وهنا قالت عائشة وهي تتنهد: الآن وقد أخذ الله بيد بابا، فإني أصارحكم بأنني لن أنسى ما حييت منظره أول يوم رأيته، ربنا لا يحكم على أحد بالمرض.
خديجة بصدق وحماس: هذه الحياة لا تساوي بدونه قلامة ظفر.
فقال ياسين بتأثر: إنه ملاذنا عند كل شدة، رجل ولا كل الرجال.
وأنا! أتذكر موقفك بركن الحجرة وقد أطبق عليك اليأس، وكيف تقطع قلبي وأنا أرى تهافت أمي، نعرف الموت معنى من المعاني، أما إذا هل ظله من بعيد فتدور بنا الأرض، ومع ذلك فستتوالى طعنات الألم بعدد من نفقد من الأحباء، وستموت أنت أيضا مخلفا وراءك الآمال، والحياة رغيبة ولو ابتليت بالحب، وتعالى من الطريق رنين جرس حنطور، فوثبت عائشة إلى النافذة، ثم نظرت من خصاصها، التفتت قائلة في مباهاة: زوار من الأكابر!
وتتابع وصول العواد من الأصدقاء الكثيرين الذين امتلأت بهم حياة الأب، موظفين، ومحامين، وأعيان، وتجار. وكانت منهم قلة لم تجئ البيت من قبل، وآخرون لم يأتوا إلا مدعوين لبعض الولائم التي يولمها السيد في المناسبات، وغير هؤلاء وأولئك رجال ترى وجوههم كثيرا في الصاغة والسكة الجديدة، والجميع أصدقاء ولكنهم ليسوا من طبقة محمد عفت وصاحبيه. وقد مكثوا قليلا مراعاة لظروف الزيارة، ولكن الأبناء وجدوا في مظاهرهم الفاخرة، وعرباتهم ذوات الجياد المطهمة ما أشبع خيلاءهم وزهوهم. وقالت عائشة وهي لا تزال بموقف المراقبة: ها هم الأحباب قد وصلوا.
وترامت أصوات محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار وهم يتضاحكون ويرفعون أصواتهم بالشكر والحمد، فقال ياسين: لم يعد في الدنيا أصدقاء مثل هؤلاء.
فآمن على قوله إبراهيم شوكت وخليل، على حين قال كمال بحزن لم يفطن إليه أحد: قل أن تتيح الحياة لأصدقاء أن يجتمع شملهم طويلا كما أتاحت لهؤلاء.
وعاد ياسين يقول كالمتعجب: لم يمر يوم دون أن يزوروا البيت، وما غادروه في أيام الشدة إلا والدموع في أعينهم.
فقال إبراهيم شوكت: لا تعجب، فقد عاشروه أكثر منكم أنتم.
وهنا ذهبت خديجة إلى المطبخ لتقدم مساعداتها. أما تيار العواد فلم ينقطع، وقد جاء جميل الحمزاوي بعد أن أغلق الدكان، وتبعه غنيم حميدو صاحب معصرة الجمالية، ثم محمد العجمي بائع الكسكسي بالصالحية، وإذا بعائشة تهتف وهي تشير إلى الطريق من وراء النافذة: الشيخ متولي عبد الصمد! ترى أيستطيع أن يصعد إلى الدور الفوقاني؟
Halaman tidak diketahui