واحد ... اثنان ... ثلاثة ... •••
احتفى السيد أحمد عبد الجواد بالمدعوين فأخلى نفسه لهم النصف الأول من النهار كله، ثم توسط مائدة الوليمة التي ضمت: إبراهيم شوكت، وخليل شوكت، وياسين وكمال. ثم دعا بالرجلين إلى حجرة نومه في جلسة عائلية، فمضوا يتسامرون في جو من المودة والمؤانسة وإن لم يخل من تحفظ من ناحية السيد وتأدب من ناحية صهريه، مصدره ما يلتزمه الرجل في المعاملة مع آل بيته حتى الوارد من الخارج منهم على رغم المقاربة في السن بينه وبين إبراهيم شوكت زوج خديجة.
ودعي الأطفال إلى حجرة الجد ليقبلوا يده، ويتلقوا هداياه النفيسة من الشيكولاتة والملبن. فتقدموا إليه بترتيب أسنانهم: نعيمة بنت عائشة أولا، فرضوان بن ياسين، فعبد المنعم بن خديجة، فعثمان بن عائشة، فأحمد بن خديجة، ثم محمد بن عائشة. راعى السيد المساواة المطلقة في توزيع عطفه وابتساماته على أحفاده، منتهزا فرصة خلو الحجرة من مراقبين - عدا إبراهيم وخليل - ليتخفف بعض الشيء من تحفظه المأثور. فهز الأيدي الصغيرة بترحاب، وقرص الخدود الموردة بحنان، ولثم الجباه وهو يداعب هذا ويمازح ذاك، وظل مراعيا المساواة حريصا عليها حتى مع رضوان أحظى الصغار بمحبته.
كان من عادته إذا خلا إلى أحد من أحفاده أن يتفحصه بشغف، مدفوعا بعواطف أصيلة كالأبوة، وأخرى دخيلة كحب الاستطلاع، وكان يجد لذة كبيرة في تتبع ملامح الأجداد والآباء والأمهات في السلالات الجديدة الصاخبة التي لم تكد تلقن احترامه فضلا عن مخافته، وقد أسره جمال نعيمة ذات الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين التي فاقت أمها نفسها حسنا ورواء، فأتحفت الأسرة بقسمات غنية من الحسن بعضها مشتق من أمها والبعض متوارث عن آل شوكت، وعلى هذا المنهج من الجمال سار شقيقاها عثمان ومحمد مع ميل واضح إلى ملامح الأب - خليل شوكت - خاصة في عينيه الواسعتين البارزتين ذواتي النظرة الهادئة الخاملة. وعلى خلاف هذا تبدى عبد المنعم وأحمد ابنا خديجة، فبشرتهما وإن تكن شوكتية، إلا أن عينيهما هما عينا الأم أو الجدة الصغيرتان الجميلتان، أما الأنف فينذر بمشابهة أنف الأم أو الجد على الأصح. أما رضوان فما كان له إلا أن يكون جميلا، حظي بعيني أبيه أو عيني هنية السوداوين المكحولتين، وبشرة آل عفت العاجية، وأنف ياسين المستقيم. أجل ترقرقت الملاحة في وجهه آسرة. مضى زمن طويل مذ كان يتعلق به أطفاله بلا خوف من ناحيتهم ولا تكلف من ناحيته كما يفعل الأطفال اليوم، يا لها من أيام! ويا لها من ذكريات! ياسين وخديجة وفهمي ثم عائشة وكمال، ما منهم إلا وقد دغدغه تحت إبطه وأركبه منكبيه، ترى هل يتذكرون؟ لقد كاد هو ينسى، على أن نعيمة تبدو رغم ابتسامتها الوضيئة متحلية بالحياء والأدب، أما أحمد فلم يكف عن المطالبة بالمزيد من الشيكولاتة والملبن، على حين وقف عثمان ينتظر نتيجة المطالبة بفارغ الصبر، وأما محمد فهرول إلى الساعة الذهبية والخاتم الماسي في جوف الطربوش وكبشهما فما استخلصهما خليل شوكت من يده إلا بالقوة، ومرت لحظات توزع السيد الارتباك والحيرة، فلم يدر ماذا يفعل وهو محاط، بل مهدد من كل جانب بالأحفاد الأعزاء ... وقبيل العصر غادر السيد البيت إلى الدكان، وبذهابه تمتعت الصالة - حيث اجتمع بقية أفراد الأسرة - بكامل حريتها. ورثت صالة الدور الأعلى أختها بالدور المهجور. ففرشت بحصيرها وكنباتها، وعلق بسقفها الفانوس الكبير، فغدت مجلسا ومقهى لمن تبقى من الأسرة في البيت القديم. وقد حافظت طوال اليوم - رغم امتلائها - على هدوئها، حتى إذا لم يعد يبقى من السيد إلا ما سطع في الجو من عرف الكولونيا التي تطيب بها. استردت أنفاسها، فتعالت بها الأصوات والضحكات، ودبت فيها الحركة. واتخذ المجلس هيئته كالعهد القديم، فتربعت أمينة على كنبة أمام أدوات القهوة، وعلى الأخرى المواجهة لها جلست خديجة وعائشة. وعلى ثالثة جانبية قعد ياسين وكمال. وما لبث أن انضم إليهم إبراهيم شوكت، وخليل شوكت - بعد ذهاب السيد - فجلس إبراهيم إلى يمين حماته، وخليل إلى يسارها.
لم يكد إبراهيم يستقر على مجلسه، حتى خاطب أمينة قائلا بلهجة متوددة: بارك الله في اليد التي قدمت لنا أشهى الطعام وألذه (ثم وهو يردد عينيه البارزتين الخاملتين في الجلوس كأنما يلقي محاضرة) الطواجن ... الطواجن! ... معجزة هذا البيت، ليس الطاجن بما يحويه من المأكول - وإن لذ وطاب - ولكن بتسبيكه قبل كل شيء. التسبيك هو كل شيء! هو الصنعة، وهو المعجزة، دلوني على طواجن كالتي التهمناها اليوم!
كانت خديجة تتابع كلامه باهتمام، وهي بين التأييد له اعترافا بمهارة أمها، والاحتجاج عليه لتجاهله إياها، فلما أمسك كي يهيئ للمنصتين فرصة للإقرار برأيه، لم تتمالك من أن تقول: هذا حكم مسلم به وليس في حاجة إلى شهادة شاهد، غير أني أذكر - وأحب أن أفكر أيضا - بأنك ملأت بطنك في بيتك مرارا من طواجن لا تقل صنعة عن طواجن اليوم.
ارتسمت ابتسامة - ذات معنى - على وجوه عائشة وياسين وكمال، وبدا على الأم أنها تغالب حياءها؛ لتقول كلمة تجمع بين الشكر لإبراهيم وإرضاء خديجة، ولكن خليل شوكت بادر قائلا: صدقت خديجة هانم، إن لطواجنها فضلا علينا جميعا، لا يمكن أن تنسى ذلك يا أخي.
فردد إبراهيم نظره بين زوجه وحماته، وهو يبتسم كالمعتذر. ثم قال: معاذ الله أن أنكر هذا الفضل، ولكني بصدد التحدث عن المعلمة الكبيرة (ثم وهو يضحك) وعلى أي حال فأنا أنوه بفضل والدتك أنت لا والدتي أنا!
وانتظر حتى خفت أصوات الضحك التي أثارها قوله الأخير، ثم واصل تقريظه متلفتا نحو الأم، وهو يقول: نعود إلى الطواجن، ولكن لم نقصر كلامنا على الطواجن؟ الحق أن الصنوف الأخرى لم تكن دون الطواجن لذة وفخامة، خذوا مثلا: البطاطس المحشو، الملوخية، الأرز المفلفل بالكبد والقوانص، المحاشي المتنوعة، والله أكبر على الدجاج ولحمه المكتنز ... خبريني، أي غذاء تطعمينه يا حماتي؟
أجابته خديجة في تهكم: من الطواجن تطعمه! - سأكفر طويلا عن إقراري بالفضل لأهله، ولكن الله غفور رحيم، مهما يكن من أمر فلندع الله أن يكثر من أيام الأفراح ... مبارك عليك البكالوريا يا سي كمال، وعقبى للدبلوم إن شاء الله.
Halaman tidak diketahui