وهنا جاء صوت الحمزاوي المسالم وهو يقول: السيد أحمد سيد الحكماء، وهل يغيب عنه أن ياسين رجل؟ وأنه مثل كافة الرجال حر التصرف في شئونه وأملاكه؟ هذا ما لا يمكن أن يغيب عن السيد، وما عليه إلا النصيحة، والباقي على الله.
استسلم أحمد عبد الجواد بقية النهار إلى التفكير والحزن. قال لنفسه: إن ياسين في كلمة ابن مخيب للآمال، وليس أفجع من ابن مخيب للآمال. إن مآله بين ويا للأسف! ولن يحتاج إلى قوة بصيرة كي يتصوره، أجل سوف ينحدر من سيئ إلى أسوأ وعند الله اللطف. وقد رجاه جميل الحمزاوي أن يؤجل مخاطبة ياسين إلى الغد، فانصاع لرجائه يائسا أكثر منه قادرا لوجاهة النصح.
وعند عصر اليوم التالي استدعاه إلى مقابلته، فلبى ياسين مبادرا كما ينبغي للابن المطيع. والحق أن ياسين لم يقطع ما بينه وبين أهله من أسباب. كان البيت القديم المكان الوحيد الذي لم يجد الشجاعة للعودة إليه على شدة حنينه إليه، وما من مرة كان يلتقي فيها بأبيه أو خديجة أو عائشة إلا ويحملهم السلام إلى امرأة أبيه. أجل لم ينس قلبه غضبها عليه، ولم يمح من صفحته آثار ما سماه تعنتها معه، بيد أنه أبى أن ينسى كذلك العهد القديم، عهد لم يكن يعرف أما إلاها. ولم ينقطع عن زيارة أختيه، كما كان يقابل كمال أحيانا في قهوة أحمد عبده، أو يدعوه إلى بيته حيث عرف الشاب مريم أولا، ثم زنوبة أخيرا. أما أبوه فكان يزوره في دكانه مرة على الأقل كل أسبوع، وهنا أتيح لياسين أن يعرف شخصية أبيه الثانية التي يأسر الناس بها، فنشأت بين الرجلين صداقة وطيدة ومودة وثيقة، غذتها صلة الرحم من ناحية، وفرحة اكتشاف الأب على حقيقته من ناحية أخرى. غير أن ياسين وهو يتفرس في وجه أبيه ذلك اليوم لمح فيه ما ذكره بالوجه القديم الذي طالما بعث في أطرافه الرعب، ولم يتساءل عما طرأ عليه؛ لأنه كان واثقا من أنه سيقف على سره عاجلا أو آجلا، فلم يشك في أنه ملاق العاصفة التي توقع هبوبها منذ أقدم على فعلته. بادره الرجل قائلا: يحزنني أن أجد نفسي بهذا الهوان، وماذا وراء أن أعرف أنباء ابني من الآخرين؟!
فطامن ياسين رأسه ولم ينبس، فثار الرجل على طلاء المسكنة الكاذب الذي يطالعه به، وصاح: اخلع هذا القناع، دعك من النفاق وأسمعني صوتك، طبعا أنت تعلم ما أعنيه!
فقال ياسين بصوت لم يكد يسمع: لم أجد الشجاعة لإخبارك. - هذا شأن من يتستر على ذنب أو فضيحة.
حذرته غريزته من أن يلجأ إلى أي نوع من أنواع المعارضة، فقال باستسلام: نعم.
فسأله السيد ذاهلا: إذا كان هذا هو رأيك حقا، فلم فعلتها؟
لاذ ياسين بالصمت مرة أخرى، فخيل إلى الأب أنه يقول له بصمته: «عرفت أنها فضيحة ولكني أذعنت للحب!» وذكره هذا بموقفه المخزي أمام المرأة ذاتها، يا للعار! غسلت خزيك بغضبة كبرى، ولكنك عدت تسعى إليها. أما هذا الثور فما أضيعه! - فضيحة ارتضيتها أنت دون تقدير للعواقب لنتعذب بها نحن جميعا!
هتف بسذاجة قائلا: أنتم جميعا؟ معاذ الله!
عاود السيد الغضب، فصاح به: لا تتصنع الجهل، لا تدع البراءة، أنت تعلم أنك في سبيل شهواتك لا تبالي ما يصيب سمعة أبيك وإخوتك، أقحمت على الأسرة عوادة لتكون هي ومن بعدها ذريتها منا، لا إخالك كنت تجهل هذا قبل أن أذكره، ولكنك تستهين بكل شيء في سبيل شهوتك، هانت كرامة الأسرة على يديك، وأنت نفسك تنهار حجرا بعد حجر، وسوف تجد نفسك في النهاية خرابا.
Halaman tidak diketahui