هدوء النفس بين الحظايا والقيان وفي دار الذهب، وعند رحبة السباع، وفي قبة الهواء، وعلى أرجوحته الرجراجة في بركة الزئبق، وفي الصيد والطرد، ولكن ذلك كله لم يجد عليه شيئا ولم يلهمه الرأي، وألهمته ابنته قطر الندى ...
وكانت قطر الندى بنت خمارويه قد كبرت، وبلغت شأوا، ونضجت عقلا وأنوثة ...
واجتمع خمارويه بخاصته وأصحابه فأفضى إليهم بما اجتمع عليه رأيه، فكلهم قد رضيه ورآه صوابا، وكان في المجلس أبو عبد الله الحسين بن الجصاص الجوهري، وكان قد دنا وحظي وبلغ من نفس الأمير منزلة أصحاب المشورة.
وبات خمارويه على نية وأصبح على عمل ...
الفصل الثالث
عروس من القاهرة
1
لم يكد الناس في بغداد يفرغون مما كانوا فيه من لهو ولعب في يوم الفطر، ليستأنفوا حياتهم على ما تعودوا من الجد والنصب، حتى شغلهم هذا الأمر الجديد، فردهم إلى معنى من معاني العيد، وخلى بينهم وبين ما كانوا يضطربون فيه من أسباب العيش، فليس في بغداد كلها شاب ولا شيخ إلا خرج ليجتلي هذا الموكب المصري العجيب في حاضرة الخلافة ويستطلع طلعه،
1
وكان موكبا لم تشهد بغداد مثله منذ كانت، يتقدمه فارس على سرج قد مال به، فيكاد يسقط من جانبيه، كأن لم يركب قبل اليوم فرسا ولم يشد له ركاب، ذلك رجل يعرفه أهل بغداد ويعرفون أهله، إنه الحسين بن الجصاص الجوهري.
وسخروا منه حين رأوه على رأس الموكب، ثم أمسكوا وأقبلوا ينظرون زرافة قد أقبلت تتهادى من ورائه مستعلية برأسها في زهو وخيلاء ...
ووراءها بغل أشهب قد شد إلى ظهره صندوقان قد غلفا برقائق الذهب، وأغلقا على ما فيهما من غيب لا يدرك سره ...
يتبعه عشرون نجيبا،
2
عليها سروج محلاة بالذهب والجوهر، وفوقها رجال قد لبسوا الديباج وانتطقوا مناطق محلاة، لو سيمت منطقة منها
3
في سوق الجوهر لكانت غنى من فقر، أو فقرا من غنى، وبأيدي هؤلاء الركب حراب من فضة قد سال عليها شعاع أصفر، كأنما خرجوا بها من معركة الشمس ...
ووراءهم عشرون بغلا موقرة بأحمالها، فيها من الغالية
4
والطيب، وفيها من حرير دمياط ودبيق تنيس،
5
وفيها ما لا يعرف ولا يوصف من طرائف مصر ...
يتبع ذلك عشرة غلمان بيض الوجوه من مولدة الروم، كأنما ولدتهم أم واحدة على مثال صورته فكانوا، ليس بينهم اختلاف في الخلقة ولا في الزي وليس يشبههم شبيه! ...
ومن ورائهم خمس دواب عليها لجم من ذهب، ثم اثنتا عشرة دابة في لجم من فضة، ثم سبع وثلاثون بجلال مشهرة ...
ووراء ذلك كله خمسة أبغل عليها السروج واللجم ويتبعها سواسها.
ومضى الركب بين زحام البغداديين كأنهم بعد العيد في عيد، حتى انتهى إلى قصر المعتضد ...
وفتحت للموكب أبواب القصر وأذن به الخليفة ...
ومثل أبو عبد الله الحسين بن الجصاص الجوهري رسول خمارويه صاحب مصر والشام بين يدي أمير المؤمنين أبي العباس المعتضد، ودفع إليه كتاب خمارويه، ورجا أن يأذن في قبول هديته ...
وفض أمير المؤمنين غلاف الكتاب فقرأه حتى أتى على آخره، ثم أطرق يفكر في ذلك الأمر ... •••
واجتمع من الغداة في مجلس الخليفة المعتضد بضعة نفر من خاصته وأصحاب مشورته؛ فيهم مؤدبه أبو بكر القرشي، وقضاته: أبو خازم، وأبو إسحاق الأزدي، وأبو محمد البصري، ووزيره عبيد الله بن سليمان، وصاحب شرطته بدر المعتضدي، ولم يخل المجلس من بعض ندمان الخليفة: يحيى بن علي المنجم، وعبد الله بن حمدون.
وبدأ أبو بكر القرشي المؤدب فقال: «الحمد لله على ما أولاك من نعمته يا أمير المؤمنين، وما أفاض عليك من بره، فإني لأذكر الساعة ما كان من أمرك في مثل هذا اليوم منذ سنوات أربع، وقد جبهت أباك بالعصيان إسرافا في عداوة بني طولون، فصيرك إلى سجنه ووكل بك!»
قال المعتضد باسما: «فمن أجل بني طولون اجتمعنا الغداة يا أبا بكر.»
قال الوزير عبيد الله بن سليمان: «فهل بدا لمولاي في أمر الطولونية بداء بالحرب أو بالسلام؟»
وضحك النديم يحيى بن علي، وقال: «هون عليك يا أبا القاسم، أما الحرب فلا، وقد أنبأتني النجوم ...»
وسمع من حيث جلس قضاة الخليفة همهمة وزجر،
6
وقطع بدر صاحب الشرطة على المتحدث وفي صوته وعيد: «حسبك يا يحيى، فليس الأمر على ما تعودت من الهزل والعبث!»
قال المعتضد: «خل عنه يا بدر، فقد زعمت له نجومه أن الطولونية ستكون أدنى إلى بغداد مما بلغت، وسيكون على يدي أقصى ما تبلغ من الدنو حتى يقع ظلها على عرش الخلافة ...»
ثم أردف ضاحكا: «وأحسب أن النجوم قد صدقته في هذه المرة.»
وجمجم القاضي أبو خازم، وحاول أن يقول شيئا، ولكن الخليفة لم يدعه واستمر في حديثه: «وقد سمعتم بما جاءني مع ابن الجصاص من هدية خمارويه وكتابه، أما الهدية فقد علمتم خبرها، وأما الكتاب ...»
قال المنجم ضاحكا: «وأما الكتاب، فإنه يسأل أمير المؤمنين أن يوليه بغداد وسامرا وشاطئي دجلة!»
قال الخليفة عابسا: «بس! كفى مزحا يا يحيى ... أما الكتاب فيسألني القربى، ويخطب ابنته قطر الندى إلى ولدي وولي عهدي علي؛ لتكون آصرة تربط بين الدولتين.»
وصمت الجميع وثبتوا في مجالسهم كأن على رءوسهم الطير، وهتف المنجم: «وقد طابت نفس مولاي أمير المؤمنين إلى هذا الرأي ... ولم تكذبني النجوم ما أنبأتني.»
قال المعتضد، وقد تجهم وجهه: «صه، أو يقذف بك الغلمان إلى حيث لا يعلم أحد أين مقرك من الأرض، أو من السماء!»
واصفر وجه المنجم واحتبست أنفاسه وغاص في مجلسه كأنما أهوت على رأسه مطرقة ثقيلة، وضحك ابن حمدون النديم تشفيا.
وعاد أمير المؤمنين يقول: «وقلبت الأمر على جوانبه، وبدا لي فيه رأي ...»
قال أبو بكر القرشي: «فما أحسب إلا أن مولاي قد أجمع رأيه على الإباء، حتى لايمكن للطولونية في قصره مثل مكانتها في قصر عمه المعتمد على الله.»
7
قال أبو خازم القاضي: «بل الرأي عندي أن يجيبه مولاي الأمير إلى ما طلب، فيعقد بين الدولتين آصرة توثق ما بينهما على التعاون فيما يعود على المسلمين بالخير والمنعة.»
قال المعتضد: «وماترى أنت يا أبا إسحاق؟»
قال: «يا مولاي، ما أرى خمارويه إلا قد أراد أن يشرف بصهر أمير المؤمنين ويتقي عوادي الزمن على دولته الناشئة، فهو بهذا الاقتراح على مولاي يفيء إلى الطاعة
8
بعد معصية، ويعتز بمكانته من دولة الخلافة، وما أرى مولاي أمير المؤمنين يريد من ولاته على الأطراف إلا هذين، فهو مشكور على ما قدر ودبر، وأمير المؤمنين أعلى عينا وأنفذ بصيرة.»
قال المعتضد: ماذا قلت يا أبا إسحاق؟ يفيء إلى الطاعة بعد معصية، ويعتز بمكانته من دولة الخلافة؟ فأين منك قول أخيه العباس ابن طولون:
إن كنت سائلة عني وعن خبري
فها أنا الليث والصمصامة الذكر
من آل طولون أصلي إن سألت فما
فوقى لمفتخر في الجود مفتخر
9
من آل طولون، لا يحسب وراء فوقه فوقا ... لا يا أبا إسحاق، فما أظنه إلا قد نظر إلينا بالعين التي كان أبوه ينظر بها إلى بعض مواليه: ويرى كل همهم شهواتهم، فيؤثرهم بخير جواريه؛ ليقيدهم بإحسانه على الطاعة، ويغلبهم على أنفسهم بالمرأة، وإن في آل طولون تسلطا وإمارة، وأحسبه قد قدر أن الخلافة ستصير يوما إلى ولدي علي المكتفي، وهو على ما به من الضعف والعلة، فلعله قصد أن تصير ابنته إلينا؛ لتكون في قصر الخلافة يومئذ أميرة المؤمنين، وتصبح الخلافة طولونية في بغداد، وقد أبيناها لعهد أبيه أن تكون عباسية في مصر.
10
قال ابن حمدون النديم: «ويوصي بي مولاي يومئذ إلى أميرة المؤمنين، فتجعلني عينا على جواري القصر في خلواتهن، وأمينا على خزائن الثياب والطيب.»
ورفت ابتسامة على شفاه القوم، وعبس المعتضد ورفع يحيى بن علي رأسه يهم بكلمة، وابتدر أبو العباس المعتضد قائلا: «والله لا يكون لخمارويه شيء مما أمل.»
وتنفس القوم نفسا عميقا، وبدت أمارات الارتياح والرضا في وجه أبي بكر القرشي مؤدب الخليفة، وصمت القاضي أبو محمد البصري فلم ينبس بحرف.
ودخل غلام الخليفة يؤذنه بمقدم أبي عبد الله بن الجصاص رسول خمارويه فأذن له وظل القوم جلوسا على مراتبهم، وقد تعلقت أنظارهم بالخليفة، ينتظرون ما يكون جوابه إلى الرسول الماثل بين يديه، وقال المعتضد لابن الجصاص بعد فترة: «قل لمولاك إننا قد قبلنا هديته وشكرنا له، وقد أراد أن يتشرف بنا فخطب ابنته إلى ولدنا أبي محمد المكتفي، وإن خمارويه لحقيق بهذا الشرف وزيادة ... أنا أتزوجها.»
ووجم القوم وفغرت أفواههم من الدهشة، واستمرت أنظارهم عالقة بالخليفة لا تكاد تطرف، وقال القاضي أبو محمد البصري، وقد شاعت في وجهه ابتسامة راضية: «بورك لمولاي أمير المؤمنين في صهره.»
وتحولت أنظار الجماعة إلى القاضي منكرين على أنفسهم ما سمعوا وما رأوا، واستأذن ابن الجصاص يهيئ رواحله لسفر بعيد ...
وخرج القوم مما كانوا فيه من الصمت والدهشة حين قال يحيى بن علي: «كذلك أنبأتني النجوم.»
قال أبو بكر القرشي:
11 «اخسأ عليك اللعنة! ولا كانت هذه الساعة التي جلست فيها أسمع ما سمعت وأرى ما رأيت! ورحم الله أبا أحمد الموفق، لقد كان أسد وأعف وأضبط، والله لا يؤتى بنو العباس إلا من قبل نسائهم وبطونهم.»
قال المعتضد، وقد أوشك أن يخرج عن حلمه: «عفا الله عنك يا أبا بكر، فإني لأرجو أن تحمد عاقبة هذا الأمر.»
قال أبو بكر، وهم بالقيام: «وعفا عنك يا أمير المؤمنين.»
قال المعتضد باسما: «فأين تذهب، وإني لأريد أن أجلس إليك ساعة في خلوة؟»
قال أبو بكر، وقد استقر في موضعه، وعاد إليه بعض أمره: «قد جلست.»
وتفرق الجماعة، فلم يبق في مجلس الخليفة إلا شيخه ومؤدب ولده أبو بكر القرشي ابن أبي الدنيا ...
2
قال الخليفة: «فقد أنكرت مني يا أبا بكر بعض ما رأيت، وأنت من أنت حكمة ودربة وأصالة رأي، فكيف بالله يظن بي ولدي علي، وقد رآني أسبقه إلى عروس لعلها كانت بعض أمنيته، وإنه لشاب حدث لم تصقله تجارب الأيام!»
قال أبو بكر: «فكيف تراه يظن بك؟»
قال الخليفة: «فمن أجل ذلك دعوتك إلى الحديث؛ لتعرف عني فتديره على الرأي.»
قال أبو بكر ضجرا: «هيه!»
قال الخليفة: «فوالله يا أبا بكر، مالي أرب في هذا الزواج، ولا كان من همي، وما يخفى عنك ما بيني وبين خمارويه، ولكني قد أيقنت أنه لم يرد بهذا الزواج إلا أن ينصب لنا شركا قد اجتمعت أطرافه في يده، فأجمعت أمري على أن أصيده بشركه.»
قال أبو بكر: «ثم ماذا؟»
قال الخليفة: «ثم يكون ما تحمده من العاقبة إن شاء الله.»
قال أبو بكر، وقد بدا في وجهه أنه لم يقتنع: «فلعل الله أن يكشف لي ...»
قال الخليفة ضاحكا: «فقد انكشف لك ما أريد أن تحمل عليه ولدي، حتى لا يجد في نفسه مما يؤوله بسوء ظنه.»
قال أبو بكر، وقد بلغ منه الضجر مبلغا: «وتريدني - أيضا - على أن أحمل ولدك على رأي لا أومن به، ولا أعرف وجهه؟»
قال الخليفة: «بل قد عرفت، فاذهب مكلوءا فلعله ينتظرك الساعة لترد إليه الطمأنينة وروح الرضا.»
ونهض الشيخ متثاقلا، وهو يحوقل ويسترجع،
12
وكأنما يحمل على كتفيه المعروقتين هم الدولة جميعا، واتخذ طريقه إلى حيث يعلم أنه سيجد الفتى فيتحدث إليه بما أراد أبوه ... •••
وكان الفتى وحيدا في بيته، قد ألقى يديه مشتبكتين في حجره وتسرحت أفكاره في أوديتها، فلم ينتبه إلى مؤدبه حين دخل إلا وقد اتخذ مجلسه إلى جانبه، وقال الشيخ باسما: «فيم كانت تحدثك نفسك يا بني حين ألقت حجابا بينك وبين الطارق المشوق إليك فلم تأذن له حتى أذن لنفسه؟»
قال الفتى، وقد اصطنع الهدوء وانفرجت شفتاه عن ابتسامة تشبه أن تكون عبوسا: «لا إذن عليك يا عم، إنما كنت أفكر في الأمر الذي قعد بك حتى الساعة عن مجلسي، وإني لفي انتظار مقدمك.»
قال الشيخ، وقد وجد بابا إلى الحديث: «فإني قادم الساعة من حضرة أمير المؤمنين، وقد شهدت من أمره أمرا، آمل أن ينتهي قريبا إلى عاقبته ...»
قال الفتى: «ماذا؟»
قال أبو بكر: «إن أباك يا بني داه لا يسبر غوره،
13
وإني لأرجو أن يقيم الله به عمود الدولة من ميل، وقد أجمع اليوم على خطة لعلها أن تكون سبيلا إلى شد أزر الدولة وتوحيد كلمتها.»
قال الفتى: «وما ذاك ياعم؟»
وكأنما أحس الشيخ أنه قد استنفد كل ما في طاقته من ذخر، حتى لا يكاد يجد جوابا عن سؤال الشاب الملحاح، وخشي أن يفلت من يده زمامه، فأسرع إلى الجواب مرتجلا: «لقد تأذن ربك أن يديل للدولة
14
من بني طولون، فألهم أباك أمرا يسرع بهم إلى الخاتمة.»
قال الفتى، وقد عادت ابتسامته العابسة: «تعني زواجه قطر الندى؟»
قال الشيخ، وكاد يغص بريقه: «نعم.»
وصمت برهة ثم استدرك كأنما أوحي إليه: «نعم، وسيكون هذا الزواج سببا إلى فقر الطولونية فتدول دولتهم، فإنما يستند سلطانهم أول ما يستند إلى المال، فإذا أقفرت منه خزائنهم فقد انهار ذلك السلطان.»
وضحك الشيخ ضحكة عميقة كأنما سخر من نفسه إذ غابت عنه هذه الحقيقة فلم ينتبه إليها إلا وقد جرت على لسانه من غير تفكير ولا وعي، وثابت نفسه إلى الطمأنينة والرضا، فقال وفي صوته هدوء الإيمان: «الحمد لله، لقد آمنت أن دولة بني العباس لم تعقم.»
قال علي بن المعتضد: «الحمد لله.»
3
راح الوزير عبيد الله بن سليمان يجوس خلال حجرات القصر الحسني على شاطئ دجلة، يصحبه محمد بن الشاه بن ميكال صاحب حرس الخليفة، وبدر المعتضدي صاحب الشرطة، وكان القصر قد هيئ وفرش وجددت آلته، فعاد خيرا مما كان يوم ابتناه بانيه الأول جعفر بن يحيى البرمكي منذ قرن أو يزيد.
15
وكان الخليفة قد اشتهى أن يجعله قصر الخلافة، فبعث إلى «بوران بنت الحسن» زوج المأمون يستنزلها عنه - وكان قد صار إليها عن أبيها الحسن بن سهل - فلما بعث إليها استنظرته أياما في تفريغ القصر وتسليمه، ثم رمته وعمرته وجصصته وبيضته، وفرشته بأجل الفرش وأحسنه، وعلقت أصناف الستور على أبوابه، وملأت خزائنه بكل ما يخدم به الخلفاء، ورتبت فيه من الخدم والجواري ما تدعو الحاجة إليه، فلما فرغت من ذلك كله انتقلت منه، وكتبت إلى الخليفة تدعوه إليه.
ووقف الوزير وصاحباه يديرون النظر لحظة فيما تقع عليه أعينهم من آيات الترف والنعمة في هذا القصر العتيق، ويعتبرون عبرة الماضي الحافل فيما مر به وما شهده من أيام الدولة الباقية منذ كان لجعفر بن يحيى، ثم للمأمون، ثم لبوران بنت الحسن.
وكأنما اجتمع الثلاثة على خاطر واحد في لحظة واحدة حين اقترب منهم شيخ هم يدب على عكازته، قد تقوس ظهره ومال رأسه ونحلت فروته وسقط حاجباه على عينيه، فحيا ووقف، وابتسم الوزير وقال وفى صوته نبرة عطف: «أراك بخير يا أبا يحيى.»
قال الشيخ : «لا زال خيرك ممدود الظلال يامولاي.»
قال الوزير باسما: «إن قصرك يا أبا يحيى يوشك أن يشهد جديدا ينسيك ما تحرص عليه من ذكريات الماضي كله.»
فهز الشيخ رأسه أسفا، وهو يقول: «هيهات ياسيدي، ذاك زمان قد مضى بأهله.»
وكان أبو يحيى هذا شيخا قد حطم المائة وضرب في المائة الثانية، وكان له ولأبيه من قبله ماض في خدمة البرامكة، ثم انحاز إلى المأمون فكان في حاشيته، ثم وهبت له بوران - وهي زوج المأمون - بعض جواريها فولدت له، فلما تقدمت به السن وانتقلت الدولة، اتخذ له بيتا في دهليز القصر الحسني لم يزل مقيما به منذ كان، فإنه ليرى نفسه أولى الناس بالانتساب إلى هذا القصر، أليس قد عاش فيه يوما غلاما لجعفر بن يحيى، ثم حاشية للمأمون، ثم صهرا وجارا لبوران؟ ...
وكأنما كان هذا الشيخ من طول ملازمته للقصر جزءا منه ودليلا عليه، كالحجر المكتوب على البناء العتيق، يعرف به كل من عبر، ... وكأنما أراد الله أن يعمر هذا العمر المديد؛ ليكون رواية ناطقة لأعظم آيتين من آيات الجاه والغنى والنعيم في الدولة العباسية كلها: آية البرامكة وآية بوران!
قال الوزير أبو القاسم عبيد الله: «أراك مسرفا فيما قدرت يا أبا يحيى، ولعلك أن تشهد عن قريب في هذا القصر آية ثالثة ... يوم تزف قطر الندى بنت طولون إلى أمير المؤمنين أبي العباس المعتضد.»
قال الشيخ: «ويحسب مولاي الوزير أنني أرى يومئذ بعض ما رأيت يوم بوران؟ فمن أين مثل ما أنفق الحسن بن سهل يوم ذاك؟ لقد رأيته وإنه لينثر على رءوس العامة الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، ونثر على الهاشميين والقواد والكتاب والوجوه بنادق المسك، في وسط كل بندقة ورقة فيها صك مكتوب، فمن سقطت عليه بندقة منها فله ما كتب في صكه، من ضيعة، أو دار، أو جارية، أو غلام، أو فرس، يذهب إلى وكيل الحسن بن سهل بورقته فيدفع إليه ما فيها، يملكه ملك عين بلا ثمن، وإني لأراني يومئذ وكنت في حاشية الخليفة ، فنالتني بندقة من هذه البنادق، فإذا أنا صاحب ضيعة عمرو بن مالك بما فيها من بستان ودار وآنية ورقيق، فلولا ما كان من سفه ابني يحيى - رحمه الله - لكنت اليوم من أغنياء بغداد، وقد كنت يوما ...» «وقد أقام عسكر المأمون يومئذ في ضيافة الحسن بن سهل تسعة عشر يوما، أنفق عليهم فيها خمسين ألف ألف درهم (خمسين مليون درهم)، فلما كان يوم الرحيل فرق على قواده وأصحابه وحشمه عشرة آلاف ألف درهم (عشرة ملايين)، وقد حدثتني أم ولدي عاتكة - وكانت من جواري بوران - أن المأمون قد فرش له يومئذ حصر من ذهب، ونثر على قدميه ألف حبة جوهر، فلما رأى اللؤلؤ المنثور على حصر الذهب قال: قاتل الله أبا نواس، لكأنما شاهد ما نحن فيه حين قال يصف الخمر يعلوها الحباب.
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها
حصباء در على أرض من الذهب!
وأوقد للمأمون في الليلة التي بنى فيها ببوران شمعة عنبر وزنها أربعون منا في تور من ذهب
16 ...»
ثم تنهد الشيخ وقال: «فمن أين لنا اليوم يامولاي؟»
قال الوزير ضاحكا وهو يربت كتف الشيخ: «من خزائن صاحب مصر.»
ثم مضى الثلاثة إلى أمير المؤمنين في قصره وخلفوا الشيخ يسترجع ذكرياته.
4
غار النيل في مصر سنة 278، حتى لم يبق منه شيء، فأجدب الزرع، وشحت الغلة، وغلت الأسعار في مصر وقراها، وامتد الغلاء بعد ذلك في مصر حينا، ولكن ذلك لم يحمل خمارويه على القصد
17
في تجهيز ابنته قطر الندى، وفتح خزانته لصاحب أمره يغترف منها ما يغترف وينفق ما ينفق؛ ليهيئ جهازا لم ير مثله ولم يسمع به، ولم يزل المصريون منذ الزمن الأول، يغالون في تجهيز بناتهم مغالاة تنهك اللحم وتعرق العظم وتهتك المروءة أحيانا؛ إذ كان فيهم ما فيهم من الرقة والعطف على الحبيب المفارق، وبهم من طبيعة بلادهم حب المباهاة والفخر، فكيف ظنك بصاحب مصر وبرقة والشام والثغور؟ وإنه ليجهز ابنته المفضلة إلى أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين؟ وما ظنك بجهاز عروس ينتقل من مصر إلى بغداد، ومصر وبغداد يومئذ تتنافسان في الترف وأسباب الحضارة وتزعم كل منهما أنها حاضرة الدنيا.
ووكل خمارويه إلى أبي عبد الله الحسين بن الجصاص تدبير الجهاز وإعداده حتى يضاهي نعمة الخلافة، وكان الحسين بن الجصاص رجلا جوهريا وتاجرا، وكان له نسب في بغداد ووطن في مصر، فكان له بذلك كله فن وتدبير، وبفنه وتدبيره راح يعد الجهاز على ما يتخيله جوهري وما يشتهيه تاجر ...
وكثر غدوه ورواحه إلى أبي صالح الطويل صاحب خزانة خمارويه، يغدو بيد مملوءة بعشرات الآلاف ويروح بها فارغة، وأبو صالح لا يبخل عليه بشيء مما يطلب، وطال مغداه ومراحه حتى قلق أبو صالح وخاف مغبة الأمر، فقال له يوما: «حسبك يا أبا عبد الله، لقد بلغت مبلغا بعيدا ...»
ونضا ابن الجصاص
18
ثوب البله والغفلة وما يتظاهر به من قلة الاكتراث، وقال غضبان: «ولك هذه الخزائن تمنح وتمنع، أم هي خزائن مولاك!»
وأغضى أبو صالح وغص بريقه، وذهب إلى مولاه يؤذنه بما رأى، وكان لأبي صالح على الأمير دالة وله مكان؛ إذ كان مؤدبه في حداثته، ورائده في شبابه، وصاحب سره في خلوته، وكان من التحرج في الدين، ومن العفة في اليد، ومن الولاء والحب لسيده - فوق الظن والتهمة - وأقبل أبو صالح على خمارويه وسره على جبينه، وقال خمارويه حين رآه: «ما وراءك يا أبا صالح؟»
قال أبو صالح: «خزانتك يا مولاي، إن أبا عبد الله الجوهري يكاد يتركها فارغة ليس فيها أبيض ولا أصفر.»
واربد وجه الأمير
19
وقال: «ويحك يا أبا صالح! دعه وما يريد، أتريد أن تفضحنا في بغداد؟ إنها ستدخل قصر جعفر بن يحيى، وتنزل منزلة بوران بنت الحسن، وتتحلى بما آل إلى خلفاء بني العباس من جواهر الأكاسرة، وتزف إلى سيد الأحياء من ولد العباس بن عبد المطلب، فأين أنت من كل ذلك؟»
قال أبو صالح: «يامولاي، فقد كان مما أوصاني به مولاي أحمد بن طولون رحمه الله ...»
قال خمارويه: «اسكت، لا رحمة عليك! ... وهل كان يقع في وهم أحمد بن طولون أن تقتعد بنت خمارويه عرش بغداد؟»
وطأطأ أبو صالح، فكأن لم يسمع ولم ير، واستدار على عقبيه ذاهبا من حيث أتى، وإنه من الهم ليكاد يتعثر في ظله.
واستمر أبو عبد الله بن الجصاص فيما يدبر من أمره، ويده في مال الدولة ينفق منه ما ينفق، لا يحاسبه أحد فيما أخذ ولا فيما أعطى، وهو عند الأمير في منزلة المشير الناصح، وعند الناس في منزلة الأبله الغافل، وعند نفسه في منزلة بين المنزلتين، ولكنه لم ينس في أي أحواله أنه تاجر، وأنه لن تتاح له مثل هذه الفرصة ثانية فيجد أميرا يطلق يده في ماله مثل خمارويه، وعروسا يتولى جهازها على ما يشتهي مثل قطر الندى ...
وأوشك أن يتم إعداد الجهاز الذي احتشد له في مصر فكر كل ذي فن في فنه، وحيلة كل تاجر في تجارته، وجهد كل عامل في عمله ...
وخرج إلى بغداد «خزرج بن أحمد بن طولون» نائبا عن أخيه خمارويه في موكب ينتظم طائفة من أمراء الطولونية وكثيرا من ذوي الجاه والرياسة في مصر، وغير قليل من الخاصة والغلمان ...
5
قال القاضي أبو محمد البصري لأمير المؤمنين أبي العباس المعتضد: «لم يخف عني يا مولاي - منذ تلك الغداة - وجه الرأي فيما اخترت لنفسك يوم وافاك رسول خمارويه بهديته وكتابه، ولكني حذرت أمرا ... فإن ولدك أبا محمد شاب لم يزل في حداثة السن والرأي، وقد يعزب عن فطنته
20
ما قصدت إليه، فيراك قد آثرت نفسك عليه بالعروس، فتأخذه الغيرة ويزين له إخوان السوء! ...»
قال المعتضد: «رحم الله ابن أبي الدنيا، لقد كفاني مئونة ذلك الأمر، وأحسب ولدي أبا محمد قد استمع إليه يومئذ، وفهم عنه ما طابت به نفسه، وقد كبر اليوم ولدي أبو محمد، وصار عليه للدولة حق، وقد أجمعت الرأي على أن أوليه بعض الأطراف يشتغل بها عن إخوان السوء ويتمرس منذ اليوم بأساليب الحكم، فإنه لمرجو الغد إن شاء الله.»
قال الشيخ: «إن شاء الله ... ولا زلت موفقا يا مولاي فيما تقصد إليه.»
وخرج الخليفة من غده إلى الجبل في رجب سنة 281 يصحبه ولده أبو محمد علي بن المعتضد، فلما انتهى إلى حيث أراد حط رحاله وقال لولده: «الآن يا بني قد بلغت المبلغ الذي يؤهلك لبعض أعمال السلطان لتكون لي عونا وعضدا ولتأخذ في التجارب من يومك لغدك، فإن هذا الأمر سيصير إليك يوما، وتتعلق بك مصالح أمة، وقد قلدتك يا بني هذه الولاية: الري، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وقم، وهمذان، والدينور،
21
وسأرى كيف تحكم فيها أمرك.»
قال أبو محمد: «لا يكون إلا ما تحمده إن شاء الله.»
ثم ودعه الخليفة، وقد قلد له الكتبة والحسبة، وأوصى به أهل المشورة، وانحدر إلى بغداد، وقد طابت نفسه بما بلغ.
ووافى بغداد، وقد وصل موكب خزرج بن أحمد بن طولون في رمضان سنة 281.
ومثل الركب بين يدي الخليفة، واتخذوا مجلسهم على بساطه، والتأم المجلس بمن حضر من أمراء الدولة وقادة الجند وأهل الرياسة وخاصة أمير المؤمنين، وجلس إلى يمين الخليفة قاضي بغداد أبو محمد البصري يوسف بن يعقوب، وزوج خزرج بن طولون أمير المؤمنين المعتضد بنت أخيه قطر الندى، وأشهد من حضر وراح شعراء الحضرة ينشدون التهاني.
وقفل خزرج بأصحابه راجعا إلى مصر يحمل إلى أخيه وإلى ابنه ما يحمل من البشريات ومن هدايا أمير المؤمنين. •••
وكانت مصر يومئذ في مهرجان، قد ازينت كل دار منها كأن بها عروسا تزف إلى أمير المؤمنين، وعلى كل لسان في الوادي غنوة واحدة يتردد صداها على شطآن النيل من شماله إلى الجنوب:
قطر الندى ...
قطر الندى
22 ...
وقطر الندى في شرفتها من قصر الأمير تشهد ما تشهد من حركة المدينة وتسمع ما تسمع، وقد تسرحت بها الأحلام على أجنحة الصدى من واد إلى واد، فهي حينا على ضفاف النيل حائمة، وهي حينا على ضفاف دجلة.
ودخلت إليها حاضنتها «أم آسية» فاتخذت مجلسها إلى جانبها وقالت، وفي صوتها نبرة حنان وفي عينيها نظرة حب: «لمثل هذا اليوم يا مولاتي كنت أسأل الله أن يبقيني، حتى أنعم برؤيتك عروسا قد اكتمل لها بعروسها الكريم حظ الدين والدنيا، أتذكرين يا مولاتي ما حدثتك عن الرؤيا التي أريتها منذ سنين ... وأنا أمشي في طريق قد فرش حصرا من ذهب، ونثرت عليه حبات الجوهر، ومضت بي الوصائف إلى حيث كنت جالسة في جلوة العرس على سرير في غرفة شارعة تطل من اليمين على نهر مثل النيل، ومن الشمال على نهر كأنه دجلة؟
23 ... فهذا تعبير رؤياي.»
قالت قطر الندى ضاحكة: «نعم، وحملك أرج البخور يومئذ، فطار بك في السماوات، ونمت في النوم ... فهلا ظللت يقظى يا أم آسية حتى نعرف ما كان آخر رؤياك!»
قالت أم آسية: «يا بنية، فسترين رأي العين ما فاتني رؤيته في المنام، وكأني أراك غدا وعلى رأسك التاج، وفي يمينك الصولجان، وقد عنت الدولة كلها لسلطانك ... وماذا يكون تمام الرؤيا إلا ذاك؟»
قالت قطر الندى: «وأبي يا أم آسية؟ وإخوتي وآلي؟ وهذا البلد الذي ازدهرت على شاطئيه آمالي؟ وأنت ...؟»
قالت: «وأبوك يا مولاتي على العرش يدل إدلاله على ختنه،
24
ويحكم حكمه في وطنه، وآلك وإخوتك لهم من جاه أبيهم سبب، ومن صهرهم إلى أمير المؤمنين أسباب ... وأنا ماشطة الأميرة كما أرتني الرؤيا.»
قالت قطر الندى ضاحكة: «ويحملك أرج البخور، فيطير بك في السماوات، ويأخذك النوم.»
قالت أم آسية: «أفتأبين علي يا مولاتي ما أملت، ولا ترينني أهلا لذاك؟»
فاستضحكت قطر الندى، وقالت: «بل أنت أكرم علي يا أم آسية.» •••
وكانت مصر كلها في شغل شاغل وحركة دائبة، انتظارا ليوم قريب، فلكل عامل عمل، في قصر الأمير وفي دور السادة من حاشيته وآله، وفي المدينة كلها، وعلى طول الطريق بين مصر وبغداد ...
وأتم أبو عبد الله بن الجصاص ما وكل إليه من أمر الجهاز، فلم يبق خطيرة ولا طرفة إلا ابتاعها، ولم يدع شيئا من أسباب الترف مما تبلغه الأحلام أو تتعلق به المنى إلا حمله، واجتمع لقطر الندى من الجهاز ما لم يجتمع لعروس قط، وحسب الواصف أن يكون في الجهاز من أدوات المطبخ ألف هاون من الذهب، ومن أدوات الثياب ألف تكة سروال، ثمنها عشرة آلاف دينار.
وكان بين الجهاز سرير أربع قطع من ذهب، عليه قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة ...
ومثل ابن الجصاص بين يدي خمارويه يؤذنه بتمام أمره، فقال له خمارويه: «وهل بقي بيني وبينك حساب بعد؟»
قال ابن الجصاص: «لا.»
قال خمارويه: «انظر حسنا.»
فأخرج ابن الجصاص صحيفة، ونظر فيها ثم قال: «كسر من المال بقي معي من ثمن الجهاز يبلغ أربعمائة ألف دينار.»
فقال خمارويه: «فهي لك يا أبا عبد الله.»
وبلغت الدهشة بالوزير محمد بن علي الماذرائي مبلغا، فقال يتحدث إلى نفسه همسا: «كسر بقي من الجهاز يبلغ أربعمائة ألف دينار! ... فكم يبلغ الجهاز كله؟»
واستدار إليه خمارويه غاضبا يقول: «ماذا سمعت من قول؟ ... أظننت بنت خمارويه يحسب ما ينفق في جهازها بالآلاف!»
ثم عاد إلى حديث ابن الجصاص قائلا: «وقد أمرنا لك بألف ألف دينار (مليون دينار) تحملها معك إلى بغداد، لعلك تجد ثمة شيئا من الطرائف ليس له نظير في مصر فتبتاعه إلى جهاز العروس.»
وقطع بالوزير أبي علي الماذرائي فلم ينطق كلمة، وتهيأ موكب العروس للرحلة، وتهيأ لها الطريق كله من مصر إلى بغداد ...
6
ومضى الموكب مشرقا يطلب مطلع الشمس، وقد جلست العروس في هودجها بين النمارق والحشايا ناعمة، كأن لم تبرح مجلسها من قصر الأمير، وجلست بين يديها ماشطتها أم آسية تقص عليها من أنبائها كل طريفة تبهج القلب وتسر النفس، وكان في الموكب عمها خزرج بن أحمد بن طولون، وعمتها العباسة، وصفي أبيها وخاصته أبو عبد الله بن الجصاص، وجماعة من الأمراء والأعيان وقادة الجند على جيادهم المطهمة، وبين أيديهم غلمان ومن ورائهم غلمان، وعلى جانبي الطريق حراس من جند خمارويه قد لبسوا الديباج، وعقدوا المناطق المحلاة، وشرعوا سيوفا بارقة قد سال عليها شعاع الشمس، والنغمات الصادحة يتجاوب صداها بين الشرق والغرب، وعن يمين وشمال في غنوة واحدة:
قطر الندى ...
قطر الندى ...
واستمر الموكب على ترتيبه يسير بالعروس سير الطفل في المهد، ينظره من ينظر كأنه في موضعه لا يتحرك، فليس يحسب حاديه ولا رائده حساب الزمن ولا يفكر في عناء السفر ولا في بعد الشقة، فقد أعد خمارويه عدته لهذه الرحلة منذ بعيد، فبنى على رأس كل منزلة من منازل الطريق فيما بين مصر وبغداد قصرا، حتى ليمكن أن تتراءى القصور متتابعة على الطريق كأنما هي مدينة قد استطال طرفاها فأولها على شاطئ النيل وآخرها عند شاطئ دجلة، وحتى لا تكاد العروس النازحة تحس أنها على سفر ساعة من نهار، وإنما هي على تتابع الأيام في قصر أبيها، تتنقل بين أبهائه من بيت إلى بيت، ولا تقع العين فيه بكل نقلة إلا على جديد، فلا يكاد يمل الراكب أو يتعب الحادي حتى يوافي منزلة، فيجد ثمة قصرا قد فرش ونضد وفيه جميع ما يحتاج إليه المسافر والمقيم، فأعدت فيه المخادع وعلقت الستور وهيئت المائدة، وثم الخدم والحشم والجواري والولدان.
وتتابعت الأيام والركب يتنقل من منزلة إلى منزلة ... ونامت أم آسية ذات ليلة في بعض منازل الطريق ثم أصبحت معتلة وليس بها علة، فقد رأت في تلك الليلة تمام الرؤيا التي بدأتها في منامها منذ سنين ...
وكان البخور يفوح من مجامر المسك عطرا مسكرا، فكأنما حملها الأريج على جناحين من لهب، فطار بها في السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح ...
وسمعت في تلك الليلة صيحة الصائح، وفهمت عنه وعرفت شخصه، إنه «إبراهيم بن أحمد الماذرائي المصري» يهتف بنبأ ودت لو لم تسمعه أذناها ولم يكن ... يا له من حلم مروع، ليتها لم تنم ... لو لم يكن لهذا الحلم بداية تحققت لقالت أضغاث أحلام، وهل يصدق بعض الحلم، ويكذب بعضه؟ ... يا ليت! ... ولكن أين منها الاطمئنان وهدوء النفس، وإنها لتترقب الساعة من الأحداث ما لم تكن تتوقع أو يخطر لها في بال، أعند صفو الليالي يحدث مثل ذلك؟ ...
وطوت صدرها على السر، فلم تكشف لأحد عن خبره، ولم تجد عندها قطر الندى في هذه الغداة ما يؤنسها ويسليها كشأنها معها في كل غداة، فقالت لها عاطفة: «ما بك اليوم يا أم آسية؟»
قالت: «لا شيء يا بنية، إنما هي وعكة خفيفة.»
وسكت لسانها، وراحت تحدث نفسها وتستمع إلى خواطرها، وطال صمتها وانقباضها عن مولاتها حتى نالتها العلة، واشتد بها الوجع ذات ليلة في بعض منازل الطريق وأصبحت ميتة، لم تكشف عن سرها ولم تتحدث إلى أحد برؤياها.
وكان على الطريق قبر مهيأ، فألقيت إليه ...
واستأنف الموكب سيره، وكانت أصداء الأغاني ما تزال تتجاوب بين الشرق والغرب، وعن يمين وشمال، في غنوة واحدة:
قطر الندى!
قطر الندى!
ولكن قطر الندى منذ ذلك اليوم لم تطرب لشيء مما تتجاوب به الأصداء، فقد أحست منذ فقدت أم آسية بالوحدة الخانقة، وهي في الموكب الحاشد، وكأنما خيل لها في اليقظة ما رأته أم آسية في المنام، فانقبضت منذ اليوم ولم تهنأ بسعادة عيش ...
واستمر الموكب في سيره، وأصداء الأغاني تتجاوب بين الشرق والغرب، وعن يمين وشمال ... وبلغ الموكب شاطئ بغداد، في أول المحرم سنة 282.
7
كان أمير المؤمنين المعتضد غائبا بالموصل يوم بلغ الموكب بغداد، فنزلت العروس في دار صاعد بن مخلد على شاطئ دجلة، وأسري النبأ بمقدمها إلى الخليفة حيث كان ...
وكان في مخيم الخليفة بالموصل وقتئذ بضعة نفر ليسوا من أهل الموصل ولا من أهل بغداد، فيهم لؤلؤ الطولوني، وكان قد أطلق من حبسه وخلع عليه وكرم، وفيهم محمد بن إسحاق بن كنداج، وكان قد مات أبوه وتولى الموصل من بعده، وفيهم محمد بن سليمان الأزرق،
25
وكان قد بلغ عند الخليفة منزلة رفعته من مرتبة الغلمان حتى صار «أمير الجيش»، وفيهم غير هؤلاء في زي القادة أو في زي التجار، وكان الحديث يدور بينهم وبين الخليفة همسا لا يريدون أن يطلع على غيبه أحد، وفي وجوههم أمارات العزيمة والجد والاهتمام.
وقال الخليفة وقد فرغوا من مداولة الرأي فيما اجتمعوا له: «والآن سيمضي كل منكم لوجهه وسنرى ما سيكون من أمر.»
قال لؤلؤ: «إني لأعلم علم اليقين يا مولاي ما سيكون، فلن يثبت جند خمارويه على الولاء له ساعة إذا استيقنوا أن خزانته قد صفرت من المال.»
قال الخليفة: «ثم يكون ماذا؟»
قال القائد محمد بن سليمان: «ثم يتأمر القادة ويقتسمون الدولة ويعملون سيوفهم في أقفية بني طولون فلا تبقى منهم باقية.»
قال محمد بن إسحاق منكرا: «على رسلك يا محمد، إن بني طولون ختن أمير المؤمنين.»
قال ابن سليمان: «وهل خاتنهم مولاي أمير المؤمنين إلا ليغلبهم على أمرهم ويحوز دولتهم؟»
قال الخليفة: «بلى، ولكن لا يراق دم.»
ومضى المؤتمرون كل منهم لوجهه، وقصد الخليفة من فوره إلى بغداد، حيث كانت العروس وحاشيتها في دار صاعد بن مخلد على شاطئ دجلة ينتظرون مقدم أمير المؤمنين ... •••
وكان يوم الأحد الثالث من ربيع الآخر سنة 282 وما يليه أياما مشهودة في بغداد، ونودي في جانبي المدينة ألا يعبر أحد في دجلة منذ يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط، ومد على الشوارع النافذة إلى دجلة شراع، ووكل بجانبي دجلة من يمنع الناس أن يظهروا في دورهم على الشط، أو يفتحوا النوافذ، فلما كان المساء وصليت العتمة،
26
وافت الشذوات على ظهر دجلة من قصر المعتضد وعليها الوصائف والخدم يحملن الشمع، حتى وقفن بإزاء دار صاعد، وكانت أعدت أربع حراقات مزينة،
27
وأرسيت في النهر مشدودة إلى دار صاعد، فلما جاءت الشذوات وأرست بإزاء الدار، أحدرت الحراقات وعليها العروس ووصائفها سابحة على الماء، وبين أيديهن الشذوات عليها الجواري في أيديهن الشمع ...
ومضى موكب العروس في دجلة حتى بلغ القصر الحسني ...
وأقامت العروس يوم الاثنين في القصر، يسعى بين يديها المواشط والوصائف والولائد، وأخذت بغداد زخرفها وازينت كلها لعرس أمير المؤمنين، وكان القصر الحسني من الرواء والزينة كأنه من قصور الجنة ...
ونضد سرير العروس وعليه قبته في غرفة شارعة تطل من جانب على النهر، وتطل من الجانب الآخر على البستان وما وراءه من الفضاء الممتد إلى البعيد البعيد، فلو كان ذو نظر حديد ينفذ إلى ما وراء الأبعاد لرأى النيل ...
وكان البخور يفوح من مجامر المسك والعنبر عطرا مسكرا يجدد الأماني ويبعث الذكريات ...
وذكرت قطر الندى ماشطتها أم آسية، فانحدرت على خدها قطرة دمع ... وكانت أصوات القيان تتجاوب، فترجعها صوادح الطير في البستان ومزامير الملاحين في دجلة ... ومضت ليلة شهد فيها القصر الحسني آية أخرى غير ما شهد في غابر الأيام من آيات جعفر بن يحيى البرمكي، وليالي بوران بنت الحسن.
فلما كان يوم الثلاثاء الخامس من ربيع الآخر جليت قطر الندى على عروسها، وبدأ تاريخ جديد بين أبي العباس المعتضد أمير المؤمنين، وأبي الجيش خمارويه بن طولون.
واجتمع على عرش الخليفة في بغداد ملك المشرق وملك المغرب. •••
ونظر المعتضد إلى العروس المجلوة لم تزدها زينتها جمالا على ما حباها الله من نعمته، وتحدث إليها فسمع حديثا لو كان ضربا على وتر لما زاد على ما سمع سحرا وفتنة، وسألها فأجابته عما سأل مستحيية، فلو أن حكيما أدبها فلقنها جواب كل سؤال تسأله لما علمها خيرا مما أجابت ...
وورد على قلب أمير المؤمنين من الإعجاب بها ما لم يكن يتوقع أو يخطر له على بال ... وكانت عيناها في عينيه شفاعة ضارعة فيها حنان ورحمة، وفيها نجوى خافتة تتحدث إلى ضميره بأبلغ بيان، واستشعر الخليفة من نظرتها روحا من العطف والرقة لم يشعر بمثله فيما غبر من أيامه، وغلبته عاطفته على فكره وهتفت به نفسه: «أهذه بنت خمارويه التي أردت بزواجها ما أردت تدبيرا لسياسة ملكك؟»
واصطرعت في نفسه شئون وشجون.
ومثلت بين يديه جاريته «ساجي» تغنيه وعروسه أحب الأصوات إليه، وكان هو صانع لحنه:
كللاني توجاني
وبشعري غنياني
فابتدرها الخليفة: ليس هذا يا ساجي، هلا غنيتني بشعر المازني:
في وجهه شافع يمحو إساءته
من القلوب وجيه أينما شفعا!
فاحتضنت القينة عودها فجسته ومرت بأناملها على أوتاره، ثم اندفعت تغني وعيناها إلى العروس الفاتنة:
ويلي على من أطار النوم فامتنعا
وزاد قلبي على أوجاعه وجعا
كأنما الشمس من أعطافه لمعت
حسنا، أو البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت
منه الذنوب ومعذور بما صنعا
في وجهه شافع يمحو إساءته
من القلوب وجيه أينما شفعا
وبلغت ساجي في لحنها غاية ما يبلغ عازف على وتر أو هاتف على فنن، ولكن الخليفة لم يطرب لغناء ساجي في ذلك اليوم طربه لغنائها في كل يوم، فقد أجد له هذا الصوت فكرا وأنشأ شجنا ...
وتبعثرت خواطره كما يتبعثر الذر في شعاع نافذ، فليس له قرار على رأي ولا ثبات على عاطفة، وود لو كانت قطر الندى غير من كانت، وكان أبوها غير خمارويه بن طولون! ...
وسخر الخليفة من نفسه حين وصل من الفكر في شأنه وشأن عروسه الفاتنة إلى هذه المرحلة، فابتسم ابتسامة ملك، ومد يده إلى العروس فأنهضها، ومضى بها يجوسان خلال حجرات القصر، وأسدلت دونهما الستور ...
وتتابعت أيام المعتضد من بعد سعيدة هانئة، لولا لحظات من الفكر كانت تغشى سعادته كما يتنفس المقرور في مرآة مصقولة ثم يلمسها شعاع الشمس فتعود صافية مجلوة.
وخلا مجلس الخليفة يوما إلا من عروسه، ونالت النشوة منه، فتوسد ركبتها ونام آمنا، فاستغرق في نومته، وتلطفت العروس فأبعدت رأسه عن ركبتها في حذر وأسندته إلى وسادة، وقامت فاتخذت مجلسا على مقربة، وكان المعتضد يحذر الوحدة خوف الغيلة،
28
فلما استيقظ بعد هنيات فلم يجدها فزع واضطرب، وناداها غاضبا فأجابته، فقال عاتبا: «ماذا صنعت يا أمية! ... أحللتك مني هذا المحل وأسلمت إليك نفسي، فتركتيني وحيدا، وأنا في النوم لا أدري ما يفعل بي!»
قالت: «سلمت ودمت يا مولاي، والله ما جهلت قدر ما أنعمت به علي، ولكن فيما أدبني به والدي خمارويه: ألا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجلوس، وأمير المؤمنين بعيني وعين الله.»
وأكبر المعتضد جوابها فهتف معجبا: «لله أنت يا بنية! ولله ما أدبك أبوك!»
وتمكنت قطر الندى من قلب المعتضد، فليس لواحدة غيرها في قلبه مكان، ونسي ما كان من شأنه وشأن خمارويه في ماضيه، حين مثلت قطر الندى بسحرها وفتنتها بينه وبين ماضيه، ولكن الحوادث لم تنس ...
8
ومضت أشهر، وكانت قطر الندى في شرفتها من قصر الخلافة تسرح النظر إلى البعيد البعيد ، حين كان الفارس المجهود «إبراهيم بن أحمد الماذرائي المصري» يعدو على نجيبه ميمما شطر القصر، فلما بلغ الباب ترجل ودخل ...
ومثل إبراهيم بين يدي الخليفة المعتضد، فقص عليه النبأ الذي جاء يعدو به بضعة عشر يوما في طريق البادية ...
وهتف الخليفة جزعا: «ويحك! خمارويه؟»
قال إبراهيم: «نعم يا مولاي، وثب عليه غلمانه فقتلوه في قصره بأسفل دير مروان بالشام.»
فأطرق الخليفة وقد غشى عينيه الدمع، وذهب به الفكر مذاهب شتى، عن يمين مرة وعن شمال مرة، وتمثل عدوه بالأمس وختنه اليوم مكبوبا على وجهه مضرجا بدمه، وتسلسلت خواطره حلقة وراء حلقة في خطوات سريعة، فكأنما شهد لساعته انهيار الدولة الطولونية بعينيه قبل أن تنهار، فابتسم ابتسامة ملك، ثم ارتدت خواطره إلى قطر الندى، فتمثلها في ثياب الحداد كئيبة دامعة العينين مما دهمها من مصاب أبيها، فحزن وانكسر وانقبضت نفسه انقباضة عاشق، وتعاقبت على وجهه ألوان وصور، فلو كان ثمة ذو نظر نافذ لرثى له مما يكابد.
لقد كان انهيار الدولة الطولونية أملا عزيزا يسعى لتحقيقه منذ سنين بعيدة، فليس له غيره هم بالليل وفكر بالنهار، فما همه اليوم وقد تحقق أمله أو كاد؟
بلى، لقد بلغ ما أراد، ولكن السهم الذي فوقه
29
إلى صدر عدوه فأرداه، قد ارتد إليه فجرحه جرحا داميا لا يبرأ ولا يودي.
30
بلى، وقد مات خمارويه وسكنت نأمته، ولكنه ثأر لنفسه وهو جسد هامد تحت التراب، فظل في عيني عدوه قذى، وفي حلقه شجى، وفي قلبه شجنا.
وقام بين العاشق المفتون ومعشوقته حجاب كثيف من الذكريات والدموع والآلام، لا ينفذ من ورائه قلب إلى قلب، فلم ينظر على شفتيها منذ اليوم ابتسامة رضا، ولم ير في عينيها نظرة حنان، وكانت في عينيه امرأة ساحرة، فعادت دمية جميلة.
وعاش وعلى شفتيه ابتسامة ملك، ولكن في عينيه أبدا انكسار عاشق قد ودع أمله إلى غير معاد.
وأشفق القدر على قطر الندى فلم تعش حتى تشهد خاتمة المأساة التي ذهبت ببني أبيها فلم تبق منهم باقية وقوضت أركان دولتهم بمكنسة محمد بن سليمان الأزرق ...
وماتت قطر الندى في السن التي يبدأ فيها لداتها يطرقن أبواب الحياة.
وحفر لها المعتضد قبرها في دار الرصافة إلى جانب قبر أبيه الموفق، ووقف بين يدي القبر لحظات لا يتكلم، وقد غابت عيناه وراء سحابة من الدمع، ثم هتف وقد حول عينيه إلى قبر أبيه:
هذه رسالة بني طولون إليك يا أبت في مثواك، فهل جاءك النبأ؟ ليست هذه التي تجاورك أمة، ولكنها أمة.
خلفاء الدولة العباسية
من لدن نشأتها إلى آخر عهد بني طولون
أبو العباس السفاح
أبو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الأمين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
المنتصر
المستعين: عاصر إمارة بني طولون.
المعتز: عاصر إمارة بني طولون.
المهتدي: عاصر إمارة بني طولون.
المعتمد: عاصر إمارة بني طولون.
المعتضد: عاصر إمارة بني طولون.
المكتفي: عاصر إمارة بني طولون.
أعلام تاريخية
وردت في ثنايا القصة (أ)
إبراهيم بن أحمد الماذرائي:
رسول الطولونية إلى المعتضد.
أبو إسحاق الأزدي:
من قضاة الدولة في عهد المعتضد.
أبو بكر القرشي ابن أبي الدنيا:
عالم من علماء بغداد، كان مؤدبا للخليفة المعتضد، ثم لولده علي المكتفي.
أبو حشيشة المغني:
من ندماء الخليفة المعتضد.
أبو خازم القاضي:
من قضاة الدولة في عهد المعتضد.
أبو صالح الطويل:
خازن بيت المال في مصر لعهد خمارويه.
أبو عبد الله الواسطي:
من وزراء بني طولون.
أبو محمد البصري:
من قضاة الدولة في عهد المعتضد.
أبو نواس:
من شعراء عصر الرشيد.
إسحاق بن كنداج الخزري:
من قواد الدولة العباسية، كان له شأن في الحرب بين الطولونية والعباسية.
إسماعيل بن بلبل:
من وزراء المعتمد.
أم آسية:
حاضنة قطر الندى.
أم المعتز:
من نساء الخليفة المتوكل. (ب)
باكباك التركي:
أمير مصر الرسمي في عهد المعتز.
بدر المعتضدي:
صاحب شرطة المعتضد.
برمش:
غلام خمارويه بن أحمد بن طولون.
بوران:
حظية خمارويه بن أحمد بن طولون.
بوران بنت الحسن:
زوج الخليفة المأمون. (ج)
جعفر المفوض:
ولي عهد الخليفة المعتمد، مات قبل أن يلي العرش.
جعفر بن يحيى البرمكي:
من آل برمك، وزراء الدولة العباسية، ولهم في صدر أيامها تاريخ حافل. (ح)
الحجاج بن يوسف الثقفي:
أمير العراق في عهد بني مروان، عمر مدينة واسط.
الحسين بن الجصاص الجوهري:
تاجر، وله شهرة وأثر في تاريخ العصر الطولوني.
الحسن بن سهل:
وزير الخليفة المأمون، وأبو زوجته بوران. (خ)
خزرج بن أحمد بن طولون:
وكله أخوه خمارويه ليزوج الخليفة المعتضد من ابنته قطر الندى. (د)
ديوداد بن محمد بن أبي الساج:
كان رهينة لدى خمارويه، ارتهنه أبوه محمد بن أبي الساج. (س)
ساجي المغنية:
جارية مغنية في قصر الخليفة المعتضد.
ساسان:
بنو ساسان: ملوك إيران القدماء. (ط)
طريف المعتضدي:
غلام الخليفة المعتضد.
طلحة الموفق:
أبو الخليفة المعتضد، كان له الأمر كله في خلافة أخيه المعتمد.
طيفور التركي:
سفير ابن طولون في بلاط المعتمد. (ع)
العباس بن أحمد بن طولون:
أمير شاعر، من ولد أحمد بن طولون.
العباس بن عبد المطلب:
أبو الخلفاء العباسيين.
العباسة بنت طولون:
أخت خمارويه والعباس، كانت في صحبة قطر الندى إلى بغداد.
عبد الله بن حمدون:
نديم الخليفة المعتضد.
عبد الله بن سليمان:
وزير الخليفة المعتضد.
علوي البصرة (صاحب الزنج):
ثائر منحرف المذهب، في عهد الخليفة المعتمد.
عمرو بن العاص:
أول ولاة مصر الإسلامية. (ك)
كليب بن وائل:
من فرسان الجاهلية، له قصة طويلة في أيام العرب قبل الإسلام. (ل)
لؤلؤ الطولوني:
من غلمان أحمد بن طولون. (م)
محمد بن أبي الساج:
من قواد الدولة العباسية، كان له شأن في الحرب بين الطولونية والعباسية.
محمد بن إسحاق بن كنداج:
أمير الموصل بعد أبيه، في عهد الخليفة المعتضد.
محمد بن سليمان الأزرق:
من قواد الدولة العباسية، كان على يديه تقويض عرش بني طولون في مصر.
محمد بن الشاه بن ميكال:
قائد حرس الخليفة المعتضد.
محمد بن عبد الحكم المصري:
من علماء مصر ومؤرخيها في عهد بني طولون.
محمد بن علي الماذرائي:
وزير خمارويه بن أحمد بن طولون. (ن)
نحرير المعتدي:
من غلمان الخليفة المعتمد. (و)
وصيف:
من غلمان الخليفة المعتضد. (ي)
يحيى بن علي النديم:
كان مشهورا بالتنجيم، وله في أحاديث النجوم مؤلفات وأخبار، وقد ورث بنوه عنه هذه الحرفة فصاروا كذلك منجمين لهم مثل شهرته.
يارجوخ التركي:
أمير مصر الرسمي في عهد المهتدي.
يازمان البحري:
أمير طرسوس في عهد الطولونية.
يعقوب بن إسحاق:
وزير أحمد بن طولون.
Halaman tidak diketahui